فيها دخل مدينه السلام رسل ملك الروم ورئيساهم: شيخ وحدث، ومعهما عشرون علجا، فانزلوا الدار التي كانت لصاعد، ووسع عليهم في …
الأنزال والوظائف ثم ادخلوا بعد ايام الى دار الخليفة من باب العامه، وجيء بهم في الشارع الأعظم، وقد عبى لهم المصاف من باب المخرم الى الدار، فانزل الرئيسان عن دابتهما عند باب العامه، وادخلا الدار وقد زينت المقاصير بأنواع الفرش، ثم أقيما من الخليفة على نحو مائه ذراع، والوزير على بن محمد بين يديه قائم، والترجمان واقف يخاطب الوزير، والوزير يخاطب الخليفة، وقد اعد من آلات الذهب والفضه والجوهر والفرش ما لم ير مثله، وطيف بهما عليه ثم صير بهما الى دجلة، وقد اعدت على الشطوط الفيله والزرافات والسباع والفهود، وخلع عليهما، وكان في الخلع طيالسه ديباج مثقلة، وامر لكل واحد من الاثنين بعشرين الف درهم، وحمل في الشذا مع الذين جاؤوا معهما، وعبر بهما الى الجانب الغربي وقد مد المصاف على سائر شراع دجلة الى ان مر بهما تحت الجسر الى دار صاعد، وذلك يوم الخميس لست بقين من المحرم.
وقدم ابراهيم بن احمد الماذرائى من مكة، فقبض عليه ابن الفرات واغلظ له وصادره على مال عجل بعضه، ونجم الباقى عليه، وكتب ابن الفرات الى على بن احمد ابن بسطام المتقلد لاعمال الشام في المصير الى مصر، والقبض على الحسين بن احمد المعروف بابى زنبور، وعلى ابن أخيه ابى بكر محمد بن على، وحملهما الى مدينه السلام على جمازات، ونفذ اليه بهما من بغداد بعد مصادرتهما والاستقصاء عليهما، وحمل مال المصادره الى مدينه السلام، وقد كانا قبل ذلك ظفرا بابن بسطام، فأحسنا اليه فجازاهما ابن بسطام أيضا، بان رفق بهما وحسن أمورهما، وعنى بهما بعض حاشيه السلطان ببغداد وقيل للخليفة: ان الوزير انما وجه في قتلهما، فانفذ خادما من ثقات خدمه على الجمازات في طريق البريه الى دمشق، ومنها الى مصر وامر ابن بسطام الا يناظرهما الا بحضره الخادم الموجه اليه، والا يعنف عليهما وكان ذلك مما يحبه ابن بسطام، لأنه كان أساء بهما غاية الإساءة، وأخذ منهما مالا جليلا يقال انه احتجنه، وتقلد ابو الطيب اخوه مناظره ابن بسطام، رفقا به أيضا ولم يشتدا عليه في شيء مما كان اليه واحسنا اليه، وسلماه الى تكين صاحب مصر ليناظر بحضرته، فنسب ابو الطيب بفعله ذلك الى العجز وقال فيه بعض الشعراء بمصر شعرا ذكرته لما فيه من مذهبهم في شنعه التعذيب والاستقصاء:
يا أبا الطيب الذى اظهر الله *** به العدل ليس فيك انتصار
قد تانيت وانتظرت فهل بعد *** تانيك وقفه وانتظار
جد بالخائن البخيل فكشفه *** ففي كشفه عليه دمار
اين ضرب المقارع الارزنيات *** واين الترهيب والانتهار
اين صفع القفا واين التهاويل *** إذا علقت عليه الثفار
اين ضيق القيود والالسن الفظه *** اين القيام والاخطار
اين عرك الاذان واللطم للهام *** وعصر الخصا واين الزيار
اين نتف اللحا وشد الحيازيم *** واين الحبوس والمضمار
ليس يرضى بغير ذا منك سلطانك *** فاشدد فان رفقك عار
فبهذا يجيك مالك فاسمع *** وإليك الخيار والاختيار
وقبض ببغداد على ابن اخت ابراهيم بن احمد الماذرائى، وهو ابو الحسين محمد بن احمد، وكان يكتب لبدر الحمامي، ويخلف أبا زنبور وأبا بكر محمد بن على وطالبه ابن الفرات باموال، فاغرمه وأخذ جميع ما وجد له في داره.
