فمن ذلك مسير عبد الملك بن مروان فيها إلى العراق لحرب مصعب بن الزبير، وكان عبد الملك- فيما قيل- لا يزال يقرب من مصعب، …
حتى يبلغ بطنان حبيب، ويخرج مصعب إلى باجميرا، ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه، ثم يعودان، فقال عدي بن زيد بن عدي بن الرقاع العاملي:
لعمري لقد أصحرت خيلنا *** بأكناف دجلة للمصعب
إذا ما منافق أهل العراق *** عوتب ثمت لم يعتب
دلفنا إليه بذي تدرإ *** قليل التفقد للغيب
يهزون كل طويل القناة *** ملتئم النصل والثعلب
كأن وعاهم إذا ما غدوا *** ضجيج قطا بلد مخصب
فقدمنا واضح وجهه *** كريم الضرائب والمنصب
أعين بنا ونصرنا به *** ومن ينصر الله لم يغلب
فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: أقبل عبد الملك من الشام يريد مصعبا- وذلك قبل هذه السنة، في سنة سبعين- ومعه خالد بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فَقَالَ خالد لعبد الملك: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلب لك عليها، فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا في مواليه وخاصته، حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي.
قال عمر: قال أبو الحسن: قال مسلمة بن محارب: أجار عمرو بن أصمع خالدا، وأرسل إلى عباد بن الحصين وهو على شرطة ابن معمر- وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عليها عبيد الله بن عبيد الله بن معمر- ورجا عمرو بن أصمع ان يبايعه عباد بن الحصين- باتى قد اجرت خالدا فأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهرا فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل فقال عمرو لخالد: إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة، ولا والله ما أقدر على منعك، ولكن عليك بمالك بن مسمع قال أبو زيد: قال أبو الحسن: ويقال إنه نزل على علي بن أصمع، فبلغ ذلك عبادا فأرسل إليه عباد: أني سائر إليك.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن محمد، عن مسلمة وعوانة أن خالدا خرج من عند ابن أصمع يركض، عليه قميص قوهي رقيق، قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين، حتى أتى مالكا، فقال: إني قد اضطررت إليك، فأجرني، قال: نعم، وخرج هو وابنه، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فكانت أول راية أتته راية بني يشكر وأقبل عباد في الخيل، فتواقفوا، ولم يكن بينهم، فلما كان من الغد غدوا الى حفره نافع بن الحارث التي نسبت بعد إلى خالد، ومع خالد رجال من بني تميم قد أتوه، منهم صعصعة بن معاوية، وعبد العزيز بن بشر، ومرة بن محكان، في عدد منهم، وكان أصحاب خالد جفرية ينسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، فكان من الجفرية عبيد الله بن أبي بكرة وحمران والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية قيس بن الهيثم السلمي، وكان يستأجر الرجال يقاتلون معه، فتقاضاه رجل أجرة فقال: غدا أعطيكها، فقال غطفان بن أنيف، أحد بن كعب بن عمرو:
لبئس ما حكمت يا جلاجل *** النقد دين والطعان عاجل
وأنت بالباب سمير آجل.
وكان قيس يعلق في عنق فرسه جلاجل، وكان على خيل بني حنظله عمرو بن وبرة القحيفي، وكان له عبيد يؤاجرهم بثلاثين ثلاثين كل يوم، فيعطيهم عشرة عشرة، فقيل له:
لبئس ما حكمت يا بن وبره *** تعطى ثلاثين وتعطي عشره
ووجه المصعب زحر بن قيس الجعفي مددا لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مددا لخالد، فكره أن يدخل البصرة، وأرسل مطر بن التوءم فرجع إليه فأخبره بتفرق الناس، فلحق بعبد الملك.
