رغم تهديد المسلمين لطرق التجارة إلى الشام فإنهم لم يشتبكوا مع قوافل قريش في قتال حاسم حتى هذه المرحلة، مما جعل قريشاً …
تواصل إرسال قوافلها التجارية مع تأمين الحراسة لها، ولكن المسلمين كانوا لها بالمرصاد، فلما بلغهم تحرك قافلة كبيرة لقريش عائدة من الشام ترصدوها وكان يقودها أبو سفيان صخر ابن حرب، وكانت تحمل أموالاً عظيمة لقريش. ويحرسها ثلاثون أو أربعون رجلا ، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بسبس لاستطلاع أخبار القافلة، فلما رجع إليه بخبرها ندب أصحابه للخروج، وتعجل بمن كان مستعداً دون أن ينتظر من رغب في الخروج من سكان العوالي لئلا تفوتهم القافلة .
لذلك فإن جيش المسلمين ببدر لا يمثل كل طاقتهم العسكرية فإنهم خرجوا لأخذ القافلة ولم يعلموا أنهم سيواجهون جيش قريش. وقد ذكر عكرمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عدي بن الزغباء وبسبس بن عمرو إلى بدر طليعة للتعرف على أخبار القافلة، فرجعا إليه بخبرها وخبر إرسال بسبس ثابت في صحيح مسلم وهو دليل على الأخذ بالأسباب ومن ذلك التجسس على العدو وجمع أخباره.
وقد خرج المسلمون إلى بدر وهم ثلثمائة وتسعة عشر رجلا فقط منهم مائة من المهاجرين وبقيتهم من الأنصار، إذا أخذنا براوية الزبير بن العوام، وقد شهد الموقعة، أما البراء بن عازب الذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم عن شهودها لصغر سنه.
فقد ذكر أن المهاجرين كانوا يزيدون على الستين وأن الأنصار كانوا يزيدون على أربعين ومائتين . وقد ذكرت المصادر أسماء 340 صحابياً ممن شهد بدراً، وهذا بسبب الاختلاف بينها في شهود بعضهم الغزوة .
وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ولأبيه بعدم شهود بدر لأنهما كانا قد وعدا كفار قريش بعدم القتال معه فطلب منهما الوفاء بعهدهما .
وقد التحق بهم أحد شجعان المشركين في الطريق ليقاتل مع قومه فرده الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ارجع فلن أستعين بمشرك وكرر الرجل المحاولة فرفض الرسول حتى أسلم الرجل والتحق مع المسلمين . فلا بد أن تظهر الصبغة العقائدية على أولى الملاحم الإسلامية، ولا بد من وحدة الهدف فيها.
وكان مع المسلمين سبعون بعيرا يتعاقبون على ركوبها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو لبابة وعلي بن أبي طالب يتعاقبون على بعير واحد، فأرادا أن يؤثراه بالركوب فقال: «ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغني عن الأجر منكما» ويالروعة هذا الموقف عندما يستوي القائد والجند في تحمل الشدائد وقد تملكم الصدق والإخلاص في التطلع إلى رضوان الله وثوابه! وكيف لا يحتمل الجند المشاق وقائدهم يسابقهم في ذلك, ولا يرضى أن يكون دونهم في مواجهتها، وهو شيخ في الخامسة والخمسين من عمره!!.
وقد أمر النبي على المدينة عند خروجه عبد الله بن أم مكتوم للصلاة بالناس، ثم أعاد أبا لبابة من الروحاء – وهي على أربعين ميلا من المدينة – وعينه أميراً على المدينة. مما يبين أهمية وجود الأمير في الحضر والسفر والسلم والحرب.
وقد بلغ أبا سفيان خروج المسلمين لأخذ القافلة، فسلك بها في طريق الساحل وأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري لاستنفار أهل مكة، فلما علمت قريش الخبر استعد للخروج دفاعاً عن قافلتها، وقد ذكر ابن عباس وعروة بن الزبير أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام أن رجلاً استنفر قريشا وألقى بصخرة من رأس جبل أبي قبيس بمكة فتفتتت ودخلت سائر دور قريش، وقد أثارت الرؤيا خصومة بين العباس وأبي جهل حتى قدم ضمضم وأعلمهم بخبر القافلة . فسكنت مكة وتأولت الرؤيا.
وكان وقع الخبر على قريش كالصاعقة، فإن التعرض لقوافلها السابقة كان ينتهي بمناوشات خفيفة قصد منها المسلمون إقلاق قريش، أما هذه المرة فقد قصدوا أخذ القافلة فعلا، يدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» . لذلك سارعت قريش للخروج، وحاولت أن تجند كل طاقتها، فلم يتخلف أحد من فرسانها ورجالها إلا البعض – مثل أبي لهب – ممن أرسل بدله رجلاً. فقد كانت قريش في أشد الغضب وكانت ترى فيما حدث امتهاناً لكرامتها وحطاً لمكانتها بين العرب، فضلاً عن ضرب مصالحها الاقتصادية الكبيرة. لذلك كان من يظهر التردد في الخروج مع جيش قريش يتجه إليه زعماء قريش بالعتاب واللوم حتى يقنعوه بالخروج .
وقد صح أن عدد جيش المشركين بلغ ألفاً ، وقد ذكر ابن إسحق دون إسناد – أنهم كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين .
وأما عن تمويل الجيش فإن الأموي ذكر – دون إسناد – أن أثرياء قريش كانوا ينحرون الإبل مرة تسعاً ومرة عشراً لإطعام الجيش . وقد انشق بنو زهرة ورجعوا إلى مكة بعد أن نصحهم بذلك الأخنس بن شريق حين علموا بنجاة القافلة. وهم بالجحفة شرق رابغ ، ولكن معظم الجيش تقدموا حتى وصلوا إلى منطقة بدر. فلم تعد نجاة القافلة هدفهم بل تأديب المسلمين وتخليص طرق التجارة من تعرضهم وإعلام العرب بقوة قريش وسلطانها وسقط بعض خدمهم أسرى بيد المسلمين عند عيون المياة ببدر، وقد عرف منهم الرسول صلى الله عليه وسلم عدد الجيش وموقعه وزعماءه، فقد ذكروا عدد ما ينحرون من الإبل لطعامهم كل يوم فقال:«القوم ألف، وكل جزور لمائة وتبعها» .
ولم يرتح بعض المسلمين لنجاة القافلة ومواجهة جيش المشركين لأنهم لم يستعدوا للقتال. وقد صور القرآن الكريم موقفهم في الآيات التالية: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] {يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: 6] {وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7].
وكان الأنصار قد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية على أن يحموه في بلدهم، ولم يبايعوه على القتال معه خارج المدينة لذلك اقتصرت السرايا التي سبقت بدر على المهاجرين، ونظرا لوجود الأنصار مع المهاجرين ببدر وتفوقهم العددي الكبير فقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة رأيهم في الموقف الجديد. فكان أن شاور أصحابه عامة وقصد الأنصار خاصة، وقد روى ابن إسحق خبر المشورة بسند صحيح قال:
“فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «خيراً» ودعا له.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشيروا عليّ أيها الناس؟» وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يارسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك ما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يارسول الله؟ قال: «أجل».
قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك. فامض يارسول الله لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. قال: فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم».
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم طاعة الصحابة وشجاعتهم واجتماعهم على القتال، وحبهم للتضحية من أجل الإسلام بدأ بتنظيم جنده، فأعطى اللواء – وكان أبيض – إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين لعلي بن أبي طالب وسعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة .
وقد ظهرت الخلافات في جيش المشركين حيث كان عتبة بن ربيعة يريد العودة دون قتال المسلمين لئلا تكثر الترات بين الطرفين وبينهم أرحام وقرابات، أما أبو جهل فكان مصراً على القتال، وقد غلب رأيه أخيرا ، فقام المشركون بإرسال جاسوس لهم للتعرف على عدد المسلمين فأخبرهم بعددهم . وأخذ أبو جهل يدعو على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة” فكان ذلك استفتاحه الذي أشارت إليه الآية الكريمة {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]
لقد وصل المسلمون إلى بدر وقاموا باستطلاع المكان قبل وصول المشركين وقد ورد بسند حسن إلى عروة لكنه مرسل أن الحباب بن المنذر أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يترك مياه بدر خلفه لئلا يستفيد منها المشركون وأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورته . ورغم ضعف هذه الرواية من جهة الإرسال فإن مبدأ الشورى ثابت بنصوص القرآن الكريم وأحداث السيرة المطهرة.
