وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، …
وذلك أن معظم فلول هَوَازن وثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام ـ مالك بن عوف النَّصْرِي ـ وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة، في الشهر نفسه ـ شوال سنة 8 هـ.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على نخلة اليمانية، ثم على قَرْنِ المنازل، ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن.
ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم: أن مدة حصارهم كانت أربعين يوماً، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يوماً، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر.
ووقعت في هذه المدة مراماة، ومقاذفات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رمياً شديداً، كأنه رِجْل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك.
ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة.
ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار. فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً.
وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام ـ أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم.
ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف، وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم [أبا بكرة] ـ فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة.
ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «اغدوا على القتال»، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: «إنا قافلون غداً إن شاء اللّه» فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضحك.
ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: «آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون».
وقيل: يا رسول اللّه، ادع على ثقيف، فقال: «اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم».