ثم سرية مؤتة- بضم الميم وسكون الواو- بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهرى وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم …
الوجهين وهى من عمل البلقاء بالشام، دون دمشق. فى جمادى الأولى سنة ثمان.
وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أرسل الحارث بن عمير الأزدى بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى فقتله، ولم يقتل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول غيره.
فأمر- صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف وقال: «إن قتل فجعفر بن أبى طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم».
وفى حديث عبد الله بن جعفر عند أحمد والنسائى. بإسناد صحيح «إن قتل زيد فأميركم جعفر» الحديث.
قالوا: وعقد لهم- صلى الله عليه وسلم- لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم.
وخرج مشيعا لهم، حتى إذا بلغ ثنية الوداع فوقف وودعهم، فلما ساروا نادى المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال ابن رواحة.
لكننى أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه.
وقد نزل المسلمون معان- بفتح الميم- موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء فى مائة ألف من المشركين. فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضى، فمضوا إلى مؤتة.
ووافاهم المشركون فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والعدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب.
والتقى المسلمون والمشركون. فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح.
ثم أخذ اللواء جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح.
قال فى رواية البخارى: ووجدنا ما فى جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية.
وفى رواية: أن ابن عمر وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل قال:
فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شىء فى دبره.
وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبى داود من طريقه عن رجل من مرة قال: والله لكأنى أنظر إلى جعفر بن أبى طالب، حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل.
فأخذ اللواء ابن أقرم العجلانى، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين.
وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة.
وقال ابن سعد: إنما انهزم بالمسلمين.
وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة.
ورفعت الأرض لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نظر إلى معترك القوم.
وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنى أبى الذى أرضعنى- وكان أحد بنى مرة قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه، فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل، خرجه البغوى فى معجمه.
وقطعت فى تلك الوقعة يداه جميعا ثم قتل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما فى الجنة حيث شاء» ، أخرجه أبو عمر.
وفى البخارى عن عائشة- رضى الله عنها-: لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبى طالب جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرف فيه الحزن.
وأخرج الطبرانى بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة فى السماء».
وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة»، أخرجه الترمذى والحاكم وفى إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث على عند ابن سعد.
وعن أبى هريرة أيضا عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «مر بى جعفر الليلة فى ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم»، أخرجه الترمذى والحاكم بإسناد على شرط مسلم.
وأخرج أيضا هو والطبرانى عن ابن عباس مرفوعا: «دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة» .
وفى طريق أخرى عنه: «إن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان، عوضه الله من يديه» . وإسناد هذا جيد.
فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه فى هذه الوقعة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل.
قال السهيلى: له جناحان، ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحى الطائر وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا فى قوله تعالى: {وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ} [طه:22] . وقال العلماء فى أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر فى بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذى جزم به فى مقام المنع، والذى حكاه عن العلماء ليس صريحا فى الدلالة لما ادعاه.
ولا مانع من الحمل على الظاهر، إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف.
وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقى فى الدلائل من مرسل عاصم ابن عمر بن قتادة: أن جناحى جعفر من ياقوت. وجاء فى جناحى جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده فى ترجمة ورقة.
وذكر موسى بن عقبة فى المغازى، أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك» قال: أخبرنى، فأخبره خبرهم فقال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره.
وعند الطبرانى من حديث أبى اليسر الأنصارى: أن أبا عامر الأشعرى هو الذى أخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- بمصابهم.
ثم سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل. وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام.
وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبى خالد فى كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة. إلا أن ابن إسحاق قال قبلها.
وسببها: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا للإغارة، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا.
فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث- بفتح الميم- الجهنى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء، وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر- رضى الله عنهم-، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا.
فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلى بالناس.
وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرقوا.
ثم سرية أبى عبيدة بن الجراح. وسماها البخارى: غزوة سيف البحر، وتعرف بسرية الخبط.
وبعث معه- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة، كما فى الصحيحين وغيرهما وهو المشهور، لكن فى رواية النسائى: وبضع عشرة، فإن صحت هذه الرواية فلعله اقتصر فى الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر، والأخذ بالزيادة مع صحتها واجب.
وكان فيهم عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
يتلقى عيرا لقريش. رواه مسلم، وعنده أيضا: إلى أرض جهينة.
ولا منافاة بينهما: فالجهة أرض جهينة، والقصد تلقى عير قريش- وهى الإبل المحملة للطعام وغيره-.
لكن فى كتب السير: أن البعث إلى حى من جهينة بالقبلية- بفتح القاف والموحدة- مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال.
ولعل البعث لمقصدين: رصد عير قريش، ومحاربة حى من جهينة.
وقال ابن سعد: وكانت فى رجب سنة ثمان.
وفيه نظر: فإن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون فى هذه المدة، لأنهم حينئذ كانوا فى الهدنة، فالصحيح أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها، قبل هدنة الحديبية.
نعم يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع فى شىء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا. بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر فى مكان واحد. فالله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر.
لكن قال شيخ الإسلام ابن العراقى فى شرح التقريب، قالوا: وكانت هذه السرية فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة وذلك بعد نكث قريش العهد وقبل الفتح، فإنه كان فى رمضان من السنة المذكورة.