فكثيراً ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه فيما لا وحي فيه، من الكتاب والسنة تعويداً لهم على التفكير بالمشاكل العامة وحرصا على تربيتهم على الشعور بالمسئولية ورغبة في تطبيق الأمر الإلهي بالشورى وتعويد الأمة على ممارستها.
وقد وصف علي في رواية صحيحة كيف بات المسلمون ليلة السابع عشر من رمضان ببدر وأمامهم معسكر المشركين قال: “لقد رأيتنا يوم بدر، وما منا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبحثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه يدعو ربه ويقول: «اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد» فلما طلع الفجر نادى: «الصلاة عباد الله»، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرَّض على القتال.
وقد وردت رواية ضعيفة تشير إلى أن تعبئة الجيش من حيث تهيئتهم للحرب وترتيبهم في مواضعهم تمت خلال الليل .وقد أثبتت آية قرآنية نزول المطر ببدر وهي {إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ} [الأنفال: 8] .
ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يريح جيشه فقام بحراستهم بنفسه تلك الليلة.
وفي صبيحة يوم السابع عشر من رمضان نظم الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه في صفوف كصفوف القتال . وهو أسلوب جديد في القتال يخالف ما جرت عليه عادة العرب من القتال بأسلوب الكر والفر وهو الأسلوب الذي قاتل وفقه المشركون ببدر، ولا شك أن نظام الصفوف يقلل من خسائر المسلمين ويعوض عن قلة عددهم أمام المشركين، وفيه مزية السيطرة على القوة بكاملها وتأمين العمق للجيش حيث تبقى دائماً بيد القائد قوة احتياطية في الخلف يعالج بها المواقف التي ليست بالحسبان.
وقد بنى للرسول صلى الله عليه وسلم عريش أو قبة كان فيها. ليدير منها المعركة باقتراح من سعد بن معاذ وذلك لأهمية الحفاظ على القائد في المعركة.
ولما اقترب المشركون من المسلمين قال لهم الرسول الكريم: «لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه». فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» . فلما سمع عمير بن الحمام الأنصاري ذلك قال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض”؟ قال: «نعم». قال: بخ بخ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: «فإنك من أهلها». فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكلن منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل”!!.
وحكى عمر بن الخطاب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء يوم بدر قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه «اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض». فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة. وقد خرج من العريش وهو يقول: «سيهزم الجمع ويولون الدبر».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر القتال بنفسه قال علي، رضي الله عنه: “لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً”.
وقد بدأ القتال بمبارزات فردية، حيث تقدم عتبة بن ربيعة وتبعه ابنه الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فانتدب لهم شباب من الأنصار فرفضوا مبارزتهم طالبين مبارزة بني قومهم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث بمبارزتهم، وقد تمكن حمزة من قتل عتبة ثم قتل علي شيبة، وأما عبيدة فقد تصدى للوليد وجرح كل منهما صاحبه فعاونه علي وحمزة فقتلوا الوليد واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين .
وقد أثرت نتيجة المبارزة في معسكر قريش وبدأوا الهجوم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنضح المشركين بالنبل إذا اقتربوا منهم حرصاً على الإفادة من النبال بأقصى ما يستطاع فقال: «إذا أكثبوهم فارموا واستبقوا نبلكم». ويذكر عروة وقتادة أن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى الحصا في وجوه المشركين ، وتدل على صحة ذلك الآية الكريمة: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17].
