ثمَّ كَانَت غَزْوَة الخَنْدَق فِي شَوَّال من السّنة الْخَامِسَة، وَكَانَ سَببهَا أَن نَفرا من الْيَهُود، مِنْهُم كنَانَة بْن الرّبيع بْن أبي الْحقيق، وَسَلام بْن …
مشْكم، وحيي بْن أَخطب النضريون، وهوذة بْن قيس وَأَبُو عمار من بني وَائِل -وهم كلهم يهود، وهم الَّذين حزبوا الْأَحْزَاب وألبوا وجمعوا- خَرجُوا فِي نفر من بني النَّضِير وَنَفر من بني وَائِل، فَأتوا مَكَّة، فدعوا قُريْشًا إِلَى حَرْب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إِلَى ذَلِك، فأجابهم أهل مَكَّة إِلَى ذَلِك. ثمَّ خرج الْيَهُود المذكورون إِلَى غطفان فدعوهم إِلَى مثل ذَلِك فأجابوهم.
فَخرجت قُرَيْش يقودهم أَبُو سُفْيَان بْن حَرْب، وَخرجت غطفان وَقَائِدهمْ عُيَيْنَة بْن حصن بْن حُذَيْفَة بْن بدر الْفَزارِيّ على فَزَارَة والْحَارث بْن عَوْف المري على بني مرّة ومسعود بْن رخيلة على أَشْجَع. فَلَمَّا سمع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باجتماعهم وخروجهم إِلَيْهِ شاور أَصْحَابه، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سلمَان بِحَفر الخَنْدَق، فَرضِي رَأْيه. وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمئِذٍ: سلمَان منا، وَقَالَت الْأَنْصَار: سلمَان منا، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ».
وَعمل الْمُسلمُونَ فِي الخَنْدَق مجتهدين، ونكص المُنَافِقُونَ، وَجعلُوا يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا. فَنزلت فيهم آيَات من الْقُرْآن ذكرهَا ابْن إِسْحَاق وَغَيره. وَكَانَ من فرغ من الْمُسلمين من حِصَّته عَاد إِلَى غَيره فأعانه حَتَّى كمل الخَنْدَق. وَكَانَ فِيهِ آيَات بَيِّنَات وعلامات للنبوات مذكورات عِنْد أهل السّير والْآثَار، وَمِنْهَا أَن كدية اعتاصت على الْمُسلمين، فدعوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، فضربها بالفأس ضَرْبَة طَار مِنْهَا الشرار وَقطع مِنْهَا الثُّلُث، وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ فُتِحَ قَيْصَرُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى الْقُصُورَ الْحُمْرَ». ثمَّ ضرب الثَّانِيَة فَقطع مِنْهَا الثُّلُث الثَّانِي، وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ فُتِحَ كِسْرَى، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى الْقُصُورَ الْبِيضَ». ثمَّ ضرب الثَّالِثَة فَقطع الثُّلُث الْبَاقِي، وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ فُتِحَ الْيَمَنُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى بَابَ صَنْعَاءَ». وَقد نصر اللَّه عَبده وَصدق وعده، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.
فَلَمَّا فرغ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقبلت قُرَيْش فِي نَحْو عشرَة آلَاف بِمن مَعَهم من كنَانَة وَأهل تهَامَة. وَأَقْبَلت غطفان بِمن مَعهَا من أهل نجد حَتَّى نزلُوا إِلَى جَانب أحد.
وَخرج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون حَتَّى نزلُوا -بِظهْر سلع- فِي ثَلَاثَة آلَاف، وضربوا عَسْكَرهمْ، وَالْخَنْدَق بَينهم وَبَين الْمُشْركين. وَاسْتعْمل على الْمَدِينَة ابْن أم مَكْتُوم فِي قَول ابْن شهَاب.
وَخرج عَدو اللَّه حييّ بْن أَخطب النضري حَتَّى أَتَى كَعْب بْن أَسد الْقرظِيّ وَكَانَ صَاحب عقد بني قُرَيْظَة وَرَئِيسهمْ، وَكَانَ قد وادع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاقده وعاهده. فَلَمَّا سمع كَعْب بْن أَسد بحيي بْن أَخطب أغلق دونه بَاب حصنه، وأبى أَن يفتح لَهُ، فَقَالَ لَهُ: افْتَحْ لي يَا كَعْب بْن أَسد، فَقَالَ: لَا أفتح لَك فَإنَّك رجل مشئوم تَدعُونِي إِلَى خلاف مُحَمَّد وَأَنا عاقدته وعاهدته وَلم أر فِيهِ إِلَّا وَفَاء وصدقا، فلست بناقض مَا بيني وَبَينه. فَقَالَ حييّ: افْتَحْ لي حَتَّى أُكَلِّمك فأنصرف عَنْك، قَالَ: لَا أفعل، قَالَ: إِنَّمَا تخَاف أَن آكل مَعَك جشيشتك. فَغَضب كَعْب وَفتح لَهُ، فَقَالَ: هَل إِنَّمَا جئْتُك بعز الدَّهْر، جئْتُك بِقُرَيْش وسادتها وغَطَفَان وقادتها قد تعاقدوا على أَن يستأصلوا مُحَمَّدًا وَمن مَعَه.
