فمن ذلك ما كان من دخول مفلح طبرستان ووقعة كانت بينه وبين الحسن بن زيد الطالبي هزم فيها مفلح الحسن بن زيد، فلحق بالديلم، ثم دخل …
مفلح آمل، وأحرق منازل الحسن بن زيد، ثم توجه نحو الديلم في طلب الحسن بن زيد
ذكر خبر استيلاء يعقوب بن الليث على كرمان
وفيها كانت وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن علي بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان- وكان قبل من عمال آل طاهر- وكتب يذكر ضعف آل طاهر وقلة ضبطهم، بما إليهم من البلاد، وأن يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس، فكتب السلطان إليه بولاية كرمان، وكتب إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤنة الهالك منهما عنه ويتفرد بمؤونه الآخر، إذ كان كل واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته، فلما فعل ذلك بهما زحف يعقوب بن الليث من سجستان يريد كرمان، ووجه علي بن الحسين طوق بن المغلس وقد بلغه خبر يعقوب وقصده كرمان في جيش عظيم من فارس، فصار طوق بكرمان، وسبق يعقوب إليها فدخلها، وأقبل يعقوب من سجستان، فصار من كرمان على مرحلة.
فحدثني من ذكر أنه كان شاهدا أمرهما، أن يعقوب بقي مقيما في الموضع الذي أقام به من كرمان على مرحلة لا يرتحل عنه شهرا أو شهرين، يتجسس أخبار طوق، ويسأل عن أمره كل من مر به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز عسكره من ناحيته إلى كرمان، ولا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق فلما طال ذلك من أمرهما كذلك أظهر يعقوب الارتحال عن معسكره إلى ناحية سجستان، فارتحل عنه مرحلة.
وبلغ طوقا ارتحاله، فظن أنه قد بدا له في حربه، وترك عليه كرمان وعلى علي بن الحسين، فوضع آلة الحرب، وقعد للشرب، ودعا بالملاهي، ويعقوب في كل ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره فاتصل به ووضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشراب واللهو بارتحاله، فكر راجعا، فطوى المرحلتين إليه في يوم واحد، فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر نهاره إلا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان، فقال لأهل القرية: ما هذه الغبرة؟ فقيل له: غبرة مواشي أهل القرية منصرفة إلى أهلها، ثم لم يكن الا كلا ولا، حتى وفاه يعقوب في أصحابه، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحاب طوق لما أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا للقوم، فأفرجوا لهم، فمروا هاربين على وجوههم، وخلوا كل شيء لهم مما كان معهم في معسكرهم، وأسر يعقوب طوقا.
فحدثني ابن حماد البربري أن علي بن الحسين لما وجه طوقا حمله صناديق في بعضها اطواقه وأسورة ليطوق ويسور من أبلى معه من أصحابه، وفي بعضها أموال ليجيز من استحق الجائزة منهم، وفي بعضها قيود وأغلال ليقيد بها من أخذ من أصحاب يعقوب، فلما أسر يعقوب طوقا ورؤساء الجيش الذين كانوا معه أمر بحيازة كل ما كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كله، وجمع إليه، فلما أتي بالصناديق أتي بها مقفله، فأمر ببعضها أن يفتح، ففتح فإذا فيه القيود والأغلال، فقال لطوق: يا طوق، ما هذه القيود والأغلال؟ قال: حملنيها علي بن الحسين لأقيد بها الأسرى وأغلهم بها، فقال: يا فلان، انظر أكبرها وأثقلها فاجعله في رجلي طوق وغله بغل ثم جعل يفعل مثل ذلك بمن أسر من أصحاب طوق قال: ثم أمر بصناديق أخر ففتحت، فإذا فيها أطوقة وأسورة، فقال: يا طوق.
ما هذه؟ قال: حملنيها علي لأطوق بها وأسور أهل البلاء من أصحابي، قال: يا فلان، خذ من ذلك طوق كذا وسوار كذا، فطوق فلانا وسوره، ثم جعل يفعل ذلك بأصحاب نفسه حتى طوقهم وسورهم، ثم جعل يفعل كذلك بالصناديق قال: ولما أمر يعقوب بمديد طوق ليضعها في الغل، إذا على ذراعه عصابة، فقال له: ما هذا يا طوق؟ قال: أصلح الله الأمير! إني وجدت حرارة ففضدتها، فدعا بعض من معه فامر بمد خفه من رجله ففعل ذلك، فلما نزعه من رجله تناثر من خفه كسر خبز يابسة فقال: يا طوق هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي في خفي منه آكل لا أطأ فراشا، وأنت جالس في الشرب والملاهي! بهذا التدبير أردت حربي وقتالي! فلما فرغ يعقوب بن الليث من أمر طوق دخل كرمان وحازها وصارت مع سجستان من عمله.
ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث فارس
وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس وأسر علي بن الحسين بن قريش.
ذكر الخبر عن سبب أسره إياه وكيف وصل إليه:
حدثني ابن حماد البربري، قال: كنت يومئذ بفارس عند علي بن الحسين بن قريش، فورد عليه خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق ابن المغلس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها، ورجع إليه الفل، فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس، وعلي يومئذ بشيراز من أرض فارس، فضم اليه جيشه ورجالة الفل من عند طوق وغيرهم، وأعطاهم السلاح، ثم برز من شيراز، فصار إلى كر خارج شيراز بين آخر طرفه عرضا مما يلي أرض شيراز، وبين عرض جبل بها من الفضاء قدر ممر رجل أو دابة، لا يمكن من ضيقه أن يمر فيه أكثر من رجل واحد فأقام في ذلك الموضع، وضرب عسكره على شط ذلك الكز مما يلي شيراز، وأخرج معه المتسوقة والتجار من مدينة شيراز إلى معسكره، وقال: إن جاء يعقوب لم يجد موضعا يجوز الفلاة إلينا، لأنه لا طريق له إلا الفضاء الذي بين الجبل والكر، وإنما هو قدر ممر رجل، إذا أقام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه، وإن لم يقدر أن يجوز إلينا بقي في البر بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابهم.
قال ابن حماد: فأقبل يعقوب حتى قرب من الكر، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو من ميل من الكر مما يلي كرمان، ثم أقبل هو وحده وبيده رمح عشاري، يقول ابن حماد: كأني أنظر إليه حين أقبل وحده على دابته، ما معه إلا رجل واحد، فنظر إلى الكر والجبل والطريق، وقرب من الكر، وتأمل عسكر علي بن الحسين، فجعل أصحاب علي يشتمونه، ويقولون: لنردنك إلى شعب المراجل والقماقم، يا صفار- وهو ساكت لا يرد عليهم شيئا- قال: فلما تأمل ما أراد من ذلك ورآه، انصرف راجعا إلى أصحابه قال: فلما كان من الغد عند الظهر أقبل بأصحابه ورجاله حتى صار على شط كر مما يلي بر كرمان، فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابهم، وحطوا أثقالهم قال: ثم فتح صندوقا كان معه.
قال ابن حماد: كأني أنظر إليهم وقد أخرجوا كلبا ذئبيا، ثم ركبوا دوابهم أعراء، وأخذوا رماحهم بأيديهم قال: وقبل ذلك كان قد عبأ علي ابن الحسين أصحابه، فأقامهم صفوفا على الممر الذي بين الجبل والكر، وهم يرون أنه لا سبيل ليعقوب، ولا طريق له يمكنه أن يجوزه غيره قال: ثم جاءوا بالكلب، فرموا به في الكر، ونحن وأصحاب علي ينظرون إليهم يضحكون منهم ومنه قال: فلما رموا بالكلب فيه، جعل الكلب يسبح في الماء إلى جانب عسكر علي بن الحسين، وأقحم أصحاب يعقوب دوابهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم، يسيرون في أثر الكلب فلما راى على ابن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة الكر إليه وإلى أصحابه، انتقض عليه تدبيره، وتحير في أمره، ولم يلبث أصحاب يعقوب إلا أيسر ذلك حتى خرجوا من الكر من وراء أصحاب علي بن الحسين، فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتى هرب أصحاب علي يطلبون مدينة شيراز، لأنهم كانوا يصيرون إذا خرج أصحاب يعقوب من الكر بين جيش يعقوب وبين الكر، ولا يجدون ملجأ إن هزموا وانهزم علي بن الحسين بانهزام أصحابه، وقد خرج أصحاب يعقوب من الكر، فكبت به دابته، فسقط إلى الأرض ولحقه بعض السجزية فهم عليه بسيفه ليضربه، فبلغ إليه خادم له، فقال: الأمير.
