ويقال لها غزوة المريسيع، ويقال لها غزوة محارب، وقيل محارب غيرها ويقال لها غزوة الأعاجيب لما وقع فيها من الأمور العجيبة، أي كما قيل …
بذلك كذلك في غزوة ذات الرقاع كما تقدم.
وبنو المصطلق: بطن من خزاعة، وهم بنو جذيمة، وجذيمة هو المصطلق، من الصلق: وهو رفع الصوت. والمريسيع: اسم ماء من مياههم، أي من ماء خزاعة مأخوذة من قولهم: رسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد، وذلك الماء في ناحية قديد.
وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق رضي الله عنه، فإنه أسلم بعد ذلك كما سيأتي، جمع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قدر عليه من قومه ومن العرب، فأرسل صلى الله عليه وسلم بريدة بالتصغير ابن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين في آخره موحدة كما تقدم، أي ليعلم علم ذلك.
قال: واستأذن بريدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما يتخلص به من شرهم، أي وإن كان خلاف الواقع فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج حتى ورد عليهم ورأى جمعهم، فقالوا له: من الرجل؟ قال: رجل منكم قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني، فنكون يدا واحدة حتى نستأصلهم، فقال له الحارث: فنحن على ذلك؛ فعجل علينا، قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثير من قومي، فسروا بذلك منه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر القوم فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج، وكان في شعبان لليلتين خلتا منه سنة خمس من الهجرة، وقيل أربع كما في البخاري نقلا عن ابن عقبة، وعليه جرى الإمام النووي في الروضة. قال الحافظ ابن حجر: وكأنه سبق فلم أراد أن يكتب سنة خمس من الهجرة فكتب سنة أربع، لأن الذي في مغازي ابن عقبة من عدة طرق سنة خمس، وقيل سنة ست، وأن عليه أكثر المحدثين، وقادوا الخيل وهي ثلاثون فرسا عشرة للمهاجرين: أي منها فرسان له صلى الله عليه وسلم اللزاز والظرب، وعشرون للأنصار رضي الله عنهم: واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة زيد بن حارثة رضي الله عنهما. وقيل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه. وقيل نميلة تصغير نملة بن عبد الله الليثي رضي الله عنه، وخرج معه صلى الله عليه وسلم من نسائه عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: أي وخرج معه صلى الله عليه وسلم ناس كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قط مثلها منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وزيد بن الصلت ليس لهم رغبة في الجهاد، وإنما غرضهم أن يصيبوا من عرض الدنيا مع قرب المسافة، وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ محلا نزل به، فأتي برجل من عبد القيس فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له «أين أهلك؟» قال: بالروحاء، قال «أين تريد؟» قال: إياك جئت لأومن بك، وأشهد أن ما جئت به حق: وأقاتل معك عدوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداك للإسلام»، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة لأوّل وقتها». فكان بعد ذلك يصلي الصلاة لأول وقتها.
وأصاب صلى الله عليه وسلم عينا للمشركين وكان وجهه الحارث ليأتيه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يذكر من شأنهم شيئا، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يضرب عنقه فضرب عنقه، فلما بلغ الحارث مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قتل عينه سىء بذلك ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنه جمع كثير ممن كان معه، وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع فضربت له صلى الله عليه وسلم قبة من أدم، وكان معه فيها عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما فتهيأ المسلمون للقتال، ودفع صلى الله عليه وسلم راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وقيل لعمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، أي وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم ففعل عمر ذلك فأبوا فتراموا بالنبل ساعة. ثم أمر رسول الله أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرة، وأسر سائرهم: الرجال والنساء والذرية؛ واستاق إبلهم وشياههم، فكانت الإبل ألفي بعير، والشأء خمسة آلاف شاة، واستعمل صلى الله عليه وسلم على ذلك مولاه شقران، أي بضم الشين المعجمة، واسمه صالح، وكان رضي الله عنه حبشيا، وكان السبي مائتي أهل بيت. وفي كلام بعضهم كانوا أكثر من سبعمائة، وكانت برة بنت الحارث الذي هو سيد بني المصطلق في السبي.
وقيل أغار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم غافلون، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، أي وهذا القول هو الذي في صحيح البخاري: أي ومسلم، والأول هو الذي في السيرة الهشامية.
وجمع بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أغار عليهم ثبتوا وصفوا للقتال، ثم انهزموا، ووقعت الغلبة عليهم، أي وقتل منهم من قاتل ولم يستأسر. وكان شعار المسلمين: أي علامتهم التي يعرفون بها في ظلمة الليل أو عند الاختلاط «يا منصور؟؟؟» تفاؤلا بأن يحصل لهم النصر بعد موت عدوهم.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فكتفوا، واستعمل عليهم بريدة رضي الله عنه.
ثم فرق صلى الله عليه وسلم السبي، فصار في أيدي الناس.
أي وفي هذا دليل لقول إمامنا الشافعي رضي الله عنه في الجديد: يجوز استرقاق العرب، لأن بني المصطلق عرب من خزاعة خلافا لقوله في القديم إنهم لا يسترقون لشرفهم. وقد قال في الأمّ: لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هكذا: أي لا يجري الرق على عربي.
وبعث صلى الله عليه وسلم أبا ثعلبة الطائي إلى المدينة بشيرا من المريسيع، أي وجمع صلى الله عليه وسلم المتاع الذي وجده في رحالهم والسلاح والنعم والشاء، وعدلت الجزور بعشرة من الغنم، ووقعت برة بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس، وابن عم له، فجعل ثابت لابن عمه نخلات له بالمدينة في حصته من برة، وكاتبها أي على تسع أواق من ذهب، فدخلت عليه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله إني امرأة مسلمة: أي أسلمت لأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وإني برة بنت الحارث سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس وابن عم له، وخلصني ثابت من ابن عمه بنخلات في المدينة، وكاتبني على ما لا طاقة لي به، وإني رجوتك فأعني في مكاتبتي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو خير من ذلك؟» قالت: ما هو؟ قال: «أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك»، قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت بن قيس فطلبها منه، فقال ثابت رضي الله عنه: هي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان كاتبها عليه وأعتقها وتزوجها، أي وهي ابنة عشرين سنة، وسماها جويرية: أي وكان اسمها برة، وكذلك ميمونة، وزينب بنت جحش كان اسم كل منهما برة فغيره صلى الله عليه وسلم، وكذا كان اسم بنت أم سلمة برة فسماها زينب. ويذكر أن عليا كرم الله وجهه هو الذي أسرها.
أقول: ولا مانع أن يكون عليّ كرّم الله وجهه أسرها ثم وقعت في سهم ثابت وابن عمه رضي الله عنهما عند القسمة، لأنه لم يثبت في هذه الغزوة أنه صلى الله عليه وسلم جعل الأسرى لمن أسرهم كما وقع في بدر، إلا ما يأتي من قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ورغبنا في الفداء وقد يقال: رغبوا في الفداء بعد القسمة والله أعلم.
قال: وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كانت جويرية امرأة حلوة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم عندي ونحن على الماء: أي الذي هو المريسيع، إذ دخلت جويرية تسأله في كتابتها، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله إني امرأة مسلمة الحديث» اهـ وإنما كرهت ذلك لما جبلت عليه النساء من الغيرة.
ومن ثم جاء أنه صلى الله عليه وسلم خطب امرأة فأرسل عائشة رضي الله تعالى عنها لتنظر إليها، فلما رجعت إليه قالت: ما رأيت طائلا، فقال: «بلى لقد رأيت خالا في خدّها فاقشعرت منه كل شعرة في جسدك»، أي وفي لفظ آخر عن عائشة رضي الله عنها فما هو إلا أن وقفت جويرية بباب الخباء لتستعين رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتابتها فنظرت إليها فرأيت على وجهها ملاحة وحسنا، فأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآها أعجبته علما منها بموقع الجمال منه صلى الله عليه وسلم، فما هو إلا أن كلمته صلى الله عليه وسلم، فقال لها صلى الله عليه وسلم: «خير من ذلك، أنا أؤدي كتابتك وأتزوجك»، فقضى عنها كتابتها وتزوجها والملاح أبلغ من المليح، والمليح، مستعار من قولهم طعام مليح: إذا كان فيه الملح بمقدار ما يصلحه.
قال الأصمعي رحمه الله: الحسن في العينين، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم. وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهم على الماء الذي هو المريسيع، ويؤيده ما يأتي عنها رضي الله تعالى عنها.
قال الشمس الشامي رحمه الله: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لجويرية حتى عرف من حسنها ما دعاه لتزوجها، لأنها كانت أمة مملوكة: أي لأنها مكاتبة، ولو كانت غير مملوكة: أي حرة ما ملأ صلى الله عليه وسلم عينه منها، أو أنه صلى الله عليه وسلم نوى نكاحها، أو أن ذلك كان قبل آية الحجاب.
أقول: تبع في هذا السهيلي رحمه الله. وقد قدمنا أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز نظر الأجنبية والخلوة بها لأمنه صلى الله عليه وسلم من الفتنة، فلا يحسن قوله ولو كانت حرة ما ملأ صلى الله عليه وسلم عينه منها.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم حرمة نكاح الأمة، فلا يحسن قوله أو أنه نوى نكاحها، وأن نزول آية الحجاب كان في سنة ثلاث على الراجح.
ومذهب الشافعي رضي الله عنه: حرمة نظر سائر بدن الأمة الأجنبية كالحرة على الراجح عند الشافعية ومنهم الشمس الشامي، فلا يحسن قوله لأنها كانت أمة مملوكة، والله أعلم.
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب أي واقتسمناها وملكناها، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك» وفي لفظ «فأصبنا سبايا وبنا شهوة للنساء، واشتدت علينا العزوبة، وأحببنا الفداء، وأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فسألناه عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا عليكم أن لا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة» أي نفسا «قدّرها هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون» . وفي لفظ «ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة» وفي رواية «لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك، فإنما هو القدر» وفي رواية «ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه» أي ما عليكم حرج في عدم فعل العزل: وهو الإنزال في الفرج، لأن العزل الإنزال خارج الفرج، فيجامع حتى إذا قارب الإنزال نزع فأنزل خارج الفرج «ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» أي عزلتم أم لا فلا فائدة في عزلكم، لأن الماء قد يسبق العزل إلى الرحم فيجيء الولد، وقد ينزل في الفرج ولا يجيء الولد.
وكون ذلك كان في بني المصطلق هو الصحيح، خلافا لما نقل عن موسى بن عقبة رحمه الله تعالى أن ذلك كان في غزوة أوطاس. وقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: «قد طالت علينا العزبة واشتهينا النساء» أي لعل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ومن تكلم على لسانه كان في المدينة أعزب، وإلا فأيام تلك الغزوة لم تطل، فإنها كانت ثمانية وعشرين يوما قال أبو سعيد رضي الله عنه: فقدم علينا وفدهم: أي بالمدينة. ففي الإمتاع وكانوا قدموا المدينة ببعض السبي، فقدم عليهم أهلوهم فاقتدوا الذرية والنساء، كل واحد بست فرائض، ورجعوا إلى بلادهم.
قال أبو سعيد رضي الله عنه: وخرجت بجارية أبيعها في السوق: أي قبل أن يقدم وفدهم في فدائهم فقال لي يهودي: يا أبا أسعيد تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة هي في الأصل ولد الغنم، فقلت: كلا، إني كنت أعزل عنها، فقال: تلك الوأدة الصغرى: أي المرة من الوأد، وهو أن يدفن الرجل بنته حية، فالموؤودة البنت تدفن في القبر وهي حية، كانت الجاهلية خصوصا كندة تفعل ذلك، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرته، فقال: «كذبت يهود، كذبت يهود» زاد في رواية «لو أراد الله عز وجل أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه» وبهذا مع ما تقدم من نفي الحرج استدل أئمتنا رحمهم الله على جواز العزل مع الكراهة في كل امرأة سرية أو حرة في كل حال، سواء رضيت أم لا؛ وقال جمع بحرمته، قالوا لأنه طريق إلى قطع النسل، وفي مسلم ما يوافق ما قالته يهود. ففي مسلم سألوه صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك الوأد الخفي» أي بمثابة دفن البنت حية الذي كان يفعله الجاهلية خوف الإملاق أو خوف حصول العار.
