سعادة الأستاذ الدكتور أحمد مطلوب
عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة
إضاءة:
اهتم المسلمونَ بحياة الرسول الأَعظم محمد صلى الله عليه وسلم وأُلفت كتب في سيرته الشريفة وكان كتاب (ابن شهاب الزُّهري) – 124 هـ – «أَول سيرة أُلّفَتْ في الإِسلام»(1).
تتابع التأليف في السيرة النبوية، ويُعد (أَبو بكر محمد بن إِسحاق المطلبي) – 152 هـ- شيخ رجال السيرة، ولولا (ابن هشام) ما عُرف كتابه وإِن وُجدت قطعة منه بعنوان (السيرة والمغازي) في الخزانة العامة بالرباط (المغرب) في 167 صفحة.
كان الرجوع في هذه الصحف إلى سيرتين هما:
الأُولى: (السيرة النبوية) لأَبي محمد عبد الملك بن هشام بن أَيوب الحميري (218 هـ) ويتضح منهجه بقوله: « وأَنا إِن شاء الله مبتدىء هذا الكتاب بذكر إِسماعيل بن إِبراهيم ومَنْ ولدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ ولده، وأَولادهم لأَصلابهم، الأَول فالأَول من إِسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعرِض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إِسماعيل على هذه الجهة للاختصار إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارِك بعض ما ذكره (ابن إِسحاق) في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر، ولا نزلَ فيه من القرآن شيءٌ، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه لما ذكرت من الاختصار، وأَشعارًا ذكرها لم أَرَ أَحدًا من أَهل العلم بالشعر يعرِفها، وأَشياء بعضها يَشْنُعُ الحديث به، وبعض يسوء بعضَ الناس ذِكره، وبعض لم يُقر لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ – إنِ شاء الله تعالى – ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به»(2)
يتصل بهذا الكتاب (الروض الأنف) للسهيلي (581 هـ) قال: «فإني قد انتحيتُ في هذا الإِملاء بعد استخارة ذي الطول والاستعانة بمن له القدرة والحول إلى إيِضاح ما وقعَ في سيرة رسول الله التي سبق إلى تأليفها أَبو بكر محمد بن إسحاق المطلبي ولخصها عبد الملك بن هشام المعافري المصري النسابة النحوي مما بلغني علمه، ويسَّر لي فهمه من لفظ غريب، أَو إِعراب غامض، أَو كلام مستغلق، أَو نسب عويص، أَو موضع فقه ينبغي التنبيه عليه، أَو خبر ناقص يوجد السبيل إلى تتمته »(3)
وكان الرجوع إليه استئناسًا.
الثانية: (السيرة الحلبية) المعروفة باسم (من إنسان العيون في سيرة الأَمين والمأمون) لعلي بن برهان الدين الحلبي الشافعي ( 1044 هـ) وهي تلخيص لسيرة الحافظ أَبي الفتح سيد الناس، ولسيرة الشمس الشامي، قال: «عَنَ لي أَن أُلخص من تلك السيرتين أُنموذجًا لطيفًا يروق الأَحداق، ويحلو للأَذواق، يقرأ ما أَضمه إليه من بين يدي المشايخ على غاية الانسجام ونهاية الانتظام »(4).
من هاتين السيرتين استمد البحث مادته، وكان الوقوف على ثلاث مراحل من حياة الرسول الأَعظم – عليه الصلاة والسلام – هي: التجارة، والبعثة، والهجرة، لتبيان ملامحها العامة، ووضع جدول لتأريخ أَحداث السيرة النبوية الشريفة.
التجارة:
كانت لقريش رحلتان تجاريتان هما: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، قال الله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ (1) إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ (3) ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 1- 4].
وكانت لبني (هاشم) منزلة رفيعة في (مكة) المكرمة، وعلى رأسهم (عبد مناف) – المغيرة بن قصي – ومن أَولاده (هاشم) – عمرو- وولد له عبد المطلب، وأَسد، وأَبوصيفي، ونضلة(5).
تولَّى (هاشم) الرِفادة والسِقاية في (مكة) المكرمة، وكان إذا حضر الحجاج قام في قريش فقال: « يا معشر قريش إِنكم جيران الله وأَهل بيته، وإِنه يأتيكم في هذا الموسم زُوَارُ الله، وحجاجُ بيته، وهم ضيفُ الله، وأَحقُّ الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاماً أَيامَهم هذه التي لابُدَ لهم من الإِقامة بها، فإنه والله لو كان مالي يسعُ لذلك ما كلفتكموه »، فيخرجون لذلك خَرْجًا من أَموالهم، كل امرىءٍ بقدر ما عنده، فيصنع به للحجاج طعامًا حتى يَصْدُروا منها.
وكان (هاشم) فيما يزعمون أَول من سَنَ الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف، وأَول من أَطعم الثريد بمكة، وإِنما كان اسمه (عمراً) فما سُمي (هاشماً) إِلا بهشمه الخبز بمكة لقومه، فقال شاعر من قريش أَو من بعض العرب:
عمرو الذي هشَم الثريدَ لقومه *** قوم بمكة مُسْنتين عِجــافِ
سُــــنَّتْ إليه الرحلتانِ كلاهما *** سفر الشتاءِ ورحلة الأصيافِ(6)
ومات في (غزة): «تاجرًا فولي السِقايةَ والرِفادةَ من بعده (المطلب بن عبد مناف) وكان أَصغر من (عبد شمس) و (هاشم) وكان ذا شرف في قومه وفضل، وكانت (قريش) إِنما تسميه (الفيض) لسماحته وفضله»(7).
كان (هاشم) قد تزوج امرأَةً من المدينة وولد له (عبد المطلب) واسمه شيبة، وتولى «السِقاية والرِفادة بعد عمه (المطلب) فأَقامها للناس، وأَقام لقومه ما كان آباؤه يُقيمون قبله لقومهم من أَمرهم، و شر شُرفَ في قومه شرفًا لم يبلغه أَحد من آبائه، وأَحبه قومه، وعظُم خطره فيهم»(8).