فَقَالَ لَهُ كَعْب: جئتني وَالله بذل الدَّهْر وبجهام لَا غيث فِيهِ، وَيحك يَا حييّ! دَعْنِي فلست بفاعل مَا تَدعُونِي إِلَيْهِ. فَلم يزل حييّ بكعب يعده ويغره، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ وعاهده على خذلان النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَن يصير مَعَهم، وَقَالَ لَهُ حييّ بن أَخطب: إِن انصرفت قُرَيْش وغَطَفَان دخلت عنْدك بِمن معي من يهود. فَلَمَّا انْتهى خبر كَعْب وحيي إِلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمين بعث سعدَ بْن عبَادَة وَهُوَ سيد الْخَزْرَج وَسيد الْأَوْس سعد بْن معَاذ وَبعث مَعَهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْن رَوَاحَة وخوات بْن جُبَير، وَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْطَلقُوا إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِن كَانَ مَا قيل لنا حَقًا فالحنوا لنا لحنا نعرفه، وَلَا تفتوا فِي أعضاد الْمُسلمين، وَإِن كَانَ كذبا فاجهروا بِهِ للنَّاس». فَانْطَلقُوا حَتَّى أتوهم، فوجدوهم على أَخبث مَا قيل لَهُم عَنْهُم، ونالوا من رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالُوا: لَا عهد لَهُ عندنَا. فشاتمهم سعد بْن معَاذ وشاتموه وَكَانَت فِيهِ حِدة، فَقَالَ لَهُ سعد بْن عبَادَة: دع عَنْك مشاتمتهم، فَالَّذِي بَيْننَا وَبينهمْ أكبر من المشاتمة. ثمَّ أقبل سعد وَسعد حَتَّى أَتَيَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جمَاعَة من الْمُسلمين، فَقَالَا: عضل والقارة. يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع: خبيبٍ وأصحابِهِ. فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرُوا يَا معشر الْمُسلمين».
وَعظم عِنْد ذَلِك الْبلَاء وَاشْتَدَّ الْخَوْف، وأتى الْمُسلمين عدُوُّهُمْ من فَوْقهم وَمن أَسْفَل مِنْهُم حَتَّى ظنُّوا بِاللَّه الظنون، وَأظْهر المُنَافِقُونَ كثيرا مِمَّا كَانُوا يسرون، فَمنهمْ من قَالَ: إِن بُيُوتنَا عَورَة فلننصرف إِلَيْهَا، فَإنَّا نَخَاف عَلَيْهَا، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك أَوْس بْن قيظي إِلَّا أَنه مَعَ ذَلِك ولد ولدا سيدا فَاضلا وَهُوَ عرابة بْن أَوْس الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِر:
إِذا مَا راية رفعت لمجد تلقاها عرابة بِالْيَمِينِ
وَقد قيل إِن لَهُ صُحْبَة بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُم من قَالَ: يعدنا مُحَمَّد أَن نفتح كنوز كسْرَى وَقَيْصَر، وأحدنا الْيَوْم لَا يَأْمَن على نَفسه [أَن] يذهب إِلَى الْغَائِط، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك معتب بْن قُشَيْر أحد بني عَمْرو بْن عَوْف.
