الحرب بين بني بكر وخزاعة
وكان السبب فيها فيما ذكر ابن إسحاق: أن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة، يقال له: الوتير، وكان الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي، يقال له: مالك بن عباد- وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رَزْن- خرج تاجرًا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي، وهم مِنخَْر بني كنانة وأشرافهم: سلمى وكلُثوم وذُؤيب، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم، فبينا هم كذلك حجز بينهم الإسلام.
دور صلح الحديبية
وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل بن بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم في الأسود بن رزن.
فخرج نوفل بن معاو ية الديلي في بني الديل بن بكر من كنانة، حتى بيَتَّ خزاعة وهم على الوتير – ماء لهم- فأصابوا منهم رجلاً وتحاوروا واقتتلوا، ورفدت بني بكر قريشٌ بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً.
من قاتل معهم من قريش
ذكر ابن سعد، منهم: صفوان بن أمية، وحو يطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف.
انتهاك حرمة الحرم
حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم. فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك. فقال: كلمة عظيمة، لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه، وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بـ الوتير رجلاً يقال له: منبه، فلما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم، يقال له: رافع.
مناشدة خزاعة نصرة المسلمين
ولما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم من العهد والميثاق – خرج عمرو بن سالم الخزاعي، قال ابن سعد: في أربعين راكباً، حتى قدم على رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم المدينة، وكان ذلك ما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس فقال:
يا رب إني ناشد محمدا … حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والدا … نمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك اللهّٰ نصرًا أعتدا … وادع عباد اللهّٰ يأتوا مددا
فيهم رسول اللهّٰ قد تجرَدّا … إن سيم خسفًا وجههُ تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزُبدا … إن قريشًا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك الموكَّدا … وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا … وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا … وقتلونا ركعاً وسجدا
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من بني خزاعة: حتى قدموا على رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم. قلت: لعل الأربعين راكباً الذين ذكر ابن سعد قومهم من خزاعة مع عمرو بن سالم هم هؤلاء.
رد فعل النبي
يقول: قتلنا وقد أسلمنا، فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “نصرت يا عمرو بن سالم“.
بشارة النصر
ثم عرض لرسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم عنان من السماء فقال: “إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب“.
طلب قريش ز يادة مدة الصلح
رجع إلى خبر ابن إسحاق: ثم رجعوا إلى مكة وقد قال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم للناس: “كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة“.
مقابلة بديل أبا سفيان
ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، وقد بعثته قريش إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة.
محادثة ابي سفيان لبديل
وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم، قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمدًا؟ قال: لا.
تأكد أبي سفيان من ذهابهم إلى المدينة
فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علفَ بها النوى. فأتى مَبْركَ راحلته، فأخذ من بعرها ففَتَهّ، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف باللهّٰ لقد جاء بدُيل محمدًا.
خروج أبي سفيان إلى المدينة
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة.
وروده على أم المؤمنين حبيبة
فدخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، وأنت مشرك نجس. قال: واللهّٰ لقد أصابك بعدي شرّ.ٌ
رد فعل النبي والصحابة على أبي سفيان
ثم خرج حتى أتى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم؟! فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به.
طلب أبي سفيان الشفاعة من عليٍّ
ثم جاء فدخل على عليِّ بن أبي طالب وعنده فاطمة، و حسنٌ غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي، إنك أمس القوم به رحماً، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت خائباً، اشفع لي إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، فقال: ويحك يا أبا سفيان!
واللهّٰ لقد عزم رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
دهاء أبي سفيان
فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر.
رد فعل السيدة فاطمة
قالت: واللهّٰ ما يبلغ بني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم.
طلب أبي سفيان النصيحة من عليٍّ
قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني؟
نصيحة سيدنا عليٍّ لأبي سفيان
قال: واللهّٰ ما أعلم لك شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم وأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، قال: أَوَترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا واللهّٰ ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك.
تنفيذ النصيحة
فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدًا فكلمته، فوالله ما ردَّ عليَّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو. كذا قال ابن إسحاق.