فنزل إليه السجزي، فوضع في عنقه عمامته، ثم جره إلى يعقوب، فلما أتي به أمر بتقييده، وأمر بما كان في عسكره من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه، ثم أقام بموضعه حتى أمسى، وهجم عليه الليل، ثم رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرك في المدينة أحد، فلما أصبح أنهب أصحابه دار علي بن الحسين ودور أصحابه، ثم نظر إلى ما اجتمع في بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج، فجباه، ثم شخص منها متوجها إلى سجستان، وحمل معه ابن قريش ومن أسر معه.
وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى المعتز بدواب وبزاة ومسك هدية.
وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد والسواد، وذلك لست خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت موافاته سامرا من خراسان- فيما ذكر- يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وصار إلى الإيتاخية، ثم دخل على المعتز يوم السبت، فخلع عليه وانصرف.
وفيها كانت وقعة بين مساور الشاري ويارجوخ، فهزمه الشاري وانصرف إلى سامرا مفلولا.
ومات المعلى بن أيوب في شهر ربيع الآخر منها.
ذكر فعل صالح بن وصيف مع احمد بن إسرائيل ورفيقيه
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم فقيدهم، وطالبهم بأموال، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن هؤلاء الكتاب الذين ذكرت كانوا اجتمعوا يوم الأربعاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة من هذه السنة على شراب لهم يشربونه، فلما كان يوم الخميس غد ذلك اليوم، ركب ابن إسرائيل في جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة أم المعتز- وهو كاتبها- وحضر أبو نوح الدار، والمعتز نائم، فانتبه قريبا من انتصاف النهار، فأذن لهم، فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل، وقال للمعتز: يا امير المؤمنين، ليس للأتراك عطاء ولا في بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا، فقال له احمد: يا عاصي يا بن العاصي! ثم لم يزالا يتراجعان الكلام حتى سقط صالح مغشيا عليه، فرش على وجهه الماء وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب، فصاحوا صيحة واحدة، واخترطوا سيوفهم، ودخلوا على المعتز مصلتين، فلما رأى ذلك المعتز دخل وتركهم، وأخذ صالح بن وصيف ابن إسرائيل وابن مخلد وعيسى بن إبراهيم فقيدهم، وأثقلهم بالحديد، وحملهم إلى داره، فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم: هب لي أحمد، فإنه كاتبي، وقد رباني، فلم يفعل ذلك صالح، ثم ضرب ابن إسرائيل، حتى كسرت أسنانه، وبطح ابن مخلد فضرب مائة سوط، وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل يصفع حتى جرت الدماء من محاجمه، ثم لم يتركوا حتى أخذت رقاعهم بمال جليل قسط عليهم وتوجه قوم من الأتراك إلى إسكاف ليأتوا بجعفر بن محمود، فقال المعتز: أما جعفر فلا أرب لي فيه ولا يعمل لي فمضوا، فبعث المعتز إلى أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد المروزي، فحمل ليصيره وزيرا، وبعث الى إسحاق ابن منصور، فأشخص وبعثت قبيحة إلى صالح بن وصيف في ابن إسرائيل: إما حملته إلى المعتز وإما ركبت إليك فيه.
وقد ذكر أن السبب في ذلك كان أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، وأنهم جعلوا ذلك سببا لما كان من أمرهم، وأن الرسل لم تزل تختلف بينهم وبين هؤلاء الكتاب، إلى أن قال أبو نوح لصالح بن وصيف: هذا تدبيرك على الخليفة، فغشي على صالح حينئذ مما داخله من الحرد والغيظ حتى رشوا على وجهه الماء، فلما أفاق جرى بين يدي المعتز كلام كثير، ثم خرجوا إلى الصلاة، وخلا صالح بالمعتز، ثم دعي بالقوم فلم يلبثوا إلا قليلا، حتى أخرجوا إلى قبة في الصحن، ثم دعي بأبي نوح وابن مخلد فأخذت سيوفهما وقلانسهما ومزقت ثيابهما، وحلقهما ابن إسرائيل فألقى نفسه عليهما، فثلث به، ثم أخرجوا إلى الدهليز وحملوا على الدواب والبغال، وارتدف خلف كل واحد منهم تركي، وبعث بهم إلى دار صالح على طريق الحير، وانصرف صالح بعد ساعة، وتفرق الأتراك، فانصرفوا فلما كان بعد ذلك بأيام جعل في رجل كل واحد منهم ثلاثون رطلا، وفي عنق كل واحد منهم عشرون رطلا من حديد، وطولبوا بالأموال، فلم يجب واحد منهم إلى شيء، ولم ينقطع أمرهم إلى أن دخل رجب، فوجهوا في قبض ضياعهم ودورهم وضياع أسبابهم وأموالهم، وسموا الكتاب الخونة، فقدم جعفر بن محمود يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة فولي الأمر والنهي.
ولليلتين خلتا من رجب ظهر بالكوفة عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان، فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى ذكر الخبر عن خلع المعتز ثم موته ولثلاث بقين من رجب منها خلع المعتز ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته، وكان سبب خلعه- فيما ذكر- ان الكتاب الذى ذكرنا أمرهم، لما فعل بهم الأتراك ما فعلوا، ولم يقروا لهم بشيء، صاروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم، وقالوا له: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف، فأرسل المعتز الى أمه يسألها ان تعطيه ما لا ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي شيء، فلما رأى الأتراك ومن بسامرا من الجند أن قد امتنع الكتاب من أن يعطوهم شيئا، ولم يجدوا في بيت المال شيئا، والمعتز وأمه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمة الأتراك والفراغنة والمغاربة واحدة، فاجتمعوا على خلع المعتز، فصاروا إليه لثلاث بقين من رجب، فذكر بعض أسباب السلطان أنه كان في اليوم الذي صاروا إليه عند نحرير الخادم في دار المعتز، فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتز، ثم بعثوا إليه: اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان أمرا لا بد منه، فليدخل إلي بعضكم فليعلمني وهو يرى أن أمره واقف على حاله فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع، وآثار الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شديد الحر قال: فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه قال: فرأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وجعلوا يقولون: اخلعها، فأدخلوه حجرة على باب حجرة المعتز كان موسى بن بغا يسكنها حين كان حاضرا، ثم بعثوا إلى ابن أبي الشوارب، فأحضروه مع جماعة من أصحابه، فقال له صالح وأصحابه: أكتب عليه كتاب خلع، فقال: لا أحسنه، وكان معه رجل أصبهاني، فقال: أنا أكتب، فكتب وشهدوا عليه وخرجوا وقال ابن أبي الشوارب لصالح: قد شهدوا أن له ولأخته وابنه وأمه الأمان، فقال صالح بكفه: أي نعم، ووكلوا بذلك المجلس وبامه نساء يحفظنها.
فذكر أن قبيحة كانت اتخذت في الدار التي كانت فيها سربا، وأنها احتالت هي وقرب وأخت المعتز، فخرجوا من السرب، وكانوا أخذوا عليها الطرق، ومنعوا الناس أن يجوزوا من يوم فعلوا بالمعتز ما فعلوا، وذلك يوم الاثنين الى يوم الأربعاء ليله بقيت من رجب.
فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر، فمنعوه ثم جصصوا سردابا بالجص الثخين، ثم أدخلوه فيه، وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميتا.
وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة فلما مات أشهد على موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه، فدفن مع المنتصر في ناحية قصر الصوامع، فكانت خلافته من يوم بويع له بسامرا إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان عمره كله أربعا وعشرين سنة.
وكان أبيض أسود الشعر كثيفه، حسن العينين والوجه، ضيق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم، طويلا.
وكان مولده بسامرا خلافة ابن الواثق المهتدي بالله وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بويع محمد بن الواثق، فسمي بالمهتدي بالله، وكان يكنى أبا عبد الله، وأمه رومية، وكانت تسمى قرب.
وذكر عن بعض من كان شاهدا أمرهم، أن محمد بن الواثق لم يقبل بيعة أحد، حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه، وأخبر عن عجزه عن القيام بما أسند إليه، ورغبته في تسليمها إلى محمد بن الواثق، وأن المعتز مد يده فبايع الواثق، فسموه بالمهتدي، ثم تنحى وبايع خاصة الموالي.
وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتز نفسه:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أشهد عليه الشهود المسمون في هذا الكتاب، شهدوا ان أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أقر عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره، أنه نظر فيما كان تقلده من أمر الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنه لا يصلح لذلك، ولا يكمل له، وأنه عاجز عن القيام بما يجب عليه منها، ضعيف عن ذلك، فأخرج نفسه، وتبرأ منها، وخلعها من رقبته، وخلع نفسه منها، وبرأ كل من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس مما كان له في رقابهم من البيعة والعهود والمواثيق والإيمان بالطلاق والعتاق والصدقة والحج وسائر الأيمان، وحللهم من جميع ذلك وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة، بعد أن تبين له أن الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرؤ منها، وأشهد على نفسه بجميع ما سمي، ووصف في هذا الكتاب جميع الشهود المسمين فيه، وجميع من حضر، بعد أن قرئ عليه حرفا حرفا، فأقر بفهمه ومعرفته جميع ما فيه طائعا غير مكره، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين.
فوقع المعتز في ذلك: أقر أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب، وكتب بخطه.
وكتب الشهود شهاداتهم: شهد الحسن بن محمد ومحمد بن يحيى واحمد ابن جناب ويحيى بن زكرياء بن أبي يعقوب الأصبهاني وعبد الله بن محمد العامري وأحمد بن الفضل بن يحيى وحماد بن إسحاق وعبد الله بن محمد وابراهيم ابن محمد، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنه خمس وخمسين ومائتين.
قيام الشغب ببغداد ووثوب العامه بسليمان بن عبد الله وفي سلخ رجب من هذه السنة، كان ببغداد شغب ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله بن طاهر.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل الأمر إليه:
وكان السبب في ذلك، أن الكتاب من محمد بن الواثق ورد يوم الخميس سلخ رجب على سليمان ببغداد ببيعة الناس له، وبها أبو أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتز سيره إلى البصرة حين سخط على أخيه من أمه المؤيد، فلما وقعت العصبية بالبصرة نقله إلى بغداد، فكان مقيما بها، فبعث سليمان بن عبد الله بن طاهر وإليه الشرطة يومئذ ببغداد، فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بأمر المعتز وابن الواثق، فاجتمعوا إلى باب سليمان، وضجوا هنالك، ثم انصرفوا على أنه قيل لهم: لم يرد علينا من الخبر ما نعلم به ما عمل به القوم، فغدوا يوم الجمعة على ذلك من الصياح والقول الذي كان قيل لهم يوم الخميس، وصلى الناس في المسجدين، ودعي فيهما للمعتز، فلما كان يوم السبت غدا القوم، فهجموا على دار سليمان، وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، وخلصوا إلى سليمان في داره، وسألوه أن يريهم أبا احمد ابن المتوكل، فأظهره لهم، ووعدهم المصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا عنه بعد أن أكدوا عليه في حفظه.
وقدم يارجوخ فنزل البردان ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند ممن بمدينة السلام، ثم صار إلى الشماسية، ثم غدا ليدخل بغداد، فبلغ الناس الخبر، فضجوا وتبادروا بالخروج إليه، وبلغ يارجوخ الخبر، فرجع إلى البردان، فأقام بها، وكتب إلى السلطان، واختلفت الكتب حتى وجه إلى أهل بغداد بمال رضوا به، ووقعت بيعة الخاصة ببغداد للمهتدي يوم الخميس لسبع ليال خلون من شعبان، ودعي له يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان بعد أن كانت ببغداد فتنة، قتل فيها وغرق في دجلة قوم، وجرح آخرون لأن سليمان كان يحفظ داره قوم من الطبرية بالسلاح، فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، ثم استقام الأمر بعد ذلك وسكنوا.