إلا أن يقال: هذا كان منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه بحل ذلك ثم نسخ فلا مخالفة. ويدل لذلك ما في مسلم أيضا عن جابر رضي الله عنه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل فلم ينهنا وفي رواية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمنا وساقيتنا في النخل، وأنا أكره أن تحمل، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها»، فلبث الرجل ثم أتاه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الجارية قد حبلت، فقال: «قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها» فقد أرشده صلى الله عليه وسلم إلى العزل الذي لا يكون معه الولد غالبا، وأخبر بأن ذلك لا يمنع وجود ما قدر لها من حصول الولد.
وعن عبد الله بن زياد رضي الله عنه. قال أفاء أي غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة بني المصطلق جويرية بنت الحارث، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقبل أبوها في فدائها، فلما كان بالعقيق نظر إلى إبله التي يفدي بها ابنته فرغب في بعيرين منها كانا من أفضلها، فعقبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أصبتم ابنتي. وفي رواية قال: يا رسول الله كريمة لا تسبى وهذا فداؤها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين البعيران اللذان عقبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟» فقال الحارث: أشهد أنك رسول الله، ما اطلع على ذلك إلا الله وأسلم ولعله دخل بالأمان إلى المدينة. وفي رواية: أنه أسلم قبل ذلك وأسلم معه ابنان وناس من قومه وعليه فيكون قوله فأسلم: أي أظهر إسلامه، وعند ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخيرها، فقالت: أحسنت وأجملت، فقال لها أبوها: يا بنية لا تفضحي قومك، قالت اخترت الله ورسوله. وفيه كيف يأمره صلى الله عليه وسلم بتخييرها بعد أن تزوجها، كما تقدم أن مقتضى السياق أنه تزوجها وهم على الماء.
ثم رأيت الإمام أبا العباس بن تيمية أنكر مجيء أبيها وتخييرها فليتأمل.
وفي الاستيعاب: أن عبد الله بن الحارث أخا جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بني المصطلق وغيب في الطريق ذودا وجارية سوداء، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسارى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم فما جئت به؟» قال: ما جئت بشيء قال: «فأين الذود والجارية السوداء الذي غيبت في موضع كذا؟» قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما كان معي أحد ولا سبقني إليك أحد فأسلم. وفيه ما تقدّم في أبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك الهجرة حتى تبلغ برك الغماد»، هذا كلامه. والذود: من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر.
والمتبادر من هذا السياق أنه جاء بذلك الذود وتلك الجارية للفداء، فعنّ له أن يسأل في الفداء من غير شيء، فغيب ذلك الذود وتلك الجارية طمعا في أنه صلى الله عليه وسلم يجيبه لذلك لمكان أخته عنده. ويحتمل أن العبارة فيها اختصار، وحينئذ يكون الأصل في قوله صلى الله عليه وسلم فما جئت به المال الزائد على هذا الذي جئت به، فيكون الذود والجارية بعض ما جاء به للفداء؛ فقال: ما جئت بشيء: أي زائد على هذا الذي جئت به لأنه يبعد أن يطلب الفداء من غير شيء فليتأمل.
وفي لفظ أنه لما جاء أبوها في فدائها دفعت إليه ابنته جويرية وأسلمت وحسن إسلامها فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فزوّجه إياها وأصدقها أربعمائة درهم.
وفي الإمتاع يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صداقها عتق كل أسير من بني المصطلق. ويقال جعل صداقها عتق أربعين من قومها، ولا يخفى أن مجيء أبيها في فدائها وتزويجها للنبي صلى الله عليه وسلم مخالف لسياق ما تقدم أنه تزوجها وهم على الماء، ويحتاج للجمع بين ما ذكر وبين ما روي أنه لما رأى المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية قال في حق بني المصطلق: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقوا ما بأيديهم منهم.
وعبارة الإمتاع: ولما تزوّجها صلى الله عليه وسلم، خرج الخبر إلى الناس وقد اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نساءهم، فقالوا أصهار النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي.
وعن جويرية رضي الله تعالى عنها قالت: لما أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوّجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله سبحانه وتعالى.
أقول: وذكر بعضهم أن ليلة دخوله صلى الله عليه وسلم بها طلبتهم منه فوهبهم لها ويحتاج للجمع، ويقال في الجمع بين ما تقدم من فدائهم وإطلاقهم من غير فداء بأنه يجوز أن يكون الفداء وقع لبعضهم قبل عتق جويرية والتزوّج بها، فلما تزوّجها صلى الله عليه وسلم أطلق بعضهم الآخر الباقي، فالفداء وقع لبعضهم والإعتاق وقع لبعضهم الآخر، فإن السبي كان لأهل مائتي بيت. ويؤيد ذلك قول بعضهم: كان السبي منهم من منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء ومنهم من افتدى. ويؤيد ذلك ما يأتي في كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أن الإعتاق كان لأهل مائة بيت، أي فيكون الفداء لأهل مائة بيت والإطلاق في الفداء لأهل المائة الأخرى، ويكون مراد جويرية رضي الله عنها بقولها «ما كلمته في قومي» أي فيمن بقي منهم.
ثم لا يخفى أن مجيء أبيها أو أخيها ومجيء وفدهم لفدائهم مخالف لما تقدم من أنه أسر سائرهم: الرجال والنساء والذرية، ولم يفلت منهم أحد، ويبعد غياب هؤلاء خصوصا أباها الذي كان يجمع القوم، فعليك أن تتنبه للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها والله أعلم. ثم بعد ذلك أسلم بنو المصطلق. وبعد بعامين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط لأخذ الصدقة: أي وكان بينهم وبينه شحناء في الجاهلية، فخرجوا للقائه وهم متقلدون السيوف فرحا وسرورا بقدومه، فتوهم أنهم خرجوا لقتاله ففر راجعا، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ارتدوا، فهمّ عليه الصلاة والسلام بقتالهم: أي وأكثر المسلمون ذكر غزوهم، فعند ذلك قدم وفدهم وأخبروا بأنهم خرجوا إليه ليكرموه ويؤدوا ما عليهم من الصدقة.
أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم خالد بن الوليد فأخبروه الخبر. وعند إرساله قال له صلى الله عليه وسلم أرمقهم عند الصلاة فإن كان القوم تركوا الصلاة فشأنك بهم، فدنا منهم عند غروب الشمس، فكمن حيث يسمع الصلاة، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس فأذن ثم أقام الصلاة فصلوا المغرب، ثم لما غاب الشفق أذن مؤذنهم ثم أقام الصلاة فصلوا العشاء، ثم لما كان جوف الليل فإذا هم يتهجدون ثم عند طلوع الفجر أذن مؤذنهم وأقام الصلاة فصلوا، فلما انصرفوا وأضاء النهار فإذا هم بنواصي الخيل في ديارهم. فقالوا ما هذا؟ قيل خالد بن الوليد. فقالوا يا خالد ما شأنك؟ قال: أنتم والله شأني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله، فجثوا يبكون وقالوا معاذ الله، وهذا الوليد بيننا وبينه شحناء في الجاهلية، وإنما خرجنا بالسيوف خشية أن يكافئنا بالذي كان بيننا وبينه، فرد الخيل عنهم ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] الآيتين.
قال ابن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ} [الحجرات: 6] نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق لأخذ صدقاتهم: أي ونزل فيه وفي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السّجدة:18] أي فكان يدعى الفاسق، وبعثه لأخذ صدقات بني المصطلق يرد قول من قال إنه ممن أسلم يوم الفتح، وكان قد ناهز الحلم.
أي ويرد ما روى بعضهم عنه أنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة فأتي بي إليه وأنا مضمخ بالخلوق، فلم يمسح على رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا وجود الخلوق.
ويرد ذلك أيضا ما سيأتي أنه خرج هو وأخوه عمارة ليرد أختهما أم كلثوم عن الهجرة وكانت هجرتها في الهدنة: هدنة الحديبية.
والوليد هذا كان أخا عثمان بن عفان لأمه وولاه الكوفة: أي وعزل عنها سعد بن أبي وقاص، فلما قدم الوليد الكوفة على سعد رضي الله عنه قال له: والله ما أدري أصرت كيسا بعدنا أم حمقنا بعدك، فقال له: لا تجزعنّ أبا إسحاق وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون، فقال سعد: أراكم- يعني بني أمية- ستجعلونها والله- يعني الخلافة- ملكا، وعند ذلك قال الناس: بئسما فعل عثمان رضي الله عنه، عزل سعدا الهين اللين الورع المستجاب الدعوة، وولى أخاه الخائن الفاسق كما تقدم.
ولقي الوليد ابن مسعود رضي الله عنه فقال له: ما جاء بك؟ فقال: جئت أميرا. فقال له ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس؟ وكان الوليد شاعرا ظريفا حليما شجاعا كريما، شرب الخمر ليلة من أول الليل إلى الفجر، فلما أذن المؤذن لصلاة الفجر خرج إلى المسجد وصلى بأهل الكوفة الصبح أربع ركعات، وصار يقول في ركوعه وسجوده اشرب واسقني، ثم قاء في المحراب، ثم سلم وقال: هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا، وأخذ فردة خفه وضرب بها وجه الوليد، وحصبه الناس، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنح، وإلى ذلك يشير الحطيئة بقوله:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم*** أأزيدكم سكرا وما يدري
ولما شهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان بن عفان رضي الله عنه استقدمه، وأمر به فجلد: أي أمر عليا كرم الله وجهه أن يقيم عليه الحدّ فجلده. وقيل: فقال عليّ كرم الله وجهه لابن أخيه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: أقم عليه الحدّ أي بعد أن أمر ابنه الحسن رضي الله عنه بذلك فامتنع، فأخذ عبد الله رضي الله عنه السوط وجلده وعليّ كرم الله وجهه يعدّ عليه حتى بلغ أربعين. فقال لعبد الله: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين، وكل سنة. وهذا: أي ما فعلته من جلده أربعين أحبّ إليّ من جلد عمر ثمانين.
هذا، وفي البخاري أن عبد الله جلده ثمانين. وأجيب عنه بأن السوط كان له رأسان وحينئذ يكون قوله «وكل سنة» أي طريقة، فأربعون طريقته صلى الله عليه وسلم. وطريقة الصديق رضي الله عنه، والثمانون طريقة عمر رضي الله عنه رآها اجتهادا مع استشارته لبعض الصحابة في ذلك، لما رآه من كثرة شرب الناس للخمر.
وبعد أن جلده وعزله عن الكوفة أعاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ولما أراد سعد أن يصعد المنبر قال: لا أصعد عليه حتى تغسلوه من آثار الوليد الفاسق فإنه نجس فغسلوه كما تقدم.
وإرسال الوليد بن عقبة لبني المصطلق كان ينبغي أن يذكر في السرايا، وكذا إرسال خالد رضي الله عنه لهم.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية، أعتق بتزويجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مائة بيت، أي ومن المعلوم أن هذا كان قبل سبايا أوطاس الذين أطلقوا بسبب أخته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة على ما سيأتي في بعض الروايات وقيل في حقها: ما عرفت امرأة هي أيمن على قومها منها.
وذكرت جويرية رضي الله عنها أنها قبل قدومه صلى الله عليه وسلم عليهم بثلاث ليال رأت كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجرها. أي وعنها رضي الله عنها قالت: فكرهت أن أخبر بها أحدا من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا.