قال ابن هشام: أعدى العدو، ثم جئت عليًاّ فوجدته ألين القوم، وقد أشار
عليَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا. قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت. قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: و يلك! واللهّٰ إن زاد الرجل على أن لعب بك، قال: لا واللهّٰ ما وجدت غير ذلك.
تجهيز المسير نحو مكة
وأمر رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه.
استعلام أبي بكر عن الأمر
فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، فقال: أي بنية أمركن رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم بتجهيزه؟ قالت: نعم، فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا واللهّٰ ما أدري.
إخبار النبي للناس عن وجهته
ثم إن رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتجهز. وقال: “اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها“.
كتابة حاطب لقريش
فتجهز الناس، فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتاباً يخبرهم بذلك، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشًا، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به.
علم النبي بأمر حاطب
وأتى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب.
بعث عليٍّ والزبير لإدراك الكتاب
فبعث عليًاّ و الزبير – وغير ابن إسحاق يقول: بعث عليًاّ والمقداد- فقال: “أدركا امرأة، قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم“.
إدراكهما للمرأة
فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها، والتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً. فقال لها علي: إني أحلف باللهّٰ ما كذب رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم ولا كذبنا، ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك.
موقف المرأة منهما
فلما رأت الجد منه، قالت: أَعْرِضْ، فأعرض، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب، فدفعته إليه.
الرجوع بالكتاب إلى النبي
فأتى به رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم.
مراجعة النبي لحاطب
فدعا حاطباً، فقال له: “ما حملك على هذا؟” فقال: واللهّٰ إني لمؤمن باللهّٰ ورسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكني ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، ولي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.
موقف عمر من حاطب
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللهّٰ، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق.
شفاعة شهود بدر
فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “وما يدر يك يا عمر، لعل اللهّٰ قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم“.
مَنْ استخلف على المدينة
ثم مضى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم لسفره، فاستخلف على المدينة أبا رهُْم كلثوم بن الحصين الغفاري . وقال ابن سعد: عبد اللهّٰ بن أم مكتوم.
وقت خروج المسلمين
فخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام وصام الناس معه.
خط سير المسلمين
حتى إذا كانوا ب الكدُيَدْ أفطر، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف.
إرسال قريش الجواسيس
وعميت الأخبار عن قريش، فهم على وجل وارتقاب. فخرج أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار.
مسلمو مكة يخرجون للقاء النبي
وكان العباس بن عبد المطلب قد خرج قبل ذلك بعياله مسلماً مهاجرًا، فلقي رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، قيل: بالجحفة، وقيل: بذي الحليفة، وكان فيمن خرج ولقي رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم ببعض الطر يق أبو سفيان بن الحارث وعبد اللهّٰ بن أبي أمية بن المغيرة ب الأبواء ، وقيل: بين السقيا والعرج ، فأعرض عنهما، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أخي أشقى الناس بك.
نصيحة عليٍّ لأبي سفيان بن الحارث
وقال علي لأبي سفيان فيما حكاه أبو عمر: ائت رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف عليه السلام ليوسف: {قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولًا منه.
رحمة النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم
ففعل ذلك أبو سفيان، قال له رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]. وقبَلَِ منهما إسلامهما.
اعتذار أبي سفيان بن الحارث
فأنشده أبو سفيان معتذرًا أبياتاً، منها:
لعمرك إني يوم أحمل راية … لتغلبَ خيلُ اللات خيلَ محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله … فهذا أواني حين أُهدى فأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني … على اللهّٰ من طَرَدّْتهُ كلَّ مَطرد
مكانة أبي سفيان بن الحارث
فضرب رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم صدره وقال: “أنت طَرَدّْتني كل مطرد“.
وكان أبو سفيان بعد ذلك ممن حسن إسلامه، فيقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم منذ أسلم حياء منه، وكان رسول
اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم يحبه ويشهد له بالجنة، و يقول: “أرجو أن يكون خلفًا من حمزة“.
ويروى أنه لما حضرته الوفاة قال: لا تبكوا عليَّ؛ فلم أُتنطَّفْ بخطيئة منذ أسلمت.
بلوغ المسلمين مر الظهران
فلما نزل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم مر الظهران، وقال ابن سعد: نزله عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب.