وولد لعبد المطلب: العباس، وحمزة، وعبد الله، وأَبو طالب – اسمه عبد مناف – والزبير، والحارث، وحجل، والمقدم، وضرار، وأَبو لهب – اسمه عبد العزى – وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأُميمة، وأَروى، وبرة(9).
فبنو (هاشم) من أَشراف قريش، وكانت لهم السِقاية والرِفادة، وهم أَصحاب تجارة إلى اليمن والشام، وفي هذه الأسُرة الكريمة شاء الله – تعالى – أَن يكون (عبد الله بن عبد المطلب) أَباً لمنقذ البشرية (محمد) صلى الله عليه وسلم الذي وُلِدَ يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوَل في عام الفيل سنة 570 للميلاد(10).
قال السهيلي: «إِن مولده عليه السلام كان في ربيع الأَول وهو المعروف، وقال الزبير: كان مولده في رمضان، وهذا القول موافق لقول مَنْ قال إِن أُمه حملت به في أَيام التشريق، والله أَعلم»(11).
وقال الحلبي: «اعلم أَنَ الأكثر على أَنه صلى الله عليه وسلم وُلدِ عام الفيل، وحكى بعضهم الإجماع عليه، وكل قول خالفه فهو وَهم. وقيل: بعد الفيل بخمسين يومًا، وقيل: بزيادة خمسة أَيام، وقيل: بشهر، وقيل: بأَربعين يومًا، وقيل: بشهرين وعشرة أَيام، وقيل: بعشرين سنة، وقيل: بعشر سنين، وقيل: بخمس عشرة سنة. وكانت ولادته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأَول لعشر خلون منه، وقيل: لليلتين، وقيل: لثمان خلت… وقيل لاثنتي عشرة ليلة وهو المشهور… وقيل: لسبع عشرة، وقيل: لثمانٍ بقين منه وذلك في النهار عند طلوع الفجر…
واختلف في مكان ولادته صلى الله عليه وسلم فقيل: بمكة، وعليه قيل بالدار التي كانت لمحمد بن يوسف أَخي الحجاج، وقيل: بالشعب شعب بني هاشم..، وقيل: بالردْمِ، وقيل: وُلِدَ صلى الله عليه وسلم بعُسْفان»(12).
وكان والده قد تُوفي وأُمه حامل به(13) «وكانت وفاته بالمدينة خرج إليها ليمتار تمرًا أَو لزيارة أَخواله بها أَي أَخوال أَبيه عبد المطلب»(14).
تربى عليه السلام في البادية برعاية (حليمة السعدية) ورَدَته إلى أمه وهو ابن خمس سنين وشهر فيما ذكر أبو عمرو، ثم لم تره بعد ذلك إلا مرتين: إحداهما بعد تزويجه خديجة – رضي الله عنها – جاءته تشكو السنة(15)، وأَن قومها قد أَسنتوا فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات(16)، والمرة الثانية يوم حُنين»(17).
وفي السنة السادسة من مولده توفيت أمه (آمنة بنت وهب)(18)، وفي السابعة كفله جده، وفي الثامنة مات جده فكفله عمه (أبو طالب)(19)، وكان (عبد المطلب) قد أَوصى به عمه (أبا طالب)(20) قال ابن إسحاق: «وكان أَبو طالب هو الذي يلي أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده فكان إليه ومعه»(21).
كان (أَبو طالب) قد «خرج في ركب تاجرًا إلى الشام فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صبَّ(22) به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون فَرَقَ له (أَبو طالب) وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني، ولا أُفارقه أَبدا، أَو كما قال، فخرج به»(23)، وكان عمره عليه السلام اثنتي عشرة سنة، وقيل: تسع سنين(24)
وروى (ابن إسحاق) قصة الرحلة حين وصل الركب إلى (بُصرى) وما قاله (بحيرى) الذي أَولم لهم، وحين أَنجز (أَبو طالب) ما سعى إليه في رحلته عاد بابن أخيه إلى (مكة) مُسرِعا(25)
هذه أول رحلة قام بها عليه السلام بصحبة عمه (أَبي طالب) وفيها رأَى القوافل تسير متجهة إلى الشام أَو عائدة إلى (مكة) ومرَ بالمراحل التي تمر بها القوافل، وانطبعت في ذاكرته حين ذهب إلى الشام وهو في الخامسة والعشرين من مولده بتجارة لخديجة بنت خويلد – رضي الله عنها -، وكانت قد سمعت بسمو شرفه وصدق أَمانته، فسار هو و (ميسرة) إلى الشام بتجارته، وباع سلعته التي خرج بها واشترى ما أَراد أَن يشتري، وعاد وقد ربحت تجارته ربحًا عظيماً.
كانت (خديجة): «امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم(26) إياه بشيء تجعله لهم»(27). وكانت «امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامته فلما أَخبرها مي رة بما أَخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له – فيما يزعمون – يابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وسِعَتِكَ (شرفك) في قومك وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها»(28).
تزوَج عليه السلام خديجة وهو في الخامسة والعشرين من مولده، وأَصدقها عشرين (بُكرة) فولدت له ولده كلهم إلا (إبراهيم) القاسم وبه كان يُكنى، فأُمه (ماريا) القبطية، وهم: الطاهر، والطيب، وزينب، ورُقية، وأُم كلثوم، وفاطمة.
اتفقت معظم الروايات على أَنه عليه السلام قام برحلتين إلى الشام، ولكن بعض الروايات تذكر أَنه «في السنة السابعة عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كان سفر عميه (الزبير بن عبد المطلب) و (العباس بن عبد المطلب) لليمن للتجارة، وصحبهما النبي صلى الله عليه وسلم»(29).
