ذكر خبر قتل عبد الملك سعيد بن عمرو، ففيها كان خروج عبد الملك بن مروان- فيما زعم الواقدي- إلى عين وردة، واستخلف عمرو بن سعيد …
بن العاص على دمشق فتحصن بها، فبلغ ذلك عبد الملك، فرجع إلى دمشق، فحاصره- قال: ويقال:
خرج معه- فلما كان ببطنان حبيب، رجع إلى دمشق فتحصن فيها، ورجع عبد الملك إلى دمشق.
وأما عوانة بن الحكم فإنه قال- فيما ذكر هشام بن مُحَمَّد عنه: – إن عبد الملك بن مروان لما رجع من بطنان حبيب إلى دمشق مكث بدمشق ما شاء الله، ثم سار يريد قرقيسياء، وفيها زفر بن الحارث الكلابي ومعه عمرو بن سعيد، حتى إذا كان ببطنان حبيب فتك عمرو بن سعيد، فرجع ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي، حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو ابن سعيد هرب وترك عمله، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها.
وقال غيرهما: كانت هذه القصة في سنة سبعين وقال: كان مسير عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى شيء، فانصرف عنه عمرو راجعا إلى دمشق، فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق رجع الحديث إلى حديث هشام، عن عوانة، قال: ولما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه، فأمر بداره فهدمت واجتمع الناس، وصعد المنبر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وإنه ليس إلي من ذلك شيء، غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية ونزل.
واصبح عبد الملك، ففقد عمرو وسعيد، فسأل عنه، فأخبر خبره، فرجع عبد الملك إلى دمشق، فإذا عمرو قد جلل دمشق المسوح فقاتله بها أياما، وكان عمرو بن سعيد إذا أخرج حميد بن حريث الكلبي على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي، وإذا أخرج عمرو بن سعيد زهير بن الأبرد الكلبي أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل الكلبي.
قال هشام حدثني عوانة، أن الخيلين تواقفتا ذات يوم، وكان مع عمرو بن سعيد رجل من كلب يقال له رجاء بن سراج، فقال رجاء:
يا عبد الرحمن بن سليم، ابرز- وكان عبد الرحمن مع عبد الملك- فقال عبد الرحمن: قد أنصف القارة من راماها، وبرز له، فاطعنا وانقطع ركاب عبد الرحمن، فنجا منه ابن سراج، فقال عبد الرحمن:
والله لولا انقطاع الركاب لرميت بما في بطنك من تبن، وما اصطلح عمرو وعبد الملك أبدا، فلما طال قتالهم جاء نساء كلب وصبيانهم فبكين وقلن لسفيان بن الأبرد ولابن بحدل الكلبي: علام تقتلون أنفسكم لسلطان قريش! فحلف كل واحد منهما الا يرجع حتى يرجع صاحبه، فلما أجمعوا على الرجوع نظروا فوجدوا سفيان أكبر من حريث، فطلبوا إلى حريث، فرجع ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وآمنه عبد الملك وذلك عشية الخميس.
قال هشام: فحدثني عوانة أن عمرو بن سعيد خرج في الخيل متقلدا قوسا سوداء، فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب سرادق عبد الملك، فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو: يا أبا أمية، كأنك تشبه بتقلدك هذه القوس بهذا الحي من قيس! قال: لا، ولكني أتشبه بمن هو خير منهم، العاص بن أمية.
ثم قام مغضبا والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس، فبعث إلى عمرو أن أعط الناس أرزاقهم، فأرسل إليه عمرو:
أن هذا لك ليس ببلد فاشخص عنه فلما كان يوم الاثنين وذلك بعد دخول عبد الملك دمشق بأربع بعث إلى عمرو أن ائتني- وهو عند امرأته الكلبية، وقد كان عبد الملك دعا كريب بن أبرهة بن الصباح الحميري فاستشاره في أمر عمرو بن سعيد، فقال له: في هذا هلكت حمير، لا أرى لك ذلك، لا ناقتي في ذا ولا جملي- فلما أتى رسول عبد الملك عمرا يدعوه صادق الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو بن سعيد: يا أبا أمية، والله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وقد أرى هذا الرجل قد بعث إليك أن تأتيه، وأنا ارى لك الا تفعل، فقال له عمرو: ولم؟ قال: لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار.