وفي هذه السنه ورد الخبر بان الحسن بن خليل بن ريمال امير البصره من قبل شفيع المقتدرى أساء السيرة في البصره، ومديده الى امور قبيحه، ووظف على الاسواق وظائف، فوثبوا به، فركب واحرق السوق التي حول الجامع، وركضت خيله في المسجد، وقتلوا جماعه من العامه ممن كان في المسجد، ولم تصل الجمعه في ذلك اليوم ثم كثر اهل البصره فحاصروه في داره بموضع يعرف ببني نمير، واجتمع اصحابه اليه الى ان تقدم المقتدر الى شفيع المقتدرى بعزله، فعزله وولى رجلا من اصحابه يعرف بابن ابى دلف الخزاعي، فانحدر وافرج اهل البصره للحسن بن خليل حين خرج، وقد كان اهل البصره أطلقوا المحبوسين ومنعوا من صلاه الجمعه شهرا متواليا.
وفي هذه السنه ورد رجل من عسكر ابن ابى الساج يعرف بكلب الصحراء في الامان فذكر انه علوي، وان ابن ابى الساج كان يعتقله وانه هرب منه، فأجرى له ثلاثمائة دينار في المجتازين، وكتب الى ابن ابى الساج بذلك، فدس اليه من يناظره عن نسبه، وكان قد تزوج بامرأة ابن ابى ناظره، وهي ابنه الحسن بن محمد بن ابى عون، فاحضر ابن طومار النقيب، فناظره، وكان دعيا فسلم الى نزار بن محمد صاحب الشرطه ببغداد فوضعه في الحبس.
وفي شوال من هذه السنه دخل مؤنس الخادم الى الري لمحاربه ابن ابى الساج، بعد ان هزم ابن ابى الساج خاقان المفلحى، فما ترك أحدا من اصحابه يتبعه، ولا يأخذ من اصحابه شيئا ودخل ابن الفرات الى المقتدر بالله، فاعلمه ان على ابن عيسى كتب الى ابن ابى الساج يأمره ان يصير الى الري، حيله على الخليفة وتدبيرا عليه، فسمع المقتدر بالله هذا الكلام من ابن الفرات، فلما خرج سال على ابن عيسى عنه، وكان محبوسا عنده في داره، فقال له على: الناحية التي انهضت إليها ابن ابى الساج منغلقه بأخي صعلوك، فكتبت اليه بمحاربته، ولا أبالي من قتل منهما، وقد استأذنت امير المؤمنين في فعلى هذا، فاذن فيه، وسألته التوقيع به فوقع، وتوقيعه عندي، فاحضر التوقيع، فحسن موقع ذلك له من المقتدر ووسع على على بن عيسى في محبسه ولم يضيق عليه.
وفيها ورد الخبر بقتل عثمان العنزي القائد والى طريق خراسان، وادخل بغداد في تابوت، ثم ظفر بقاتله، وكان رجلا كرديا من غلمان علان الكردى، فضرب وثقل بالحديد حتى مات.
وفيها وردت هدايا احمد بن هلال صاحب عمان على المقتدر بالله، وفيها الوان الطيب ورماح وطرائف من طرائف البحر، فيها طير صينى اسود يتكلم افصح من الببغاء بالهندية والفارسيه، وفيها ظباء سود.
وفيها قدم القاسم بن سيما الفرغاني من مصر بعد ان عظم بلاؤه، وحسن اثره في حرب حباسه قائد الشيعة بمصر، وكان اهل مصر قد هزموا ودار سيف اهل المغرب بهم حتى لحقهم القاسم، فنجاهم كلهم وهزم حباسه واصحابه، فركبوا الليل، ووردت كتب اهل مصر وصاحب البريد بها يذكرون جليل فعله، وحسن مقامه وهو لا يشك في ان السلطان يجزل له العطاء ويقطعه الاقطاع الخطيره، ويوليه الاعمال العاليه فلما وصل الى باب الشماسيه أقاموه بها، ومنعوه الدخول الى ان مل وضجر ثم أذنوا له في الوصول، فاعتدوا بذلك نعمه عليه وكان القاسم رجل صدق، كثير الفتوح، حسن النيه، فلم يزل منذ دخل بغداد كمدا عليلا الى ان توفى في آخر هذه السنه يوم الجمعه لسبع ليال بقين من ذي الحجه.