قال وعنها رضي الله عنها أنها قالت: لما أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به فلبثت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعلمت أنه رعب من الله تعالى يلقيه في قلوب المشركين، أي وهذا مما يؤيد ما تقدّم من أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجها وهم على الماء الذي هو المريسيع، وكان رجل منهم ممن أسلم وحسن إسلامه يقول: لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق ما كنا نراهم قبل ولا بعد وهو يدل على أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانت مددا لهم في هذه الغزوة.
ولم يقتل في غزوة بني المصطلق من المسلمين إلا رجل واحد قتله رجل من الأنصار خطأ يظنه من العدوّ، والمقتول هشام بن صبابة رضي الله تعالى عنه.
أقول: وهذا مجمل قول الحافظ الدمياطي رحمه الله في سيرته: إنه لم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد فاعتراض صاحب الهدى عليه بأن هذا وهم لأنهم لم يكن بينهم قتال ليس في محله، لأنه فهم أن الرجل قتله الكفار، وقد علمت أنه إنما قتله شخص من الأنصار يظنه من العدوّ، والله أعلم، وقدم أخو هذا المقتول من مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرا الإسلام وقال: جئت أطلب دية أخي، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه، فأخذها مائة من الإبل، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا، ويوم فتح مكة أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فقتل في ذلك اليوم كما سيأتي.
وما هنا هو الصحيح خلافا لما يأتي عن الأصل في فتح مكة أن قتل أخيه كان في غزوة ذي قرد ثم بعد انقضاء الحرب وهم على الماء اختصم أجير لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أي كان يقود له فرسه يقال له جهجاه رضي الله عنه مع رجل من حلفاء الخزرج، قيل حليف عمرو بن عمرو، وقيل حليف عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وهو سنان بن فروة رضي الله عنه، أي فضرب أجير عمر رضي الله عنه حليف الخزرج فسال الدم، وفي لفظ: كسعه، أي دفعه، فنادى حليف الخزرج؛ يا معشر الأنصار، أي وقيل قال: يا للخزرج، ونادى أجير عمر يا معشر المهاجرين، وقيل قال: يا لكنانة يا لقريش، فأقبل جمع من الجيشين، وشهروا السلاح حتى كاد أن تكون فتنة عظيمة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» فأخبر بالحال. أي فقالوا رجل من المهاجرين ضرب رجلا من الأنصار. فقال صلى الله عليه وسلم: «دعوها، أي تلك الكلمة التي هي يا لفلان فإنها منتنة»، أي مذمومة لأنها من دعوى الجاهلية، وجاء «من دعا دعوى الجاهلية كان من محشي جهنم» أي مما يرمى به فيها قيل: يا رسول الله وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم، قال: «وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم» وقال صلى الله عليه وسلم «لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه ناصر، أي له، وإن كان مظلوما فلينصره» أي يزيل ظلامته، ثم كلموا ذلك المضروب فترك حقه، فسكنت الفتنة وانطفت ثائرة الحرب.
وجهجاه هذا روى عنه عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد» وهو المراد بهذا الحديث في كفره وإسلامه، لأنه شرب حلاب سبع شياه قبل أن يسلم ثم أسلم، فلم يستتم حلاب شاة واحدة، أي وسيأتي نظير ذلك لثمامة الحنفي.
ونقل أبو عبيد أن الرجل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة هو أبو بصرة الغفاري، أي ولا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حق الرجل المذكور أيضا، فقد تكرر منه صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات لرجال ثلاثة أكل كل واحد منهم في الكفر أكثر مما أكل في الإسلام.
قال ابن عبد البر رحمه الله: وجهجاه هذا هو الذي تناول عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يد عثمان رضي الله عنه وهو يخطب فكسرها على ركبته، فأخذته أكلة في ركبته فمات منها، هذا كلامه.
وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه انتزع تلك العصا من عثمان حين أخرج من المسجد ومنع من الصلاة فيه؛ وكان هو أحد المعينين عليه هذا كلامه.
وقد يقال: لا مخالفة بين كونه أخذ العصا منه وهو يخطب وبين كونه أخذها حين أخرج من المسجد، لأنه يجوز أن يكون أخرج من المسجد في أثناء الخطبة وأخذت العصا منه حينئذ.
وعند تخاصم الرجلين غضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكان عنده رهط من قومه من الخزرج من المنافقين، وكان عندهم زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه وهو غلام حديث السن، فقال عبد الله بن أبيّ لعنه الله: والله ما رأيت كاليوم مذلة، أو قد فعلوها؟ نافرونا، أي غلبونا وكاثرونا في بلادنا، أي وأنكرونا ملتنا، والله ما أعدّنا: أي أظننا يعني معاشر الأنصار وقريش. وفي رواية: وجلابيب قريش، هؤلاء يعني معاشر المهاجرين إلا كما قال الأول، أي الأقدمون في أمثالهم: سمن كلبك يأكلك، أي ويقولون: أجع كلبك يتبعك، والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما سمعت أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني بالأعز نفسه، وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الاستيعاب أن عبد الله بن أبيّ قال ذلك في غزوة تبوك، هذا كلامه، وفيه نظر ظاهر.
والجلابيب: جمع جلبيب ما يجلب من بلد إلى غيره يعني أغراب. وقيل شبهوا بالجلابيب التي هي الأزر الغلاظ القليلة القيمة.
ثم أقبل على من حضر من قومه. فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، أي ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقتلتم دونه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فأيتمتم أولادكم، وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فسمع ذلك زيد بن أرقم رضي الله عنه على ما هو الصحيح، وقيل سفيان بن تيم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي ونفر من المهاجرين والأنصار.
وفي البخاري عن زيد بن أرقم رضي الله عنه فذكرت ذلك لعمي أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني فحدثته، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وتغير وجهه، وقال له: «يا غلام لعلك غضبت عليه»، قال: والله يا رسول الله لقد سمعته منه، قال: «لعله أخطأ سمعك، ولامه من حضر من الأنصار»، وقالوا: عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل .
أي وفي البخاري فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأصابني همّ لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت أي الخباء «فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك، فقال زيد: والله لقد سمعت ما قال، ولو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن ينزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يصدق حديثي» .
أي وقيل إن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال لابن أبيّ لما قال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل: أنت والله الذليل المنقص في قومك: ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن وقوة من المسلمين، فقال له ابن أبيّ لعنه الله: اسكت، فإنما كنت ألعب، فعند تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه عمر رضي الله عنه في أن يقتل ابن أبي، والتمس منه أن يأمر غيره بقتله إذا لم يأذن له في ذلك.
أي فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان من أمر ابن أبيّ ما كان، جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فيء شجرة: أي ظلها، عنده غليم أسود يغمز ظهره أي يكبسه. فقلت يا رسول الله كأنك تشتكي ظهرك: فقال «تقحمت بي الناقة: أي ألقتني الليلة» فقلت يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنق ابن أبيّ، أو مر محمد بن مسلمة بقتله. أي وفي رواية مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف يا عمر إذا تحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه».
وفي لفظ أن عمر رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصاريا»؛ فقال: ترعد له أذن وأنف كثيرة بيثرب يعني المدينة، ولعل تسميته صلى الله عليه وسلم لها بذلك إن كان بعد النهي لبيان الجواز.
ويبعد أن يكون ذلك كان قبل النهي عن ذلك ولكن أذن بالرحيل، وكان ذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها.
أي وفي رواية: لما شاع الخبر ولم يكن للناس حديث في ذلك اليوم. أي الوقت إلا ذلك، أذن بالرحيل، وكانت ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحل فيها، أي لشدة الحر، فارتحل الناس وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه أسيد بن حضير رضي الله عنه فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه، أي قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقال: يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها، أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرحل إلا إن برد الوقت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما بلغك ما قال صاحبكم»، فقال: أي صاحب يا رسول الله؟ قال «عبد الله بن أبي ابن سلول»، قال وما قال؟ قال:
«زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل»، قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله أرفق به فو الله لقد جاء الله بك. وفي رواية لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي، فإنه ليرى أنك استلبته ملكا، وقد تقدم الاعتذار عنه بذلك في غير ما مرة.
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس سيرا حثيثا أي صار يضرب راحلته بالسوط في مراقها: أي مارق من جلد أسفل بطنها، وسار يومهم ذلك وليلتهم، وصدر ذلك اليوم الثاني حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، وإنما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ليشتغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي ابن سلول.
قال وذهب بعض الأنصار الذين سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ورده على الغلام إلى ابن أبي لعنه الله. فقال له: يا أبا الحباب إن كنت قلت ما نقل عنك فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فليستغفر لك، ولا تجحده فينزل فيك ما يكذبك وإن كنت لم تقله فائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له واحلف له ما قلته، فحلف بالله العظيم ما قاله من ذلك شيئا، ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أبيّ إن كانت سبقت منك مقالة فتب، فجعل يحلف بالله ما قلت ما قال زيد، وما تكلمت به.
أي وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى ابن أبي فأتاه، فقال له: «أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني عنك؟» فقال: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا لكاذب، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.
أي، وفي لفظ أنهم قالوا: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا يصدق عليه كلام غلام.
ثم إن عبد الله رضي الله عنه ولد عبد الله بن أبي ابن سلول، أي وكان اسمه الحباب، فسماه صلى الله عليه وسلم يوم موت أبيه عبد الله لما بلغه مقالة عمر رضي الله عنه من قتل أبيه، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي يعني والده فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني أن أحمل لك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا».
قال وفي رواية، فمرني، فو الله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، فعفوك أفضل، ومنتك أعظم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أردت قتله، ولا أمرت به ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا»، فقال عبد الله: يا رسول الله إن أبي كانت أهل هذه البحيرة أي المدينة، اتفقوا على أن يتوّجوه عليهم، فجاء الله عز وجل بك فوضعه ورفعنا بك، أي زاد في رواية: ومعه قوم أي من المنافقين يطيفون به ويذكرونه أمورا قد غلب الله عليها، وتقدم أنه وقع لعبد الله رضي الله عنه مثل ذلك مع أبيه.
روى الدارقطني مسندا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على جماعة فيهم عبد الله بن أبي، فسلم عليهم ثم ولى، فقال عبد الله: لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد الله، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأتيه برأس أبيه، فقال «لا ولكن بر أباك»، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب المدينة هاجت ريح شديدة تخوفوها كادت تدفن الراكب أي خافوا أن تكون لأمر حدث بالمدينة على أهلهم، فإن مدة الموادعة التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيينة بن حصن كان ذلك حين انقضائها، فخافوا على المدينة منه فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس عليكم منه» يعني من عيينة بن حصن «بأس، ما بالمدينة من نقب» أي باب «إلا وملك يحرسه، وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكن تعصف هذه الريح لموت عظيم من الكفار» وفي رواية «لموت منافق» وفي لفظ «مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة» فكان كما قال صلى الله عليه وسلم مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة بن التابوت وكان كهفا للمنافقين، كان من عظماء يهود بني قينقاع وكان ممن أسلم ظاهرا، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:
وقد عصفت ريح فأخبرت أنها *** لموت عظيم في اليهود بطيبة
قال: وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته، فقد جاء أن عبادة بن الصامت قال لابن أبي: يا أبا حباب مات خليلك قال: أيّ خليل؟ قال: من موته فتح للإسلام وأهله، قال: من؟ قال: زيد بن رفاعة. قال: واويلاه من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟
قال، قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه مات هذه الساعة، فحزن حزنا شديدا. انتهى وذكر أهل المدينة أن هذه الريح وجدت بالمدينة، وأنه لما دفن عدوّ الله سكنت.
أقول لكن في كلام ابن الجوزي رفاعة بن زيد بن التابوت، وهو عمّ قتادة بن النعمان، قد ذكر عنه قتادة رضي الله تعالى عنه ما يدل على صحة إسلامه.
أي وقد يقال: جاز أن يكون أظهر ذلك لقتادة ليظن به ما ظنه من صحة إسلامه.
