وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلاة والسلام بالتجهز لغزو يهود خيبر، …
الذين كانوا أعظم مهيّج للأحزاب ضدّ رسول الله في غزوة الخندق، والذين لا يزالون مجتهدين في محالفة الأعراب ضدّ رسول الله كما قدّمنا ذلك في قصة كعب بن الأشرف، وقد استنفر رسول الله لذلك من حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية. وجاء المخلّفون عنها ليؤذن لهم فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تخرجوا معي إلّا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئا»، وأمر مناديا ينادي بذلك، ثم خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن ولّى على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري. وكان معه من أزواجه أم سلمة، ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء. فقال: عليه الصلاة والسلام «ارفقوا بأنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» وكانت حصون خيبر ثلاثة منفصلا بعضها عن بعض وهي: حصون النطاة وحصون الكتيبة وحصون الشق والأولى ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلّة، والثانية حصنان: حصن أبي، وحصن البريء. والثالثة ثلاثة حصون: حصن القموص، وحصن الوطيح، وحصن السّلالم، فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النطاة، وعسكر المسلمون شرقيها بعيدا عن مدى النبل، وأمر عليه الصلاة والسلام أن يقطع نخلهم ليرهبهم، حتى يسلموا، فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة. ولمّا رأى عليه الصلاة والسلام تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع، ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة، وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئا، وفيه مات محمود بن مسلمة أخو محمّد بن مسلمة، وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة، ويخلّف على العسكر أحد المسلمين حتى إذا كانوا في الليلة السابعة، ظفر حارس الجيش وهو عمر بن الخطاب بيهودي خارج في جوف الليل، فأتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما أدرك الرجل الرعب قال: إن أمّنّتموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم. فقالوا دلنا فقد أمّنّاك، فقال إن أهل هذا الحصن أدركهم الملال والتعب، وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشقّ، وسيخرجون لقتالكم غدا، فإذا فتح عليكم هذا الحصن غدا فإني أدّلكم على بيت فيه منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون، فإنكم تنصبون المنجنيق، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فينقبون الحصون فتفتحه من يومك، فقال عليه الصلاة والسلام لمحمّد بن مسلمة: «سأعطي الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبّانه»، فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنّونها، حتى قال عمر بن الخطاب: ما تمنيت الإمارة إلّا ليلتئذ.
فلمّا كان الغد سأل عليه الصلاة والسلام عن علي بن أبي طالب فقيل له إنه أرمد، فأرسل من يأتيه به، ولما جاء تفل في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن بهما شيء ثم أعطاه الراية، فتوجّه مع المسلمين للقتال، وهناك وجدوا اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البراز فقتله علي، ثم خرج مرحب وهو أشجع القوم فألحقه برفيقه، فخرج أخوه ياسر فقتله الزبير بن العوّام، ثم حمل المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم، وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة، وانهزم الأعداء إلى الحصن الذي يليه وهو حصن الصعب وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيرا من الخبز والتمر، ثم تتبعوا اليهود إلى حصن الصعب، فقاتل عنه اليهود قتالا شديدا حتى ردّ عنه المسلمون، ولكن ثبت الحباب بن المنذر ومن معه، وقاتلوا قتالا شديدا حتى هزموا اليهود فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن، فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام، فأمر عليه الصلاة والسلام مناديا يقول: «كلوا واعلفوا دوابكم ولا تأخذوا شيئا».
ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حصن قلة فتبعهم المسلمون، وحاصروهم ثلاثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه، وفي اليوم الرابع دلّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود، فمنعوها عنهم، فخرجوا، وقاتلوا قتالا شديدا انتهى بهزيمتهم إلى حصون الشقّ، فتبعهم المسلمون وبدؤوا بحصن أبيّ فخرج أهله، وقاتلوا قتالا شديدا أبلى فيه أبو دجانة بلاء حسنا حتى تمكّن من دخول الحصن عنوة، ووجد المسلمون فيه أثاثا كثيرا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب المنهزمون منه إلى حصن البريء فتمنعوا به أشدّ التمنّع، وكان أهله أشدّ اليهود رميا بالنبل والحجارة حتى أصاب رسول الله بعض منه، فنصب المسلمون عليه المنجنيق، فوقع في قلب أهله الرعب، وهربوا منه من غير عناء شديد. فوجد فيه المسلمون أواني لليهود من نحاس وفخار، فقال عليه الصلاة والسلام: «اغسلوها واطبخوا فيها».
ثم تتبّع المسلمون بقايا العدو إلى حصون الكثيبة، وبدؤوا بحصون القموص، فحاصروه عشرين ليلة، ثم فتحه الله على يد علي بن أبي طالب، ومنه سبيت صفية بنت حيي بن أخطب، ثم سار المسلمون لحصار حصني الوطيح والسلالم، فلم يقاوم أهلهما بل سلّموا طالبين حقن دمائهم، وأن يخرجوا من أرض خيبر بذراريهم، لا يصطحب الواحد منهم إلّا ثوبا واحدا على ظهره، فأجابهم رسول الله إلى ذلك، وغنم المسلمون من هذين الحصنين مائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية، ووجدوا صحفا من التوراة فسلّموها لطالبيها.
وقد أمر عليه الصلاة والسلام بقتل كنانة بن أبي الحقيق لأنه أنكر حلي حيي بن أخطب وقد عثر عليها المسلمون، فوجدوا فيها أساور ودمالج وخلاخيل وقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر والزمرد وغير ذلك.
هذا والذين استشهدوا من المسلمين بخيبر خمسة عشر رجلا، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلا، وفي هذه الغزوة أهدت احدى نساء اليهود كراع شاة مسمومة لرسول الله فأخذ منها مضغة ثم لفظها حيث أعلم أنها مسمومة، وأكل منها بشر بن البراء فمات لوقته، واحتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجيء له بالمرأة التي فعلت هذه الفعلة فسألها عن سبب ذلك فأجابت: قلت إن كان نبيّا لن يضرّه، وإن كان كاذبا أراحنا الله منه، فعفا عنها عليه الصلاة والسلام.