قالوا وزودهم- صلى الله عليه وسلم- جرابا من التمر، فلما فنى أكلوا الخبط- وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة- ورق السلم. وفى رواية أبى الزبير:
وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله، وهذا يدل على أنه كان يابسا، خلافا لمن زعم أنه كان أخضر رطبا.
وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوى، ويدل عليه حديث البخارى فى الجهاد- خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا حتى فنى زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل تمرة تمرة.
وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم.
وأخرج الله لهم من البحر دابة تسمى العنبر فأكلوا منها وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا.
وفى رواية جابر عند الأئمة الستة: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، فأقمنا على الساحل حتى فنى زادنا، حتى أكلنا الخبط ثم إن البحر ألقى لنا دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، حتى صلحت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعها فنصبه ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته الحديث.
زاد الشيخان فى رواية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شىء من لحمه فتطعمونا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه فأكل.
ثم سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة وهى أرض محارب بنجد، فى شعبان سنة ثمان، وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، فقتل من أشرف منهم، وسبى سبيا كثيرا، واستاق النعم، وكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
ثم سرية أبى قتادة أيضا إلى بطن أضم- فيما بين ذى خشب وذى المروة- على ثلاثة برد من المدينة، فى أول شهر رمضان سنة ثمان.
وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- لما هم أن يغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر، سرية إلى بطن أضم، ليظن ظان أنه- صلى الله عليه وسلم- توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.
فلقوا عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] إلى آخر الآية رواه أحمد، وهو عند ابن جرير من حديث ابن عمر بنحوه وزاد: فجاء محلم بن جثامة فى بردين فجلس بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليستغفر له، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا غفر الله لك»، فقام يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات فلفظته الأرض. وعند غيره: ثم عادوا به فلفظته الأرض، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه.
وفى رواية ابن جرير: فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله يريد أن يعظكم» .
ونسب ابن إسحاق هذه السرية لابن أبى حدرد ومعه رجلان إلى الغابة، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه، فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة، حكاه مغلطاى والله أعلم.
ثم فتح مكة زادها الله شرفا. وهو كما قال فى زاد المعاد:
«الفتح الأعظم، الذى أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذى جعله هدى للعاملين من أيدى الكفار والمشركين، وهو الفتح الذى استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا».
خرج له- صلى الله عليه وسلم- بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذى وقع بالحديبية. فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده.
وكان بين بنى بكر وخزاعة حروب وقتلى فى الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلى من بنى بكر فى بنى الديل حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم يقال له الوتير، فأصاب منهم رجلا يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال.
وأمدت قريش بنى بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا فى خفية.
وخرج عمرو بن سالم الخزاعى فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخبرونه بالذى أصابهم ويستنصرونه. فقام وهو يجر رداءه وهو يقول: «لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسى».
وفى المعجم الصغير للطبرانى، من حديث ميمونة أنها سمعته- صلى الله عليه وسلم- يقول فى متوضئه ليلا: «لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا» ، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول فى متوضئك: لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا، كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ فقال: – صلى الله عليه وسلم-:
«هذا راجز بنى كعب يستصرخنى ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بنى بكر» .
ثم خرج- عليه السّلام- فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: والله ما أدرى، فقال:
والله ما هذا زمان غزو بنى الأصفر، فأين يريد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت:
والله لا علم لى. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده:
يا رب إنى ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
أن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا *** فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا *** فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
قال فى القاموس: وتربد- يعنى بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق:
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا *** وهم أذل وأقل عددا
فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نصرت يا عمرو بن سالم».
فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبى هريرة بعض الأبيات المذكورة.
وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد فى المدة. فأبى عليه، فانصرف إلى مكة.
فتجهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غير إعلام أحد بذلك.
فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع الله نبيه على ذلك.
فقال- عليه السّلام- لعلى بن أبى طالب والزبير والمقداد: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها» . قال فانطلقنا.. حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجى الكتاب، قالت: ما معى كتاب. قلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فقال: «يا حاطب، ما هذا؟» . قال: يا رسول الله لا تعجل على، إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش- يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن ذنبى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنه قد صدقكم» . فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عنق هذا المنافق، فقال:
«إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} [الممتحنة:1] . رواه البخارى.
قال فى فتح البارى: وإنما قال عمر- رضى الله عنه-: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة فى الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبى- صلى الله عليه وسلم- استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن فى قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر.
وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا ألاضرر فيه.
وعند الطبرى أيضا: عن عروة: فإنى غافر لكم. وهذا يدل على أن المراد: ب «غفرت» أغفر، على طريق التعبير عن الآتى بالواقع مبالغة فى تحققه.
قال: والذى يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله فى كل من أخبر عنه بشىء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شىء من أحدهم لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم قاله القرطبى.
وذكر بعض أهل المغازى- وهو فى تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذى كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلى.
وروى الواقدى بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أذن فى الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لى عندكم يد.
وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق.
فكان المسلمون فى غزوة الفتح: عشرة آلاف.
وفى «الإكليل» و «شرف المصطفى» اثنى عشر ألفا.
ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل أبا رهم الغفارى.
وخرج- صلى الله عليه وسلم- يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان، قاله الواقدى.
وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبى سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان.