وروى «ابن منده بسند ضعيف عن أَبي بكر رضي الله عنه أَنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلموهو ابن ثمان عشرة سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة… وهم يريدون الشام في تجارتهم»(30).
يبدو من هذه الرواية أَنه عليه السلام سافر إلى الشام ثلاث مرات: الأُولى مع عمه (أَبي طالب)، والثانية مع أَبي بكر الصديق، والثالثة مع (ميسرة)، وأَنه سافر مع عميه س إلى اليمن، ولكن «لم يثبت أَنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام أكثر من مرتين»(31). وجاء في الصفحة (135) من الجزء نفسه: في (الجامع الصغير) ما نصه: «آجرت نفسي من (خديجة) سفرتين بقلوصين في السفرة الأولى أَرسلته مع عبدها (ميسرة إلى (سوق حباشة) أي وهو مكان س بأرض اليمن بينه وبين مكة ست ليالٍ كانوا يبتاعون فيها ثلاثة أيام من أَول رجب في كل عام فابتاعا منه برا ورجعا إلى (مكة) فربحا ربحًا حسنًا. وفي السفرة الثانية أَرسلته مع عبدها (ميسرة) إلى (الشام) وفيه أَن سفره مع (ميسرة) إلى الشام سفرة ثالثة. فعن (مستدرك الحاكم) وصححه وأقره (الذهبي) عن (جابر) أَن (خديجة) استأجرته صلى الله عليه وسلم إلى جُرش (بضم الجيم وفتح الراء) موضع باليمن كل سفرة بقلوص (وهي الشابة من الإبل) وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم سافر لها ثلاث سفرات كما تقدم – وأهل سوق (حباشة) هو (جرش)، والألزم أَن يكون صلى الله عليه وسلم سافر لها خمس سفرات أربعة إلى اليمن، وواحدة إلى الشام .»
لم يقف أَمر تجارته عليه السلام عند الشام واليمن، وإِنما كان يقوم بالتجارة وهو في (مكّة) المكرمة بعد زواجه بخديجة، إذ «إِنه باع واشترى، إِلا إِنه بعد الوحي وقبل الهجرة كان شراؤه أَكثر من البيع، وبعد الهجرة لم يبع إِلا ثلاث مرات، وأَما شر شراؤه فكثير، وآجر واستأجر، والاستئجار أَغلب، ووكل، وتوكل، وكان توكله أكثر»(32).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُسرة شريفة لها مكانتها في (مكة) المكرمة وعند القبائل العربية التي كانت تأتي إلى (مكة) للتجارة أَو للطواف حول (الكعبة) المشرفة، «فهو أَشرف ولد آدم حسبًا، وأَفضلهم نسبًا، من قِبلِ أَبيه وأُمه صلى الله عليه وسلم»(33)، وكان جده (عبد المطلب) قد تولى السِقاية والرِفادة بعد عمه (المطلب)(34).
كان عليه السلام ينزع منذ صباه إلى التجارة وازداد اهتمامه بها بعد زواجه بخديجة فأَغناه الله وهو في مكة، وفي ذلك نزلت سُورةُ الضحى: {وَٱلضُّحَىٰ (1) وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ (8) فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضُّحى: 1- 11].
قام بإعالة أُسرة كبيرة، ومَنْ كان يُؤوي وهو ميسور الحال حيث الحياة آمنة، والقلوب مطمئنة، وحيث الأَنصار والمهاجرون يحيون في كنفه، وحيث الوافدون يؤمون بيته إِذ يقيم الولائم ويجتمع الناس مستئنسين، وما ذلك إِلا لما أنعم الله عليه، وكان عليه السلام كريما ما يخجل من أَن يردَ الناس إذا أقاموا في بيته ولكن الله – تعالى – قال: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ} [الأحزاب: 53].
هذه حقيقة أَمره عليه السلام فكان ميسورًا إِذ أغناه الله، وجعل بيوته ملاذًا للناس، معيلاً لأُسرة كبيرة، قادرًا على أَنْ يُقدم الصداق لأَزواجه اللواتي عقد عليهن أَو تزوجهن(35).
وكانت أَمواله من «ثلاثة أوجه: من الصفي(36)، والهدية، وخمس الخمس»(37)، وكانت له ولأزواجه وبناته حصة في أَموال خيبر(38). وكانت أَموال بني النضير فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم(39) وكان «يزرع أَرضهم التي تحت النخل فيدخر من ذلك قوتَ أَهله سنةً، وما فضل يجعله في الكراع أي الخيل والسلاح عدة في سبيل الله – تعالى – »(40) .
وكان له صلى الله عليه وسلم «سبعة أفراس، وكان له بغال ست، وكان له من الحمر اثنان، وكان له من الإبل المعدة للركوب ثلاثة»(41).
وكان له عبيد وإمِاء «فمن الرجال زيد بن حارثة رضي الله عنهم كما تقدم – أَن خديجة – رضي الله عنها – وهبته له صلى الله عليه وسلم– قبل النبوة فتبناه… وأَبو رافع كان قبطيًا وكان للعباس رضي الله عنه فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم… وشقران كان حبشيًا وقيل: كان فارسيًا، وكان لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم وثوبان، وانجشة اشتراه صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية وأَعتقه….. وفي كلام بعضهم أَعتق رسول الله في مرضه أَربعين رَقَبة، ومن النساء أم أَيمن وأُميمة وسيرين التي أُهديت له صلى الله عليه وسلم مع مارية أَي وتقدم أنها أُختها. وذكر بعضهم أَنَ سيرين هذه وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه وتقدم أَن المقوقس أَهدى معهما قِنسر وانها أخت مارية وسيرين فهن الثلاثة أَخوات، وتقدم أَنه أَهدى إليه صلى الله عليه وسلم رابعة»(42).
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان موسرًا، ولكنه لم يعبأ بالمال والزرع والعبيد والإماء، ولم يكدس الثروة وإنِما كان يُنفق ما أَنعم الله عليه ولا سيما ما قدم لليتامى والسائلين {فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 9- 11].
البعثة:
بلغ (محمد) صلى الله عليه وسلم الخامسة والثلاثين من مولده، وكان الكهان من العرب والأَحبار من يهود، والرهبان من النصارى يتحدثون عن مبعثه، قال (ابن إسحاق): «فلما بلغ محمد رسول الله أَربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وكافةً للناس بشيرا»(43).
كان عليه السلام يتحنث(44) في (غار حِراء) فجاءه جبريل في شهر رمضان وهو الشهر {ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى} [البقرة: 185] وقال له: اقرأ، قال عليه السلام ما اقرأ؟ قال له جبريل {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ (3) ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5]. قرأها الرسولُ عليه السلام ثم انصرف جبريلُ عنه. وانصرف عليه السلام راجعًا إلى أهله حتى أتى خديجة وقالت له: يا أبا القاسم أين كنت؟ ثم حدثها بالذي رأى فقالت: صلى الله عليه وسلم ابشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إِني لأَرجو أَن تكون نبي هذه الأُمة(45).
كان نزول (القرآن الكريم) في ليلة القدر من شهر رمضان {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ (1) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلاَمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ} [القدر: 1- 5].
صّدَقَتْ خديجة – رضي الله عنها – بنبوة (محمد) صلى الله عليه وسلم وكانت أَول من أَسلم وآمنت بما جاء محمدًا من الله، «ووازرته على أَمره، وكانت أَول من آمن بالله ورسوله وصدَق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه لا يسمع شيئًا مما يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إِلا فرَج الله عنه بها إِذا رجعَ إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه، وتهوّن عليه أَمر الناس»(46).
انتظر عليه السلام (جبريل) ولكنَ الوحي فتر فَشَقَ عليه وأَحزنه، وقد «جاء في بعض الأَحاديث المسندة أَنها كانت سنتين ونصف سنة»(47).
ثم جاءه (جبريل) بسورة الضحى ليطمئنه بأن الله – تعالى – ما نسيه {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} [الضحى: 3]
أَيقن رسول الله عليه السلام أَنَ الوحي حقٌ، فمضى يبشر بالدين الجديد ليخرجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النور، وكانت زوجته أَول من آمن به وبرسالته، وأَسلم علي بن أَبي طالب رضي الله عنه وهو يومئذ ابن عشر سنين، قال ابن إسحاق: «ثم كان أَول ذكرٍ من الناس آمنَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وص ىل ىَل معه وصّدَق بما جاءه من الله تعالى علي بن أَبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم – رضوان الله وسلامه عليه -، وهو يومئذ ابن عشر سنين. وكان مما أَنعم الله به على علي بن أَبي طالب رضي الله عنه أَنه كان في حِجْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام»(48).
وأَسلم (زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزى بن امرىء القيس الكلبي) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم «وكان أَول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أَبي طالب»(49).
وأَسلم (أَبو بكر الصديق) قال ابن إسحاق: «فلما أَسلم أبو بكر رضي الله عنه أَظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله»(50).
وأَسلم بدعوة أَبي بكر رضي الله عنه «عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن غالب، والزبير بن العوام بن خويلد بن أَسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وعبد الرحمن بن عوف ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وسعد بن الوقاص، واسم أَبي وقاص مالك بن أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن مرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وطلحة بن عُبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – فيما بلغني: ما دعوتُ أَحدا إلى الإسلام إِلا كانت فيه كبوة(51) ونظر وتردد إِلا ما كان من أَبي بكر بن قحافة ما عكم(52) عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه»(53).
وفي أَول الدعوة الإسلامية فُرضت الصلاة قال ابن إسحاق: «عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: افترضت الصلاة على رسول الله أَول ما افترضت عليه ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله – تعالى – أتمها في الحضر أَربعًا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين»(54).
ثم فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أَول النهار فيصلي صلاةَ الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان صلى الله عليه وسلم وأَصحابه إِذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى، أي يصلون صلاة العشي وكانوا يصلون الضحى والعصر ثم نزلت الصلوات الخمس ». وفَرْضُ «التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم متأَخر عن فَرْضِ الصلاة. فعن ابن مسعود: كنا نقول قبل أَن يُفْرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عبارة، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان أي من الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام»، وقال له بعض الصحابة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك صلاتنا؟ فقال: «قولوا: اللهم صلِّ على (محمد) إلى آخره». قال الحلبي في سيرته: «ولم أقف على الوقت الذي فرض فيه التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ولا على قولهم: السلام على الله إلى آخره»(55).
قال ابن إسحاق: «وذكر بعض أَهل العلم أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أَبي طالب مستخفيًا من أَبيه أَبي طالب ومن جميع أَعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أَن يمكثا»(56).
بدأَ الناسُ يدخلون في الإسلام حتى فشا ذكره بمكة، وكان بين ما أَخفى عليه السلام أَمره واستتر به إلى أن أَمره الله – تعالى – بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم قال تعالى له: {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] وقال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ (214) وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214 – 215] {وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ} [الحجر: 89](57).
أَظهر قومه العداوةَ له وكادوا يُودون به لولا منزلة بني هاشم العظيمة وحدب عمه أبي طالب عليه(58)، وتفنن المشركون في تعذيب مَنْ أَسلم، وصبر عليه السلام على الرغم مما لقي من سُفهاء قريش ورميه بالسحر والجنون، واستمرت قريش في تعذيب مَنْ أَسلم، قال ابن إسحاق: «ثم أَن قريشًا اشتد أَمرهم للشقاء الذي أَصابهم في عَداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ أَسلم معه منهم، فأَغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سُفهاءَهم فكذبوه، وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُظهرٌ لأَمرِ الله لا يستخفي به، مُبادٍ لهم بما يكرهونَ من عيبِ دينهم، واعتزال أَوثانهم، وفراقه إِياهم على كفرهم»(59).