خشية العباس على قريش
رقت نفس العباس لأهل مكة، قال: فجلست على بغلة رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، فقلت لعليٍّ: أجد بعض الحطَّابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة.
محادثة أبي سفيان لبديل بن ورقاء
فوالله إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال يقول: بديل: هذه واللهّٰ، خزاعة حمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
محادثة العباس لأبي سفيان
قال: فعرفت صوته، فقلت: أنا أبا حنظلة، فعرف صوتي. فقال: أبو الفضل! قلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: واللهّٰ هذا رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم وا صباح قريش واللهّٰ.
طلب أبي سفيان النصح
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: واللهّٰ لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى أتي بك رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فأستأمنه لك.
ركوب أبي سفيان خلف العباس
فركب خلفي ورجع صاحباه، قال: فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم على بغلته.
مرور أبي سفيان على نار عمر بن الخطاب
حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، قال: من هذا؟ وقام إليَّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان، عدو اللهّٰ! الحمد للهّٰ الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد.
خروج عمر نحو النبي
ثم خرج يشتد نحو رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم. وركَضْتُ البغلة، فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول اللهّٰ، هذا أبو سفيان فدعني فلأضرب عنقه. قال: فقلت: يا رسول اللهّٰ، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: واللهّٰ لا يناجيه الليلة رجل دوني.
تهدئة العباس لعمر
فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا.
قال: مهلاً يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفتُ أن إسلامك كان أحب إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم من إسلام الخطاب.
توجيه النبي للعباس بشأن أبي سفيان
فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به“. فذهبت به.
محادثة النبي لأبي سفيان
فلما أصبح غدوت به إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، فلما رآه رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم قال: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا اللهّٰ؟” قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد
ظننت أن لو كان مع اللهّٰ إله غيره لقد أغنى شيئاً بعد. قال: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول اللهّٰ؟” قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما واللهّٰ هذه فإن في النفس حتى الآن منها
شيئاً، فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا اللهّٰ وأن محمدًا رسول اللهّٰ قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
أبو سفيان يحب الفخر
قال العباس: قلت: يا رسول اللهّٰ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً؟ قال: “نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن“.
حبس أبي سفيان
ثم أمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود اللهّٰ فيراها، ففعل.
مرور القبائل عليه
فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، قال: يقول: ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس ما هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان.
مرور النبي بأبي سفيان
حتى مر به رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. قال: سبحان اللهّٰ، يا عباس من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبِلٌَ ولا طاقة.
صفة كتيبة الأنصار
وفي صحيح البخاري: أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة ومعه الراية قال: ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة هي أقل الكتائب فيهم رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم مع الزبير. كذا وقع عند جميع الرواة، ورواه الحميدي في كتابه: هي أجل الكتائب ١٣٦ ، وهو الأظهر.
دهشة أبي سفيان من قوة المسلمين
رجع إلى الأول، فقال أبو سفيان: واللهّٰ يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا، قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
صراخ أبي سفيان في قريش
قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبُحَِّ من طليعة قوم.
قال: و يلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك اللهّٰ، وما تغني عنا دارك! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
أمان النبي لمن لم يقاتل
وذكر الطبري: أن النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم وجه حكيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامها إلى مكة، وقال: “من دخل دار حكيم فهو آمن” – وهي بأسفل مكة- “ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن” – وهي بأعلى مكة- فكان هذا أماناً منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة.
فتح مكة صلحا
ولهذا قال جماعة من أهل العلم، منهم الإمام الشافعي رحمه اللهّٰ: إن مكة مؤمنة، وليست عنوة، والأمان كالصلح، ورأى أن أهلها كانوا مالكين رباعهم، فلذلك كان يجيز كراءها لأربابها وبيعها وشراءها؛ لأن من آمن فقد حَرمُ ماله ودمه وذريته وعياله، فمكة مؤمنة عند مَنْ قال بهذا القول، إلا الذين استثناهم رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم وأمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة.