قال أبو زيد: قال أبو الحسن: فحدثني شيخ من بني عرين، عن السكن بن قتادة، قال: اقتتلوا أربعة عشرين يوما، وأصيبت عين مالك، فضجر من الحرب، ومشت السفراء، بينهم يوسف بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فصالحه، على أن يخرج خالدا وهو آمن، فأخرج خالدا من البصره، وخاف الا يجيز المصعب أمان عبيد الله، فلحق مالك بثأج، فقال الفرزدق يذكر مالكا ولحوق التميمية به وبخالد:
عجبت لأقوام تميم أبوهمُ *** وهم في بني سعد عظام المبارك وكانوا أعز الناس قبل مسيرهم *** إلى الأزد مصفرا لحاها ومالك
فما ظنكم بابن الحواري مصعب *** إذا افتر عن أنيابه غير ضاحك
ونحن نفينا مالكا عن بلاده *** ونحن فقأنا عينه بالنيازك
قال أبو زيد: قال أبو الحسن: حدثني مسلمة أن المصعب لما انصرف عبد الملك إلى دمشق لم يكن له همة إلا البصرة، وطمع أن يدرك بها خالدا، فوجده قد خرج، وأمن ابن معمر الناس، فأقام أكثرهم، وخاف بعضهم مصعبا فشخص، فغضب مصعب على ابن معمر، وحلف الا يوليه، وأرسل إلى الجفرية فسبهم وأنبهم.
قال أبو زيد: فزعم المدائني وغيره من رواة أهل البصرة أنه أرسل إليهم فأتي بهم، فأقبل على عبيد الله بن أبي بكرة، فقال: يا بن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب، فجاءت بأحمر وأسود وأصفر من كل كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبدا نزل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف، ثم أقمتم البينة تدعون أن أبا سفيان زنى بأمكم، أما والله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم ثم دعا بحمران فقال: يا بن اليهودية، إنما أنت علج نبطي سبيت من عين التمر ثم قال للحكم بن المنذر بن الجارود: يا بن الخبيث، أتدري من أنت ومن الجارود! إنما كان الجارود علجا بجزيرة ابن كاوان فارسيا، فقطع إلى ساحل البحر، فانتمى إلى عبد القيس، ولا والله ما أعرف حيا أكثر اشتمالا على سوءة منهم ثم أنكح أخته المكعبر الفارسي فلم يصب شرفا قط أعظم منه، فهؤلاء ولدها يا بن قباذ ثم أتي بعبد الله بن فضالة الزهراني فقال: ألست من أهل هجر ثم من أهل سماهيج! أما والله لآردنك إلى نسبك ثم أتي بعلي بن أصمع، فقال: أعبد لبني تميم مرة وعزي من باهلة! ثم أتي بعبد العزيز بن بشر بن حناط فقال: يا بن المشتور، ألم يسرق عمك عنزا في عهد عمر، فأمر به فسير ليقطعه! أما والله ما أعنت إلا من ينكح أختك- وكانت أخته تحت مقاتل بن مسمع- ثم أتي بأبي حاضر الأسدي فقال: يا بن الإصطخرية، ما أنت والأشراف! وإنما أنت من أهل قطر دعي في بني أسد، ليس لك فيهم قريب ولا نسيب ثم أتي بزياد بن عمرو فقال: يا بن الكرماني، إنما أنت علج من أهل كرمان قطعت الى فارس فصرت ملاحا، مالك وللحرب! لأنت بجر القلس أحذق ثم أتي بعبد الله بن عثمان بن أبي العاص فقال: أعلي تكثر وأنت علج من أهل هجر، لحق أبوك بالطائف وهم يضمون من تأشب إليهم يتعززون به! أما والله لأردنك إلى أصلك ثم أتي بشيخ بن النعمان فقال: يا بن الخبيث، انما أنت علج من اهل زند ورد، هربت أمك وقتل أبوك، فتزوج أخته رجل من بني يشكر، فجاءت بغلامين، فألحقناك بنسبهما، ثم ضربهم مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وهدم دورهم، وصهرهم في الشمس ثلاثا، وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة، وأحلفهم ألا ينكحوا الحرائر وبعث مصعب خداش بن يزيد الأسدي في طلب من هرب من أصحاب خالد، فأدرك مرة بن محكان فأخذه، فقال مرة:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا *** تميما إذا الحرب العوان اشمعلت
بني أسد هل فيكمُ من هوادة *** فتعفون إن كانت بي النعل زلت
فلا تحسب الأعداء إذ غبت عنهمُ *** وأوريت معنا أن حربيَ كلت
تمشى خداش في الأسكة آمنا *** وقد نهلت مني الرماح وعلت
فقربه خداش فقتله- وكان خداش على شرطة مصعب يومئذ- وأمر مصعب سنان بن ذهل أحد بني عمرو بن مرثد بدار مالك بن مسمع فهدمها، وأخذ مصعب ما كان في دار مالك، فكان فيما أخذ جارية ولدت له عمر بن مصعب قال: وأقام مصعب بالبصرة حتى شخص إلى الكوفة، ثم لم يزل بالكوفة حتى خرج لحرب عبد الملك، ونزل عبد الملك مسكن، وكتب عبد الملك إلى المروانية من أهل العراق، فأجابه كلهم وشرط عليه ولاية أصبهان، فأنعم بها لهم كلهم، منهم حجار ابن أبجر، والغضبان بن القبعثرى، وعتاب بن ورقاء، وقطن بن عبد الله الحارثي، ومُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وزحر بن قيس، ومحمد ابن عمير، وعلى مقدمته مُحَمَّد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار إليه مصعب وقد خذله أهل الكوفة.