ثم التقى الجيشان في ملحمة قتل فيها عدد من زعماء المشركين، منهم أبو جهل عمرو بن هشام الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه فرعون هذه الأمة . وقد قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء وهما غلامان لا يعرفانه حتى دلهما عليه عبد الرحمن بن عوف، وقد أخبرا بأنهما يريدان قتل أبي جهل لما كان من سبه للرسول صلى الله عليه وسلم وقد أجهز عليه ابن مسعود بعد أن أصاباه.
ومنهم أمية بن خلف، فقد أسره عبد الرحمن بن عوف بعد المعركة وأسر معه علياً ابنه، فلمحه بلال، وكان هو الذي يعذبه بمكة، فقال: رأس الكفر أمية ابن خلف، لا نجوت إن نجا، واستصرخ عليه الأنصار فأعانوه على قتله هو وابنه علي .
وقد ثبت في القرآن والحديث أن الله تعالى أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر وكذلك صح أنها قاتلت ببدر.
فأما القرآن ففيه {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ال عمران: 123] {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ} [ال عمران: 124] {بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [ال عمران: 125] {وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }[ال عمران: 126].
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الانفال: 9] {وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الانفال: 10] .
وقال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }[الانفال: 12] .
هذا إذا أرجعنا الضمير في “اضربوا” إلى الملائكة لكن الطبري أرجعه للمؤمنين، وإن الله تعالى يعلمهم كيفية الضرب .
وأما الأحاديث:
فقد قال ابن عباس: “بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت ذلك مدد من السماء الثالثة» .
وقد أسر رجل من الأنصار العباس بن عبد المطلب، فقال العباس: “يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ما أراه في القوم”. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: «أسكت، فقد أيدك الله تعالى بملك كريم».
وفي مغازي الأموي بإسناد حسن: “خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل متعجر بعمامة آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع أتاك نصر الله وعدته».
وفي صحيح البخاري: “جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «أفضل المسلمين» – أو كلمة نحوها – قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة”.
فهذا ما صح من الآثار عن اشتراك الملائكة ببدر وقتالها فيها، وأما عن حكمة ذلك مع أن جبريل وحده قادر على إهلاكهم بأمر الله فيوضح السبكي ذلك بقوله: “وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى في عباده. والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلم”.
وقد يتحاشى بعض الكتاب المسلمين الإشارة إلى مشاركة الملائكة ببدر وهذا من مظاهر الهزيمة أمام الفكر المادي الذي لا يؤمن إلا بالمحسوسات، والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بالملائكة.
وأخذ المشركون يتساقطون صرعى، حتى قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وكان بعضهم يصرعون في مواضع كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لأصحابه قبل المعركة أنهم يصرعون فيها وذكرهم بأسمائهم.
ثم فروا لا يلوون على شيء تاركين غنائم كثيرة في ميدان المعركة.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسحب قتلى المشركين إلى آبار ببدر فألقوا فيها، وأقام ببدر ثلاثة أيام ودفن شهداء المسلمين فيها، وهم أربعة عشر شهيدا سمتهم المصادر وزاد ابن حجر عليهم في الإصابة اثنين آخرين . ولم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليهم وهي السنة في الشهداء ولم ينقل أحد منهم من بدر ليدفن في المدينة.
فلما كان اليوم الثالث ببدر وقف على أربعة وعشرين رجلا منهم من صناديد قريش في إحدى الآبار فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ويقول: «أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».
قال قتادة: ” أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما” .
ولم يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم قافلة أبي سفيان بعد بدر فقد وعده الله إحدى الطائفتين وأنفذ له وعده بالنصر على جيش المشركين .
وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على حياة بعض المشركين الذين خرجوا إلى بدر مكرهين خائفين من لائمة قومهم، ومنهم من قدم يدا للمسلمين في العهد المكي، وقد سمى منهم بني عبد المطلب – وفيهم عمه العباس بن عبد المطلب – وأبا البختري بن هشام ، فطلب من المسلمين أن يأسروهم وقد تم أسر العباس بن عبد المطلب، وأما أبو البختري فقد أصر على القتال فقتل .
وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فيما يصنع بالأسرى؟ فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم وعلل ذلك بقوله “فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام” وأشار عمر بن الخطاب بقتلهم “فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها”. ومال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر بقبول الفدية، فنزلت الآية الكريمة في موافقة رأي عمر، رضي الله عنه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الانفال: 67] {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الانفال: 68] إلى قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } [الانفال: 69] .
وبذلك أحل لهم ما أخذوه من الفداء بعد أن عاتبتهم الآية في تفصيل الفداء على عقوبة أئمة الكفر. وهذا الحكم كان في أول الإسلام ثم جعل الخيار للإمام بين القتل أو المفاداة أو المن عليهم دون فداء ما عدا الأطفال والنساء إذ لا يجوز قتلهم وقد تباين فداء الأسرى، فمن كان ذا مال فقد أخذ فداؤه أربعة آلاف درهم . وقد فدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها أبا العاص بن الربيع بقلادة، فأطلق الصحابة أسيرها وردوا عليها قلادتها إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن لم يكن لهم فداء من الأسرى، جعل فداؤهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة . ولم يكن هم المسلمين أخذ المال من هؤلاء قدر إضعافهم معنويا، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو كان مطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له»
وقد أراد الأنصار إعفاء العباس من دفع الفدية فهو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وجدته نجارية، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: «لا تذرون منه درهما» فلست هناك محاباة ولو مع عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الكل سواء أمام حكم الله ورسوله. رغم أنه أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان مسلما وقد أكره على الخروج إلى بدر . فدفع العباس مائة أوقية فدية ودفع عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية في حين دفع بعض الأسرى الآخرين أربعين أوقية فقط!!.
هذا بالنسبة للأسرى. أما الغنائم فقد وقع خلاف حولها إذ لم يكن حكمها قد شرع بعد، قال عبادة بن الصامت: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهم الله تبارك وتعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، فنحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الانفال:1] فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين – أي بالتساوي بينهم.
وتدل الآثار الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الخمس من الغنيمة ثم قسمها بين المقاتلين. وكانت آية الخمس قد نزلت ضمن سياق الآيات في غزوة بدر وهي قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} [الانفال:41]. وقد أسهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتسعة من الصحابة لم يشهدوا الغزوة لأعمال كلفوا بها في المدينة أو لإصابتهم بجروح وكسور في الطريق إلى بدر أو لغيرها من الأعذار. منهم عثمان بن عفان الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالعناية بزوجته رقية في مرض موتها . وما إن اتضح الحكم في الغنائم وكيفية توزيعا حتى ثاب الناس إلى طاعة الله ورسوله واختفى كل خلاف، وكان هذا شأنهم في كل أمر يقطع فيه الله ورسوله بحكم. وكان تقسيم الغنائم في الصفراء في طريق عودة الجيش إلى المدينة وقد تقدمهم زيد بن حارثة إليها بالبشارة، وقد تلقى المسلمون بالمدينة هذه البشارة بالفرح الغامر والحذر ألا يكون الخبر يقينا، قال أسامة: “فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى . وكانت الدهشة تعلوا الوجوه، أحقا هزمت قريش وأسر زعماؤها وتحطمت كبرياؤها وظهرت حقيقة آلهتها الزائفة وعقائدها الباطلة، وها هي أم المؤمنين سودة لفرط دهشتها تقول لأبي يزيد سهيل بن عمرو ويداه معقودتان إلى عنقه بحبل: “أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما”!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعلى الله وعلى رسوله!! – أي تؤلبين » فقالت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنه بالحبل أن قلت ما قلت!!
وفي طريق عودة الجيش إلى المدينة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل اثنين من الأسرى أولهما النضر بن الحارث وثانيهما عقبة بن أبي معيط ، وكانا يؤذيان المسلمين بمكة ويشتدان في عداوتهما لله ولرسوله. فهما من أئمة الكفر ومجرمي الحرب وفي قتلهما صبرا درس للطغاة بليغ، وقد تخلى عقبة عن جبروته ونادى: من للصبية يا رسول الله؟ فأجابه: «النار» . فهلا تذكر عقبة يوم ألقى سلاة شاة على رأس الني وهو ساجد فجاءت فاطمة فغسلته عنه !!
