وهي في شعبان سنة ست عند ابن إسحاق، وفي سنة أربع عند موسى بن عقبة، وفي شعبان سنة خمس يوم الإثنين لليلتين خلتا
منه عند ابن سعد، والخندق بعدها عنده في ذي القعدة من السنة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد اللّٰه بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كلٌّ قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا: بلغ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فلما سمع رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم، يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم اللّٰه بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونَفَّل رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم؛ فأفاءهم عليه.
وذكر ابن سعد: أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بعث بُريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم عُلم ذَلك، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم فأخبره خبرهم.
فندب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم الناس إليهم، وأسرعوا الخروج، وقادوا الخيل، وهي ثلاثون فرسًا، في المهاجرين منها عشرة، وفي الأنصار عشرون. واستخلف على المدينة زيد بن حارثة . وقال ابن هشام: استعمل عليها أبا ذر الغفاري ويقال: نميلة بن عبد اللّٰه الليثي .
رجع إلى خبر ابن سعد: وكان معه فرسان لزِاز والظرب ، وبلغ الحارثَ بن أبي ضرار ومن معه مسيرُ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إليهم، وأنه قد قتل عينهَ الذي كان وجَّهه ليأتيه بخبر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فسيء بذلك الحارث ومن معه، وخافوا خوفاً شديدًا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إلى المريسيع، وهو الماء، فضرب عليه قبته، ومعه عائشة و أم سلمة ، فتهيئوا للقتال، وصَفَّ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر ، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة ، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أَمّر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أصحابه، فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم، وأسر سائرهم، وسَبىَ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم الرجال والنساء والذرية.
وقد روينا من طريق مسلم خلاف ذلك، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، فثنا سليم بن أخضر، عن ابن عون، قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام، قد أغار رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسعى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ، قال يحيى: أحسبه قال: جويرية أو البتة ابنة الحارث. وحدثني هذا الحديث عبد اللّٰه بن عمر وكان في ذلك الجيش. وقد أشار ابن سعد إلى هذه الرواية وقال: الأول أثبت، قال: وأمر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالأسارى فكُتِّفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بالغنائم فجمعت، واستعمل عليها شقران مولاه، وجمع الذرية ناحية، واستعمل على قسم الخمس وسُهمان المسلمين محميةَ بن جَزْء الزبيدي ، وكانت الإبل ألفي بعير، والشاء خمسة آلاف شاة، وكان السبي مائتي بيت.
وقال غاب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم عن المدينة ثمانيًا وعشرين ليلة، وقدم المدينة لهلال رمضان.
رجع إلى ابن إسحاق: قال: وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ، فبينما الناس على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاهٌ بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه و سنان بن وبر الجهني ، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ الجهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد اللّٰه بن أبي ابن سلول وعنده رهط من قومه، فيهم: زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: أقد فعلوها؟ أقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا؟ واللّٰه ما أعدُّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سَمنِّ كلْبكَ
يأكلْك، أما واللّٰه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتوُهم أموالكم، أما واللّٰه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم “فكيف يا عمر إذا تحدث الناس بأن محمدًا يقتل أصحابه؟” قال: لا، ولكن ائذن بالرحيل – وذلك في ساعة لم يكن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يرتحل فيها- فارتحل الناس، وقد مشى عبد اللّٰه بن أبي ابن سلول إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه منه، فحلف باللّٰه ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفًا عظيمًا، فقال من حضر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول اللّٰه، عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل؛ حَدَبًا على ابن أُبيَ ودفعًا عنه.
فلما استقل رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن الحضير ، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، وقال: يا نبي اللّٰه، واللّٰه لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها؟ قال له رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “أَوَما بلغك ما قال صاحبكم؟” قال: أي صاحب يا رسول اللّٰه؟ قال: عبد اللّٰه بن أُبيَ، قال: وما قال؟ قال: زعم أنه رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل.
قال: فأنت واللّٰه يا رسول اللّٰه تخرجه إن شئت، هو واللّٰه الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول اللّٰه ارفق به، فوالله لقد جاء اللّٰه بك، وإن قومه لينظمون له الخرَزَ ليتوَِّجُوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلْكًا. ثم متن رسولُ اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذته الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسَّ الأرض فوقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد اللّٰه بن أبي، ثم راح رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فوق النقيع، يقال له: نقَْعًا.
فلما راح رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالناس هبت على الناس ريح شديدة آذتهم، وتخوفوا، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: “لا تخافوها، فإنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار“، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع، وكان من عظماء اليهود، وكهفًا للمنافقين، مات ذلك اليوم.
ونزلت السورة التي ذكر اللّٰه فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، “فلما نزلت أخذ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بُأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى اللّٰه بأذنه“.
وبلغ عبد اللّٰه بن عبد اللّٰه بن أبي الذي كان من أمر أبيه، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: “أن عبد اللّٰه أتى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّٰه، إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد اللّٰه بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني، فأنا أحمل لك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا“.
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك في شأنهم: “كيف ترى يا عمر؟ أما واللّٰه لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأُرعدتْ له آنفٌُ لو أمرتُها اليوم بقتله لقتلته“، قال: قال عمر: قد واللّٰه علمتُ لأمرُ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
وقدم مِقيس بن صُبابة من مكة مسلمًا فيما يظهر، فقال: يا رسول اللّٰه، جئتك مسلمًا، وجئتُ أطلبُ دية أخي، قتُل خطأ، فأمر له رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًّا، فقال في شعر يقوله:
شَفَى النفسَ أن قد بات بالقاع مُسْندًا *** يضَُرِّجُ ثوبيْه دماءُ الأخادع
وكانت همومُ النفس من قبل قتله *** تلُمّ فيحميني وِطَاءُ المضاجع
حللتُ به وِتري وأدركتُ ثؤُْرتي *** وكنت إلى الأوثان أوَّلَ راجع
ثأرتُ به فِهْرًا وحَمّلْتُ عَقْلهَ *** سَراةَ بني النجار أربابَ فارع
وقال مقيس بن صبابة أيضًا:
جَلّلته ضربةً باءت لها وَشَلٌ *** من ناقع الجوف يعلوه وينصرم
فقلتُ والموتُ تغشاه أسرَِّتهُ *** لا تأمَننَّ بني بكَر إذا ظُلموا
قال ابن هشام: وكان شعار المسلمين يوم بني المصْطَلقِ: يا منصور، أمِتْ أمِتْ. قال ابن إسحاق: وأصيب من بني المصطلق ناس يومئذ، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين: مالكًا وابنه، وكانرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قد أصاب منهم سبياً كثيرًا، فشاء قسمته في المسلمين، وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم.
قال أبو عمر: كان اسمها برة، فغَيّره رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وسماها: جويرية، فأرسل الناس ما بأيديهم من سبايا بني المصطلق لذلك، فكانت مائة بيت، وأسلم بنو المصطلق، ثم بعد ذلك بأزيد من عامين، بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدقاً، فخرجوا للقائه، فتوهم أنهم خرجوا لقتاله ففر راجعًا، وأخبر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بظنه، فهَمَّ عليه السلام بقتالهم، فأنزل اللّٰه تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ…} [الحجرات: 6] الآية والتي بعدها.