فما قاله الواقدى ليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه. وفى تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة، ولأحمد: ثمانى عشرة، وفى أخرى: لثنتى عشرة، والذى فى المغازى: لتسع عشرة مضت. وهو محمول على الاختلاف فى أول الشهر، وفى أخرى: تسع عشرة أو سبع عشرة على الشك.
ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- الكديد- بفتح الكاف- الماء الذى بين قديد وعسفان أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر . رواه البخارى، وفى أخرى: أفطر وأفطروا، الحديث.
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنه راض.
وكان ممن لقيه فى الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبى سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له- عليه السّلام- بالأبواء وأسلما قبل دخول مكة.
وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبى أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض- صلى الله عليه وسلم- عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال على لأبى سفيان- فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى-: ائت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم-: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] .
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلم حياء منه.
قالوا: ثم سار- صلى الله عليه وسلم- فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.
ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان ابن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم.
وفى البخارى: (فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلم أبو سفيان.
فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبى- صلى الله عليه وسلم-: تمر كتيبة كتيبة على أبى سفيان. فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: مالى ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار).
بالمعجمة المكسورة: الهلاك.
قال الخطابى: تمنى أبو سفيان أن تكون له يد فيحمى قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظى وحمايتى من أن ينالنى مكروه.
وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله، ما آمن أن يكون لسعد فى قريش صولة. فقال لعلى: «أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها» .
وقد روى الأموى فى المغازى: أن أبا سفيان قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: «لا» ، فذكر له ما قال سعد بن عبادة ثم ناشده الله والرحم، فقال: «يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا» ، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
وعند ابن عساكر من طريق أبى الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة من قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت:
يا نبى الهدى إليك لجا *** حى قريش ولات حين لجائى
حين ضاقت عليهم سعة الأر *** ض وعاداهم إله السماء
إن سعدا يريد قاصمة الظه *** ر بأهل الحجون والبطحاء
فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس.
وعند أبى يعلى من حديث الزبير أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناده ضعيف جدّا. لكن جزم موسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى أنه دفعها إلى الزبير بن العوام.
فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التى نزعت من سعد.
والذى يظهر فى الجمع أن عليّا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشى تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شىء يكرهه النبى- صلى الله عليه وسلم- فسأل النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير.
قال فى رواية البخارى (.. ثم جاءت كتيبة فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وراية النبى- صلى الله عليه وسلم- مع الزبير، فلما مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأبى سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: «ما قال؟» قال: قال كذا وكذا فقال: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة». قال وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز رايته بالحجون.
قال: وقال عروة أخبرنى نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز الراية؟ قال: نعم.
وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء- أى بالفتح والمد- ودخل النبى- صلى الله عليه وسلم- من كدى- أى بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: جيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهرى).
قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية فى البخارى أيضا أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبى- صلى الله عليه وسلم- من أعلاها.
يعنى حديث ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد، وحديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل عام الفتح من كداء التى بأعلى مكة وغيرهما.
قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال:
وبعث- صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه.
وبعث خالد بن الوليد فى قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت.
وبعث سعد بن عبادة فى كتيبة الأنصار فى مقدمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.
واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فقاتلهم فانهزموا، وقتل من بنى بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور، فارتفعت طائفة منهم على الجبال.
وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
قال: ونظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى البارقة فقال: «ما هذا؟ وقد نهيت عن القتال» .
فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم.
قال: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: «لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟» فقال هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدى ما استطعت، قال: «قضاء الله خير» .
وعند ابن إسحاق: فلما نزل- صلى الله عليه وسلم- مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة النبى- صلى الله عليه وسلم- لكى يجد أحدا فيعلم أهل مكة بمجىء النبى- صلى الله عليه وسلم- ليستأمنوه، فسمع صوت أبى سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم- فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة.
ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس.
وروى أن عمر- رضى الله عنه- لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان، دعنى أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إنى قد أجرته. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به» ، فذهب فلما أصبح غدا به على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلا الله؟» فقال: بأبى أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عنى شيئا. ثم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله؟» قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففى النفس منها شىء.
فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: «نعم» .
وأمر- صلى الله عليه وسلم- فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين.
وهم كما قال مغلطاى: عبد الله بن سعد بن أبى سرح. أسلم. وابن خطل: قتله أبو برزة. وقينتاه وهما: فرتنى- بالفاء المفتوحة، والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون- وقريبة- بالقاف والراء والموحدة مصغرا- أسلمت إحداهما وقتلت الآخرى.
وذكر غير ابن إسحاق أن التى أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت. وسارة:
مولاة لبنى المطلب، أسلمت، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفى بن هشام.
وأرنب- علم امرأة- وقريبة: قتلت وعكرمة بن أبى جهل: أسلم. والحويرث ابن نقيد قتله على. ومقيس بن صبابة- بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثى. وهبار بن الأسود: أسلم وهو الذى عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين هاجرت فنخس بها بعيرها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها. وكعب بن زهير: أسلم. وهند بنت عتبة: أسلمت. ووحشى بن حرب: أسلم انتهى. وابن خطل: بفتح الخاء والطاء المهملة. وابن نقيد:
بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا.
ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة. وقد جمع الواقدى عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة.