فتح مكة عنوة
وأكثر أهل العلم يرون أن فتح مكة عنوة؛ لأنها إنما أخذت بالخيل والركاب، والخلاف بين العلماء في جواز أخذ أجر المساكن بمكة أو المنع منه مشهور معروف، وقد جاء في حديث عن عائشة من طر يق إبراهيم بن مهاجر في مكة أنها مناخ من سبق.
عدد أصنام الكعبة
عن ابن عباس، قال: دخل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً قد شد لهم إبليس أقدامها برصاص، فجاء ومعه قضيب، فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه، فيقول: {جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]. حتى مر عليها كلها.
الامتناع عن تقسيم الغنائم
ولا خلاف أنه لم يجر فيها قسم ولا غنيمة، ولا سُبي من أهلها أحدٌ، لما عظم اللهّٰ من حرمتها، ألا ترى إلى قوله صلى اللهّٰ عليه وسلم: “مكة حرام محرم، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة“.
الراجح في شأن فتح مكة
قال أبو عمر: والأصح – واللهّٰ أعلم- أنها بلدة مؤمنة، أمن أهلها على أنفسهم، وكانت أموالهم تبعاً لهم. وقال الأموي: كانت راية رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم يوم الفتح بيد سعد بن عبادة، فلما مر بها على أبي سفيان وكان قد أسلم أبو سفيان، فقال سعد إذ نظر إليه: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل اللهّٰ قريشًا. فأقبل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم في كتيبة الأنصار، حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول اللهّٰ، أمرت بقتل قومك، فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا، أنشدك اللهّٰ في قومك، فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم. وقال عثمان و عبد الرحمن بن عوف: يا رسول اللهّٰ، واللهّٰ لا نأمن سعدًا أن تكون منه في قريش صولة. فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز اللهّٰ فيه قريشًا“.
رجز ضرار بن الخطاب
وقال ضرار بن الخطاب الفهري يومئذ:
يا نبي الهدى إليك لجاَ حيُّ … ي قريش، ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأر … ض وعاداهم إله السماء
والتقتْ حلَقَْتاَ البطَِان على القو … م ونودوا بالصيلم الصلعاء
أن سعدًا يريد قاصمة الظه … ر بأهل الحجون و البطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغي … ظ رمانا بالنسر والعواء
وَغِرُ الصدر لا يُهمُّ بشيء … غير سفك الدِّمَا وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت … عنه هند بالسوءة السوآء
إذ ينادي بذُلِّ حي قريش … وابنُ حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحمَ اللواء ونادى … يا حماة اُللواء أهلَ اللواء
ثم ثابتْ إليه من بُهمَِ الخز … رج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش … فقِعة اَلقاعِ في أكفِّ الإماء
فانْهيَنْهَ فإنه أسد الأس … د لدى الغاب والغٌ في الدماء
أنه مطُرقٌ يدير لنا الأم … ر سكوتاً كالحية الصماء
صاحب الراية
فأرسل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فنزع اللواء من يده، وجعله بيد قيس ابنه، ورأى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه إذا صار إلى ابنه قيس. قال أبو عمر: وقد روي أن النبي
صلى اللهّٰ عليه وسلم أعطى الراية للزبير إذ نزعها من سعد.
تقسيم الجيش
رجع إلى الخبر، عن ابن إسحاق: وأمَّرَ رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم خالد بن الوليد فدخل من الليِّط أسفل مكة في بعض الناس، فكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب، وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم.
وروينا في صحيح مسلم أن أبا عبيدة كان على البياذقة يعني: الرَجَّالة.
مكان دخول النبي إلى مكة
قال ابن إسحاق: ودخل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، وضربت له هناك قبة.
تجمع نفر من قريش
وكان صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو قد جمعوا أناسًا ب الخندمة ليقاتلوا.
موقف لحماس بن قيس
وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعَدُّ سلاحًا قبل دخول رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم و يصلح منه، فقالت له امرأته، لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: واللهّٰ ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء.
قال: واللهّٰ إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما لي عِلَهّ … هذا سلاحٌ كامل وألَهّ
وذو غِرارين سر يع السَّلهَ
موقعة الخندمة
ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة. فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد وناوشوهم شيئاً من القتال.