قال ابن الجوزي: ولهم رفاعة بن التابوت معدود في الصحابة ذكره في الإصابة. قال: جاء ذكره في حديث مرسل، كانوا في الجاهلية إذا أحرموا لم يأتوا بيتا من قبل بابه، ولكن من قبل ظهره، إلا الحمس فإنها كانت تأتي البيوت من أبوابها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا ثم خرج من بابه، فأتبعه رجل يقال له رفاعة بن التابوت ولم يكن من الحمس. فقالوا: يا رسول الله نافق رفاعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما حملك على ما صنعت ولم تكن من الحمس؟ قال: فإن ديننا واحد، فنزلت {وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] وسيأتي نحو هذه القصة لقطبة بن عامر ولعلها وقعت لهما.
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم إن ريحا عظيمة هبت فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنها هبت لموت منافق عظيم النفاق» وهو رفاعة بن التابوت، فهو آخر غير هذا. فقد جاء من وجه آخر «رافع بن التابوت» أي فذكر رفاعة بدل رافع من تصرف بعض الرواة.
وذكر في الإصابة أن رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان رضي الله عنه لم يوصف بأنه ابن التابوت كما ذكره ابن الجوزي، أي فوصفه بابن التابوت من تصرف بعض الرواة، فليتأمل والله أعلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ناسا من المنافقين اغتابوا ناسا من المؤمنين فلذلك هاجت هذه الريح» ولم يعين جابر السفرة، فيحتمل أن تكون هي هذه الغزوة وهو ظاهر سياقها فيها.
ويحتمل أن تكون غيرها، وفقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء من بين الإبل:أي ليلا.
فجعل المسلمون يطلبونها من كل وجه، فقال زيد بن الصلت وكانت منافقا كما علمت من بني قينقاع وكان بمجمع من الأنصار: أي يذهب هؤلاء في كل وجه، قالوا يطلبون ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضلت، قال: أفلا يخبره الله بمكانها، أي وفي لفظ: كيف يدعي أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ولا يخبره الذي يأتيه بالوحي، فأنكر عليه القوم؛ وقالوا قاتلك الله يا عدوّ الله نافقت، وأرادوا قتله فعمد هاربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متعوذا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذلك الرجل يسمع: «إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ألا يخبره الله بمكانها، والله قد أخبرني بمكانها، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإنها في الشعب مقابلكم، قد مسك زمامها بشجرة، فاعمدوا نحوها»، فذهبوا فأتوا بها من حيث قال صلى الله عليه وسلم، فقام ذلك الرجل سريعا إلى رفقائه، فقالوا له حين دنا لا تدن منا، فقال لهم: أنشدكم الله، هل أتى أحد منكم محمدا فأخبره خبري، قالوا: لا والله، ولا قمنا من مجلسنا، فقال: إني وجدت ما تكلمت به عنده، فأشهد أن محمدا رسول الله كأني لم أسلم إلا اليوم فقالوا له: فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فذهب إليه واعترف بذنبه واستغفر له، قال: ويقال إنه لم يزل فشلا أي جبانا حتى مات ووقع مثل هذا أي هبوب الريح وإضلال ناقته صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
وأوقع صلى الله عليه وسلم السباق بين الإبل، فسابق بلال رضي الله عنه على ناقته صلى الله عليه وسلم القصواء فسبقت غيرها من الإبل، وسابق أبو سعيد الساعدي رضي الله عنه على فرسه صلى الله عليه وسلم الذي يقال له الظرب فسبق غيره من الخيل اهـ.
أي وجاء أن ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء كانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم «حقّ على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» اهـ.
أقول في الإمتاع: أنه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة تسابق مع عائشة رضي الله عنها فتحزمت بقبائها، وفعل كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استبقا فسبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: «هذه بتلك التي كنت سبقتني»، يشير صلى الله عليه وسلم إلى أن جاء إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه فوجد مع عائشة شيئا فطلبه منها فأبت وسعت، وسعى صلى الله عليه وسلم خلفها فسبقته.
هذا. وفي كلام ابن الجوزي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: «تقدموا» فتقدموا. ثم قال: «تعالى حتى أسابقك»، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم وخرجت معه في سفرة أخرى. فقال للناس: «تقدموا»، فتقدموا. ثم قال لي «تعالي حتى أسابقك»، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: «هذه بتلك» فليتأمل.
قال: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي العقيق تقدّم عبد الله رضي الله عنه ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول وجعل يتصفح الركاب حتى مرّ أبوه، فأناخ به ثم وطىء على يد راحلته، فقال أبوه ما تريد يا لكع، فقال: والله لا تدخل حتى تقرّ أنك الذليل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعلم أيضا الأعز من الأذل، أنت أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصار يقول لأنا أزل من الصبيان، لأنا أزل من النساء، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خلّ عن أبيك، فخلى عنه.
أي وفي لفظ أنه لما جاء قال له ابنه: وراءك قال: ما لك ويلك قال: والله لا تدخلها يعني المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم اليوم من الأعز من الأذل: وفي لفظ: حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنت الأذل، فقال له: أنت من بين الناس، فقال: نعم أنا من بين الناس، وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكا له ما صنع ابنه رضي الله عنه، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى ابنه أن خلّ عنه. وفي لفظ قال له ابنه رضي الله عنه: لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك، فقال: ويحك أفاعل أنت؟ قال نعم، ولما رأى منه الجد قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنه: «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا».
وأنزل الله تعالى سورة المنافقين. قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذه البرحاء، ويعرق جبينه الشريف، وتثقل يدا راحلته، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورجوت أن ينزل الله تصديقي. فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بأذني وأنا على راحلتي يرفعها إلى السماء حتى ارتفعت عن مقعدي وهو يقول: وعت أذنك يا غلام، وصدق الله حديثك، وكذب المنافقين.
وفي رواية «هذا الذي أوفى الله بأذنه، ونزل {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقّة:12] فكان يقال لزيد بن أرقم رضي الله عنه ذو الأذن الواعية.
وذكر بعض الرافضة أن قوله تعالى {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقّة:12] جاء في الحديث أنها نزلت في علي كرم الله وجهه. قال الإمام ابن تيمية: وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم: أي وعلى تقدير صحته لا مانع من التعدد.
وصار قوم عبد الله بن أبي عند نزول سورة المنافقين يعاتبونه ويعنفونه، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أي بغض قومه له ومعاتبتهم له، قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «كيف ترى يا عمر، إني والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته»، فقال عمر رضي الله عنه: وقد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري اهـ.
وجاء أنه لما نزلت سورة المنافقين وفيها تكذيب ابن أبيّ، قال له أصحابه:
اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة أموالي فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} [المنافقون:5] الآية .
وفي تفسير القرطبي عند قوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] قال السدي: نزلت في عبد الله بن أبيّ، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: بالله يا رسول الله، أما أبقيت فضلة من شرابك أسقها أبي لعل الله يطهر بها قلبه، فأفضل له فأتاه بها؟ فقال له عبد الله: ما هذا؟ فقال هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها، فقال له أبوه، فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بالله أما أذنت لي في قتل أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل ترفق به وتحسن إليه».
وقد جاء أن ابنه رضي الله عنه قال: يا رسول الله ذرني أسقي والدي من وضوئك لعل قلبه أن يلين، فتوضأ صلى الله عليه وسلم وأعطاه فذهب به إلى أبيه، فسقاه وقال له هل تدري ما سقيتك؟ قال: نعم، سقيتني بول أمك، قال: لا والله لكن سقيتك بول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هلال رمضان، فكانت غيبته ثمانية وعشرين ليلة.
قال: وفي هذه الغزوة جاءت امرأة بابن لها وقالت يا رسول الله هذا ابني غلبني عليه الشيطان، ففتح صلى الله عليه وسلم فم الولد وبزق فيه وقال: «اخسأ عدو الله، أنا رسول الله»، قال ذلك ثلاثا. ثم قال للمرأة: «شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه» .
وفي هذه الغزوة جاء شخص بثلاث بيضات له صلى الله عليه وسلم من بيض النعام فقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه «دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات». قال جابر: فعملتهنّ ثم جئت بهنّ، فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد، فجعل كلّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكل من ذلك بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته والبيض كما هو.
وفي هذه الغزوة جاء جمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفل أي يختال في مشيه وصوت، فقال صلى الله عليه وسلم: «تدرون ما يقول هذا الجمل؟ هذا يستعيذني على سيده، يقول: إنه كان يحرث عليه، وإنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به»، فقلت: لا أعرفه، قال: «إنه سيدلك عليه»، فخرج بين يديّ حتى وقف على صاحبه فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في شأن الجمل اهـ.
أقول: وقد تقدمت هذه الأمور الثلاثة التي هي قصة ابن المرأة، وقصة البيض، وقصة الجمل في ذات الرقاع، والتعدد فيهما حتى لأجل هذه الأمور سميت كل منهما بغزوة الأعاجيب بعيد. والذي أراه أنه اشتباه من بعض الرواة فليتأمل.
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك: أي الكذب على عائشة الصديقة المبرأة المطهرة رضي الله عنها قالت «لما دنونا من المدينة قافلين» أي راجعين «أذن ليلة بالرحيل، فقمت وذهبت لأقضي حاجتي حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع أظفار» كذا بالألف عند البخاري. وفي رواية «ظفار» بغير ألف. قال القرطبي: ومن قيده بالألف فقد أخطأ، أي ولعل المراد خالف الرواية، وفي لفظ «ظفاريّ» أي بياء النسبة. وفي لفظ «الجزع الظفري» .
وقد يقال: لا مانع من وقوع هذه الألفاظ من الصديقة في أوقات مختلفة. قال بعضهم: الجزع بفتح الجيم وإسكان الزاي وآخره عين مهملة خرز «وطفار» بالطاء المعجمة كوبار مبنية على الكسر: قرية من قرى اليمن كان ثمنه يسيرا. وفي كلام بعضهم: كان يساوي اثني عشر درهما «قد انقطع، فالتمست عقدي» أي ذهبت إلى التماسه في المحل الذي قضيت فيه حاجتي وحبسني التماسه «أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي» هو بتخفيف الحاء: أي يجعلون هودجها على الرحل، «فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لقلة أكلهنّ» أي لأن السمن وكثرة اللحم غالبا تنشأ عن كثرة الأكل «وساروا» . أي وعن عائشة رضي الله عنها أن الذي كان يرحل هودجها ويقود عبيرها أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا صالحا. ولا يخالف هذا قولها وأقبل الرهط إلى آخره. وقولها في بعض الروايات «ولم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه» لأنه يجوز أن جماعة كانوا يعاونون أبا مويهبة في ذلك «فوجدت عقدي، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، وأقمت بمنزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان السلمي خلف الجيش» : أي لأنه كان على ساقة الجيش يتخلف عن الجيش ليلتقط ما يسقط من المتاع. وقيل كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتحل الناس.
وقد جاء أن زوجته شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: إنه لا يصلي الصبح، فقال: يا رسول الله إني امرؤ ثقيل النوم لا أستيقظ حتى تطلع الشمس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظت فصلّ» أي وفي رواية شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضربها، فقال: إنها تصوم بغير إذني، فقال لها «لا تصومي إلا بإذنه» قالت: إنه ينام عن الصلاة، أي صلاة الصبح، قال «إنه شيء ابتلاه الله به، فإذا استيقظ فليصلّ» وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم من حاله أنه ينام عن صلاة الصبح قالت إنه إذا سمعني أقرأ يضربني فقال: إن معي سورة ليس معي غيرها هي تقرؤها، قال: «لا تضربها، فإن هذه السورة لو قسمت في الناس لوسعتهم» أي وهذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم يدل على أن صفوان ظنّ أن امرأته إذا قرأت تلك السورة شاركته في ثوابها فليتأمل.