كان هذا موقف المشركين وما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إِلا أَن يفكر بهجرة مَنْ لا يتحمل العذاب إلى الحبشة، قال ابن إسحاق: «فلما رأَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أَصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه (أَبي طالب) وأَنه لا يقدر على أَن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أَرض الحبشة فإنَ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد وهي أَرضُ صِدْق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أَرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أَول هجرة في الإسلام»(60) وهي الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة(61).
ساء قريش أَن تحتضن (الحبشة) مَنْ هاجر إليها من المسلمين، وأن يأمنوا ويطمئنوا بأرض بعيدة عن (مكة) وقد «أَصابوا بها دارًا وقرارًا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم أَو يخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وآمنوا فيها فبعثوا (عبد الله بن أَبي ربيعة) و(عمرو بن العاص بن وائل) وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوهما إليه فيهم»(62).
لم يرضخ (النجاشي) لما دبرته قريش وردَ الموفدين، قال (ابن إسحاق): «ولما قدم (عمرو بن العاص) و (عبد الله بن أبي ربيعة) على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّهما النجاشي بما يكرهون أسلم (عمر بن الخطاب) وكان رجلاً ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازّوا(63) قريشًا، وكان عبد الله بن مسعود يقول: ماكنا نقدر على أَن نصلي عند الكعبة حتى أَسلم (عمر بن الخطاب) فلما أَسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه، وكان إِسلام (عمر) بعد خروج مَنْ خرج من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة(64).
بدأَ الإسلام ينتشر قال ابن إسحاق: «وبلغ أَصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى أَرض الحبشة إِسلامُ أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم من ذلك حتى إِذا دنوا من مكة بلغهم أَنَ ما كانوا تحدثوا به من إِسلام أهل مكة كان باط لا لا فلم يدخل منهم أَحد إلا بجوارٍ أَو مستخفياً»(65).
لم يقف الكفّار عند ما قاموا به من أَذى المسلمين ولم يكن أَمامهم وقد أسلم (عمر بن الخطاب) إلا أن يتحالفوا ضد الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: «فلما رأَت قريش أَن أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدًا أَصابوا به أَمنا وقرارًا وأَنَ النجاشي قد منع مَنْ لجأ إليه منهم وأَن (عمر) قد أَسلم فكان هو و (حمزة بن عبد المطلب) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا بينهم أَن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أَن لا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أَنفسهم. وكان كاتب الصحيفة (منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي)، قال ابن هشام: ويقال (النضر بن الحارث) فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلَ بعضُ أَصابعه.
وقال ابن إِسحاق: «فلما فعلت ذلك (قريش) انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى (أَبي طالب بن عبد المطلب) فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم (أَبو لهب العزى بن عبد المطلب) إلى قريش فظاهرهم»(66).
قضى المسلمون ثلاث سنوات في (شعب أبي طالب) وكان الطعام والشراب يصلان إليهم ونقض الصحيفة (هشام بن عمرو) إذ كان « يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو عبد المطلب في الشعب ليلاً قد أَوقره طعامًا حتى إِذا أَقيل فمَ الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضربَ على جنبه فيدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بزا (بُرّا) فيفعل به مثل ذلك»(67).
وسعى (هشام) في ضم (زهير بن أبي أمية) و (أَبي البختري بن هشام) و (زمعة بن الأَسود بن المطلب) إليه، واعتزموا على تمزيق الصحيفة وأبو طالب جالس في المسجد، فقام (المطعم بن عُدي) إليها ليشقها فوجد الأَرضة أكلتها إلا «باسمك اللهم»(68).
قال ابن هشام: «وذكر بعض أَهل العلم أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأَبي طالب: يا عم إِن ربي قد سلَط الأَرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت من الظلم والقطيعة والبهتان»(69).
لم يقف الكفّار عند ما قاموا به من أَذى المسلمين فكانت الهجرة الثانية إلى (الحبشة)، وكان خروج (عمرو بن العاص) إلى الحبشة بعد الهجرة الثانية لا الأُولى وهي بعد دخول بني هاشم والمطلب إلى الشعب، إِذ «انطلق إلى الحبشة عامة من آمن بالله ورسوله أَي غالبهم فكانوا عند النجاشي ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة»(70)
طمع المشركون في الرسول عليه السلام بعد وفاة عمه (أَبي طالب) قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، وبعد مضي عشر سنوات من مبعثه(71). ونالت قريش منه عليه السلام من الأَذى ما لم يكن تطمع به في حياة عمه، فخرج إلى (الطائف) في شوال سنة عشر من النبوة يلتمس النصرة من (ثقيف) وناله الأَذى منهم(72)، ثم بدأ يعرِض نفسه على القبائل في مواسمهم، قال ابن إسحاق: «ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (مكة) وقومه أَشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إِلا قليلاً مستضعفين ممن آمنَ به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم إِذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أَنه نبي مرسل، ويسألهم أَن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم الله ما بعثه به»(73).
كان عليه السلام في (العقبة) ولقي رهطًا من (الخزرج) وهم ستة نفر، قال ابن إسحاق: «فلما أَراد الله عز وجل إِظهار دينه وإِعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإِنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأَنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أَراد الله بهم خيرًا»(74)، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
وفي العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، فبايعوا الرسول عليه السلام على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب(75). وانصرفوا «وبعث معهم (مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي) وأَمره أَن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقهم في الدين فكان يُسمى المقرىءَ بالمدينة مصعب»(76)، وأَقام (أسعد بن زرارة) أَول جمعة في المدينة المنورة(77).
الهجرة:
كانت العقبة الأُولى والعقبة الثانية إِيذانًا بهجرة المسلمين إلى (المدينة المنورة) قال ابن إسحاق: «فلما أَذِن الله – تعالى – له في الحرب، وبايعه هذا الحيُّ من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وآوى إليهم من المسلمين بالخروج إلى (المدينة) والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إِن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها فخرجوا أَرسا لا لا وأَقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أَن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة»(78).