وروى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى هريرة قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الآخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر. بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أى الذين بغير سلاح- فقال لى يا أبا هريرة، اهتف لى بالأنصار، فهتف بهم فجاؤا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال بإحدى يديه على الآخرى: احصدوهم حصدا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله: أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم-: «من أغلق بابه فهو آمن».
قال فى فتح البارى: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر.
وعن الشافعى، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع من هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.
وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه- صلى الله عليه وسلم- بأنها أحلت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسى به فى ذلك.
وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها، ويترك لهم دورهم.
وأما قول النووى: واحتج الشافعى بالأحاديث المشهورة بأن النبى صلى الله عليه وسلم- صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لأن الذى أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» كما تقدم وكذا من دخل المسجد- كما عند ابن إسحاق- فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذى ورد فى الأحاديث الصحيحة ظاهر فى أن قريشا لم يلتزموا بذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته.
ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فى كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء بين أبى بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما، فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة، قال: «نعم» .
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وفى البخارى من حديث أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر- وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفى المحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتله .
وفى حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطنى والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: «أربعة لا أؤمنهم فى حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبى سرح. قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير». الحديث.
وفى حديث سعد بن أبى وقاص عند البزار والحاكم والبيهقى فى الدلائل نحوه، لكن قال: «أربعة نفر وامرأتان» وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فذكره». لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. وقال: فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله. الحديث.
وروى ابن أبى شيبة من طريق أبى عثمان النهدى: أن أبا برزة الأسلمى قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله.
ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد فى تعيين قاتله، وبه جرم البلاذرى وغيره من أهل الأخبار.
وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام فى السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمى اشتركا فى قتله.
وإنما أمر بقتل ابن خطل، لأنه كان مسلما فبعثه- صلى الله عليه وسلم- مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه- وكان مسلما- ونزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويضع له طعاما ونام، قاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه، فإنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمى عبد الله. وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال.
وفى رواية أبى داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبى سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فلما دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبى الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآنى كففت يدى عن بيعته فيقتله؟» فقالوا: يا رسول الله ما ندرى ما فى نفسك، ألا أومأت إلينا؟ فقال: «إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين». الحديث.
قال مالك- كما فى رواية البخارى-: ولم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما نرى يومئذ محرما. انتهى. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدى عن مالك جازما به. أخرجه الدار قطنى فى الغرائب. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح مكة عليه عمامة سوداء بغير إحرام. وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال: لم يدخل النبى- صلى الله عليه وسلم- مكة إلا محرما إلا يوم الفتح. وقد اختلف العلماء: هل يجب على من دخل مكة الإحرام أم لا؟ فالمشهور من مذهب الشافعى عدم الوجوب مطلقا.
وفى قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وهو أولى بعدم الوجوب.
والمشهور عن الأئمة الثلاثة: وفى رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوى الحاجات المتكررة، واستثنى الحنيفة من كان داخل الميقات والله أعلم.
وقد زعم الحاكم فى الإكليل: أن بين حديث أنس فى المغفر وبين حديث جابر فى العمامة السوداء معارضة.
وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه.
ويؤيده: أن فى حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء. أخرجه مسلم أيضا. وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول. وهذا الجمع للقاضى عياض.
وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.
وفى البخارى: عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل غدا، قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «وهل ترك لنا عقيل من منزل؟» وفى رواية: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» . وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا على شيئا لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين. فكان عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر .
وفى رواية أخرى له قال- صلى الله عليه وسلم- منزلنا إن شاء الله- إذا فتح الله- الخيف، حيث تقاسموا على الكفر. يعنى به المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى عبد المطلب: ألايناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم-، كما تقدم.
وفى رواية أخرى له: أنه يوم فتح مكة اغتسل فى بيت أم هانىء، ثم صلى الضحى ثمانى ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود.
وأجارت أم هانىء حموين لها، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء»، والرجلان: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة، كما قاله ابن هشام، وقد كان أخوها على بن أبى طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-.
ولما كان الغد من يوم الفتح قام- صلى الله عليه وسلم- خطيبا فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».
ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل بكم؟» . قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، أى: الذين أطلقوا، فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق: الأسير إذا أطلق. والمراد بالساعة التى أحلت له- عليه السّلام- ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، كذا قاله فى فتح البارى.