«فأدلج: أي سار ليلا فأصبح عند منزلي» أي على خلاف عادته «فرأى سوادا» أي شخص إنسان نائم «فأتاني فعرفني، فاستيقظت باسترجاعه» أي بقوله: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] أي لأن تخلف أمّ المؤمنين عن الرفقة في مضيعة: مصيبة أي مصيبة، قالت: فخمرت وجهي بجلبابي» وهو ثوب أقصر من الخمار، ويقال له المقنعة تغطي بها المرأة رأسها: أي لأن ذلك كان بعد نزول آية الحجاب أي {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ} [الأحزاب:53] الآية أي لأنه تقدم أن ذلك كان في سنة ثلاث على الراجح عند الأصل.
وفي الإمتاع وذكر بعض علماء الأخبار أن تزوجه صلى الله عليه وسلم زينب التي نزلت آية الحجاب بسببها كان في ذي القعدة سنة خمس، ولا يخفى أن هذا القول ينافيه ما يأتي عن عائشة رضي الله عنها من قولها «إن زينب هي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم» إذ هو صريح في أنها كانت زوجة له صلى الله عليه وسلم قبل هذه الغزوة بناء على أن هذه الغزوة كانت سنة ست.
«قالت والله ما كلمني» وفي لفظ «والله ما يكلمني كلمة، وما سمعت منه كلمة» أي فلا كلمها ولا كلم نفسه، قيل استعمل الصمت أدبا لهول هذا الأمر الذي هو فيه، فلم يقع منه غير الاسترجاع حين أناخ ناقته فوطىء على يدها فركبتها. وفي رواية «ثم قرب البعير، فقال اركبي أي وفي لفظ قال أمه قومي فاركبي، وأخذ برأس البعير» وجاء «أنها لما ركبت، قالت حسبي الله ونعم الوكيل» .
وفي سيرة ابن هشام «أنه لما قال لها ما خلفك يرحمك الله؟ قالت فما كلمته» أي ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات الثلاث وما قبلها على تقدير صحتها.
وقد يقال إنها لم تسمع منه غير استرجاعه ولا كلمها ولا تكلم قبل أن يقرب إليها البعير كما علمت، فلما قرب البعير إليها، قال لها: يا أمه قومي فاركبي» لأن إناخة البعير وتقريبه ليس صريحا في الإذن لها في الركوب. فأتى بذلك اللفظ الدالّ على مزيد احترامها وإجلالها وتعظيمها. وبعض الرواة اقتصر على قولها اركبي «وبعد أن ركبت، أي وحصلت الطمأنينة، واندفعت الريبة، قال لها متعجبا لا مستفهما: ما خلفك؟ قالت: فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا، وذلك في نحر الظهيرة» أي وسطها «وهو بلوغ الشمس منتهاها من الارتفاع» .
وبهذه الواقعة استدل فقهاؤنا على أنه يجوز الخلوة بالمرأة الأجنبية إذا وجدها منقطعة ببرية أو نحوها. بل يجب استصحابها إذا خاف عليها لو تركها.
هذا، وفي الخصائص الصغرى، وفي معاني الآثار للطحاوي رحمه الله. قال أبو حنيفة كان الناس لعائشة رضي الله عنها محرما، فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم وليس غيرها من النساء كذلك.
أي وقوله وليس غيرها من النساء كذلك يشمل بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فليتأمل الفرق بينها وبين بقية أمهات المؤمنين فيما ذكر. وفيما سيأتي عن بعضهم أن من قذف عائشة يقتل، ويحدّ في غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم حدين.
«قالت عائشة رضي الله عنها: فلما نزلنا هلك من هلك بقول البهتان والافتراء، والذي تولى كبره» أي معظمه عبد الله بن أبيّ ابن سلول، أي فإنه كان أول من أشاعه في العسكر، أي فإنه كان ينزل مع جماعة المنافقين متبدين من الناس «فمرت عليهم فقال من هذه؟ قالوا: عائشة وصفوان. فقال: فجربها ورب الكعبة، وفي لفظ ما برئت منه وما برىء منها وفي لفظ والله ما نجت منه ولا نجا منها، وصار يقول: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت. ثم أشاع ذلك في المدينة بعد دخولهم لها لشدّة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم» أي والذي في البخاري «كان يتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه» أي يستخرجه بالبحث عنه.
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون هو أول من أشاعه عند دخول المدينة، ثم صار يستخرجه بالبحث عنه ليكثر إشاعته «قالت: فقدمنا المدينة، فاشتكيت» أي مرضت «حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك» أي ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أبويّ ولا أشعر بشيء من ذلك، وكان يريا بني أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي أي حين أمرض، واللطف بضم اللام وسكون الطاء. وقيل بفتح اللام والطاء، وهو من الإنسان الرفق، ومن الله التوفيق «إنما يدخل عليّ فيسلم» أي وعندي أمي تمرضني، ثم يقول: كيف تيكم» أي لا يزيد على ذلك «ثم ينصرف، فلذاك الذي يريا بني حتى خرجت بعد ما نقهت» بكسر القاف وفتحها «أي أول ما أفقت من المرض، فخرجت معي أمّ مسطح وهي بنت خالة أبي بكر» أي وما في لفظ «وكان مسطح ابن خالة أبي بكر هو على ضرب من التجوز والمسامحة «وكان مسطح يتيما في حجر أبي بكر» وكان فقيرا ينفق عليه أبو بكر، قالت: وخروجنا كان إلى المحل الذي تخرج إليه النساء ليلا، أي لقضاء حاجة الإنسان، وذلك قبل أن تتخذ الكنف» أي فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن نحو المنصع: وهو محل متسع. قالت: فلما فرغنا من شأننا وأقبلت عثرت أم مسطح في مرطها» أي إزارها «فقالت: تعس مسطح» بفتح العين وكسرها: هلك مسطح تعني ولدها، ومسطح في الأصل عمود الخيمة: قلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: يا هنتاه» بفتح الهاء الأولى وسكون النون وضم الهاء الثانية: أي يا هذه أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك: فازددت مرضا على مرضي أي عاودني المرض وازددت عليه أي وفي لفظ فخرّت مغشيا عليها .
وفي رواية «خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح قد حملت السطل وفيه ماء فعثرت ووقع السطل منها، فقالت: تعس مسطح، فقلت: أي أم تسبين ابنك، فسكتت ثم عثرت الثانية، فقالت: تعس مسطح، فقلت: أي أم تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح فنهرتها، فقالت: والله ما أسبه إلا فيك، فقلت: في أي شأني؟ فبقرت» أي كشفت لي الحديث، فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم، فأخذتني حمى نافضة ورجعت إلى بيتي، فلما رجعت إلى بيتي مكثت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعد أن سلم: «كيف تيكم؟» فقلت: أتأذن لي أن آتي بيت أبويّ؟ وأنا أريد أن أتثبت الخبر من قبلهما، أي لأن أمها فارقتها لما نقهت من المرض، وذهبت إلى بيتها، فلا ينافي ما سبق من قولها: وعندي أمي تمرّضني «قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبويّ، أي وأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل وأبا بكر فوق يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بك؟ فأخبرتها» فذهابها إلى أبويها كما علمت كان بعد أن صحت من المرض وبعد إخبار أم مسطح لها بالقصة.
والذي في السيرة الهشامية يفيد أنه كان قبل ذلك، وهو أنها رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم كلما يدخل يقول: «كيف تيكم» لا يزيد على ذلك حتى وجدته في نفسي، فقلت: يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه: لو أذنت لي؟ قال: «لا عليك»، قالت: فانتقلت إلى أمي تمرضني ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم أي بيوت الأخلية نعافها ونكرهها، إنما كنا نذهب في فسح المدينة، فخرجت ليلة ومعي أم مسطح بنت خالة أبي بكر، إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح، قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدرا، قالت: أو ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قلت: أو قد كان هذا، قالت: نعم، والله لقد كان، فو الله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت، فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي فليتأمل الجمع بين ما في السيرة الهشامية وما في غيرها على تقدير صحتهما.
«قالت: وقلت لأمي يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدّثوا به لا تذكرين لي من ذلك شيئا» الحديث. وفي رواية «فقلت لأمي يا أماه يتحدّث الناس» وفي لفظ «قلت لأمي يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدثوا ألا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: يا بنية هوّني عليك» وفي لفظ «خفضي عليك الشأن، فو الله لقلما ما كانت امرأة قط وضيئة» أي جميلة «عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها» أي القول في تنقيصها.
وفيه أن ضرائرها أمهات المؤمنين لم يكنّ السبب في إشاعة ذلك ولم ينقصنها به، إلا أن يقال ظنت أمها ذلك على ما هو العادة في ذلك «وعند ذلك قالت: فقلت: سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا؟ أي وقلت قد علم به أبي؟ قالت نعم، قلت: ورسول الله؟ قالت: نعم، فاستعبرت وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي، فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلغها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع» أي لا يرتفع «ولا اكتحلت بنوم في الليلة الثانية كذلك، ولما أصبحت أصبح أبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي أي وهما يبكيان وأهل الدار يبكون، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي» وسمعت من بعض الشيوخ أن هرّة كانت بالبيت جالسة تبكي أيضا فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث صلى الله عليه وسلم شهرا لا يوحى إليه في شأني، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس. ثم قال: «أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه» .
قال بعضهم: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر، أي مع أنه المطلوب ممن أتى ذنبا لم يطلع عليه.
وفي لفظ. «قال يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتق الله، فإن كنت قارفت» أي اكتسبت «سواء مما يقول الناس، فتوبي إلى الله تعالى، فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده». قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي» أي ارتفع «حتى ما أحس منه بقطرة. فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال:
فو الله لا أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟» وفي لفظ «قلت لأبوي: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: والله لا ندري بماذا نجيبه؟ فقلت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فو الله لا أجد لي ولكم» وفي لفظ «لا أجد لي مثلا إلا قول أبي يوسف عليهما السلام، أي والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه، إذ يقول: {وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] .
أي وفي رواية كما في البخاري مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه {وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] وفي لفظ {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ} [يوسف: 86] وبذلك استدل على جواز ضرب المثل من القرآن أيضا «ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى» ، وفي لفظ «قرآنا يقرأ به في المسجد ويصلى به، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. وكنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في النوم يبرئني الله بها، أي وعند ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل عليّ، والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا يعبد الله، فيقال لنا في الإسلام. وأقبل على عائشة مغضبا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يأخذه عند نزول الوحي» أي من شدة الكرب «فسجي أي غطي، بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه» وفي لفظ «قالت عائشة رضي الله عنها: فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت، لأني قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي وأما أبواي فو الذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وأخبر بما أخبر حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا» أي خوفا «من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك، وإنه لينحدر منه العرق كالجمان» وهي حبوب مدحرجة تجعل من الفضة أمثال اللؤلؤ «فجعل يمسح العرق عن وجهه الكريم، فكان أول كلمة تكلم بها: «يا عائشة أما إن الله قد برأك»، فقالت أمي: قومي إليه صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله» وفي لفظ «قال أبشري يا عائشة فقد أنزل الله تعالى براءتك»، قلت: نحمد الله لا نحمد أحدا. قالت عائشة رضي الله عنها:
نزلت تلك الآيات في يوم شات. قالت: وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم درعي، فقلت بيده هكذا:أي أدفع يده عن درعي فأخذ أبو بكر النعل ليعلوني بها فمنعته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: «أقسمت عليك لا تفعل» وفي رواية: «لما أنزل الله براءتها قام إليها أبو بكر رضي الله عنه فقبل رأسها، فقالت له: هلا كنت عذرتني. فقال: أي بنية أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلت بما لا أعلم؟» ولا مخالفة بين هذه الرواية وما قبلها، لجواز أن يكون ما قبلها بعدها، وأنزل الله تعالى {إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور:11] الآيات العشر أي وفي تفسير البيضاوي الثمانية عشر.