وفيها ماتت بنت للمقتدر، فدفنت بالرصافة، وحضرها آل السلطان، وطبقات الناس.
وفيها مات القاسم بن زكرياء المطرز المحدث في صفر.
وفي شهر ربيع الآخر مات القاسم بن غريب الخال، ولم يتخلف عن جنازته احد من القواد والاجلاء، وركب ابن الفرات الوزير الى غريب معزيا في عشى ذلك اليوم الذى دفن ابنه في غداته.
وفي هذا الشهر ورد الخبر بموت العباس بن عمرو الغنوي، وكان عامل ديار مضر، ومقيما بالرقة، فحمل ما تخلف من المال والأثاث والسلاح والكراع الى المقتدر، واضطرب بعد موته امر ديار مضر، فقلدها وصيف البكتمرى، فلم يظهر منه فيها اثر يرضى، فعزل، وقلدها جنى الصفواني فضبطها.
وفيها مات عبد الله بن ابراهيم المسمعي يوم السبت لتسع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، ودفن في داره التي أقطعها بباب خراسان، وكان عبد الله بن ابراهيم المسمعي عاقلا عالما، قد كتب الحديث، وسمع عن الرياشي سماعا كثيرا، وكان حسن الحفظ، وكان ابنه عالما الا انه كان دونه.
وفيها مات سبكرى غلام عمرو بن الليث الصفار ببغداد.
وفيها مات غريب خال المقتدر يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه احمد بن العباس الهاشمى أخو أم موسى، ودفن بقصر عيسى وحضر جنازته الوزير على بن محمد وجميع حاشيته والقواد والقضاه، وكان نصر الحاجب قد احس من المقتدر سوء راى في الوزير ابن الفرات واستثقالا لمكانه، وعملا في الإيقاع به، فوجه نصر الى المقتدر يشعره بان ابن الفرات قد حضر الجنازة في جميع اهله وحاشيته، وقال له: ان كنت عازما على انفاذ امرك فيهم، فاليوم امكنك إذ لا تقدر على جمعهم هكذا، فوجه المقتدر: اخر هذا فليس وقته، وخلع بعد جمعه من ذلك اليوم على هارون ابن غريب، وقلد ما كان يتقلد أبوه من الاعمال، وعقد له لواؤه بعد ذلك.
وفي هذه السنه مات مصعب بن إسحاق بن ابراهيم يوم الأحد سلخ شعبان، وقد بلغ سنا عاليه، وصلى عليه الفضل بن عبد الملك امام مكة، وكان آخر من بقي من ولد إسحاق بن ابراهيم، وانتهت اليه وصيته، وكان أعيا الناس لسانا واكثرهم في القول خطلا، وكان طويل اللحية مغفلا الا انه كان صالحا وكتب الحديث ورواه، وله اخبار وكتب مصحفه منها ما كتب به الى اهله من القادسية لما حج والفى هذا الكتاب بخطه، فحكيته على ألفاظه.
بسم الله الرحمن الرحيم كتابي إليكم من القادسية وكنت قد اغفلت امر الاضاحى فقولوا لابن ابى الورد- يعنى وكيلا له- يشترى لكم ثلاث بقرات يحضيها على احد وعشرين أمهات الأولاد اثنى عشر وابى وأمي تمام العشرين، وانا آخرهم الحادي والعشرين، فرأيكم في ذلك تعجيله ان شاء الله.
وقال فيه بعض جيرانه من الشعراء:
وصى إسحاق يا بنى صدقه *** عما قليل سياخذ الصدقه
ضد لإسحاق في براعته *** يظهر من غير منطق حمقه
وان اتى بالكلام بدله *** فقال في حلقه لنا لحقه
وورد الخبر من فارس بموت إسحاق الاشروسنى، وكان قد تقلد شرطه الجانب الشرقى من بغداد.
واقام الحج في هذه السنه ابن الفضل بن عبد الملك وأبوه حاضر معه.