من قتل فيها
فقُتل كرز بن جابر الفهري، وحبيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم الخزاعي، وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذا عنه، فسلكا طر يقًا غير طر يقه، فقتلا جميعاً.
المصابون
وأصيب من جهينة: سلمة بن الميلاء ، وأصيب من المشركين قريب من اثني عشر رجلاً أو ثلاثة عشر رجلاً ثم انهزموا. وقال ابن سعد: قتل أربعة وعشرون رجلاً من قريش، وأربعة من هذيل.
خيبة أمل حمس بن قيس
قال: فخرج حماس منهزمًا حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي عليَّ بابي. قالت: وأين ما كنت تقول؟
فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه … إذ فر صفوان، وفر عكرمه
واستقبلتنا بالسيوف المسلمه … يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه … لهم نَهيتٌ حولنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
نداء الأنصار
حدثنا عبد اللهّٰ بن رباح، قال: وَفدَتْ وفودٌ إلى معاو ية أنا فيهم وأبو هريرة فذكر حديثاً.
وفيه قال: فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معاشر الأنصار؟ قال: فذكر فتح مكة، قال: أقبل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فدخل مكة، قال: فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالداً على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسَُرّ فأخذوا بطن الوادي، ورسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم في كتيبة، قال: “قد وَبَشَّت قريش أوباشها” قال: فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سُئلنا.
وفيه: فقال: “يا أبا هريرة؟” قلت: لبيك يا رسول اللهّٰ، قال: فقال: “اهتف لي: يا للأنصار، ولا يأتني إلا أنصاري“. فهتف بهم فجاءوا، فأطافوا برسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم قال: فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم“. ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: “احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا“.
قال: فقال: أبو هريرة: فانطلقنا، فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد يوجه إلينا منهم شيئاً. قال: فقال أبو سفيان: يا رسول اللهّٰ أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. قال: فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن“. قال: فغلق الناس أبوابهم. قال: فأقبل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت. قال: وفي يده قوس آخذًا بسية القوس.
فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، قال: فجعل يطعن بها في عينه، و يقول: {جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] {جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. قال: ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه، فجعل يذكر اللهّٰ بما شاء أن يذكره ويدعوه، قال: والأنصار تحته، قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته.
قال: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم حتى يقضي. قال هاشم: فلما قضى الوحي رفع رأسه، ثم قال: “يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته“. قالوا: قلنا ذلك يا رسول اللهّٰ. قال: “فما اسمي إذن؟ إني عبدُ اللهّٰ ورسوله، هاجرت إلى اللهّٰ وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم“. قال: فأقبلوا إليه يبكون، و يقولون: واللهّٰ ما قلنا الذي قلنا إلا الضن باللهّٰ ورسوله. فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “فإن اللهّٰ ورسوله يعذرانكم و يصدقانكم“. رواه أبو داود عن الإمام أحمد بن حنبل.
تعيين مَنْ يقُتل
وكان رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عَهِدَ في نفر سمَاّهم بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم: عبد اللهّٰ بن سعد بن أبي سرح العامري، وعبد العزى بن خطل، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد بن وهب بن عبد بن قصي، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتا ابن خطل، كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، وسارة مولاة لبني عبد المطلب.
قصة ابن أبي سرح
فأما ابن أبي سرح، فكان ممن أسلم قبل ذلك وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، ثم ارتد مشركًا وصار إلى قريش. فلما كان يوم الفتح فرَ إّلى عثمان – وكان أخاه من الرضاعة أرضعت أمُّه عثمان- فغيَبّه حتى أتى به رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم بعدما اطمأن الناس، فاستأمنه له، فصمت رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم طو يلاً، ثم قال: “نعم“. فلما انصرف عثمان، قال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم لمن حوله: “ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه“. فقال رجل من
الأنصار: فهلَاّ أومأت إليَّ يا رسول اللهّٰ. فقال: “إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة أعين“.
فضله
قلت: وكان بعد ذلك ممن حسن إسلامه، ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وهو آخر النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان فارس بني عامر بن لؤي المقدم فيهم، وولاه عمر بن الخطاب، ثم عثمان رضي اللهّٰ عنهم.