ولقد أجاد العلامة أبو محمد الشقراطسى حيث يقول فى قصيدته المشهورة:
ويوم مكة إذ أشرفت فى أمم *** تضيق عنها فجاج الوعث والسهل
خوافق ضاق ذرع الخافقين بها *** فى قاتم من عجاج الخيل والإبل
وجحفل قذف الأرجاء ذى لجب *** عرمرم كزهاء الليل منسحل
وأنت صلى عليك الله تقدمهم *** فى بهو إشراق نور منك مكتمل
ينير فوق أغر الوجه منتجب *** متوج بعزيز النصر مقتبل
يسمو أمام جنود الله مرتديا *** ثوب الوقار لأمر الله ممتثل
خشعت تحت بهاء العز حين سمت *** بك المهابة فعل الخاضع الوجل
وقد تباشر أملاك السماء بما *** ملكت إذ نلت منه غاية الأمل
والأرض ترجف من زهو ومن فرق *** والجو يزهر إشراقا من الجذل
والخيل تختال زهوا فى أعنتها *** والعيس تنثال رهوا فى ثنى الجدل
لولا الذى خطت الأقلام من قدر *** وسابق من قضاء غير ذى حول
أهل ثهلان بالتهليل من طرب *** وذاب يذبل تهليلا من الذبل
الملك لله هذا عز من عقدت *** له النبوة فوق العرش فى الأزل
شعبت صدع قريش بعد ما قذفت *** بهم شعوب شعاب السهل والقلل
قالوا محمد قد زادت كتائبه *** كالأسد تزأر فى أنيابها العصل
فويل مكة من آثار وطأته *** وويل أم قريش من جوى الهبل
فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم *** تلمم ولا بأليم اللوم والعذل
أضربت بالصفح صفحا عن غوائلهم *** طولا أطال مقيل النوم فى المقل
رحمت واشج أرحام أتيح لها *** تحت الوشيج نشيج الروع والوجل
عاذوا بظل كريم العفو ذى لطف *** مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل
أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها *** وأكرم الناس صفحا عن ذوى الزلل
وطفت بالبيت محبورا وطاف به *** من كان عنه قبيل الفتح فى شغل
والجحفل: الجيش العظيم. وقذف الأرجاء: أى متباعدها. واللجب:
بالجيم المفتوحة: الضجة من كثرة الأصوات. والعرمرم: الضخم الكثير العدد. وقوله: كزهاء الليل: شبهه بالليل فى سده الأفق، واسوداده بالسلاح.
والمنسحل: – بالحاء المهملة- الماضى فى سيره يتبع بعضه بعضا. وقوله: فى بهو إشراق: شبه النور الذى يغشاه- عليه السّلام- ببهو أحاط به. والبهو: البناء العالى كالإيوان ونحوه. والمنتجب: المتخير أصل نجيب، أى كريم، والمقتبل: المستقبل الخير. وترتجف: تهتز. والزهور: الخفة من الطرب، يعنى: أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش، وفرقا من صولته، أى كادت تهتز، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] . والجدل: جمع جديل، وهو الزمام المصفور. وثنى الجدل: ما انثنى على أعناق الإبل، أى انعطف. وثهلان:
اسم جبل معروف. وأهل: رفع صوته. ويذبل: اسم جبل أيضا. والذبل:
الرماح الذوابل وهى التى لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست.
وتهليلا: أى صياحا، جبنا وفزعا. يعنى: لولا ما سبق من تقدير الله أن الجبال لا تنطق لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق. وقوله: شعبت أي جمعت وأصلحت وقذفت بهم: أي فرقت بهم مخافة شعوب. وشعوب: اسم للمنية لأنها تفرق الجماعات، من شعبت أى فرقت، وهو من الأضداد. والشعاب: الطرق فى الجبال. والسهل:
خلاف الجبل. والقلل: رؤس الجبال. يعنى أنه- صلى الله عليه وسلم- عفا عنهم بعد ما تصدعوا، أى تفرقوا وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل.
وقوله: كالأسد تزأر فى أنيابها العصل: أى المعوجة. والله أعلم.
ولما فتح الله مكة على رسوله- صلى الله عليه وسلم- قال الأنصار فيما بينهم: أترون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟
وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعو على الصفا رافعا يديه، فلما فرغ من دعائه قال:
«ماذا قلتم؟» قالوا: لا شىء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم-: «معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم».
وهم فضالة بن عمير أن يقتل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أفضالة» ، قال: نعم يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شىء، كنت أذكر الله، فضحك صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «استغفر الله» ، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، وكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدرى حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه.
وطاف- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيب وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا» ، فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقى .
وفى رواية أبى نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس.
وفى تفسير العلامة ابن النقيب المقدسى: إن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم- بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتح مكة وإعلاء كلمة دينه، أمره إذ دخل مكة أن يقول: وقل جاء الحق وزهق الباطل، فصار صلى الله عليه وسلم- يطعن الأصنام التى حول الكعبة بمحجنة ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل»، فيخر الصنم ساقطا، مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة.
قال: وفى معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال:
قال قتادة: جاء القرآن وذهب الشيطان. وقال ابن جريح: جاء الجهاد وذهب الشرك، وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان.
وقال ابن عباس: وجد- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، كانت لقبائل العرب يحجون إليها، ويخرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى فقال: «أى رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولى دونك» فأوحى الله تعالى إليه إنى سأحدث لك نوبة جديدة، يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية. قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح قال جبريل- عليه الصلاة والسلام- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتى صنما صنما ويطعن فى عينه أو بطنه بمخصرته ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل» ، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا. وبقى صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر. فقال يا على: «ارم به»، فحمله- عليه السّلام- حتى صعد ورمى به وكسره. فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى.
وعن ابن عباس قال: لما قدم- صلى الله عليه وسلم- أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل فى أيديهما الأزلام، يعنى: القداح التى كانوا يستقسمون بها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط» . فدخل البيت وكبر فى نواحيه ولم يصل فيه. رواه الترمذى.
وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح على ناقته القصواء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: «ائتنى بالمفتاح» ، فذهب إلى أمة فأبت أن تعطيه فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبى، فأعطته إياه، فجاء به النبى- صلى الله عليه وسلم- فدفعه إليه، ففتح الباب رواه مسلم.