قال عروة بن المغيرة بن شعبة: فخرج يسير متكئا على معرفة دابته، ثم تصفح الناس يمينا وشمالا فوقعت عينه علي، فقال: يا عروة، إلي، فدنوت منه، فقال: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فقال:
إن الألى بالطف من آل هاشم *** تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
قال: فعلمت أنه لا يريم حتى يقتل، وكان عبد الملك- فيما ذكر محمد بن عمر عن عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بن أبي قره، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة- قال: لما قتل عمرو بن سعيد وضع السيف فقتل من خالفه، فلما أجمع بالمسير إلى مصعب وقد صفت له الشام وأهلها خطب الناس وأمرهم بالتهيؤ إلى مصعب، فاختلف عليه رؤساء أهل الشام من غير خلاف لما يريده، ولكنهم أحبوا أن يقيم ويقدم الجيوش، فإن ظفروا فذاك، وإن لم يظفروا أمدهم بالجيوش خشية على الناس إن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أقمت مكانك وبعثت على هؤلاء الجيوش رجلا من أهل بيتك، ثم سرحته إلى مصعب! فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجئت إلى ذلك ومصعب في بيت شجاعة، أبوه أشجع قريش، وهو شجاع ولا علم له بالحرب يحب الخفض، ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي فسار عبد الملك حتى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا، وكتب عبد الملك إلى شيعته من أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال: ما فيه؟ فقال: ما قرأته، فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس منه مني، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم قال: إذا لا تناصحنا عشائرهم قال: فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعنقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم فقال: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه! حدثني عمر، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سلام، عن عبد القاهر بن السري، قال: هم أهل العراق بالغدر بمصعب، فقال قيس بن الهيثم:
ويحكم! لا تدخلوا أهل الشام عليكم، فو الله لئن تطعموا بعيشكم ليصفين عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف وأحدنا على ألف بعير، وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه.
قال: ولما تدانى العسكران بدير الجاثليق من مسكن، تقدم إبراهيم بن الأشتر فحمل على مُحَمَّد بن مروان فأزاله عن موضعه، فوجه عبد الملك بن مروان عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقرب من محمد بن مروان والتقى القوم فقتل مسلم بن عمرو الباهلى، وقتل يحيى ابن مبشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع، وقتل ابراهيم بن الاشتر، فهرب عتاب ابن ورقاء- وكان على الخيل مع مصعب- فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثي: أبا عثمان، قدم خيلك، قَالَ: ما أرى ذلك، قَالَ: ولم؟
قَالَ: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء، فقال لحجار بن أبجر:
أبا أسيد، قدم رايتك، قال: إلى هذه العذرة! قال: ما تتأخر إليه والله أنتن وألأم، فقال لمُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك، فقال: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله، فقال مصعب: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم! حدثني أبو زيد، قال: حدثني مُحَمَّد بن سلام، قال: أخبر ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس، قال: افمعه المهلب بن ابى صفره؟
قيل: لا، استعمله على الموصل، قال: أفمعه عباد بن الحصين؟ قيل:
لا، استخلفه على البصرة، فقال: وأنا بخراسان!
خذيني فجريني جعار وابشرى *** بلحم امرى لم يشهد اليوم ناصره
فقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب: يا بني، اركب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره ما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول.
فقال ابنه: والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن إن أردت ذلك فالحق بالبصرة فهم على الجماعة، أو الحق بأمير المؤمنين قال مصعب: والله لا تتحدث قريش أني فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة ولا خلق، ولكن إن أردت أن ترجع فارجع فقاتل فرجع فقاتل حتى قتل.
قال علي بن مُحَمَّد عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المهاجر، عن أبيه أن عبد الملك أرسل إلى مصعب مع أخيه مُحَمَّد بن مروان: أن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا.