قال: إن عظيما من عظماء ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل، فقال له عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه- وكان عبد الله بن يزيد زوج أم موسى بنت عمرو بن سعيد- فقال عمرو للرسول: أبلغه السلام، وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله فلما كان العشي لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهي وقميص قوهي، وتقلد سيفه وعنده امرأته الكلبية، وحميد بن حريث بن بحدل الكلبي، فلما نهض متوجها، عثر بالبساط، فقال له حميد: أما والله لئن أطعتني لم تأته، وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت إلى قولهم، ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده، فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له فدخل، ولم تزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى دخل عمرو قاعة الدار، وما معه إلا وصيف له، فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك، فإذا حوله بنو مروان، وفيهم حسان ابن مالك بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، فلما رأى جماعتهم أحس بالشر، فالتفت إلى وصيفه فقال: انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد، فقل له يأتيني فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له: لبيك! فقال له: اغرب عني في حرق الله وناره وقال عبد الملك لحسان وقبيصة: إذا شئتما فقوما فالتقيا وعمرا في الدار، فقال عبد الملك لهما كالمازح ليطمئن عمرو بن سعيد: أيكما أطول؟ فقال حسان: قبيصة يا أمير المؤمنين أطول مني بالإمرة، وكان قبيصة على الخاتم ثم التفت عمرو إلى وصيفه فقال: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني، فقال له: لبيك، ولم يفهم عنه، فقال له عمرو: اغرب عني، فلما خرج حسان وقبيصة أمر بالأبواب فغلقت، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: هاهنا يا أبا أمية، يرحمك الله! فأجلسه معه على السرير، وجعل يحدثه طويلا، ثم قال:
يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: أو تطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك! فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية! فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو:
قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس! فقال عبد الملك: أمكرا أبا أمية عند الموت! لاها الله إذا! ما كنا لنخرجك في جامعة على رءوس الناس، ولما نخرجها منك إلا صعدا.
ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو:
أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك إلى كسر عظم مني أن تركب ما هو أعظم من ذلك فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقي عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على مثل ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه فلما رأى عمرو أن ثنيته قد اندقت وعرف الذي يريد عبد الملك، قال: أغدرا يا بن الزرقاء! وقيل: إن عبد الملك لما جذب عمرا فسقطت ثنيته جعل عمرو يمسها، فقال عبد الملك له: أرى ثنيتك قد وقعت منك موقعا لا تطيب نفسك بعدها فأمر به فضرب عنقه.
رجع الحديث إلى حديث عوانة وأذن المؤذن العصر، فخرج عبد الملك يصلي بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتله، فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي، وليتول ذلك من هو أبعد رحما منك! فألقى عبد العزيز السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل، وغلقت الأبواب ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس عمرو معه، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد فأقبل في الناس حتى حل بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو، وأناس بعد من أصحابه كثير، فجعل من كان معه يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! وأقبل مع يحيى بن سعيد حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد لعمرو بن سعيد يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله ابراهيم ابن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلى فوجد عمرا حيا، فقال لعبد العزيز: ما منعك من أن تقتله! قال:
منعني أنه ناشدني الله والرحم فرققت له فقال له عبد الملك: أخزى الله أمك البوالة على عقبيها، فإنك لم تشبه غيرها- وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وذلك قول ابن الرقيات:
ذاك ابن ليلى عبد العزيز *** ببابليون تغدو جفانه رذما
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام، ائتني بالحربة فأتاه بالحربة فهزها، ثم طعنه بها فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مس الدرع، فضحك، ثم قال: ودارع أيضا يا أبا أمية! إن كنت لمعدا! يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي *** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك رعدة- وكذلك الرجل زعموا يصيبه إذا قتل ذا قرابة له- فحمل عبد الملك عن صدره فوضع على سريره، فقال:
ما رأيت مثل هذا قط، قتله صاحب دنيا ولا طالب آخره ودخل يحيى ابن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن كان معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى واصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ المال في البدور، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا الرأس انتهبوا الأموال وتفرقوا وقد قيل: إن عبد الملك ابن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى الناس وإلى أصحابه.
قال هشام: قال عوانة: فحدثت أن عبد الملك أمر بتلك الأموال التي طرحت إلى الناس فجبيت حتى عادت كلها إلى بيت المال، ورمي يحيى بن سعيد يومئذ في رأسه بصخرة، وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد، وخرج فجلس عليه، وفقد الوليد بن عبد الملك فجعل يقول:
ويحكم! أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فقال: هذا الوليد عندي، قد أصابته جراحة، وليس عليه بأس، فأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد! فأمر بيحيى فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام اليه عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها! فأمر بعنبسه فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان، فقال: اذكرك لك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها! فأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب رأسه عبد الملك بقضيب خيزران كان معه، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي! قال: نعم، لأن عمرا أكرمني وأهنتني، وأدناني وأقصيتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلي، فكنت معه عليك فأمر به عبد الملك أن يقتل، فقام عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي! فوهبه له وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر ثم إن عبد الملك صعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس فقال: يا أمير المؤمنين، هل تلد الحية إلا حية! نرى والله أن تقتله فإنه منافق عدو ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما قد صنعت، ولست لهم بآمن، ولا أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم بيد غيرك، وإن هم سلموا ورجعوا رأيت فيهم رأيك.