وَأقَام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأقَام الْمُشْركُونَ بضعا وَعشْرين لَيْلَة قَرِيبا من شهر لم يكن بَينهم حَرْب إِلَّا الرَّمْي بِالنَّبلِ والحصا. فَلَمَّا رأى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه اشْتَدَّ على الْمُسلمين الْبلَاء بعث إِلَى عُيَيْنَة بْن حصن الْفَزارِيّ وَإِلَى الْحَارِث بْن عَوْف بْن أبي حَارِثَة المري وهما قائدا غطفان، فَأَعْطَاهُمَا ثلث ثمار الْمَدِينَة لينصرفا بِمن مَعَهُمَا من غطفان و أهل نجد وَيرجع بقومهما عَنْهُم. وَكَانَت هَذَا الْمقَالة مراوضة وَلم تكن عقدا. فَلَمَّا رأى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا قد أنابا ورضيا أَتَى سعدَ بْن معَاذ وسعدَ بْن عبَادَة فَذكر لَهما واستشارهما، فَقَالَا: يَا رَسُول اللَّه هَذَا أَمر تحبه فنصنعه لَك، أَو شَيْء أَمرك اللَّه بِهِ فنسمع لَهُ ونطيع، أَو أَمر تَصنعهُ لنا؟ قَالَ: «بل أَمر أصنعه لكم، وَالله مَا أصنعه إِلَّا لأنني قد رَأَيْت الْعَرَب قد رمتكم عَن قَوس وَاحِدَة». فَقَالَ لَهُ سعد بْن معَاذ: يَا رَسُول اللَّه، وَالله لقد كُنَّا نَحن وَهَؤُلَاء الْقَوْم على الشّرك بِاللَّه وَعبادَة الْأَوْثَان لَا نعْبد اللَّهَ وَلَا نعرفه وَمَا طمعوا قطّ بِأَن ينالوا منا ثَمَرَة إِلَّا بشرَاء أَو قرى، فحين أكرمنا اللَّه بِالْإِسْلَامِ وهدانا لَهُ وأعزنا بك نعطيهم أَمْوَالنَا، وَالله لَا نعطيهم إِلَّا السَّيْف حَتَّى يحكم اللَّه بَيْننَا وَبينهمْ. فسر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وَقَالَ لَهُم: «أَنْتُم وَذَاكَ». وَقَالَ لعيينة والْحَارث: «انصرفا، فَلَيْسَ لكم عندنَا إِلَّا السَّيْف». وَتَنَاول الصَّحِيفَة وَلَيْسَ فِيهَا شَهَادَة فمحاها.
فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون على حَالهم وَالْمُشْرِكُونَ يحاصرونهم وَلَا قتال مِنْهُم إِلَّا أَن فوارس من قُرَيْش مِنْهُم عَمْرو بْن عَبْد ود العامري من بني عَامر بْن لؤَي، وَعِكْرِمَة بْن أبي جهل، وهبيرة بْن أبي وهب، وَضِرَار بْن الْخطاب الفِهري وَكَانُوا فرسَان قُرَيْش وشجعانهم أَقبلُوا حَتَّى وقفُوا على الخَنْدَق. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: إِن هَذِه المكيدة مَا كَانَت الْعَرَب تكيدها، ثمَّ تيمموا مَكَانا ضيقا من الخَنْدَق [فَضربُوا خيلهم فَاقْتَحَمت مِنْهُ] وصاروا بَين الخَنْدَق وَبَين سلع. وَخرج عَليّ بْن أبي طَالب رَضِي اللَّه عَنهُ فِي نفر من الْمُسلمين، حَتَّى أخذُوا عَلَيْهِم الثغرة الَّتِي اقتحموا مِنْهَا، وَأَقْبَلت الفرسان نحوهم. وَكَانَ عَمْرو بْن عَبْد ود قد أثبتته الْجراح يَوْم بدر، فَلم يشْهد أحدا وَأَرَادَ يَوْم الخَنْدَق أَن يرى مَكَانَهُ. فَلَمَّا وقف هُوَ وخيله نَادَى: هَل من مبارز؟ فبرز لَهُ عَليّ بْن أبي طَالب رَضِي اللَّه عَنهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرو إِنَّك عَاهَدت الله فِيمَا بلغنَا عَنْك أَنَّك لَا تدعى إِلَى إِحْدَى خلتين إِلَّا أخذت إِحْدَاهمَا، قَالَ: نعم، وَقَالَ: إِنِّي أَدْعُوك لله عز وَجل وَالْإِسْلَام، قَالَ: لَا حَاجَة لي بذلك. قَالَ: وأدعوك إِلَى البرَاز، قَالَ: يَا بْن أخي وَالله مَا أحب أَن أَقْتلك لما كَانَ بيني وَبَين أَبِيك، فَقَالَ لَهُ عَليّ: أَنا وَالله أحب أَن أَقْتلك. فحمي عَمْرو بْن عَبْد ود العامري وَنزل عَن فرسه، وَسَار نَحْو عَليّ، فتنازلا وتجاولا، وثار النَّقْع بَينهمَا حَتَّى حَال دونهمَا، فَمَا انجلى النَّقْع حَتَّى رُؤِيَ عَليّ على صدر عَمْرو يقطع رَأسه. فَلَمَّا رأى أَصْحَابه أَنه قد قَتله عَليّ اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين، وَقَالَ عَليّ -رَضِي اللَّه عَنهُ- فِي ذَلِك:
نَصَرَ الْحِجَارَة من سفاهة رَأْيه ونصرت دين مُحَمَّد بضراب
لَا تَحْسَبُنَّ اللَّه خاذِلَ دينه وَنبيه يَا معشر الْأَحْزَاب
نازلته وَتركته متجدلا كالجذع بَين دكادك وروابي
وَرمي يَوْمئِذٍ سعد بْن معَاذ بِسَهْم فَقطع مِنْهُ الأكحل، رَمَاه حبَان بْن قيس بْن العرقة أحد بني عَامر بْن لؤَي. فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ لَهُ: خُذْهَا إِلَيْك وَأَنا ابْن العرقة، فَقَالَ لَهُ سعد: عرق اللَّه وَجهك فِي النَّار، وَقيل: بل الَّذِي رَمَاه أَبُو أُسَامَة الْجُشَمِي حَلِيف بني مَخْزُوم.
