بنو المصطلق بطن من قبيلة خزاعة الأزدية اليمانية ، وكانوا يسكنون قديداً وعسفان على الطريق من المدينة إلى مكة، فقديد تبعد عن مكة 120 …
كيلاً، وعسفان تبعد 80 كيلاً، فيكون بينهما أربعون كيلاً. في حين تنتشر ديار خزاعة على الطريق من المدينة إلى مكة ما بين مر الظهران التي تبعد عن مكة 30 كيلاً وبين الأبواء (شرق مستورة بثلاث أكيال) التي تبعد عن مكة 240 كيلاً ، وبذلك يتوسط بنو المصطلق ديار خزاعة، وموقعهم مهم بالنسبة للصراع بين المسلمين وقريش وقد عرفت خزاعة بموقفها المسالم للمسلمين، وربما كان لصلات النسب والمصالح مع الأنصار تأثير في تحسين العلاقات ، رغم المحالفات القديمة بينها وبين قريش ذات المصالح الكبرى في الطريق التجارية إلى الشام، ورغم سيادة الشرك في ديار خزاعة حيث كانت هضبة المشلل التي كانت بها “مناة” في قديد. ورغم أن ديارها كانت أقرب إلى مكة منها إلى المدينة.
ولعل هذه العوامل أعاقت – في نفس الوقت – انتشار الإسلام في خزاعة عامة وبني المصطلق خاصة الذي يستفيدون إلى جانب الموقع التجاري بوجود مناة الطاغية في ديارهم معنوياً ومادياً حيث يحج إليها العرب.
وأول موقف عدائي لبني المصطلق من الإسلام كان في إسهامهم ضمن الأحابيش في جيش قريش في غزوة أحد.
وقد تجرأت بنو المصطلق على المسلمين نتيجة لغزوة أحد كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة ، ولعلها كانت تخشى انتقام المسلمين منها لدورها في غزوة أحد، وكذلك كانت ترغب في أن يبقى الطريق التجاري مفتوحاً أمام قريش لا يهدده أحد لما في ذلك من مصالح لها محققة فكانت – بزعامة الحارث ابن أبي ضرار – تتهيأ للأمر بجمع الرجال والسلاح وتأليب القبائل المجاورة ضد المسلمين.
وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب الأسلمي للاطلاع على أحوالهم، فأظهر أنه جاء لعونهم وعرف نيتهم في الهجوم على المدينة فعاد وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يبيتون .
وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه من المدينة نحو ديار بني المصطلق، وهذا هو الراجح وهو قول موسى بن عقبة الصحيح حكاه عن الزهري وعن عروة . وتابعه أبو معشر السندي والواقدي وابن سعد ومن المتأخرين ابن القيم والذهبي أما ابن إسحق فذهب إلى أنها في شعبان سنة ست، ويعارض ذلك مافي صحيحي البخاري ومسلم من اشتراك سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق مع استشهاده في غزوة بني قريظة عقب الخندق مباشرة، فلا يمكن أن تكون غزوة بني المصطلق إلا قبل الخندق .
ولا توجد روايات صحيحة تبين عدد الجيش الذي خرج إلى ديار بني المصطلق أو عدته، ولكن الذهبي قال إنهم سبعمائة مقاتل وقال الواقدي: إن معهم ثلاثين فرساً، للمهاجرين عشرة وللأنصار عشرون .
وقد وردت روايتان مهمتان عما حدث عند المريسيع وهو ماء في ديار بني المصطلق بقديد. فالبخاري ومسلم يذكران عن عبد الله بن عمر – وهو شاهد عيان حضر الغزوة – أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقي على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ولفظ مسلم “كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون … ” ورواية مسلم صريحة في أن الغارة وقعت دون إنذار لبني المصطلق لأنهم ممن بلغتهم دعوة الإسلام، وقد كانوا يعتبرون في حرب مع المسلمين منذ اشتراكهم مع قريش في غزوة أحد، كما كانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين، فبوغتوا واضطربوا ولم يتمكنوا من المقاومة طويلاً، بل إن رواية الصحيحين لا تشير إلى المقاومة، ولكن ابن إسحق ذكر وقوع قتال على ماء المريسيع ثم انهزم بنو المصطلق وقتل بعضهم وأخذ المسلمون أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فتمت قسمة ذلك بينهم .