قصة ابن خطل
وأما ابن خطل، فإنما أمر بقتله، فإنه كان مسلماً، فبعثه رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى لهم يخدمه، وكان مسلماً، فنزل منزلًا، وأمر المولى أن يذبح له تيسًا فيصنع له طعامًا، فنام، فاستيقظ ابن خطل ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركًا، وكانت له قينتان: فرَتْنَاَ وقرَِيبة، وكانتا تغنيان بهجاء رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي.
الأمر بقتل ابن خطل
وعن أنس بن مالك، عن النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم: أنه دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر. فلما نزعه جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: “اقتلوه“.
قال ابن شهاب: ولم يكن رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم يومئذ محرمًا.
قصة عكرمة بن أبي جهل
وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته فأسلم وحسن إسلامه، وكان يعد من فضلاء الصحابة.
قصة الحويرث بن نقيد
وأما الحويرث بن نقيد، فكان يؤذي رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم بمكة، فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح.
قصة مقيس بن صبابة
وأما مقيس بن صبابة فكان قد أتى النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم مسلماً قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله بأخيه هشام بن صبابة بعد أن أخذ الدية، وكان الأنصاري قتل أخاه مسلماً خطأ في غزوة ذي قرَدَ وهو يرى أنه من العدو.
وقد تقدم ذلك في غزوة ذي قرد وأبيات مقيس في ذلك، ثم لحق بمكة مرتدًّا فقتله يوم الفتح نمُيَلْة بن عبد اللهّٰ الليثي وهو ابن عمه. قال أبو عمر: ومن سنته صلى اللهّٰ عليه وسلم أنه قال: “لا أعفي أحدًا قتل بعد أخذ الدية“.
هذا من المسلمين. وأما مقيس فارتد أيضًا.
قصة هبار بن الأسود
وأما هبار بن الأسود، فهو الذي عرض لزينب بنت رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم في سفهاء من قريش حين بعث بها أبو العاص زوجها إلى المدينة، فأهوى إليها هبار هذا ونخس بها، فسقطت على صخرة فألقت ذا بطنها وأهرقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت سنة ثمان. فقال عليه السلام: “إن وجدتم هبارًا فأحرقوه بالنار“. ثم قال: “اقتلوه؛ فإنه لا يعذب
بالنار إلا رب النار“. فلم يوجد يوم الفتح، ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم. وذكر الزبير أنه لما أسلم وقدم مهاجرًا جعلوا يسبونه، فذكر لرسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، فقال: “سُبَّ من سَبَكّ“. فانتهوا عنه.
قصة قينتا ابن خطل
وأما قينتا ابن خطل: فرَتْنَاَ وقريبة، فقتلت إحداهما، واستؤمن رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم للأخرى؛ فأمنها، فعاشت مدة ثم ماتت في حياة النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم.
قصة سارة
وأما سارة فاستؤمن لها أيضًا، فأمنها عليه السلام، فعاشت إلى أن أوطأها رجل فرسًا بالأبطح في زمن عمر فماتت، واستجار بأم هانئ بنت أبي طالب رجلان، قيل: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية، وقيل: أحدهما جعدة بن هبيرة، فأجارتهما، فأراد عليّ قٌتلهما، فدخلت إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم وهو يصلي الضحى، فذكرت ذلك له، فأمضى
جوارها، وقال: “قد أجرنا من أجرت، وآمنا من أمنت“.
إسلام أم هانئ
وأسلمت أم هانئ يوم الفتح، وهي شقيقة علي بن أبي طالب، وعقيل، وجعفر وطالب، أمهم فاطمة بنت أسد، قيل: اسمها فاختة، وقيل: هند.