ذكر خبر ظهور قبيحه أم المعتز
وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة للأتراك، ودلتهم على الأموال التي عندها والذخائر والجوهر، وذلك أنها- فيما ذكر- قد قدرت الفتك بصالح، وواطأت على ذلك النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح، فلما أوقع بهم صالح، وعلمت أنهم لم يطووا عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم من العذاب، أيقنت بالهلاك، فعملت في التخلص، فأخرجت ما في الخزائن داخل الجوسق من الأموال والجواهر وفاخر المتاع، فأودعت ذلك كله مع ما كانت أودعت قبل ذلك مما هو في هذا المعنى، ثم لم تأمن المعاجلة إلى ما نزل بها وبابنها، فاحتالت للهرب وجها، فحفرت سربا من داخل القصر من حجرة لها خاصة ينفذ إلى موضع يفوت التفتيش، فلما علمت بالحادثة بادرت من غير تلبث ولا تلوم، حتى صارت في ذلك السرب، ثم خرجت من القصر، فلما فرغ الذين شغبوا في أمر ابنها مما أرادوا إحكامه، فصاروا إلى طلبها غير شاكين في القدرة عليها، وجدوا القصر منها خاليا، وأمرها عنهم مستترا، لا يقفون منه على شيء، ولا ما يؤديهم إلى معرفته، حتى وقفوا على السرب، فعلموا حينئذ أنهم منه أوتوا فسلكوه، وانتهوا إلى موضع لا يوقف منه على خبر ولا أثر، فأيقنوا بالفوت، ثم رجموا الظنون، فلم يجدوا لها معقلا أعز ولا أمنع إن هي لجأت إليه من حبيب حرة موسى بن بغا التي تزوجها من جواري المتوكل، فأحالوا على تلك الناحية، وكرهوا التعرض لشيء من أسبابها، ووضعوا العيون والأرصاد عليها، وأظهروا التوعد لمن وقفوا على معرفته بأمرها، ثم لم يظهرهم عليها، فلم يزل الأمر منطويا عنهم، حتى ظهرت في شهر رمضان، وصارت إلى صالح بن وصيف، ووسطت بينها وبين صالح العطارة، وكانت تثق بها، وكانت لها أموال ببغداد، فكتبت في حملها، فاستخرج وحمل منها إلى سامرا فذكر أنه وافى سامرا يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من هذه السنه قدر خمسمائة ألف دينار، ووقعوا لها على خزائن ببغداد فوجه في حملها، فاستخرج وحمل منها، فحمل إلى السلطان من ذلك متاع كثير، وأحيل من ببغداد من الجند والشاكرية المرتزقة بمال عظيم عليه ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلا ببغداد وسامرا عده شهور، حتى نفدت.
ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة، فسيرت إليها مع رجاء الربابى ووحش مولى المهتدي، فذكر عمن سمعها في طريقها وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عال وتقول: اللهم اخز صالح ابن وصيف، كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني! فانصرف الناس عن الموسم واحتبست بمكة.
وذكر أن الأتراك لما تحركوا، وثاروا بالمعتز أرسلوا إليه يطلبون منه خمسين ألف دينار، على أن يقتلوا صالحا، ويستوي لهم الأمر فأرسل إلى أمه يعلمها اضطرابهم عليه، وأنه خائف على نفسه منهم، فقالت: ما عندي مال، وقد وردت لنا سفاتج، فلينتظروا حتى نقبض ونعطيهم، فلما قتل المعتز، أرسل صالح إلى رجل جوهري قال الرجل: فدخلت إليه وعنده احمد ابن خاقان، فقال: ويحك! هو ذا ترى ما أنا فيه! وكان صالح قد أخافوه وطالبوه بالمال، ولم يكن عنده شيء، فقال لي: قد بلغني أن لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليه هذا الرجل- وإذا رجل بين يديه- فامض ومعك احمد ابن خاقان، فإن أصبتم شيئا فاثبته عندك، وسلمه إلى أحمد بن خاقان، وصر إلي معه قال: فمضيت إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع، فجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة، فدخلنا ففتشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئا، وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان، وهو يتهدد الرجل ويتوعده، ويغلظ له، وأخذ الرجل فاسا ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد ستر فيه المال، فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على مكان في الحائط استدل بصوته على أن فيه شيئا، فهدمه وإذا من ورائه باب، ففتحناه ودخلنا إليه، فأدانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها، فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط زهاء ألف ألف دينار، فأخذ أحمد منها ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار، ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكوك زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله ولا لغيره، وسفطا دونه فيه نصف مكوك حب كبار، لم أر والله للمتوكل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوت أحمر لم أر مثله، ولا ظننت أن مثله يكون في الدنيا، فقومت الجميع على البيع، فكانت قيمته ألفي ألف دينار، فحملناه كله إلى صالح، فلما رآه جعل لا يصدق ولا يوقن حتى أحضر بحضرته ووقف عليه، فقال عند ذلك:
فعل الله بها وفعل، عرضت ابنها للقتل في مقدار خمسين ألف دينار، وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها!