ولم تصح رواية في عدد القتلى ومقدار السبي والأموال سوى ما ذكره ابن إسحق من عتق “مائة أهل بيت من بني المصطلق” ، ولكن الواقدي يذكر أنه قتل عشرة من بني المصطلق وأسر سائرهم “فما أفلت منهم إنسان” ويذكر أيضاً أن الغنائم كانت ألفي بعير، وخمسة آلاف شاة، وأن السبي كان مائتي أهل بيت . وروى أن السبي أكثر من سبعمائة .
وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لهلا رمضان بعد أن غاب عنها شهراً إلا ليلتين .
وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصراً جديداً ازدادوا غيظاً على غيظهم، وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشتفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال حادثة الافك التي اختلقوها.
ولندع الصحابي زيد بن أرقم وهو شاهد عيان ومشارك في الحادث الأول يحكي خبر ذلك قال: “كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي – أو لعمر – فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا. فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: «إن الله قد صدقك يا زيد» .
ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبد الله الأنصاري ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى جاهلية؟» قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال: «دعوها فإنها منتنة». فسمع بذلك عبد الله ابن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه». وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم إن المهاجرين كثروا بعد”.
وقد وردت روايات قوية أخرى تعارض هذه ومفادها أن عبد الله بن أبي قال هذه الكلمات في غزوة تبوك، وهو وهم والصحيح أنه لم يشهد غزوة تبوك .
لقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن العصبيات هي من دعاوي الجاهلية وقال: «لينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره» فجعل التناصر في طلب الحق والإنصاف، وأبطل المفهوم الجاهلي لـ (أنظر أخالك ظالماً أو مظلوماً).
ويلاحظ اهتمامه بسمعة المسلمين في أوساط القبائل بترك معاقبة المنافق عبد الله بن أبي لما في ذلك من مصلحة تأليف القبائل ومنع الدعاية التي قد تنفر من الإسلام. ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على معالجة الموقف بالبيان وإنما أمر الجيش بالرحيل طيلة اليوم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً، ليشغل الناس عن الحديث في الفتنة.
وقد ضعف مركز عبد الله بن أبي بن سلول في قومه فكانوا يعنفونه ويلومونه كلما أخطأ . بل إن ابنه عبد الله بن أبي بن سلول استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه، فنهاه فقال: «لا ولكن بر أباك وأحسن صحبته» ، ومنع أباه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخولها . مع شدة بِرَّه بأبيه وهيبته له وهو من أعجب المواقف التي تدل على صفاء عقيدة الابن وتخلصه من عصبية الجاهلية رغم قرب عهده بها، مما يبين قوة تأثير الإسلام في اتباعه وإحداثه التغيير العميق في مقاييسهم وسلوكهم. وقد علل الرسول صلى الله عليه وسلم منعه لعبد الله من قتل أبيه بالحرص على سمعة الإسلام فقال: «لا يتحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه» .
وبعد فشل محاولة المنافقين في إثارة العصبية الجاهلية أعماهم الغضب وقد واتتهم الفرصة لإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته، وكانت عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين قد خرجت معه إلى غزوة بني المصطلق وذلك بعدما شرع الله الحجاب للنساء، وفي طريق العودة، عندما اقترب المسلمون من المدينة نزلت من هودج البعير لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقداً لها، فرجعت تبحث عنه فحمل الرجال هودجها فوضعوه على البعير وهم يحسبونها فيه إذ كانت صغيرة خفيفة – ومضى المسلمون إلى المدينة تاركيها في البيداء وقد وجدت عقدها وفقدت الركب، فمكثت في مكانها تنتظر أن يعرفوا بخبرها ويعودوا إليها، فمر بها صفوان بن المعطل السلمي وهو من خيرة الصحابة فحملها على بعيره وانطلق بها إلى المدينة، فوصل إليها بعد دخول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استغل المنافقون هذا الحادث ونسجوا حوله، وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول وأغرى بالكلام مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش فاتهمت عائشة أم المؤمنين بالإفك.