حجة من أسماها هندًا
ومن حجة من قال إن اسمها هند، قول زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين فر يوم الفتح ولم يسلم، ولحق ب نجران ومات على شرِْكه في أبيات أولها:
أشاقتك هند أم جفاك سؤالها … كذاك النوى أسبابها وانفتالها
وقد أرقت في رأس حصن ممرد … بنجران يسري بعد نوم خيالها
وعاذلة هبت عليَّ تلومني … وتعذلني بالليل ضل ضلالها
لئن كنت قد تابعت دين محمد … وعطفت الأرحام منك جبالها
فكوني على أعلى سحيق بهضبة … ممنعة لا يستطاع قلِالهُا
فإني من قوم إذا جدَّ جدهم … على أي حال أصبح اليوم حالها
وإني لأحمي من وراء عشيرتي … إذا كثرت تحت العوالي مجالها
وطارت بأيدي القوم بيض كأنها … مخار يق ولدان يطيش ظلالها
وإن كلام المرء في غير كنهه … لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
الطواف بالبيت
ولما نزل رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد بها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها.
خطبته عند باب الكعبة
ثم وقف على باب الكعبة فقال: “لا إله إلا اللهّٰ وحده لا شر يك له، صدق اللهّٰ وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرُة أو دم أو مال يدَُّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ألا وقتيل الخطأ شبيه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن اللهّٰ أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمَها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب“، ثم تلا هذه الآية: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ …} [الحجرات: 13] الآية.
مخاطبة قريش بتوقع مصيرهم
ثم قال: “يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟” قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
الرحمة المهداة
ثم قال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء“.
يوم بر ووفاء
ثم جلس في المسجد، فقام إليه عليّ وٌمفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول اللهّٰ، اجمع لنا الحِجاَبة مع السقاية صلى اللهّٰ عليك وسلم. فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “أين عثمان بن طلحة؟” فدعي له، فقال: “هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء“.
أوقات فتح الكعبة في الجاهلية
وروينا عن عثمان بن طلحة، من طر يق ابن سعد، قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل – يعني النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم- يومًا يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه ونلت منه وحلم
عني، ثم قال: “يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت“. فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت. فقال: “بل عمرت وعزت يومئذ“.
مفتاح الكعبة في آل عثمان
ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعاً ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. وفيه: أنه عليه السلام قال له يوم الفتح: “يا عثمان، أن ائتني بالمفتاح“، فأتيته به، فأخذه مني ثم دفعه إليَّ وقال: “خذوها تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن اللهّٰ استأمنكم على بيته، فكلوا ما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف“.
إسلام عثمان بن طلحة
قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: “ألم يكن الذي قلت لك؟” قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: “لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت“. فقلت: بلى، أشهد أنك رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ
عليه وسلم.
رفع الأذان من الكعبة
وروينا عن سعيد بن المسيب أن العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم، فدفعه رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم لعثمان، ودخل النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم صلى اللهّٰ عليه وسلم يومئذ الكعبة ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة.
محادثة عتاب لأبي سفيان
فقال عتاب: لقد أكرم اللهّٰ أسيدًا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: أما واللهّٰ لو أعلم أنه حق لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء.
إخبار النبي لهم بخبرهم
فخرج عليهم النبي فقال لهم: “لقد علمت الذي قلتم“، ثم ذكر ذلك لهم. فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم، واللهّٰ ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
حرمة مكة
وعن أبي شريح الخزاعي، قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد اللهّٰ بن الزبير جئته فقلت له: يا هذا، إنا كنا مع رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح، عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك.
فقام رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فينا خطيباً، فقال: “يا أيها الناس، إن اللهّٰ حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن باللهّٰ واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد بها شجراً“… الحديث.
وفيه: فقال عمر لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولامانع جز ية… الحديث . قلت: الذي وقع في الصحيح أن هذا الخبر لعمرو بن سعيد بن العاص مع أبي شريح، لا لعمرو بن الزبير. وهو الصواب.
خطبة الصفا
والوهم فيه عن مَنْ دون ابن إسحاق. وقد رواه يونس بن بكير عنه على الصواب. وحين افتتح رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم مكة وقف على الصفا يدعو وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم إذا فتح اللهّٰ عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: “ماذا قلتم؟” قالوا: لا شيء يا رسول اللهّٰ، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم: “معاذ اللهّٰ، المحيا محياكم، والممات مماتكم“، ذكره ابن هشام.