أما بقية الأسرى فقد استوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، حتى حكى أبو عزيز – وقد أسره أخوه مصعب بن عمير ومعه رجل أنصاري – أن آسريه كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوه بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى. حتى ما تقع في يد أحدهم خبزة إلا ناوله إياها قال: «فاستحي فأردها علي ما يمسها» وهذا الموقف آية على حسن معاملة الأسير في الإسلام وإيثاره بأفضل ما عند آسريه. مما لا نجد له مثيلاً في تواريخ الدنيا.
لقد كانت موقعة بدر – رغم صغر حجمها – فاصلة في تاريخ الإسلام لذلك سماها الله تعالى في كتابه بـ “يوم الفرقان” لأنه فرق بها بين الحق والباطل، وفيها حققت العقيدة الإسلامية انتصارات كبيرة، فقد ظهر استعلاؤها على سائر المصالح والمطامح والعلائق الدنيوية، فهاهم الأنصار يعلنون قبل بدئها أن التزاماتهم تجاه العقيدة لا تحدها اللوائح والعهود التي قطعوها في بيعة العقبة الثانية، بل هم جند مطيعون ومضحون من أجل عقيدتهم دون شرط ولا قيد، وها هم المهاجرون يواجهون أقاربهم في المعركة فالابن يلقى أباه والأخ يلقى أخاه، فلا تمنعهم أواصر القربى من قتلهم لأن مصلحة العقيدة فوق كل آصرة وارتباط. وقد استحق المقاتلون ببدر أن ينالوا التقدير الكبير الذي صار يلازم كلمة “البدري” حتى كونوا الطبقة الأولى من الصحابة في سجل الجند لعمر رضي الله عنه فكانوا يأخذون أعلى العطاء واحتلوا الصفحات الأولى من كتب الطبقات، وهكذا نالهم التكريم الأدبي والمادي على مر الدهور.
وقد أوضحت الأحاديث الصحيحة فضل البدريين وعلو مقامهم في الجنة، فقد أصيب حارثة بن سراقة الأنصاري يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر واحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع. فقال: «ويحك – أو هبلت – أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس ».
وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أخبر قريشاً بخبر قدوم المسلمين لفتح مكة فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «لعل الله اطلع على أهل بدر» فقال: «اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم» ولما قال عبد لحاطب: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية».
وكانت أصداء بدر عميقة في المدينة ومكة وأرجاء الجزيرة العربية فقد استعلى المؤمنون في المدينة على اليهود وبقايا المشركين، فانخذل اليهود وظهرت أحقادهم التي دفعت بهم إلى المجاهرة بالعداء، فقد غاظتهم النتيجة التي ما كانوا يتوقعونها فلم يعودوا يسيطرون على أفعالهم وأقوالهم التي تنم عن الغضب والحقد المتأججين. فاندفعوا نحو العدوان مما أدى إلى إجلاء بني قينقاع عن المدينة.
ودخل الكثيرون في الإسلام، وبعضهم دخل حماية لمصالحه بعد أن شعر برجحان كفة المسلمين، فكون هؤلاء جبهة المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول.
وأما قريش في مكة فلم تكد تصدق ما حدث، فقد قتل ساداتها وأبطالها، وتشير رواية مرسلة إلى أنها تجلدت فمنعت البكاء والنياحة على قتلاها لئلا يشمت بهم المسلمون.
وصممت على الانتقام والثأر، فأرسلت عمير بن وهب الجمحي لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وعده صفوان بن أمية بإعالة أهله إن قتل، فمضى إلى المدينة متوشحا سيفه، فملا بلغ المسجد أمسك به عمر بن الخطاب وذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأله عما جاء به فكذب عليه وزعم أنه جاء في طلب أسير، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بمقصده وما كان بينه وبين صفوان بن أمية، فأعلن إسلامه وطلب أن يأذن له بدعوة أهل مكة إلى الإسلام . ومما فعلته قريش للثأر لقتلاها أنها اشترت اثنين من أسرى المسلمين في حادثة الرجيع وهما خبيب وزيد ابن الدثنة فقتلتهما.