وقال الهيثم بن عدي: حدثنا عبد الله بن عياش، عن أبيه، قال:
إنا لوقوف مع عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعبا إذ دنا زياد بن عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، قلما أرادني مصعب بسوء إلا دفعه عني، فإن رأيت أن تؤمنه على جرمه! قال: هو آمن، فمضى زياد- وكان ضخما على ضخم- حتى صار بين الصفين، فصاح: أين أبو البختري إسماعيل بن طلحة؟ فخرج إليه، فقال: إني أريد أن أذكر لك شيئا، فدنا حتى اختلفت أعناق دوابهما- وكان الناس ينتطقون بالحواشي المحشوة- فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه- وكان نحيفا- فقال: أنشدك الله يا أبا المغيرة، إن هذا ليس بالوفاء لمصعب، فقال: هذا أحب الى من أن أراك غدا مقتولا.
ولما أبى مصعب قبول الأمان نادى مُحَمَّد بن مروان عيسى بن مصعب وقال له: يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان، فقال له مصعب:
قد آمنك عمك فامض إليه، قال: لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل، قال: فتقدم بين يدي أحتسبك، فقاتل بين يديه حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي، ونظر إليه زائدة بن قدامة فشد عليه فطعنه، وقال: يا لثأرات المختار! فصرعه، ونزل اليه عبيد الله ابن زياد بن ظبيان، فاحتز رأسه، وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد فأتي به عبد الملك بن مروان فأثابه ألف دينار، فأبى أن يأخذها، وقال: إني لم أقتله على طاعتك، إنما قتلته على وتر صنعه بي، ولا آخذ في حمل رأس مالا فتركه عند عبد الملك.
وكان الوتر الذي ذكره عبيد الله بن زياد بن ظبيان أنه قتل عليه مصعبا أن مصعبا كان ولي في بعض ولايته شرطه مطرف بن سيدان الباهلي ثم أحد بني جأوة فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني أبو الحسن المدائني ومخلد بن يحيى بن حاضر، ان مطرفا اتى بالنابى بن زياد بن ظبيان ورجل من بني نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ، وضرب النميري بالسياط فتركه، فجمع له عبيد الله بن زياد بن ظبيان جمعا بعد أن عزله مصعب عن البصرة وولاه الأهواز، فخرج يريده، فالتقيا فتواقفا وبينهما نهر، فعبر مطرف إليه النهر، وعاجله ابن ظبيان فطعنه فقتله، فعبث مصعب مكرم بن مطرف في طلب ابن ظبيان، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق ابن ظبيان ولحق ابن ظبيان بعبد الملك لما قتل أخوه، فقال البعيث اليشكري بعد قتل مصعب يذكر ذلك:
ولما رأينا الأمر نكسا صدوره *** وهم الهوادي أن تكن تواليا
صبرنا لأمر الله حتى يقيمه *** ولم نرض إلا من أمية واليا
ونحن قتلنا مصعبا وابن مصعب *** أخا أسد والنخعي اليمانيا
ومرت عقاب الموت منا بمسلم *** فأهوت له نابا فأصبح ثاويا
سقينا ابن سيدان بكأس روية *** كفتنا، وخير الأمر ما كان كافيا
حدثني أبو زيد، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: مر ابن ظبيان بابنة مطرف بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيك، فقالت:
في سبيل الله أبي، فقال ابن ظبيان:
فلا في سبيل الله لاقى حمامه *** أبوك ولكن في سبيل الدراهم
فلما قتل مصعب دعا عبد الملك بن مروان أهل العراق إلى البيعة، فبايعوه، وكان مصعب قتل على نهر يقال له الدجيل عند دير الجاثليق فلما قتل أمر به عبد الملك وبابنه عيسى فدفنا ذكر الواقدي عن عثمان بن مُحَمَّد، عن أبي بكر بن عمر، عن عروة قال: قال عبد الملك حين قتل مصعب: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم.
قال أبو زيد: وحدثني أبو نعيم، قال: حدثني عبد الله بن الزبير أبو أبي أحمد، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك العامري، قَالَ: إني لواقف إلى جنب مصعب بن الزبير فأخرجت له كتابا من قبائي، فقلت له: هذا كتاب عبد الملك، فقال: ما شئت، قال: ثم جاء رجل من أهل الشام فدخل عسكره، فاخرج جاريه فصاحت: وا ذلاه! فنظر إليها مصعب، ثم أعرض عنها.