وضاق الرسول صلى الله عليه وسلم ذرعاً بدعايات المنافقين وصرَّح بذلك للمسلمين وهم مجتمعون في المسجد معلناً ثقته بزوجته وبالصحابي صفوان بن المعطل، وقد أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من يروج ذلك إن كان من الأوس، فأظهر سعد بن عبادة معارضته لسعد بن معاذ لأن عبد الله بن أبي من الخزرج حتى كادت تقع الفتنة بين الأوس والخزرج لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هدأهم.
ومرضت عائشة فاستأذنت النبي في الذهاب إلى بيت أبيها فأذن ثم علمت بخبر الإفك فكانت “لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم” وهي تنتظر أن يعلم الله نبيَّه ببراءتها برؤيا صادقة، وقد انقطع الوحي شهراً عانى خلاله الرسول صلى الله عليه وسلم أشد المعاناة فقط طعنه المنافقون في عرضه وآذوه في زوجه، ولا شك أنه كان يتطلع إلى الوحي وهو في أشد الحاجة إليه لتطمئن نفسه ويخرس ألسن النفاق ويذب عن زوجه الحبيبة وأبيها الذي كان أحب الناس إليه. ثم نزل الوحي بقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور: 11] .
وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على قريبه مسطح، فحلف أن لا ينفق عليه فنزلت الآية {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ}[النور: 22] إلى قوله {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] فعاد أبو بكر إلى النفقة عليه.
ولا شك أن المسلمين الثلاثة اشتركوا في إشاعة الإفك ولكن الدور الكبير كان للمنافقين أتباع عبد الله بن أبي بن سلول، وإنما ذكرت أسماء الثلاثة لأنهم مسلمون، وما كان ينبغي أن يقعوا في حبائل المنافقين وقد عاتبهم القرآن الكريم بقوله تعالى: {لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
وكان كثير من المؤمنين على يقظة كاملة وثقة كبيرة بآل بيت النبوة، فلما سمع أبو أيوب الأنصاري بإشاعات المنافقين قال: (سبحانك ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم) .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة حد القذف على مسطح وحسان وحمنة ، أما عبد الله بن أبي بن سلول الذي تولى كبر الإفك وقاد حملة الدعاية فلم يقم عليه الحد ولعل ذلك لأن إقامة الحدود فيها كفارة عن الجناة، وهو ممن توعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فليس أهلاً لإقامة الحد عليه، وقيل لأن هذا المنافق كان لا يترك دليلاً ضده فلا يتكلم بالإفك أمام المؤمنين .وقد وردت أحاديث ضعيفة تفيد إقامة الحد عليه أيضاً.
والحق أن حادثة الإفك كادت تشعل نار العصبية من جديد بين الأوس والخزرج هذه المرة حيث تجادل زعماؤهم بغضب في المسجد، وكان هذا هو مقصد المنافقين أن يهدموا وحدة المسلمين ويزعزعوا ثقتهم بقيادتهم، ويشعلوا نار الفتنة. بينهم، ولكن الله سلم، وتمكن الرسول عليه الصلاة والسلام من تهدئة الجميع والحفاظ على وحدتهم والخروج من الامتحان الصعب بنجاح.
وقد نالت عائشة رضي الله عنها تعويضاً عن محنتها وصبرها وحسن توكلها على الله فنزل في براءتها قرآن يتعبد به الناس على مر الدهور.
وما أن رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى جاءته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار تستعينه في عتق نفسها من ثابت بن قيس بن الشماس الذي وقعت في سهمه، وكانت قد كاتبته، وقد ذكرت للرسول مكانها في قومها، فقضى عنها في كتابها وتزوجها فلما علم الناس بذلك أطلقوا سائر السبي وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق مائة أهل بيت، «فما كانت امرأة أعظم على قومها بركة منها» فكان عتقها صداقها.