وروى الفاكهى من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضا قال: كان بنو أبى طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله المفتاح ففتحها بيده.
وعثمان المذكور: هو عثمان بن طلحة بن أبى طلحة بن عبد العزى، ويقال له: الحجبى، بفتح المهملة والجيم، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبى طلحة وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة ورواية.
واسم أم عثمان: سلافة- بضم السين المهملة والتخفيف والفاء-.
وفى الطبقات لابن سعد عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الإثنين والخميس. فأقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عنى ثم قال: «يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت» ، فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، قال: «بل عمرت وعزت يومئذ» ، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منى موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. فلما كان يوم الفتح قال: «يا عثمان ائتنى بالمفتاح» فأتيته به فأخذه منى، ثم دفعه إلى وقال: «خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف» . قال: فلما وليت نادانى، فرجعت إليه فقال: «ألم يكن الذى قلت لك؟!» قال:
فذكرت قوله لى بمكة قبل الهجرة: «لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى حيث شئت» . قلت: بلى أشهد أنك رسول الله.
وفى التفسير: أن هذه الآية {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا} [النساء:58] نزلت فى عثمان بن طلحة الحجبى. أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه بمفتاح الكعبة فأبى عليه، وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى على يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل صلى الله عليه وسلم- البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله هذه الآية. وأمر- صلى الله عليه وسلم- عليّا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك على، فقال: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟!
فقال على: لقد أنزل الله فى شأنك قرآنا. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول الله. فجاء جبريل- عليه السّلام- فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة فى أولاد عثمان. فكان المفتاح معه، فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة فى أولاده! إلى يوم القيامة.
قال ابن ظفر فى «ينبوع الحياة» : قوله: «لو اعلم أنه رسول الله لم أمنعه» هذا وهم، لأنه كان ممن أسلم. فلو قال هذا كان مرتدا.
وعن الكلبى: لما طلب- صلى الله عليه وسلم- المفتاح من عثمان مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال:
هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه ونزلت الآية. قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقول.
وفى رواية لمسلم: دخل- صلى الله عليه وسلم- هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان ابن طلحة الحجبى فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانين، وذهب عنى أسأله: كم صلى.
وفى إحدى روايات البخارى: جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه.
وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله فى الرواية الآخرى: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا عقبه البخارى برواية إسماعيل بن أبى أويس التى قال فيها:
عمودين عن يمينه.
ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه: حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إلى قوله: وكان البيت يومئذ.
لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى.
ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما، ولفظ «المتقدمين» فى إحدى روايات البخارى مشعر به.
وفى رواية لمسلم جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعى، وبشر بن عمر فى إحدى الروايتين عنهما.
وقد جمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث.
وجزم البيهقى بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليها ابن القاسم والقعنبى وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذلك الشافعى وابن مهدى وفى إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وقد بين موسى بن عقبة فى روايته عن نافع أن بين موقفه- صلى الله عليه وسلم- وبين الجدار الذى استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه الدار قطنى فى الغرائب. ولفظه: وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
وفى كتاب مكة للأزرقى، والفاكهى: أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغى لمن أراد الاتباع فى ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه فى مكان قدميه- صلى الله عليه وسلم- إن كانت ثلاثة سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من من ثلاثة أذرع والله أعلم.
وفى رواية عن ابن عباس قال: أخبرنى أسامة أنه- صلى الله عليه وسلم- لما دخل البيت دعا فى نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع فى قبل البيت ركعتين وقال: «هذه القبلة» رواه مسلم.
والجمع بينه وبين حديث ابن عمر، أن أسامة أخبره أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى فى الكعبة كما رواه أحمد والطبرانى: بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد فى ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما فى علمه لكونه لم يره حين صلى، ويكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسوال ثم أراد زيادة الاستثبات فى مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا.
قال النووى: وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. قال: وأما نفى أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعو ثم اشتغل أسامة فى ناحية من نواحى البيت والنبى- صلى الله عليه وسلم- فى ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته- عليه السّلام- خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى.
وتعقبوه بما يطول ذكره. وأقرب ما قيل فى الجمع: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتى بماء يمحو به الصور التى كانت فى الكعبة، فأثبت الصلاة بلال لرؤيته لها ونفاها أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسى عن أسامة بن زيد قال:
دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الكعبة، ورأى صورا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به فجعل- صلى الله عليه وسلم- يمحوها ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» ورجاله ثقات.
وأفاد الأزرقى- فى تاريخ مكة- أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه- صلى الله عليه وسلم- الناس.
وفى البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام خمس عشرة ليلة، وفى رواية: تسع عشرة. وفى رواية أبى داود: سبع عشرة.
وعند الترمذى: ثمانى عشرة.
وفى الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة.
وقال الفاسى فى تاريخ مكة: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان.
ثم سرية خالد بن الوليد عقب فتح مكة إلى العزى بنخلة، وكانت لقريش وجميع بنى كنانة، وكانت أعظم أصنامهم. لخمس ليال بقين من رمضان، وسنة ثمان، ومعه ثلاثون ليهدمها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة فأخبره. فقال: «هل رأيت شيئا» قال: لا، قال «فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها» ، فرجع فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره فقال: «نعم، تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا».