قال: وأتي عبد الملك برأس مصعب، فنظر إليه فقال: متى تغدو قريش مثلك! وكانا يتحدثان إلى حبى، وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب، فقالت: تعس قاتله، قيل: قتله عبد الملك بن مروان، قالت: بأبي القاتل والمقتول! قال: وحج عبد الملك بعد ذلك، فدخلت عليه حبى، فقالت:
أقتلت أخاك مصعبا؟ فقال:
من يذق الحرب يجد طعمها *** مرا وتتركه بجعجاع
وقال ابن قيس الرقيات:
لقد أورث المصرين خزيا وذلة *** قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل *** ولا صبرت عند اللقاء تميم
ولو كان بكريا تعطف حوله *** كتائب يغلي حميها ويدوم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن *** بها مضري يوم ذاك كريم
جزى الله كوفيا هناك ملامة *** وبصريهم إن المليم مليم
وإن بني العلات أخلوا ظهورنا *** ونحن صريح بينهم وصميم
فان نفن لا يبقوا ولا يك بعدنا *** لذي حرمة في المسلمين حريم
قال أبو جعفر: وقد قيل: إن ما ذكرت من مقتل مصعب والحرب التي جرت بينه وبين عبد الملك كانت في سنة اثنتين وستين، وان امر خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد ومصيره إلى البصرة من قبل عبد الملك كان في سنة إحدى وسبعين، وقتل مصعب في جمادى الآخرة
ذكر الخبر عن دخول عبد الملك بن مروان الكوفه
وفي هذه السنة دخل عبد الملك بن مروان الكوفة وفرق أعمال العراق والمصرين الكوفة والبصرة على عماله في قول الواقدي، وأما أبو الحسن فإنه ذكر أن ذلك في سنة اثنتين وسبعين.
وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قتل مصعب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الآخرة سنة اثنتين وسبعين.
ولما أتي عبد الملك الكوفة- فيما ذكر- نزل النخيلة، ثم دعا الناس إلى البيعة، فجاءت قضاعة، فرأى قلة، فقال: يا معشر قضاعة، كيف سلمتم من مضر مع قلتكم! فقال: عبد الله بن يعلى النهدي:
نحن أعز منهم وأمنع، قال: بمن؟ قال: بمن معك منا يا امير المؤمنين.
ثم جاءت مذجح وهمدان فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا ثم جاءت جعفي، فلما نظر إليهم عبد الملك قال: يا معشر جعفي، اشتملتم على ابن أختكم، وواريتموه؟ يعني يحيى بن سعيد بن العاص- قالوا: نعم، قال: فهاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون أيضا! فقال رجل منهم: إنا والله ما نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحب عليه تسحب الولد على والده، فقال: أما والله لنعم الحي أنتم، إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والاسلام، هو آمن، فجاءوا به وكان يكنى أبا أيوب، فلما نظر إليه عبد الملك قال أبا قبيح، بأي وجه تنظر إلى ربك وقد خلعتني! قال: بالوجه الذي خلقه، فبايع ثم ولى فنظر عبد الملك في قفاه فقال: لله دره! أي ابن زوملة هو! يعني غريبة.
وقال علي بن مُحَمَّد: حدثني القاسم بن معن وغيره أن معبد بن خالد الجدلي قال: ثم تقدمنا إليه معشر عدوان، قال: فقدمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخرت- وكان معبد دميما- فقال عبد الملك: من؟
فقال الكاتب: عدوان، فقال عبد الملك:
عذير الحي من عدوان *** كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضا *** فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادات *** والموفون بالقرض
ثم أقبل على الجميل فقال: إيه! فقال: لا أدري، فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضي *** فلا ينقض ما يقضي
ومنهم من يجيز *** الحج بالسنة والفرض
وهم مذ ولدوا شبوا *** بسر النسب المحض
قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال: من هو؟ قال:
لا أدري، فقلت من خلفه: ذو الإصبع، قال: فأقبل على الجميل فقال:
ولم سمى ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه فقطعتها، فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟
فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: حرثان بن الحارث، فأقبل على الجميل، فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: من بني ناج، فقال:
أبعد بني ناج وسعيك بينهم *** فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم *** يقول وهيب: لا أصالح ذلكا
فأضحى كظهر العير جب سنامه *** تطيف به الولدان أحدب باركا
ثم أقبل على الجميل، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، فقال لي:
في كم أنت؟ قلت: في ثلاثمائة، فأقبل على الكاتبين، فقال: حطا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا، فرجعت وأنا في سبعمائة، وهو في ثلاثمائة ثم جاءت كندة فنظر إلي عبد الله بن إسحاق بن الأشعث، فأوصى به بشرا أخاه، وقال: اجعله في صحابتك وأقبل داود بن قحذم في مائتين من بكر بن وائل، عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك، ثم نهض ونهضوا معه فأتبعهم عبد الملك بصره، فقال: هؤلاء الفساق، والله لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة.