وقد جاء الحارث بن أبي ضرار إلى المدينة وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلها، فأذن له أن يخيرها، فلما خيرها اختارت البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد أسلم الحارث بن أبي ضرار وقومه، وجعله الرسول صلى الله عليه وسلم يلي صدقات قومه .
وكان لزواج الرسول صلى الله عليه وسلم من جويرية وإطلاق السبي أثر بالغ في تأليف قلوبهم، فبدأوا عهداً جديداً من المشاركة في الجهاد ذوداً عن الإسلام، ومن الطاعة والانقياد لأحكامه حتى إذا تأخر مصدق الرسول صلى الله عليه وسلم مرة عن موعد دفع الزكاة قلق الحارث بن أبي ضرار وقومه واعتزموا المضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة السبب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل الوليد بن عقبة ليقبض صدقاتهم، فمضى بعض الطريق ثم خافهم فرجع وزعم أنهم منعوه الزكاة وأرادوا قتله، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم سرية إليهم فحلف لهم أنه ما رأى الوليد ومضى معهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوضح موقفه فنزلت بحقه الآية الكريمة {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات:6]
وهو من أحسن ما روى في سبب نزول هذه الآية كما يقول ابن كثير . وقد حدثت هذه الحادثة بعد إسلام الوليد بن عقبة في فتح مكة . مما يشير إلى توطد الإسلام في بني المصطلق وحسن إسلامهم بعد غزوة بني المصطلق بسنوات قليلة.
ومن الأحكام المستنبطة من هذه الغزوة جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار. أما من لم تبلغهم دعوة الإسلام فتجب دعوتهم أولا قبل قتالهم.
ومنها صحة جعل العتق صداقاً كما فعل صلى الله عليه وسلم مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة، وكما فعل مع صفية بنت حيي بن أخطب في غزوة خيبر – فيما بعد.
ومنها مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزرة حيث أصابت القرعة عائشة فخرج بها . وقد ذكر الواقدي خروج أم سلمة أيضاً في هذه الغزوة لم يثبت. وخروج عائشة يدل على جواز خروج النساء في الغزو، وقد تقدم في غزوة أحد ذكر ذلك وبيان حدوده.
ومن الأحكام ثبوت إقامة الحد على القاذفين.
ومنها جواز استرقاق العرب كما حدث في الغزوة وهو قول جمهور العلماء .
وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءة قطعية بنص القرآن، ورماها بما اتهمت به فإنه كافر لأنه معاند للقرآن .
ومن الأحكام التي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النساء حيث سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فأذن به وقال: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة». فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها .
وفي حادثة الإفك توضيح دقيق لبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تأثر أبلغ التأثر لرمي المنافقين زوجه. ومع حرصه عليها وحبه لها ولأبيها، فإنه لم يتمكن من الكشف عن الغيب أو استحضار الوحي الذي انقطع عنه شهراً ليجري عليه الابتلاء والامتحان. فلو كان الوحي إلهاماً أو تألقاً عقلياً – أي انبثاقاً من فكرة – فإن الحوافز الكثيرة التي أثرت في كيانه وأقلقت فكره وحفزت عاطفته كانت كفيلة بانطلاق الوحي لإنهاء الصراع والقلق والألم في نفسه عليه الصلاة والسلام ولكن الرسول كما حكى القرآن {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ} [الكهف:110] ولا سلطان له على الوحي ولا يقدر على استحضاره ولا الإضافة إليه {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ}[الحاقة:43] {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ} [الحاقة:43] {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ }[الحاقة:43] {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47].
ولا شك أن حركات المسلمين العسكرية في أنحاء شبه الجزيرة العربية وتحديهم لقريش في بدر الموعد، واستمرارهم في الضغط على اقتصاد مكة بالسيطرة على الطرق التجارية كل ذلك كان يهييء ظرفاً مناسباً لتحالف المشركين مع يهود الذين أجلى المسلمون منهم بني قينقاع وبني النضير عن المدينة, وبقيت قريظة ظاهرها احترام الحلف بينها وبين المسلمين وباطنها الحقد والرغبة في الانتقاض والانتقام وقد تكشفت حقيقة ذلك فيما حدث في غزوة الأحزاب .