محاولة اغتيال للنبي
وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح أراد قتل النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “أفضالة؟” قال: نعم فضالة يا رسول اللهّٰ. قال: “ماذا كنت تحدث به نفسك؟” قال: لا شيء، كنت أذكر اللهّٰ. فضحك النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم ثم قال: “استغفر اللهّٰ“، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: واللهّٰ ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق اللهّٰ شيئاً أحب إليَّ منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث؟ فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا … يأبى عليك اللهّٰ والإسلام
لو ما رأيت محمدًا وقبيله … بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين اللهّٰ أضحى بيَنِّاً … والشرك يغشى وجْهَه اُلإظلامُ
موقف لصفون بن أمية
وفر يومئذ صفوان بن أمية، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فأمَّنهَ وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده، فقال: يا رسول اللهّٰ، اجعلني بالخيار
شهرين؟ فقال: “أنت بالخيار أربعة أشهر“.
إسلام أم حكيم بنت الحارث
وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت.
طلبها الأمان لزوجها
واستأمنت له رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم فأمنه، فلحقته باليمن فردته، وأقرهما رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم هو وصفوان على نكاحهما الأول.
حب الأوطان
قال ابن سعد: ثم بعث رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم، وحانت الظهر فأذن بلال فوق ظهر الكعبة، وقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم: “لا تغُزى قريش بعد هذا اليوم إلى
يوم القيامة” – يعني على الكفر- ووقف رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم بالحزورة، فقال: “إنك لخير أرض اللهّٰ، وأحب أرض اللهّٰ إليَّ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت“.
كسر الأصنام
وبث رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم السرايا إلى الأصنام التي حول مكة فكسرها، منها: العزى، ومناة، وسواع، وبوانة، وذو الكفين.
النداء بتكسير الأصنام
ونادى مناديه بمكة: “مَنْ كان يؤمن باللهّٰ واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره“.
شعر حسان في يوم الفتح
ومما قيل من الشعر يوم الفتح قول حسان بن ثابت:
عفت ذات الأصابع فالجواء … إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر … تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس … خلال مروجها نعَمٌَ وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف … يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته … فليس لقلبه منها شفاء
كان سبيئة من بيت رأس … يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما … فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا … إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا … وأُسْدًا ما ينهنهنا اللقاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها … ٺثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات … على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات … يلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا … وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم … يعين اللهّٰ فيه من يشاء
وجبر يل رسول اللهّٰ فينا … وروح القدس ليس له كفاء
وقال اللهّٰ قد أرسلت عبدًا … يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدقوه … فقالوا لا نقوم ولا نشاء
وقال اللهّٰ قد يسَرّْتُ جُندًْا … هم الأنصار عرُْضَتهُا اللقاء
لنا في كل يوم من مَعدَ … سِبابٌ أو قتالٌ أو هِجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا … ونضرب حين تختلط الدماء
ألا أبلغ أبا سفيان عني … مغلغلة فقد برَِحَ الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدًا … وعبدُ الدار سادتها الإماء
هجوت محمدًا فأجبت عنه … وعند اللهّٰ في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء … فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركًا برًّا حنيفًا … أمين اللهّٰ شيمته الوفاء
فمن يهجو رسول اللهّٰ منكم … ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعِرْضي … لعرِضْ محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه … وبحري لا تكدره الدِّلاء
اعتذار أنس بن زنُيم
وقال أنس بن زنُيم يعتذر إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم مما قال فيهم عمرو بن سالم من أبيات:
وما حملتْ من ناقة فوق رَحْلهِا … أبرَّ وأوفى ذمة من محمد
أحَثَّ على خير وأسبغ نائلاً … إذا راح كالسيف الصقيل المهنَدّ
وأكسى لبرُد الخال قبل ابتذاله … وأعطى لرأس السابق المتجرد
تعلم رسول اللهّٰ أنك مدركي … وأن وعيدًا منك كالأخذ باليد
تعلَمّ رسولَ اللهّٰ أنك قادر … على كل صرِْم ، متهمين ومنُجد
تعلَمّْ بأن الركبَ ركبُ عويمر … هم الكاذبون المخلفو كلَّ موعد
ونَبَوّْا رسول اللهّٰ أني هجوتهُ … فلا حملتْ سوطي إليَّ إذًا يدي