ثم سرية عمرو بن العاصى إلى سواع صنم هذيل على ثلاثة أميال من مكة. فى شهر رمضان سنة ثمان- حين فتح مكة-.
قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت أمرنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. قلت: لم؟ قال:
تمنع، فقلت: ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته ثم قلت للسادن كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
ثم سرية سعد بن زيد الأشهلى إلى مناة، صنم للأوس والخزرج بالمشلل، فى شهر رمضان، حين فتح مكة، فخرج فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها، قال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك.
فأقبل سعد يمشى إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه وانصرف راجعا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك لست بقين من رمضان.
ثم سرية خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة، قبيلة من عبد القيس، أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم، فى شوال سنة ثمان. وهو يوم الغميصاء.
بعثه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من هدم العزى، وهو- صلى الله عليه وسلم- مقيم بمكة، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا، داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا، فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد فى ساحاتنا.
وفى البخارى: لم يحسنوا أن يقولوا ذلك فقالوا صبأنا فقال لهم:
استأسروا فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا، وفرقهم فى أصحابه، فلما كان السحر، نادى منادى خالد: من كان معه أسير فليقتله، فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم.
فبلغ ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك من فعل خالد» . وبعث عليّا فودى قتلاهم.
قال الخطابى: يحتمل أن يكون نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا، وأنكر- صلى الله عليه وسلم- العجلة وترك التثبت فى أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا.
ثم غزا- صلى الله عليه وسلم- حنينا – بالتصغير- وهو واد قرب ذى المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال، قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن.
وذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصرى.
فخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال، فى اثنى عشر ألفا من المسلمين. عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان ممن أسلم من أهل مكة. وهم الطلقاء، يعنى: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، وأحدهم طليق- فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله.
واستعمل- صلى الله عليه وسلم- على مكة عتاب بن أسيد. وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان- صلى الله عليه وسلم- استعار منه مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.
فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب.
ووجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى، فدخل عسكرهم، فطاف به وجاء بخبرهم.
وفى حديث سهل بن الحنظلية- عند أبى داود بإسناد حسن- أنهم ساروا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: إنى انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظعنهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبى- صلى الله عليه وسلم- وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله تعالى»
وقوله عن بكرة أبيهم: كلمة للعرب، يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة فى الحقيقة، وهى التى يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا.
وقوله: بظعنهم: أى نسائهم، واحدتها ظعينة، وأصل الظعينة الراحلة التى يرحل ويظعن عليها، أى يسار، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل الظعينة:
المرأة فى الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة ظعينة.
وروى يونس بن بكير، فى زيادة المغازى عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبى- صلى الله عليه وسلم-.
ثم ركب- صلى الله عليه وسلم- بغلته البيضاء «دلدل» ولبس درعين والمغفر والبيضة.
فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك فى غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادى، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بنى سليم مولية وتبعهم أهل مكة والناس.
ولم يثبت معه- صلى الله عليه وسلم- يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد، فى أناس من أهل بيته وأصحابه.
قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يتقدم فى نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وجعل- عليه السّلام- يقول للعباس: «ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» يعنى شجرة بيعة الرضوان- التى بايعوه تحتها، ألايفروا عنه.
فجعل ينادى تارة يا أصحاب السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة وكان العباس رجلا صيتا- فلما سمع المسلمون نداء العباس أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها.
وفى رواية لمسلم: قال العباس: فو الله لكأن عطفتهم- حين سمعوا صوتى- عطفة البقر على أولادها. يقولون: يا لبيك، يا لبيك. فتراجعوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
فأمرهم- صلى الله عليه وسلم- أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى قتالهم فقال: «الآن حمى الوطيس»، وهو التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الذى يشبه حرها حره. وهذه من فصيح الكلام الذى لم يسمع من أحد قبل النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وتناول- صلى الله عليه وسلم- حصيات من الأرض ثم قال: «شاهت الوجوه» – أى قبحت- ورمى بها فى وجوه المشركين، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة.
وفى رواية لمسلم: قبضة من تراب الأرض. فيحتمل أنه رمى بذا مرة وبذا مرة أخرى. ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب.
ولأحمد وأبى داود والدارمى، من حديث أبى عبد الرحمن الفهرى فى قصة حنين قال: فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «أنا عبد الله ورسوله» ، ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفّا من تراب.
قال: فأخبرنى الذى كان أدنى إليه منى أنه ضرب وجوههم وقال: «شاهدت الوجوه فهزمهم الله» . قال يعلى بن عطاء راوية عن أبى همام عن أبى عبد الرحمن الفهرى فحدثنى أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد – بالجيم-.
قال فى النهاية: وصف الطست وهى مؤنثة بالجديد وهو مذكر، إما لأن تأنيثها غير حقيقى فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث كما يوصف به المذكر، نحو امرأة قتيل.
ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود: فحادت به- صلى الله عليه وسلم- بغلته، فمال السرج فقلت ارتفع رفعك الله، فقال: «ناولنى كفّا من تراب» ، فضرب وجوههم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بإيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار.
وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن بن مولى عن رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم فى آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال:
فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا.
قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا.
وفى سيرة الدمياطى: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم.
وفى حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوى من السماء.