ثم إنه ولى- فيما قيل- قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، وولى بشر بن مروان وصعد منبر الكوفة فخطب فقال:
إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم ثم قال: إني قد استعملت عليكم بشر بن مروان، وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
817 واستعمل مُحَمَّد بن عمير على همذان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق العمال، ولم يف لأحد شرط عليه ولاية أصبهان، ثم قال: علي هؤلاء الفساق الذين انغلوا الشام، وأفسدوا العراق، فقيل:
قد أجارهم رؤساء عشائرهم، فقال: وهل يجير علي أحد! وكان عبد الله بن يزيد بن أسد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وعمرو بن زيد الحكمي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فآمنهم عبد الملك، فظهروا قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تنازع الرياسة بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان، فحدثني عمر بن شبة قال: حدثني علي بن مُحَمَّد قال: لما قتل المصعب وثب حمران بن أبان وعبيد الله بن أبي بكرة فتنازعا في ولاية البصرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم غناء منك، أنا كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة، فاستعن بعبد الله بن الأهتم، فإنه إن أعانك لم يقو عليك ابن أبي بكرة، ففعل، وغلب حمران على البصرة وابن الأهتم على شرطها.
وكان لحمران منزلة عند بني أمية، حدثني أبو زيد قال: حدثني أبو عاصم النبيل قال: أخبرني رجل قال: قدم شيخ أعرابي فرأى حمران فقال: من هذا؟ فقالوا: حمران، فقال: لقد رأيت هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه قال أبو زيد:
قال أبو عاصم: فحدثت بذلك رجلا من ولد عبد الله بن عامر، فقال:
حدثني أبي أن حمران مد رجله فابتدر معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها
ذكر خبر ولايه خالد بن عبد الله على البصره
وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا، حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: مكث حمران على البصرة يسيرا، وخرج ابن أبي بكرة حتى قدم على عبد الملك الكوفة بعد مقتل مصعب، فولى عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة وأعمالها، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة خليفته على البصرة، فلما قدم على حمران، قال: أقد جئت لا جئت! فكان ابن أبي بكرة على البصرة حتى قدم خالد.
وفي هذه السنة رجع عبد الملك- فيما زعم الواقدي- إلى الشام قال: وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف قال: وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة، وأقام طارق بالمدينة حتى كتب إليه عبد الملك.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير في قول الواقدى
خطبه عبد الله بن الزبير بعد مقتل مصعب
وذكر أبو زيد عن أبي غسان مُحَمَّد بن يحيى، قال: حدثنى مصعب ابن عثمان، قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل مصعب قام في الناس فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه، وإن كان فردا، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طرا ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر حزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب رحمة الله عليه، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي حزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، ولئن أصبت بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني إلا أن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف ألا انما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر لا ابك عليها بكاء الحرق المهين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وذكر أن عبد الملك لما قتل مصعبا ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصنع، وأمر به إلى الخورنق، وأذن إذنا عاما، فدخل الناس فأخذوا مجالسهم، فدخل عمرو بن حريث المخزومي فقال: إلي وعلى سريري، فأجلسه معه، ثم قال: أي الطعام أكلت أحب إليك وأشهى عندك؟ قال:
عناق حمراء قد أجيد تمليحها، وأحكم نضجها، قال:
ما صنعت شيئا، فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه، وأحكم نضجه، اختلجت إليك رجله، فأتبعتها يده، غذي بشريجين من لبن وسمن ثم جاءت الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك بن مروان: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم! ولكنا كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى بلى *** وكل امرئ يوما يصير إلى كان
فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث: لمن هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك:
وكل جديد يا أميم إلى بلى *** وكل امرئ يوما يصير إلى كان
ثم أتى مجلسه فاستلقى، وقال:
اعمل على مهل فإنك ميت *** واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى *** وكأن ما هو كائن قد كان
وفي هذه السنة افتتح عبد الملك- في قول الواقدي- قيساريه.