ولحسان بْن ثَابت مَعَ صَفِيَّة بنت عَبْد الْمطلب خبر طريف يَوْمئِذٍ وَكَانَ حسان قد تخلف عَن الْخُرُوج مَعَ الْخَوَالِف بِالْمَدِينَةِ ذكره ابْن إِسْحَاق وَطَائِفَة من أهل السّير، وَقد أنكرهُ مِنْهُم آخَرُونَ، فَقَالُوا لَو كَانَ فِي حسان من الْجُبْن مَا وصفتم لهجاه بذلك من كَانَ يهاجيه فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، ولهجي بذلك ابْنه عَبْد الرَّحْمَن، فَإِنَّهُ كَانَ كثيرا مَا يهاجي النَّاس من شعراء الْعَرَب مثل النَّجَاشِيّ وَغَيره.
وأتى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعيم بْن مَسْعُود بْن عَامر الْأَشْجَعِيّ، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنِّي قد أسلمت، وَلم يعلم قومِي بِإِسْلَامِي، فمرني بِمَا شِئْت، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنْت رجل وَاحِد من غطفان، فَلَو خرجت فخذلت عَنَّا كَانَ أحب إِلَيْنَا من بقائك فَاخْرُج فَإِن الْحَرْب خدعة». فَخرج نعيم بْن مَسْعُود حَتَّى أَتَى بني قُرَيْظَة وَكَانَ ينادمهم فِي الْجَاهِلِيَّة فَقَالَ: يَا بني قُرَيْظَة قد عَرَفْتُمْ ودي إيَّاكُمْ وخاصة مَا بيني وَبَيْنكُم، قَالُوا: قل، لست عندنَا بمتهم، فَقَالَ لَهُم: إِن قُريْشًا وغَطَفَان لَيْسُوا كأنتم، الْبَلَد بلدكم، وَفِيه أَمْوَالكُم وأبناؤكم وَنِسَاؤُكُمْ، وَإِن قُريْشًا وغَطَفَان قد جَاءُوا لِحَرْب مُحَمَّد وَأَصْحَابه وَقد ظاهرتموهم عَلَيْهِ، فَإِن رَأَوْا نهزة أَصَابُوا وَإِن كَانَ غير ذَلِك لَحِقُوا ببلادهم وخلوا بَيْنكُم وَبَين الرجل، وَلَا طَاقَة لكم بِهِ، فَلَا تقاتلوا مَعَ الْقَوْم حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُم رهنا. ثمَّ خرج حَتَّى أَتَى قُريْشًا، فَقَالَ لَهُم: قد عَرَفْتُمْ ودي لكم معشر قُرَيْش وفراقي مُحَمَّدًا وَقد بَلغنِي أَمر أرى من الْحق أَن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عَليّ، قَالُوا: نَفْعل. قَالَ: أتعلمون أَن معشر يهود قد ندموا على مَا كَانَ من خلافهم مُحَمَّدًا وَأَرْسلُوا إِلَيْهِ إِنَّا قد ندمنا على مَا فعلنَا، فَهَل يرضيك أَن نَأْخُذ من قُرَيْش وغَطَفَان رهنا رجَالًا ونسلمهم إِلَيْكُم لتضربوا أَعْنَاقهم، ثمَّ نَكُون مَعكُمْ على من بَقِي مِنْهُم حَتَّى تستأصلهم. ثمَّ أَتَى غطفان، فَقَالَ مثل ذَلِك. فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة السبت وَكَانَ ذَلِك من صنع اللَّه عز وَجل لرَسُوله وَلِلْمُؤْمنِينَ أرسل أَبُو سُفْيَان إِلَى بني قُرَيْظَة عكرمةَ بْنَ أبي جهل فِي نفر من قُرَيْش وغَطَفَان يَقُول لَهُم: إِنَّا لسنا بدار مقَام، قد هلك الْخُف والحافر فاغدوا صَبِيحَة غَد لِلْقِتَالِ حَتَّى نفاجيء مُحَمَّدًا. فأرسلوا إِلَيْهِم إِن الْيَوْم يَوْم السبت، وَقد علمْتُم مَا نَالَ مَنْ تعدى فِي السبت، وَمَعَ ذَلِك فَلَا نُقَاتِل مَعكُمْ أحدا تعطونا رهنا. فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُول بِذَاكَ قَالُوا: صدقنا وَالله نعيم بْن مَسْعُود. فَردُّوا إِلَيْهِم الرُّسُل، وَقَالُوا: وَالله لَا نعطيكم رهنا أبدا، فاخرجوا مَعنا إِن شِئْتُم، وَإِلَّا فَلَا عهد بَيْننَا وَبَيْنكُم، فَقَالَ بَنو قُرَيْظَة: صدق وَالله نعيم بْن مَسْعُود. وَخَذَّلَ بَينهم وَاخْتلفت كلمتهم وَبعث اللَّه عَلَيْهِم ريحًا عاصفا فِي لَيَال شَدِيدَة الْبرد، فَجعلت الرّيح تقلب أبنيتهم، وتكفأ قدورهم.
فَلَمَّا اتَّصل برَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِلَاف أَمرهم بعث حُذَيْفَة بْن الْيَمَان ليَأْتِيه بخبرهم، فَأَتَاهُم واستتر فِي غمارهم، وَسمع أَبَا سُفْيَان يَقُول: يَا معشر قُرَيْش ليتعرف كل امريء مِنْكُم جليسه. قَالَ حُذَيْفَة: فَأخذت بيد جليسي وَقلت: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا فلَان. ثمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَان: يَا معشر قُرَيْش إِنَّكُم وَالله مَا أَصْبَحْتُم بدار مقَام، وَلَقَد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بَنو قُرَيْظَة ولقينا من هَذِه الرّيح مَا ترَوْنَ، مَا يسْتَمْسك لنا بِنَاء وَلَا تثبت لنا قدر وَلَا تقوم لنا نَار، فارتحلوا، فَإِنِّي مرتحل. ووثب على جمله، فَمَا حل عقال يَده إِلَّا وَهُوَ قَائِم. قَالَ حُذَيْفَة: وَلَوْلَا عهد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِذْ بَعَثَنِي، وَقَالَ لي: «مر إِلَى الْقَوْم فَاعْلَم مَا هم عَلَيْهِ وَلَا تُحْدِثْ شَيْئا» – لقتلته بِسَهْم. ثمَّ أتيت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد رحيلهم فَوَجَدته قَائِما يُصَلِّي، فَأَخْبَرته، فَحَمدَ اللَّه.
وَلما أصبح رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقد ذهب الْأَحْزَاب رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَوضع الْمُسلمُونَ سِلَاحهمْ، فَأَتَاهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَة دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ على بغلة عَلَيْهِ قطيفة ديباج فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد إِن كُنْتُم قد وضعتم سلاحكم فَمَا وضعت الْمَلَائِكَة سلاحها، إِن اللَّه يَأْمُرك أَن تخرج إِلَى بني قُرَيْظَة وَإِنِّي مُتَقَدم إِلَيْهِم فَمُزَلْزِل بهم.
فَأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناديا يُنَادي فِي النَّاس: «لَا يصلين أحدكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة». وَكَانَ سعد بْن معَاذ إِذْ أَصَابَهُ السهْم دَعَا ربه، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيت من حَرْب قُرَيْش شَيْئا فأبقني لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قوم أحب إِلَيّ أَن أجاهدهم من قوم كذبُوا رَسُولك وأخرجوه، اللَّهُمَّ إِن كنت وضعت الْحَرْب بَيْننَا وَبينهمْ فاجعلها لي شَهَادَة وَلَا تمتني حَتَّى تقر عَيْني من بني قُرَيْظَة.