لقي المهاجرون كلَ الخير من الأنصار، و «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة بعد أَصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حُبس أو فُتن، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قُحافة الصديق رضي الله عنهما وكان (أبو بكر) كثيرًا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا، فيطمع أبو بكر أَن يكونه»(79).
أَذنَ الله لرسوله عليه السلام بالهجرة(80) بعد أن اشتدت ضراوة الكفار عليه وعلى من بقي من أصحابه في مكة، وكان «يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشرة سنة»(81).
أقبل على بيت أَبي بكر الصديق ليلة الهجرة فخرجا من خَوخة(82) لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمد إلى غار بثور – جبل بأَسفل مكة – فدخلاه… فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا ومعه أبو بكر(83) صلى الله عليه وسلم قال الله – تعالى –: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
جُنَ جنون المشركين، ووجهوا من يلحق برسول الله وصاحبه وظنوا أَنهما سلكا الطريق التجاري إلى الشام من شمال (مكة) ولم يعلموا أَنهما اتجها إلى جنوب مكة حيث جبل ثور ثم اتجها غربًا إلى البحر، قال ابن إسحاق: «فلما خرج بهما دليلهما (عبد الله بن أرقط) سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من (عُسفان) ثم سلك بهما على أسفل مج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدًا، ثم أَجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الحزار، ثم سلك بهما ثنية (المرة، ثم سلك بهما لِقفا، قال ابن هشام، ويقال (لفتا) قال (معقل بن خويلد الهذلي):
نزيعا محلبا من أهل لفت *** لحي بين أثلة والنحامِ
قال ابن إسحاق: ثم أجاز بهما مدلجة لِقف، ثم استبطن بهما مدلجة محاج ويقال: مجاج – فيما قال ابن هشام – ثم سلك بهما مرجح محاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذي الغضون – قال ابن هشام – ويقال: العضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سَلَم من بعد أَعداء مدلجة تِعْهن، ثم على العبابيد. قال ابن هشام: ويقال: العبابيب، ويقال: العيثانة، يريد العبابيب.
قال ابن إسحاق: ثم أجاز بهما الفاجَّة، ويقال: القاحة، فيما قال ابن هشام.
قال ابن هشام: ثم هبط بهما العرج، وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهم فحمل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أسلم يقال له (أوس بن حُجْر على جمل يقال له (ابن الرَّداء) إلى المدينة، وبعث معه غلامًا يقال له: (مسعود بن هنيدة) ثم خرج بهما دليلهما إلى العرج فسلك بهما ثنية العاثر عن يمين رَكوبة، ويقال: ثنية الغائر – فيما قال ابن هشام – حتى هبط بهما بطن رِئم، ثم قدمَ بهما (قُباء) على بني (عمرة بن عوف) لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضَّحاء، وكادت الشمس تعتدل(84).
سمع أَهل المدينة بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يخرجون لانتظاره، ووصل إلى (قُباء) فسروا سرورًا عظيماً(85)، واستقبلوه استقبالا حاراً وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم في المدينة… لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، وصعدت ذوات الخدور على الأَجاجير – أي الأَسطحة – عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلن بقولهن: «طلع البدر علينا »، وعن عائشة – رضي الله تعالى عنها – لما قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلــع البــدرُ علــينا *** من ثنياتِ الــوَداع
وجَبَ الشكر علــينا *** مــا دعـــا لله داع
أَيها المبعوثُ فينا *** جئت بالأمر المطاع(86)
ويبدو من هذه الأَبيات أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة من شمالها «لأَن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة بل هي من جهة الشام»(87).
أَقام عليه السلام في (قُباء) الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس(88)، وأول عمل قام به تأسيس مسجده، قال ابن إسحاق: «فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء في بني (عمرو بن عوف) يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده»(89) وبنى مساكنه(90).
وكانت أَول خطبة خطبها في المدينة هي: «أما بعد أيها الناس فقدموا لأَنفسكم تعلمن والله ليُصعقَن أَحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه، ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟… »(91).
وألقى خطبة ثانية(92)، وكتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود(93) وآخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار(94).
ووضع الأذان قال ابن إسحاق: «فلما اطمأَن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واجتمع اليه إِخوانه من المهاجرين، واجتمع أَمر الأنصار استحكم أَمر الإسلام فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام، وتبوأ الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة… »(95) ووضع الأذان وهو: « الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أَشهد أَن لا إله إِلا الله، أشهد أنَ محمدًا رسول الله، أَشهد أَنَ محمدًا رسول الله، حيَ على الصلاة، حيَ على الصلاة، حيَ على الفلاح، حيَ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إِله إِلا الله»(96).
كانت القبلة إلى (بيت المقدس) وفي المدينة ر صفت إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشرة شهرًا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة(97)، وقال ابن إسحاق – أيضًا-: « صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة»(98) وذلك بعد أَن قال الله – تعالى -: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة 144].
وفي السنة الثانية من الهجرة النبوية فرض الصيام، قال تعالى في سورة (البقرة) وهي من أَوائل ما نزل في المدينة: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة 183].
استقرَ عليه السلام في المدينة وبدأ ينظم فيها الحياة ويُقيم أُسس الدولة الإِسلامية، ويشرع القوانين، ويهتم بموارد الدولة، واستتباب الأَمن في المدينة المنورة، إذ كان لا يخرج منها قبل أن يستعمل عليها أَحدا من المسلمين ليقوموا بأمرها وهو بعيد عنها.
قال ابن إسحاق أَنه عليه السلام أقام بالمدينة بعد الوصول إليها: «بقية شهر ربيع الأول، وشهر ريبع الآخر، وجماديين، ورجبا، وشعبان، وشهر رمضان، وشوالا، وذا القعدة، وذا الحجة – وولي تلك الحجة المشركون – والمحرم، ثم خرج غازياً في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مقدمة المدينة»(99) واستعمل على المدينة سعد بن عبادة(100).