قال السهيلي: وكان نزول براءة عائشة رضي الله عنها بعد قدومهم المدينة: أي من الغزوة المذكورة لسبع وثلاثين ليلة في قول بعض المفسرين، فمن نسبها رضي الله عنها إلى الزنا كغلاة الرافضة كان كافرا لأن في ذلك تكذيبا للنصوص القرآنية ومكذبها كافر.
وفي حياة الحيوان عن عائشة رضي الله عنها «لما تكلم الناس في الإفك رأيت في منامي فتى فقال لي: ما لك؟ قلت: حزينة مما ذكر الناس فقال: ادعي بهذه يفرج الله عنك. قلت: وما هي؟ قال: قولي: يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا أول بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. قالت: فقلت ذلك فانتبهت وقد أنزل الله فرجي» .
قال بعضهم: برأ الله تعالى أربعة بأربعة. برّأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهل زليخة. وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود فيه إن له أدرة بالحجر الذي فرّ بثوبه وبرّأ مريم بإنطاق ولدها. وبرأ عائشة بهذه الآيات.
«وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح لقرابته منه أي كما تقدم ولفقره، فحلف لا ينفق عليه، أي فإنه قال: والله لا أنفق على مسطح أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد ما قال لعائشة وأدخل علينا» .
وفي لفظ «أخرجه من منزله وقال له: لا وصلتك بدرهم أبدا، ولا عطفت عليك بخير أبدا، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ} [النّور: 22] أي الفضيلة والإفضال {مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ} [النّور: 22] أي في الرزق {أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النّور:22] وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: «أما تحب أن يغفر الله لك». قال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لأحب أن يغفر لي، فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه. وقال: والله إني لا أنزعها عنه أبدا .
وفي معجم الطبراني الكبير والنسائي «أنه أضعف له في النفقة التي كان يعطيه إياها قبل القذف» أي أعطاه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك «أي وكفر عن يمينه» .
وبهذا وبما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» .
استدّل فقهاؤنا على أن الأفضل في حق من حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه أن يحنث ويكفر عن يمينه.
وهنا لطيفة، وهي: أن ابن المقري رحمه الله منع عن ولده النفقة تأديبا له على أمر وقع منه، فكتب إلى والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات:
لا تقطعنّ عادة برّ ولا *** تجعل عقاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح *** يحط قدر النجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى *** وعوتب الصدّيق في حقه
فكتب إليه والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات:
قد يمنع المضطر من ميتة *** إذا عصى بالسير في طرقه
لأنه يقوى على توبة *** تكون إيصالا إلى رزقه
لو لم يتب مسطح من ذنبه *** ما عوتب الصديق في حقه
ووصف الله تعالى الصديق بأولي الفضل موافق لوصفه صلى الله عليه وسلم له بذلك، فقد جاء أن عليا كرّم الله وجهه دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه جالس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحى أبو بكر عن مكانه وأجلس عليا كرّم الله وجهه بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا وسرورا. وقال «لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل» .
وعنها رضي الله عنها «أنها قالت: لما استلبث الوحي عنه صلى الله عليه وسلم» أي أبطأ عليه ولم ينزل «استشار الصحابة، فقال له عمر رضي الله عنه: من زوّجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى، قال: أفتظن أن الله دلس عليك فيها؟ {سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، فنزلت، ودعا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأسامة بن زيد رضي الله عنهما ليستأمرهما في فراق أهله» أي تعني نفسها «فأما أسامة بن زيد، فقال: أهلك» أي الزم أهلك «يا رسول الله، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإنك لتقدر أن تستخلف» وفي لفظ «قد أحل الله لك فطلقها وأنكح غيرها، وإن تسأل الجارية تصدقك» يعني بريرة رضي الله عنها، أي لأنها كانت تخدم عائشة إما قبل شرائها لها أو بعده وقبل عتقها لها كان بعد الفتح فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟» قالت بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه بالغين المعجمة والصاد المهملة بينهما ميم مكسورة: أي أعيبه «عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن وهي الدابة التي تألف البيوت ولا تخرج للمرعى، وهي هنا الشاة «فتأكله» .
وفي لفظ «فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فسألها، فقام إليها عليّ كرم الله وجهه فضربها ضربا شديدا، وجعل يقول لها: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله» أي وضربها كما قال السهيلي ولم تستوجب ضربا، ولا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربها، لأنه اتهمها في أنها خانت الله ورسوله، فكتمت من الحديث ما لا يسعها كتمه، هذا كلامه.
والذي في البخاري «وانتهرها بعض الصحابة. فقال: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصانع على تبر الذهب الأحمر» .
وفي الإمتاع «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريرة وسألها. فقالت: هي أطيب من طيب الذهب، والله لا أعلم عليها إلا خيرا، والله يا رسول الله لئن كانت على غير ذلك ليخبرك الله بذلك» .
أي وبريرة هذه روى عنها عبد الملك بن مروان. فقد ذكر أنه قال: كنت أجالس بريرة رضي الله عنها بالمدينة قبل أن آتي إلى هذا الأمر يعني الخلافة، فكانت تقول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر يعني الخلافة، فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق» .
قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش أم المؤمنين عن أمري، يقول: «ماذا علمت أو رأيت»، فتقول: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري أي أصون سمعي من أن أقول سمعت ولم أسمع، وأصون بصري من أن أقول أبصرت ولم أبصر «ما علمت إلا خيرا» أي وفي رواية «حاشا سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا، والله ما أكلمها، وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وفي لفظ «تناصيني» أي تعادلني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة والمحبة عنده صلى الله عليه وسلم «فعصمها الله تعالى» أي ولهذا جعلها في النور أفضل نسائه صلى الله عليه وسلم بعد عائشة وخديجة حيث قال: والذي يظهر أن أفضلهن: أي زوجاته صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة زينب بنت جحش.
«وقالت عائشة رضي الله عنها في وصفها: لم أر امرأة قط خيرا من زينب في الدين، وأتقي الله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يتقرب به إلى الله، ما عدا سورة» أي حدة «تسرع فيها الفيئة» أي ترجع عنها سريعا قالت عائشة رضي الله عنها: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عند استلباث الوحي وتأخره في الناس وخطبهم فحمد الله وأثني عليه. ثم قال: «أيها الناس ما بال رجال يؤذوني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق» وفي رواية «فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال وهو على المنبر: من يعذرني أن ينصفني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا- يعني صفوان- ما علمت عليه إلا خيرا» أي وزاد في رواية «ولا يدخل بيتي» . وفي لفظ «بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي يقولون عليه غير الحق». فقام سعد بن معاذ: أي سيد الأوس فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وقد احتملته الحمية» وفي لفظ «أجهلته الحمية. وكان قبل ذلك رجلا صالحا» : أي لما ذكر سعد بن معاذ الخزرج الذين هم قوم سعد بن عبادة غضب سعد بن عبادة لأجلهم وحملته الحمية لهم على أن يجهل» أي قال قول الجهل «فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ كما تقدم. فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه وأنفك راغم. فإنك منافق تجادل عن المنافقين» أي والمراد بكونه منافقا أنه يفعل فعل المنافقين، ومن ثم لم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك إن كان سمعه، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، لأنه كان بين الحيين قبل الإسلام مشاحنة ومحاربة كما تقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، «فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، قالت: وأنا لا أعلم بشيء من ذلك» .
أقول فيه أن سعد بن معاذ لم يقل إنه إن كان من الخزرج نقتله، بل قال نفعل فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحسن ردّ سعد بن عبادة عليه بما ذكر.
ثم رأيت بعضهم ذكر أن الأظهر عندي أن ابن عبادة لم يقل ذلك حمية لقومه، وإنما أراد الإنكار على ابن معاذ في كونه يقتل شخصا من قومه الذين هم الأوس مع أنه يظهر الإسلام لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل من يظهر الإسلام، فكأنه قال لا تقل ما لا تفعل ولا تقدر على فعله حيث لم يأمرك بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما انتصر أسيد بن حضير لسعد بن معاذ نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة العظيمة التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم فيها من يعذره من ذلك القائل، وإنكاره على سعد بن عبادة إنما هو إنكار ظاهر لفظه وإن كان لباطنه مخلص حسن، وكم من لفظ ينكر إطلاقه على قائله وإن كان في الباطن له مخلص هذا كلامه.
ثم رأيت في السيرة الهشامية أن المتكلم أسيد بن حضير، وأنه قال يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا أمرك، فو الله إنهم لأهل لأن نضرب أعناقهم، فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله، والله ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك يعني الأوس ما قلت هذا: أي لأن عبد الله بن أبي ابن سلول من الخزرج، وكذا حسان بن ثابت رضي الله عنه، بناء على أنه كان من أصحاب الإفك.
وفي البخاري «أن سعد بن معاذ قال: ائذن لي يا رسول الله أن أضرب أعناقهم، فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان من رهط ذلك الرجل» أي من الخزرج «فقال: كذبت، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم» وعلى هذه الرواية فلا إشكال.
وقول البخاري «وكانت أم حسان إلى آخره» يشعر بأن حسان لم يكن من الخزرج، وهو يخالف ما تقدم وما سيأتي أنه من الخزرج، إلا أن يقال وصفه بذلك على المسامحة لكون أمه منهم فليتأمل، ولا يخفى أن ذكر المنبر يخالف ما في الأصل من أن اتخاذ المنبر كان في السنة الثامنة، وقصة الإفك كانت في السنة الخامسة أو السادسة. وفي النور: المراد بالمنبر شيء مرتفع، قال: وإلا فالمنبر إنما اتخذ في السنة الثامنة، أي فيكون المراد المنبر الذي اتخذ في السنة الثانية كان من الطين، والذي كان من خشب إنما اتخذ في السنة الثامنة، وقد بينا ذلك مبسوطا والله أعلم.
ثم بعد نزول آيات الإفك أي وهي {إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور:11] إلى قوله {أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26] خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم الآيات وأمر بجلد أصحاب الإفك، أي وهم: عبد الله بن أبيّ، ومسطح، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين وأخوها عبيد الله بالتصغير ابن جحش ويقال له أبو أحمد، كان ضريرا. أي وكان يدور مكة أعلاها وأدناها في أيّ محل من غير قائد، وكان شاعرا وهو ابن عمة أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أخوها عبد الله مكبرا فقد قتل يوم أحد كما تقدم، وزاد بعضهم خامسا وهو زيد بن رفاعة. وفيه أنه تقدم أنهم لما قدموا المدينة وجدوه قد مات، إلا أن يقال. إن لهم زيد بن رفاعة غيره فيجوز أن يكون هو ذلك، ويقال وحسان بن ثابت «فجلدوا الحد وهو ثمانون» .
قال بعضهم: وذكر سعد بن معاذ في هذه الرواية، أي أنه القائل أنا أعذرك وهم من بعض الرواة، وإنما المتكلم بذلك أسيد بن حضير أي كما تقدم عن السيرة الهشامية، لأن سعد بن معاذ مات بعد بني قريظة.
قال في الأصل: لو اتفق أهل المغازي على أن غزوة الخندق وبني قريظة متقدمة على غزوة بني المصطلق لكان الوهم لازما ولكنهم مختلفون أقول: أي فالوهم لا يلزم إلا من جعل هذه الغزوة التي هي غزوة بني المصطلق متأخرة عن بني قريظة، ويذكر فيها سعد بن معاذ كالأصل. ومن ثم لما قال ابن إسحاق بأنها بعد بني قريظة. روى عن عائشة بدل سعد بن معاذ أسيد بن حضير. قال في الإمتاع: وهذا هو الصحيح، والوهم لم يسلم منه أحد من بني آدم.
