غزوة الأحزاب (حصار الأحزاب للمدينة المنورة – اليوم السابع)
وفي ليلته أرسل الله ريح الصّبا -ريح تأتي من المشرق-، فاقتلعت خيام المشركين وأوقعت آنيتهم وقدورهم وغاظتهم وجعلتهم في مشقّة عظيمة، ولم يتأثر المسلمون بها تقريبًا، وذلك لوجود النخل الكثيف عن يمينهم -ناحية المشْرِق التي تهب منها الرّياح- لمزارع المدينة من جهة بني حارثة وبني عبد الأشهل، كما أنّ المُعسكر الرئيس يتخذ من غرب جبل سَلْع ظهرًا له، فالرّياح لا تصيبه أصلًا، وهذا فعل الله، حيث قال النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكَت عادٌ بالدَّبور»، والدَّبور هي الريح التي تأتي من المغرب للمشرق، عكس الصَّبا، التي أرسلها الله على المشركين فكانت وبالًا عليهم، وهدوءًا وأمانًا على المسلمين، وأنزل الله بعدها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الأحزاب: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب:9].
وفيه بعد غروب شمس الجُمعة وصل عكرمة بن أبي جهل عند يهود بني قريظة، فقال: “يا معشر اليهود، إنه قد طال المكث، وضعفت دوابنا وخيلنا، والأرض جدباء، وإنا لسنا بمكان يصلح للإقامة، فاخرجوا معنا نقاتل محمدًا في الصباح”، قالوا: “غدًا السبت لا نُقاتل ولا نعمل فيه عملًا، وإنا مع ذلك لا نُقاتل معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهانًا من رجالكم يكونون كعنا لئلا تتركونا حتى نستأصل محمدًا، فإنا نخشى إن أتعبتكم الحرب ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به ومعنا النساء والأطفال والأموال”.
فرجع عكرمة لقادة قريش، فقال له أبو سفيان: “ما وراءك؟”، قال عكرمة: “أحلف بالله إن الخبر الذي جاء به نعيم حق، لقد غدر اليهود!”.وأرسلت غطفان إليهم مسعود بن رُخيلة في مجموعة من قادتهم بمثل ما قال أبا سفيان، فأجابوهم بمثل ما أجابوا أبا سفيان.
ولمّا رأى اليهود ما قالت وفعلت قُريش وغطفان قالوا: “نحلف بالله إن الخبر الذي قال نُعيْم لحق!”، وتأكدوا أن قُريشًا لا تُقيم وترجع إلى بلادها، فسُقط في أيديهم وخافوا جدًا، وجاء أبو سفيان يقول لهم: “إنا والله لا نرجع إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا”، فقالوا له مثل ما قالوا لعكرمة أوّل مرة أن اليوم السبت وأنهم يريدون رهانًا، وجعلت قُريش وغطفان تقول: “الخبر ما قال نُعيم”، وتقول اليهود: “الخبر ما قال نُعيم”، ويئس الفريقان من بعضهما البعض، فتجهزت قريش وغطفان لاستنفاذ المحاولات وحدهم قبل العودة لبلادهم خائبين.
وقال أبو سفيان لحُيي بن أخطب لما جاءه: “أين ما وعدتنا من نصر قومك؟، قد خلونا وهم يريدون الغدر بنا”، قال حُيي: “كلا والتوراة، ولكن لاسبت قد حضر، ونحن لا نكسر السبت، فكيف نُنصر على محمد إذا كسرنا سبتنا؟، فإذا كان يوم الأحد خرجوا معك على محمد وأصحابه مثل النّار!”، وذهب حُيي بن أخطب إلى بني قُريظة فقال: “فداءكم أبي وأمي، إن قريشًا قد اتهمتكم بالغدر، واتهموني معكم، وما السبت لو كسرتموه لِما قد حضر من أمر عدوكم؟”، فغضب كعب بن أسد، ثم قال: “لو قتلهم محمد حتى لا يُبقي منهم أحدٌ ما كسرنا سبتنا”، وعاد حُيَيّ بن أخطب إلى أبي سفيان، فقال أبو سفيان: “ألم أخبرك يا يهودي إن قومك يريدون الغدر؟”، قال حُيي: “لا والله ما يريدون الغدر ولكنهم يريدون الخروج يوم الأحد”، فقال أبو سفيان: “وما السبت؟”، قال حُيي: “يوم من أيّامهم يعظمون القتال فيه، وذلك أن سبطًا منّا أكلوا الحيتان يوم السبت فمسخهم الله قردة وخنازير”، قال أبو سفيان: “لا أراني أستنصر بإخوة القردة والخنازير، قد بعثت عكرمة بن أبي جهل وأصحابه إليهم فقالوا: لا نُقاتل حتى تبعثوا لنا بالرّهان من أشرافكم، وقبل ذلك ما جاءنا غزال بن سموأل برسالتهم،…أحلف باللاتي إن هو إلا غدركم وإني لأحسب أنّك قد دخلت في غدر القوم!”، قال حُيَيّ: “والتوراة التي أُنزلت على موسى طور سيناء ما غدرت!، ولقد جئتك من عند قوم هم أعدى الناس لمحمد وأحرصهم على قتاله، ولكن ما مُقام يوم واحد حتى يخرجوا معك؟”، قال أبو سفيان: “لا والله ولا ساعة، لا أقيم بالنّاس أنتظر غدركم”، وقرر أبو سفيان وقُريش وبقيّة غطفان أن يهجموا وحدهم على المسلمين بدون الاستعانة باليهود.
وقبل طلوع الشَّمس اصطفّت جيوش الأحزاب أمام الخندق يرمون المسلمين، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قد عبّأ المسلمين وقت السَّحَر وحضّهم على القتال ووعدهم النّصر إن صبروا، وصلوا الصُّبح ثم استلموا مواقعهم، واستمرّ القتال بالسّهام والحجارة طوال النهار لا يهدأ، حتى فات المسلمون الصلوات كلّها وهم يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: “يا رسول الله ما صلّينا”، فيقول صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ولا أنا والله ما صلّيت» -ولم تكن صلاة الخوف قد شُرِعَت-، وغربت الشَّمس وهم كذلك.