وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحُدَيبيَة وقد نزلها قادمًا للعُمرَة فلمَّا بركت ناقته عند حدود الحرم المكي رجع ونزل الحُدَيْبيَة …
وكان قد عزم ومن معه من المسلمين أن يقاتلوا من صدَّهم عن البيت، ثم رجعوا عن ذلك ونزلوا الحُدَيبيَة يتفاوضون مع قُريش لدخول مكَّة.
وفيه بعثت قُرَيْش عُروة بن مسعود الثَّقَفي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلمّا جلس بين يديه قال: “يا محمد، أجمعتَ أوشاب النّاس ثم جئت بهم إلى بيضتك لفتضّها بهم؟ إنّها قريش خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عُنُوَة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا”، وكان أبوبكر الصديق قاعدًا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال لِعُروَة: «امصص بظر اللّات، أنحن ننكشف عنه!؟ »، فقال عُروَة: “من هذا يا مُحمَّد؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: « هذا ابن أبي قحافة»، قال عُروَة: “أمما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها”، وأخذ عُروة يُمسك بلحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يكلّمه، والمُغيرة بن شُعبة واقف بجوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرتدي خوذة الحَرْب، فلمّا وضع عُروَة يده على لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب المُغيرة على يده بمقبض سيفه وهو يقول: “اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن لا تصل إليك!”، قال عُروَة: “ويحك!، ما أفظَّك وأغلَظَك؟”، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عُروَة: “من هذا يا محمَّد؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شُعبة » قال عُروة: “أي غُدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟!”
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعُروة مثلما قال لمِكرِز وقبله بُدَيْل بن ورقاء، أنَّه جاء مُعتمرًا وزائرًا للبيت ولم يأت يريد حربًا، فقام عُروة من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووقف من بعيد يشاهد الصحابة كيف يتعاملون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يتوضأ إلا أسرعوا إلى ماء وَضُوءَه يبتدروه فيمسحوا به وجوههم، ولا يبصق بصاقًا إلا ابتدروه كذلك، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فهالَه ما رأى وتعجَّب، فلمّا رجع إلى قُرَيش قال: “يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا، فروا رأيكم!”