وفيه أن مما يدل على تقدمها، وأن ذكر سعد بن معاذ ليس من الوهم في شيء ما ذكره في الكتاب المذكور الذي هو في الإمتاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث أياما. ثم أخذ بيد سعد بن معاذ في نفر حتى دخل على سعد بن عبادة فتحدثوا ساعة وقرّب لهم سعد بن عبادة طعاما فأصابوا منه ثم انصرفوا، فمكث أياما ثم أخذ بيد سعد بن عبادة في نفر فانطلقوا حتى دخلوا منزل سعد بن معاذ فتحدثوا ساعة وقرّب لهم سعد بن معاذ طعاما فأصابوا منه، ثم خرجوا، فذهب من أنفسهم ما كان، وأن ذكر سعد بن معاذ وقع في الصحيحين وغيرهما والله أعلم.
وذكر أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه الذي كان الإفك بسببه ظهر أنه كان حصورا لا يأتي النساء، أي إنما معه مثل الهدبة: أي عنين.
وقد قال الشيخ محيي الدين: الحصور عندنا العنين، أي ويدل له ما في البخاري «أنه رضي الله عنه ما كشف كنيف امرأة قط» أي سترها، لأن الكنيف الساتر.
وقد جاء في تفسير وصف يحيى بن زكريا بحصورا أنه صلى الله عليه وسلم أهوى إلى الأرض وأخذ قذاة. وقال: كان ذكره- يعني يحيى عليه السلام مثل هذه القذاة، ولعل المراد التشبيه في الارتخاء وعدم الشدة، فلا يخالف ما قبله، لكن في النهر:
الحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك، أي وربما يؤيد ذلك ما جاء «أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة. رجل جعله الله ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء. وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال. والذي يضل الأعمى ورجل حصور، ولم يجعل الله حصورا إلا يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام» فالحصور وصف مذموم إلا في يحيى عليه السلام خصوصية له دون غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا فقد امتنّ سبحانه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرّعد: 38] ، قيل وهذا الوصف جاء ليحيى من أثر همة والده زكريا عليهما السلام، فإنه لما شهد مريم منقطعة عن الأزواج أحب أن يرزقه الله ولدا: مثلها أي منقطعا عن الزوجات، فجاء يحيى عليه السلام حصورا، ويؤيد ذلك ما في «أنس الجليل» وكان يحيى عليه السلام لا يأتي النساء لأنه لم يكن له ما للرجال، كذا قيل، وهو غير مرضيّ.
وقد تكلم القاضي عياض رحمه الله في الشفاء على معنى كون يحيى حصورا بما حاصله، أن هذا الذي قيل نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب لا يأتيها، فكأنه حصر عنها، وأنه حصر نفسه عن الشهوات قمعا لها، هذا كلامه فليتأمل.
أي وعلى الأول لا ينافي ذلك كون صفوان كان متزوّجا، لما تقدم أن زوجته شكته للنبي صلى الله عليه وسلم: أي على أن ابن الجوزيّ نقل عن شيخه ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى أن صفوان رضي الله عنه إنما تزوّج بعد حديث الإفك.
ومما يدل على أن حسان رضي الله عنه لم يكن من أصحاب الإفك تبرؤه مما نسب إليه في أبيات مدح بها عائشة رضي الله عنها منها:
مهذبة قد طيب الله خيمها *** وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم *** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي *** لآل رسول الله زين المحافل
ومن ثم قال ابن عبد البر: وقد أنكر قوم كون حسان رضي الله عنه خاض في الإفك، وأنه جلد.
وجاء أن عائشة رضي الله عنها برأته من ذلك. أي فقد ذكر الزبير بن بكار، أنه قيل لعائشة رضي الله عنها وقد قالت في حق حسان رضي الله عنه: إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هو ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئا ولكنه القائل:
فإن كان ما قد قيل عني قلته *** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وقد قال مثل هذا البيت أنس بن زنيم، وقد بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنه هجاه، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم معتذرا وأنشده أبياتا منها:
ونبي رسول الله إني هجوته*** فلا رفعت سوطي إليّ إذن يدي
لكن في رواية أنها كانت تأذن لحسان بن ثابت وتلقي له الوسادة وتقول: لا تقولوا لحسان إلا خيرا، فإنه كان يردّ عن النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه. وقد قال تعالى: {وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النّور:11] وقد عمي، والعمى عذاب عظيم، والله قادر على أن يحيل ذلك ويغفر لحسان ويدخله الجنة.
وفيه أنه سيأتي عن عائشة وغيرها أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول كما تقدم إلا أن يقال كبره مقول بالتشكيك، والذي بلغ فيه الغاية عبد الله بن أبي ابن سلول فليتأمل.
وعن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقيا على سريره، فلما بلغ {وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ} [النور: 11] جلس ثم قال: يا أبا بكر من تولى كبره، أليس علي بن أبي طالب؟ قال الزهري: فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ إن قلت لا، لا آمن أن ألقى منه شرا، وإن قلت نعم جئت بأمر عظيم.
ثم قلت لنفسي: لقد عوّدني الله على الصدق خيرا، فقلت لا، فضرب بقضيبه السرير.
قال: فمن؟ بكر ذلك مرارا، قلت: لكن عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
ووقع لسليمان بن يسار مع هشام بن عبد الملك نحو ذلك؛ فإن سليمان بن يسار رحمه الله دخل على هشام بن عبد الملك. فقال له: يا أبا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال: كذبت هو عليّ، قال: أنا أكذب، لا أبا لك، لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت. حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة رحمهم الله، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ.
وعن عائشة رضي الله عنها أنه ذكر عندها حسان بسوء فنهتهم، وقالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق» وفي البخاري كانت عائشة رضي الله عنها تنكر أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
فبهذا البيت يغفر الله تعالى له .
وذكر بعضهم أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان ابن عمه صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن العاص، وضرار بن الحارث.
ولما أراد حسان رضي الله عنه أن يهجوهم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف تهجوهم وأنا منهم؟» وكيف تهجو أبا سفيان ابن عمي؟ فقال له: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له صلى الله عليه وسلم ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك.
فكان يجيء إلى أبي بكر ليوقفه على أنسابهم، فجعل حسان يهجوهم، فلما سمعوا هجوه. قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة: وعاش حسان رضي الله عنه مائة وعشرين سنة، نصفها في الجاهلية، ونصفها في الإسلام، وعاش والده مائة وعشرين سنة، وكذا جده ووالد جدّه.
قال بعضهم: ولا يعرف أربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم غيرهم، ولم يشهد حسان مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا، لأنه كان يخشى الموت، فكان ينسب للجبن. ومن ثم جعل يوم الخندق مع النساء والذراري في الآطام. وما وقع له مع صفية عمته صلى الله عليه وسلم في أمر اليهودي قتلته في ذلك المكان، وما قاله لها يدل على أنه كان جبانا شديد الجبن.
ويردّ إنكار بعض العلماء كونه جبانا قال: إذ لو صح ذلك لهجي به، فإنه كان يهاجي الشعراء، وكانوا يردون عليه، فما عيره أحد منهم به ولا وسمه به، ولعله كان به علة اقتضت جعله مع الذراري في الآطام منعته من شهود القتال، هذا كلامه.
وقد يقال: على تسليم أنه لم يهج بالجبن يجوز أن يكون لكونه كان لا يتأثر بوصفه بذلك.
وذكر بعضهم أن حسان رضي الله عنه شلت يداه بضربة ضربها له صفوان بسيف لما هجاه فذكر ذلك حسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حسان وصفوان، أي وأظهر التغيظ على صفوان بسبب إظهاره السلاح على حسان وضربه به، فقال صفوان: يا رسول الله آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: «يا حسان أحسن فيما أصابك»، قال: هي لك. وفي رواية قال: كل حق لي قبل صفوان فهو لك، فقال له صلى الله عليه وسلم: «قد أحسنت وقبلت ذلك منك»، وأعطاه رسول صلى الله عليه وسلم عوضا منها حديقة له، يقال لها بئر حا بفتح الراء في الأحوال الثلاثة مع قصر حا. قيل لها ذلك لأن الإبل يقال لها إذا وردت وزجرت عن الماء حا، حا.
وفيه أنه كان القياس أن يقال بئرحا بضم الراء في حالة الرفع وحدها، إلا أن يقال المجموع اسم مركب، وكانت هذه البئر لأبي طلحة رضي الله عنه فتصدق بها على رسول الله ليضعها صلى الله عليه وسلم حيث شاء، ثم باعها حسان من معاوية بمال عظيم.
أقول: الذي في البخاري: كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر أنصاري بالمدينة مالا؛ وكان أحب أمواله إليه بئرحا، وهي حديقة كانت مستقبلة المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويستظل بها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت {لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله يقول في كتابه {لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإن أحب أموالي إليّ بئرحا، وإنه صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، قد قبلناها منك، ورددناها عليك، وأرى أن تجعلها في الأقربين». قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» وفي لفظ آخر في البخاري قال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «اجعله لفقراء أقاربك» فجعل لحسان وأبيّ بن كعب.
وفيه أن أبيّ بن كعب كان غنيا، وبين في البخاري وجه قرابتهما من أبي طلحة، فذكر أن حسان يجتمع مع أبي طلحة في الأب الثالث وأبي يجتمع معه في الأب السادس، وذكر بعضهم أن أبيّ بن كعب كان ابن عمة أبي طلحة.
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى حسان تلك الحديقة وأعطاه سيرين جاريته أخت مارية أمّ ولده صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فجاءت منه بابنه عبد الرحمن، وكان يفتخر بأنه ابن خالة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روت سيرين هذه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثا قالت رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خللا في قبر ابنه إبراهيم فأصلحه وقال: «إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه» وأعطاه سعد بن عبادة رضي الله عنه بستانا كان يتحصل منه مال كثير.
وحاصل ما في الإمتاع فيما وقع بين حسان وصفوان: أن حسان رضي الله عنه لما قال:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كبروا *** وابن القريعة أمسى بيضة البلد
قال صفوان: ما أراه إلا عناني أي بالجلابيب، وتقدم أن ابن أبيّ ابن سلول قد قالها في حق المهاجرين، والقريعة بالقاف: جدة حسان رضي الله عنه، وقيل أمه.
وقريعة الشيء: خياره، وقريعة القبيلة لسيدها، واستعمل بيضة البلد في الذم بقرينة المقام، وإلا فكما تستعمل في الذم تستعمل في المدح. ويقال: فلان بيضة البلد: أي واحد في قومه عظيم فيهم. فعند ذلك خرج صفوان مصلتا السيف وجاء إلى حسان وهو في نادي قومه الخزرج وضربه، فلقي بيده فوقع السيف فيها، فقام قومه وأوثقوا صفوان رباطا، ثم إنه حلّ وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حسان رضي الله عنه: يا رسول الله شهر عليّ السيف في نادي قومي ثم ضربني ولا أراني إلا ميتا من جراحتي، فقال صلى الله عليه وسلم لصفوان: ولم ضربته وحملت السلاح عليه؟ وتغيظ لحسان، فقال صفوان ما تقدم. ثم قال لقوم حسان: احبسوا صفوان، فإن مات حسان فاقتلوه به، فحبسوه، فبلغ ذلك سيد الخزرج سعد بن عبادة، فأقبل على قومه ولامهم على حبسه، فقالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبسه وقال لنا: إن مات صاحبكم فاقتلوه. فقال سعد: والله إن أحبّ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العفو عنه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالحق، والله لا أبرح حتى يطلق، فاستحى القوم وأطلقوه، وأخذه سعد وانطلق به إلى منزله وكساه حلة، وجاء به إلى المسجد، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من كساه؟ قالوا سعد بن عبادة. قال: كساه الله من ثياب الجنة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم حسان رضي الله عنه في العفو عن صفوان. فقال: يا رسول الله كل حق لي قبل صفوان فهو لك. فقال صلى الله عليه وسلم: قد أحسنت وقبلت ذلك. ثم أعطاه صلى الله عليه وسلم أرضا له وسيرين جاريته أخت مارية أم ولده إبراهيم وأعطاه أيضا سعد بن عبادة رضي الله عنه حائطا كان يتحصل منه مال كبير بما عفا عن حقه.