فأخذ برأيه، وأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير، فلما قدموا عليه دخل يحيى بن سعيد، فقال له ابن الزبير: انفلت وانحص الذنب، فقال: والله إن الذنب لبهلبه ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربه، وكان عمرو بن سعيد وعبد الملك يلتقيان في النسب إلى أمية، وكانت أم عمرو أم البنين ابنة الحكم ابن أبي العاص عمة عبد الملك قال هشام: فحدثنا عوانة أن الذي كان بين عبد الملك وعمرو كان شرا قديما، وكان ابنا سعيد أمهما أم البنين، وكان عبد الملك ومعاوية ابني مروان، فكانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أم مروان بن الحكم الكنانية يتحدثون عندها، فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود، وكانت أم مروان إذا أتوها هيأت لهم طعاما، ثم تأتيهم به فتضع بين يدي كل رجل صحفة على حدة، وكانت لا تزال تؤرش بين معاويه ابن مروان ومُحَمَّد بن سعيد، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد، فيقتتلون ويتصارمون الحين، لا يكلم بعضهم بعضا، وكانت تقول: إن لم يكن عند هذين عقل فعند هذين، فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم.
وذكر أن عبد الله بن يزيد القسري أبا خالد كان مع يحيى ابن سعيد حيث دخل المسجد فكسر باب المقصورة، فقاتل بني مروان، فلما قتل عمرو وأخرج رأسه إلى الناس ركب عبد الله وأخوه خالد فلحقوا بالعراق، فأقام مع ولد سعيد وهم مع مصعب حتى اجتمعت الجماعة على عبد الملك، وقد كانت عين عبد الله بن يزيد فقئت يوم المرج، وكان مع ابن الزبير يقاتل بني أمية، وإنه دخل على عبد الملك بعد الجماعة، فقال: كيف أنتم آل يزيد؟ فقال عبد الله: حرباء حرباء، فقال عبد الملك: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ*، وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ*.
قال هشام عن عوانة: إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومُحَمَّد، فلما نظر إليهم عبد الملك قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية.
فأقطع بأمية بن عمرو- وكان أكبرهم- فلم يقدر أن يتكلم، وكان أنبلهم وأعقلهم، فقام سعيد بن عمرو وكان الأوسط فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعي علينا أمرا كان في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، فوعدنا جنة، وحذرنا نارا! وأما الذي كان بينك وبين عمرو فان عمرا ابن عملك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو الى الله، وكفى بالله حسيبا، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك رقة شديدة، وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم، وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم! فأحسن جائزتهم، ووصلهم وقربهم.
وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: عجب منك ومن عمرو بن سعيد، كيف أصبت غرته فقتلته! فقال عبد الملك:
دانيته مني ليسكن روعه *** فأصول صولة حازم مستمكن
غضبا ومحمية لديني أنه *** ليس المسيء سبيله كالمحسن
قال عوانة: لقي رجل سعيد بن عمرو بن سعيد بمكة، فقال له: ورب هذه البنية، ما كان في القوم مثل أبيك، ولكنه نازع القوم ما في أيديهم فعطب.
وكان الواقدي يقول: إنما كان في سنة تسع وستين بين عبد الملك ابن مروان وعمرو بن سعيد الحصار، وذلك أن عمرو بن سعيد تحصن بدمشق فرجع عبد الملك إليه من بطنان حبيب، فحاصره فيها، وأما قتله إياه فإنه كان في سنة سبعين.
وفي هذه السنة حكم محكم من الخوارج بالخيف من منى فقتل عند الجمرة، ذكر محمد بن عمر أن يحيى بن سعيد بن دينار حدثه عن أبيه، قال: رأيته عند الجمرة سل سيفه، وكانوا جماعة فأمسك الله بأيديهم، وبدر هو من بينهم، فحكم، فمال الناس عليه فقتلوه.
وأقام الحج للناس فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ.
وكان عامله فيها على المصرين: الكوفة والبصرة أخوه مصعب بن الزبير وكان على قضاء الْكُوفَة شريح وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى خُرَاسَان عَبْد اللَّهِ بن خازم.