والبجاد: بالموحدة والجيم آخره دال مهملة: الكساء، وجمعه: بجد، أراد الملائكة الذين أيدهم الله بهم، قاله ابن الأثير.
وفى البخارى: عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب».
وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال:
أنا النبى، والنبى لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذى وعدنى الله به من النصر حق، فلا يجوز علىّ الفرار.
وأما ما فى مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: «فأرجع منهزما» إلى قوله: «مررت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهزما» فقال: «لقد رأى ابن الأكوع فزعا» فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع- لا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبى- صلى الله عليه وسلم- انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه- عليه السّلام- ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم فى موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه- صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو.
وقد تقدم فى غزوة أحد ما نسب لابن المرابط، من المالكية، مما حكاه القاضى عياض فى الشفاء: أن من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطى تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة يعنى: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل.
قال بعضهم: وقد كان ركوبه- صلى الله عليه وسلم- البغلة فى هذا المحل الذى هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا لنبوته، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام النبوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب فى العادة إلا الخيل فبين- صلى الله عليه وسلم- أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على الله تعالى، وقد ركبت الملائكة فى الحرب معه- صلى الله عليه وسلم- على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم فى الحرب إلا للخيل، والسر فى ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف البغال والإبل.
وعند ابن أبى شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة: لم يبق- عليه الصلاة والسلام- إلا أربعة نفر، ثلاثة من بنى هاشم ورجل من غيرهم: على العباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وفى الترمذى بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأينا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مائة رجل.
وفى شرح مسلم للنووى: أنه ثبت معه- صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر رجلا وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق.
ووقع فى شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك لقوله:
نصرنا رسول الله فى الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما مسّه فى الله لا يتوج
وقد قال الطبرى: الانهزام المنهى عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر، لأن الشاعر إنما سمى شاعرا لوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا.
والنبى- صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: ابن عبد الله، فأجيب: بأن شهرته بجده كانت أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفى فى حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده- صلى الله عليه وسلم-، وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد قريش وكان كثير من الناس يدعو النبى- صلى الله عليه وسلم- ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة فى قوله:
أيكم ابن عبد المطلب. وقيل غير ذلك.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- أن يقتل من قدر عليه، وأفضى المسلمون فى القتل إلى الذرية، فنهاهم- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.
وقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. واستلب أبو طلحة وحده ذلك اليوم عشرين رجلا.
وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان الله تعالى وعد رسوله أنه إذا فتح مكة دخل الناس فى دين الله أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألبوا لحربه- صلى الله عليه وسلم-، ليظهر أمره تعالى، وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التى لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعد أحد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ولم يدخل بلده وحرمه كما دخل- عليه الصلاة والسلام- واضعا رأسه منحنيا على مركوبه تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده، وليبين سبحانه لمن قال:
لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده تعالى، وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذى تولى نصر رسوله ودينه، لاكثرتكم التى أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر مع بريد: أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها. وقد اقتضت حكمته تعالى: أن خلع النصر وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض.
قال: وبهاتين الغزوتين- أعنى حنينا وبدرا- قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين، ورمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجوه المشركين بالحصباء فيهما. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس.
واستشهد من المسلمين أربعة: منهم أيمن ابن أم أيمن.
وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا.
ثم سرية أبى عامر الأشعر، وهو عم أبى موسى الأشعرى، وقال ابن إسحاق: ابن عمه والأول أشهد.
بعثه- صلى الله عليه وسلم- حين فرغ من حنين، فى طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس- وهو واد فى ديار هوازن- وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إليهم، فإذا هم ممتنعون فقتل منهم أبو عامر تسعة أخوة مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، ثم برز له العاشر فدعاه إلى الإسلام وقال اللهم اشهد عليه، فقال اللهم لا تشهد على فكف عنه أبو عامر فأفلت. ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا رآه قال: «هذا شريد أبى عامر».
ورمى أبا عامر ابنا الحارث- العلاء وأوفى- فقتلاه، فخلفه أبو موسى الأشعرى فقاتلهم حتى فتح الله عليه.
وكان فى السبى الشيماء- أخته- عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة-.
وقتل قاتل أبى عامر. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنة» .
وفى رواية البخارى قال- يعنى أبا عامر لأبى موسى الأشعرى، لما رمى بالسهم-: يا ابن أخى: أقرىء النبى- صلى الله عليه وسلم- السلام، وقل له: يستغفر لى ثم مات. فرجعت فدخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بخبرنا وخبر أبى عامر، وقال قل له: استغفر لى، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه وقال: «اللهم اغفر لعبيدك أبى عامر» – ورأيت بياض إبطيه- ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» … فقلت: ولى … فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» . قال أبو بردة: إحداهما لأبى عامر والآخرى لأبى موسى.
ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسى إلى ذى الكفين، صنم من خشب، كان لعمرو بن حممة، فى شوال- لما أراد- صلى الله عليه وسلم- السير إلى الطائف- ليهدمه ويوافيه بالطائف.
فخرج سريعا فهدمه وجعل يحش النار فى وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا *** ميلادنا أقدم من ميلادكا
إنى حشوت النار فى فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا النبى- صلى الله عليه وسلم- بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام. وعند مغلطاى: وقدم معه أربعة مسلمون.