جهّز عليه الصلاة والسلام في جمادى الأولى جيشا للقصاص ممّن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسوله إلى أمير بصرى، …
وأمّر عليهم زيد بن حارثة، وقال لهم: «إن أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة».
وكان عدة الجيش ثلاثة الاف، فساروا وشيعهم عليه الصلاة والسلام، وكان فيما وصاهم به: «اغزوا باسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيرا ولا بصيرا فانيا، ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء» ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا مؤتة مقتل الحارث بن عمير، وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعا عظيما منهم ومن العرب المتنصرة. فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه:
أيرسلون لرسول الله يطلبون منه مددا أم يقدمون على الحرب؟؟ فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة، ونحن ما نقاتل بعدد ولا بقوة ولا بكثرة ما نقاتل إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإنما هي إحدى الحسنيين إما الظهور وإما الشهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. ومضوا للقتال، فلقوا هذه الجموع المتكاثرة، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله عنه حتى استشهد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب وهو يقول:
يا حبّذا الجنّة واقترابها *** طيّبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
ولم يزل يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فتقدم ثم تردد بعض التردّد، فقال يخاطب نفسه:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه *** طائعة أو لتكرهنّه
إن أجلب الناس وشدّوا الرّنّة *** مالي أراك تكرهين الجنّة
قد طالما قد كنت مطمئنّة *** هل أنت إلّا نطفة في شنّه؟
ثم اقتحم بفرسه المعمعة، ولم يزل يقاتل رضي الله عنه حتى استشهد، فهم بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء، فقال لهم عقبة بن عامر: يا قوم يقتل الإنسان مقبلا خير من أن يقتل مدبرا، فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالد بن الوليد، وبهمّته ومهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع إذ ما تفعل ثلاثة الاف بمائة وخمسين ألفا، فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتالا شديدا. وفي غده خالف ترتيب العسكر. فجعل الساقة مقدمة، والمقدمة ساقة، والميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، فظن الروم أن المدد جاء للمسلمين فرعبوا. ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى مؤتة، ثم مكث يناوش الأعداء سبعة أيام، ثم تحاجز الفريقان لأن الكفّار ظنوا أن الأمداد تتوالى للمسلمين، وخافوا أن يجروهم إلى وسط الصحارى حيث لا يمكنهم التخلّص، وبذلك انقطع القتال. وقد نعى النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وكانت عينا رسول الله تذرفان، ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» ، وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر يبكين، فأمره أن ينهاهنّ، فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن فلم يطعن! فأمره فذهب ثانيا ثم جاء فقال: والله لقد غلبننا، فقال له عليه الصلاة والسلام: «أحث في أفواههنّ التراب» ، ولما أقبل الجيش إلى المدينة، قابلهم المسلمون يقولون لهم: يا فرّار، فقال عليه الصلاة والسلام «بل هم الكرّار»! ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراهم أن ذلك من مكايد الحرب وأثنى على خالد مهارته.