وقيل إنما أعطاه سيرين لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره. فقد قال ابن عبد البر رحمه الله: إعطاه رسول الله سيرين أخت مارية لحسان بن ثابت يروى من وجوه، وأكثرها أن ذلك ليس بسبب ضرب صفوان له بل لذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل وكان لسان حسان يصل لجبهته وإلى نحره. وكذلك كان أبوه وجده، وكان حسان رضي الله عنه يقول على لسانه: والله لو وضعته على صخر لفلقه أو شعر لحلقه. وقد عمي مسطح أيضا.
أي وقد روى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم. قال الترمذي حسن غريب. أي والمرأة حمنة بنت جحش، والرجلان أخوها عبيد الله أبو أحمد بن جحش ومسطح.
ولم يحدّ الخبيث عبد الله بن أبيّ ابن سلول، لأن الحدّ كفارة وليس من أهلها.
وقيل لأنه لم تقم عليه البينة بذلك بخلاف أولئك. وقيل لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده بل على لسان غيره.
وفي الطبراني ومعجم النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن أبيّ ابن سلول جلد مائة وستين أي حدّ حدّين. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وهكذا يفعل بكل من قذف زوجة نبيّ. أي ولعل المراد أنه يجوز أن يفعل به ذلك فلا ينافي ما تقدم من أن الحدّ كان ثمانين جلدة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ما زنت» . وفي لفظ «لم تبغ امرأة نبيّ قط» .
وأما قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط {فَخَانَتَاهُمَا} [التّحريم: 10] فالمراد آذتاهما. قالت امرأة نوح عليه السلام في حقه إنه لمجنون. وامرأة لوط عليه السلام دلت على أضيافه.
قيل: إنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام، ولم يجز أن تكون فاجرة، أي زانية لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم، فيجب أن لا يكون معه منقص ينفرهم عنه والكفر غير منقص عندهم. وأما الفجور فمن أعظم النقصان.
وفي الخصائص الصغرى: ومن قذف أزواجه صلى الله عليه وسلم فلا توبة له ألبتة، كما قاله ابن عباس وغيره، ويقتل كما نقله القاضي عياض وغيره. وقيل يختص القتل بمن قذف عائشة، ويحد في غيرها حدين.
وقد وقع أن الحسن بن يزيد الراعي من أهل طبرستان. وكان من العظماء، كان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف، وكان يرسل في كل سنة إلى بغداد عشرين ألف دينار تفرق على أولاد الصحابة. فحضر عنده رجل من أشياع العلويين، فذكر عائشة رضي الله عنها بالقبيح. فقال الحسن لغلامه: يا غلام اضرب عنق هذا، فنهض إليه العلويون وقالوا: هذا رجل من شيعتنا. فقال: معاذ الله، هذا طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ} [النّور: 26] فإن كانت عائشة رضي الله عنها خبيثة فإن زوجها يكون خبيثا، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، بل هو الطيب الطاهر، وهي الطيبة الطاهرة المبرأة من السماء، يا غلام اضرب عنق هذا الكافر، فضرب عنقه.
وفي كتاب «الإشارات» للفخر الرازي أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام التي تكلم فيها بالإفك كان أكثر أوقاته في البيت، فدخل عليه عمر رضي الله عنه، فاستشاره صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة، فقال: يا رسول الله أنا أقطع بكذب المنافقين، وأخذت براءة عائشة رضي الله عنها من الذباب، لأن الذباب لا يقرب بدنك؛ فإذا كان الله تعالى صان بدنك أن يخالطه الذباب لمخالطته للقاذورات فكيف أهلك؟.
ودخل عليه صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فاستشاره، فقال له عثمان: يا رسول الله أخذت براءة عائشة رضي الله عنها من ظلك، إني رأيت الله تعالى صان ظلك أن يقع على الأرض: أي لأن شخصه الشريف كان لا يظهر في شمس ولا قمر، لئلا يوطأ بالأقدام. فإذا صان الله ظلك فكيف بأهلك. أي وقد أشار إلى ذلك الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:
لقد نزه الرحمن ظلك أن يرى *** على الأرض ملقى فانطوى لمزية
وهنا لطيفة لا بأس بها: وهي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان مسافرا وكان يسايره يهودي، فلما أراد المفارقة قال عبد الله رضي الله عنه لليهودي: بلغني أنكم تدينون بإيذاء المسلمين، فهلا قدرت على شيء من ذلك معي وأقسم عليه، فقال: إن أمنتني أخبرتك، فأمنه، فقال: لم أقدر عليك في شيء أكثر من أني كنت إذا رأيت ظلك وطئته بقدمي وفاء بأمر ديننا.
ودخل عليه صلى الله عليه وسلم علي كرم الله وجهه فاستشاره، فقال له علي كرم الله وجهه: أخذت براءة عائشة من شيء هو أنا صلينا خلفك وأنت تصلي بنعليك، ثم إنك خلعت إحدى نعليك فقلنا ليكون ذلك سنة لنا، قلت لا، إن جبريل عليه السلام أخبرني أن في تلك النعل نجاسة، فإذا كان لا تكون النجاسة بنعليك فكيف تكون بأهلك؟ فسرّ صلى الله عليه وسلم بذلك، أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن خلع إحدى نعليه في أثناء الصلاة لنجاسة بها واستمر في الصلاة.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال لزوجته أم أيوب: ألا ترين ما يقال: أي من الإفك؟ فقالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تهمّ بسوء لمحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير مني وصفوان خير منك.
وفي السيرة الشامية أن أبا أيوب رضي الله عنه قالت له زوجته أم أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت: لا، والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك.
وجاء أن ابن عباس رضي الله عنهما دخل على عائشة رضي الله عنها في مرض موتها فوجدها وجلة من القدوم على الله، فقال لها: لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم، فغشي عليها من الفرح بذلك، لأنها كانت تقول متحدثة بنعمة الله عليها: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة. لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله أن يتزوجني. ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري. ولقد توفي وإن رأسه في حجري. ولقد قبر في بيتي وإن الوحي ينزل عليه في أهله فيفرقون منه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحاف واحد، وأبي رضي الله عنه خليفته وصديقه. ولقد نزلت براءتي من السماء، ولقد خلقت طيبة عن طيب. ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما» .
قيل وفي هذه الغزوة فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها أيضا فاحتبسوا على طلبه، أي فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه رجلين من المسلمين أي أحدهما أسيد بن حضير، فحضرت الصلاة أي صلاة الصبح وكانوا على غير ماء. زاد في رواية: وليس معهم ماء فنزلت آية التيمم. وهذا القيل نقله إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن عدة من أهل المغازي. أي وعليه يكون سقط عقدها في تلك الغزوة مرتين لاختلاف القضيتين باختلاف سياقهما.
والصحيح أن ذلك كان في غزوة أخرى أي متأخرة عن هذه الغزوة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس، أي فإنه صلى الله عليه وسلم بعث رجالا في طلبه، وهو لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم أرسل في طلبه رجلين، وطلع الفجر، فلقيت من أبي بكر رضي الله عنه ما شاء الله، أي لأن الناس جاؤوا لأبي بكر رضي الله عنه وشكوا إليه ما نزل بهم، فجاء إليها ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه الشريف على فخذها قد نام، فقال لها: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، جعل يطعن بيده في خاصرتها ويقول: يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء وليس مع الناس ماء.
قالت: فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي: أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام لا يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ، لأنهم لا يدرون ما يحدث له في نومه، فقال حين أصبح. وفي لفظ: فاستيقظ وحضرت الصلاة فالتمس الماء فلم يجد فأنزل الله تعالى الرخصة بالتيمم. وفي لفظ: فأنزل الله تعالى آية التيمم أي التي في المائدة. ففي بعض الروايات فنزلت {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلٰوةِ} [المائدة: 6] الآية.
وقيل المراد بالآية آية النساء، لأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر للوضوء فيها، فيتجه تسميتها بآية التيمم، وكلام الواحدي رحمه الله في أسباب النزول يدل عليه. فقال أبو بكر عند ذلك: والله يا بنية إنك كما علمت مباركة، أي وقال لها صلى الله عليه وسلم «ما أعظم بركة قلادتك»، وقال أسيد بن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أي وفي رواية إنه قال لها جزاك الله خيرا، فما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله منه مخرجا وللمسلمين فيه خيرا، أي وهذا ربما يفيد تكرر وقوع ما تكرهه، وأن في ذلك خيرا للمسلمين فليتأمل.
وفي لفظ قال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة لهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإنما قال أسيد بن حضير ما قال دون غيره، لأنه كان رأس من بعث في طلب العقد، أي بل تقدم في بعض الروايات الاقتصار على بعثه لطلب ذلك. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، أي أقمناه من مبركه فوجدنا العقد تحته.
أقول في النور: اعلم أن العقد سقط مرتين: مرة كان لها ومرة كان لأختها أسماء استعارته. وبهذا يجمع بين الأحاديث التي في المسألة، هذا كلامه فليتأمل وينظر تلك الأحاديث، وما هي أي وكون هذا العقد لأسماء أختها لا يخالف ذلك قولها عقدي، لأن الإضافة تأتي لأدنى ملابسة، أي فعقد أسماء كان في المرة الثانية.
وفي البخاري أيضا أن آية التيمم نزلت بعد أن صلوا بلا وضوء.
فعن عائشة رضي الله عنها. «أنها استعارت من أسماء رضي الله عنها قلادة فهلكت: أي ضاعت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى آية التيمم» . وقد ترجم البخاري عن تلك بقوله باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا، وقوله «فبعث رجلا فوجدها» يجوز أن يكون هذا الرجل هو الذي أقام البعير أو من جملة من أقامه، فلا يخالف ما سبق مما يدل أن الذين بعثهم في طلبه لم يجدوه.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك، فلذلك سمي في بعض الروايات دون غيره، ولذا أسند الفعل إلى واحد منهم، وكأنهم لم يجدوا العقد أولا. فلما رجعوا ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد رضي الله عنه هذا كلامه.
قيل وفي هذه الغزوة خرجوا عن الطريق، وأدركهم الليل بقرب واد وعر، فهبط جبريل عليه السلام وأخبره صلى الله عليه وسلم أن طائفة من كفار الجن بهذا الوادي يريدون كيده صلى الله عليه وسلم وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا صلى الله عليه وسلم بعلي كرّم الله وجهه وعوذه وأمره بنزول الوادي فقتلهم.
قال الإمام ابن تيمية: وهذا من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عليّ كرم الله وجهه. قال ابن تيمية: ومن هذا ما روي في عام الحديبية أنه قاتل الجن في بئر ذات العلم، وهي بئر في الجحفة، وهو حديث موضوع عند أهل المغازي.
أي وجاء في سبب مشروعية التيمم غير ما ذكر. ففي الطبراني عن أسلع، قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرحل له ناقته، فقال لي ذات يوم: «يا أسلع قم فارحل»، فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة أي ولا ماء، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بآية الصعيد: أي التراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا أسلع فتيمم»، فأراني التيمم: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت فتيممت، ثم رحلت له حتى مر بماء، فقال: «يا أسلع أمسّ هذا جلدك» .
وفي الإمتاع: نزلت آية التيمم طلوع الفجر، فمسح المسلمون أيديهم بالأرض، ثم مسحوا بأيديهم إلى المناكب، أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن هذه الرواية.
وفي هذه السنة الخامسة خسف القمر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخسوف حتى انجلى القمر، وصارت اليهود تضرب بالطساس ويقولون سحر القمر.