واستخلف في غزوة (بواط) السائب بن مظعون.
وفي غزوة العشيرة أبا سلمة بن عبد الأسد.
وفي غزوة السويق (البشير بن المنذر).
وفي غزوة بدر والفرع من بحران، وقرقرة، وحمرا الأسد، وإجلاء بني النضير، وغزوة الخندق، وبني قريظة، وبني لحيان (عمرو بن مكتوم).
وفي غزوة بني سليم بالكدر ودومة الجندل (سباع بن عرفطة الغفاري) أو (ابن أم مكتوم).
وفي غزوة ذي أَمر (عثمان بن عفان).
وفي غزوة ذات الرقاع (أَبا ذر الغفاري) ويقال: (عثمان بن عفان).
وفي غزوة بدر الآخرة (عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول الأنصاري).
وفي أَمر الحديبية والمسير إلى خيبر (نميلة بن عبد الله الليثي).
وفي عمرة القضاء (عويف بن الأَضبط الديلي).
وفي مسيره إلى مكة (أَبا رهم كلثوم بن حُصين بن عتبة بن خلف الأنصاري).
واستخلف عند خروجه عليه السلام من مكة (عتاب بن أسيد بن أَبي العيص بن أمية بن عبد شمس) وحج بالمسلمين سنة ثمان للهجرة.
واستعمل على المدينة في حجة الوداع (أبا دُجانة الساعدي) ويقال: (سِباع بن عُرفطة الغفاري)(101).
وكان عليه السلام يدير الشؤون المالية والإدارية وقد «استعمل سعد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكّة، واستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سوق المدينة»(102).
وكان يعين الأمُناء منهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه كان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه، وكذا أبو أسد بن أُسيد الساعدي كان أمينه على نسائه وهو آخر من مات من أَهل بدر – رضي الله تعالى عنهم – وكان ممن أبصر الملائكة يوم بدر وكف بصره – وبلال المؤذن – رضي الله عنه كان أمينه صلى الله عليه وسلم على نفقاته، ومعيقب كان أمينه صلى الله عليه وسلم على خاتمه الشريف(103).
وكان يبعث أُمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان كصنعاء، وحضرموت، وطي، وبني أسد، وبني حنظلة، والبحرين، ونجران(104).
وبعث برسائل إلى الملوك وهم قيصر المدعو هرقل ملك الروم، وكسرى ملك الفرس، والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك القبط، والمنذر بن ساوى العبدي بالبحرين، وجعيفر وعبد ابني الجلندى ملكي عُمان، وهوذة، والحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق(105). وكان يقود الجيش في غزواته وقد غزا بنفسه سبعًا وعشرين غزوة(106)، وكانت بعوثه وسراياه ثمانيًا وثلاثين من بين بعث وسرية(107).
وكان يهتم بعدة الحرب وكان «له صلى الله عليه وسلم من السيوف تسعة، ومن الدروع سبعة، ومن القسيّ ستة، ومن الأتراس ثلاثة، ومن الرماح اثنان، ومن الحراب ثلاثة، ومن الخود اثنان»(108).
كانت مكّة مسقط رأسه وموطنه حتى هجرته إلى المدينة المنورة، وكان يحن إليها، قال ابن إسحاق: «وخرج في ذي القعدة معتمرًا لا يريد حرباً » وذلك سنة ست للهجرة، ثم قال: «خرج رسول الله عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتا لا لا، وساقَ معد الهدْيَ سبعين بَدَنة(109)، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر»(110). وقال ابن إسحاق: «ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صَدَه فيه المشركون معتمرًا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوها عنها»(111) وكان ذلك سنة سبع للهجرة.
وكان صلى الله عليه وسلم قد اعتمر «بعد الهجرة أربع عمر… كلهن في ذي القعدة… وأول تلك الأربعة عمرة الحديبية وكانت في ذي القعدة التي صده فيها المشركون عن البيت. وثانيها عمرته صلى الله عليه وسلم من العام المقبل وهي عمرة القضاء وكانت في ذي القعدة… وثالثها عمرته صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين وكانت من الجعرانة وكانت في ذي القعدة… ورابعها عمرته صلى الله عليه وسلم مع حجة الوداع… وزاد بعضهم أنه اعتمر – أيضا – عمرتين عمرة في رجب وعمرة في شوال فيكون اعتمر ستة»(112).
في شهر رمضان سنة ثمان توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لفتحها، فدخلها وطاف بالبيت الحرام (113)، وفي السنة التاسعة حجّ أبو بكر رضي الله عنه بالناس(114)، وفي هذه السنة قدمت الوفود إلى الرسول عليه السلام وسميت (سنة الوفود) قال ابن إسحاق: «لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه»(115). وفي السنة العاشرة للهجرة توجّه عليه السلام إلى مكّة لأداء الحج، وألقى خطبة فيها، وكانت هذه (حجّة الوداع)(116).
كان عليه السلام يُؤدي ما أمره الله به حتى إِذا ما أكمل الرسالة نزل قوله تعالى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً} [المائدة: 3].
وفاضت روحه الطاهرة وانتقل إلى الرفيق الأَعلى يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأَول السنة الحادية عشرة للهجرة وكان دفنه يوم الأربعاء الرابع عشر من الشهر أي بعد يومين من وفاته عليه السلام(117).
المعالم:
ختم (الحلبي) كتابه بملحق عنوانه (باب ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمن وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال، وبيان ولادته عامًا ويوماً وشهرًا ومكانًا) وفيه ما لا يتصل بالرسول عليه السلام ولعل مَعْلم هذا البحث أوفر حظًا وأكثر تفصيلاً.
– عام الفيل ( 570 م) ولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأَول.
– السنة الأُولى من مولده احتضنته (حليمة السعدية) في البادية.
– الخامسة رَدَته حليمة إلى أُمه (آمنة بنت وهب).
– السادسة توفيت أُمه.
– السابعة استقل بكفالته جده (عبد المطلب).
– الثامنة مات جدّه (عبد المطلب) وكفله عمه (أبو طالب).
– الثانية عشرة سافر مع عمه (أَبي طالب) بتجارة إلى الشام.
– الرابعة عشرة شهد حرب الفجّار الثالثة، وقيل كان عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وأمّا الفجّار الأول فكان عمره عشر سنين.
– شهد حلف الفضول قبل مبعثه بعشرين سنة.
– السابعة عشرة كان سفره مع عميه الزبير والعباس إلى اليمن.
– الخامسة والعشرون وقيل: الخامسة والثلاثون شارك في وضع الحجر الأسود عند إِعادة بناء الكعبة المشرفة.
– الخامسة والعشرون كان سفره إلى الشام لتجارة خديجة مع (ميسرة)
– الخامسة والعشرون تزوج خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها).
– السابعة والثلاثون رأى الضوء والنور.
– السنة الأولى من النبوة كان نزول الوحي عليه وهو في الأربعين من مولده.
– فرضت الصلاة.
– فتور الوحي ثلاث سنوات.
– السنة الثالثة من البعثة إِظهار الدعوة الإسلامية.
– السنة الخامسة هجرة المسلمين الأُولى إلى الحبشة.
– السنة السابعة مقاطعة المسلمين في شعب (أَبي طالب) ثلاث سنوات.
– السنة السابعة هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة.
– السنة العاشرة مات أَبو طالب وماتت خديجة – رحمهما الله -.
– السنة العاشرة خرج إلى الطائف.
– الحادية عشرة كان ابتداء إِسلام الأنصار.
– الثانية عشرة كان الإسراء والمعراج.
– الثانية عشرة وقعت فيها بيعة العقبة الأُولى.
– الثالثة عشرة وقعت فيها بيعة العقبة الثانية.
– الثالثة عشرة بدأ المسلمون بالهجرة إلى المدينة.
– الرابعة عشرة من النبوة كانت السنة الأُولى من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد بلغ الثالثة والخمسين من عمره.
– السنة الأُولى من الهجرة بنى عليه السلام مسجده ومنازله، ومسجد قباء.
– الأُولى آخى بين المهاجرين والأَنصار.
– الثانية فُرِض الصيام.
– السنة الثانية حُوّلت القبلة إلى الكعبة المشرفة.
– السنة الثانية شرع الأَذان.
– الثانية غزوة (بواط).
– الثانية غزوة (ودان).
– الثانية غزوة (العشيرة).
– الثانية غزوة (صفوان) وهي غزوة (بدر) الأُولى.
– الثانية وقعت معركة (بدر الكبرى).
– الثانية غزوة (بني سليم بالكدر).
– غزوة (ذي أَمر).
– غزوة الفرع من (بحران).
– غزوة (بني قينقاع).
– غزوة (السويق).
– السنة الثالثة للهجرة غزوة (أُحد).
– السنة الثالثة (ذكر يوم الرجيع).
– غزوة (حمراء الأسد).
– السنة الرابعة حديث بئر معونة.
– السنة الرابعة غزوة (بني النضير).
– السنة الرابعة غزوة (ذات الرقاع).
– السنة الرابعة غزوة (بدر الآخرة).
– السنة الرابعة أو الخامسة غزوة (دومة الجندل).
– السنة الخامسة غزوة (الخندق).
– السنة الخامسة غزوة (بني قريظة).
– غزوة (بني لحيان).
– غزوة (ذي قرد).
– السنة السادسة غزوة (بني المصطلق).
– السنة السادسة أَمر الحديبية و (بيعة الرضوان).
– السنة السادسة صلح (الحديبية).
– السنة السابعة (عمرة القضاء).
– السنة السادسة خروجه صلى الله عليه وسلم للعمرة.
– السنة السابعة المسير إلى (خيبر).
– السنة السابعة خروجه لعمرة (القضاء).
– السنة السابعة اتخاذ الخاتم وإرسال الرسل إلى الملوك.
– السنة الثامنة غزوة (مؤتة).
– السنة الثامنة المسير إلى مكّة وفتحها.
– السنة الثامنة غزوة (حنين).
– السنة الثامنة غزوة (الطائف).
– السنة الثامنة عمرة (الجعرانة).
– السنة الثامنة حجّ بالمسلمين (عتاب بن أُسيد).
– السنة التاسعة غزوة (تبوك).
– السنة التاسعة هدم (مسجد الضرار).
– السنة التاسعة قدوم وفد (ثقيف) إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلان إِسلامهم.
– السنة التاسعة حجّ بالمسلمين (أبو بكر الصدّيق).
– السنة التاسعة قدوم الوفود إلى الرسول عليه السلام وهي (سنة الوفود) أو (عام الوفود).
– السنة العاشرة (حجّة الوَداع).
– السنة الحادية عشرة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول وهي السنة الرابعة والعشرون من النبوّة، ودُفن عليه السلام ليلة الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الأَول.
هذه معالم السيرة النبويّة المشرّفة وهي مستقاة من واقع حياة النبي (محمد) صلى الله عليه وسلم التي ذكرتها كتب السيرة، وقد تجنب البحث ذكر ما أنطق بعضُهم رسولَ الله بما لم ينطق، وذكر الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله وحده فهو «عالم الغيب والشهادة » و «عالم غيب السماوات والأرض » و «علاّم الغيوب».
وما كان لرسول الله عليه السلام أن يعلم الغيب وقد قال مخاطباً الكفرة: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ} [الأنعام: 50 ، هود: 31]، وقال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ} [الأعراف: 188].
إِنها لدعوة صادقة إلى أن تكون السيرة النبوية بعيدة عن الروايات التي لا تمثل حياة النبي، وإنما تثير الخلاف والصراع بين المسلمين.