وكانت أم محمد بن الواثق توفيت قبل أن يبايع، وكانت تحت المستعين، فلما قتل المستعين صيرها المعتز في قصر الرصافة الذي فيه الحرم، فلما ولي الخلافة المهتدي قال يوما لجماعة من الموالي: أما أنا فليس لي أم أحتاج لها إلى غلة عشرة آلاف ألف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها، وما أريد لنفسي وولدي إلا القوت، وما أريد فضلا إلا لإخوتي فإن الضيقه قد مستهم.
ذكر الخبر عن قتل احمد بن إسرائيل وابى نوح
ولثلاث بقين من رمضان من هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.
ذكر الخبر عن صفة القتلة التي قتلا بها:
فأما السبب الذي أداهما إلى القتل، فقد ذكرناه قبل، وأما القتلة التي قتلا بها، فإنه ذكر أن صالح بن وصيف لما استصفى أموالهما ومال الحسن ابن مخلد، وعذبهم بالضرب والقيد وقرب كوانين الفحم في شدة الحر منهم، ومنعهم كل راحة، وهم في يده على حالهم، ونسبهم إلى أمور عظام من الخيانة والقصد لذل السلطان والحرص على دوام الفتن والسعي في شق عصا المسلمين، فلم يعارضه المهتدي في شيء من أمورهم، ولم يوافقه على شيء أنكره من فعله بهم ثم وجه إليهم الحسن بن سليمان الدوشابي في شهر رمضان، ليتولى استخراج شيء إن كان زوي عنه من أموالهم.
قال: فأخرج إلي أحمد بن إسرائيل، فقلت له: يا فاجر، تظن أن الله يمهلك، وأن أمير المؤمنين لا يستحل قتلك، وأنت السبب في الفتن، والشريك في الدماء، مع عظيم الخيانة وفساد النية والطوية! إن في أقل من هذا ما تستوجب به المثلة كما استوجب من كان قبلك، والقتل في العاجلة والعذاب والخزي في الآجلة، إن لم تسعد من الله بعفو وإمهال، ومن إمامك بصفح واحتمال، فاستر نفسك من نزول ما تستحق بالصدق عما عندك من المال، فإنك إن تفعل ويوقف على صدقك تسلم بنفسك قال: فذكر أنه لا شيء عنده، ولا ترك له إلى هذا الوقت مال ولا عقدة قال: فدعوت بالمقارع وأمرت أن يقام في الشمس، وأرعدت وأبرقت، وإن كان ليفوتني الظفر منه بشيء من صرامة ورجلة حتى أومى إلى قدر تسعة عشر ألف دينار، فأخذت رقعته بها قال: ثم أحضرت أبا نوح عيسى بن إبراهيم فقلت له مثل الذي قلت لأحمد أو نحوه، وزدت في ذلك بأن قلت: وأنت مع هذا مقيم على دينك النصرانية، مرتكب فروج المسلمات تشفيا من الإسلام وأهله! ولا دلالة أدل على ذلك ممن لم يزل في منزلك على حال النصرانية من أهل وولد، ومن كان ذا عقدة فقد أباح الله دمه.
قال: فلم يجب إلى شيء، وأظهر ضعفا وفقرا.
قال: وأما الحسن بن مخلد فأخرجته، فلما خاطبته خاطبت رجلا موضعا رخوا، قال: فبكته بما ظهر منه، وقلت: من كان له الراضة بين يديه إذا سار على الشهاري وقدر ما قدرت، وأراد ما أردت، لم يكن موضعا رطبا ولا مخنثا رخوا قال: ولم أزل به حتى كتب رقعة بجوهر قيمته نيف وثلاثون ألف دينار، قال: وردوا جميعا إلى موضعهم، وانصرفت.
فكانت مناظرة الحسن بن سليمان الدوشابي لهم آخر مناظرة كانت معهم، ولم يناظروا أيام المهتدي فيما بلغني مناظرة غيرها.
فلما كان يوم الخميس لثلاث بقين من شهر رمضان أخرج أحمد بن إسرائيل وأبو نوح عيسى بن إبراهيم إلى باب العامة، فقعد صالح بن وصيف في الدار، ووكل بضربهما حماد بن محمد بن حماد بن دنقش، فأقام أحمد بن إسرائيل وابن دنقش يقول: أوجع، وكان كل جلاد يضربه سوطين، وينتحى حتى وفوه خمسمائة سوط ثم أقاموا أبا نوح أيضا فضرب خمسمائة سوط ضرب التلف، ثم حملا على بغلين من بغال السقائين على بطونهما، منكسة رءوسهما، ظاهرة ظهورهما للناس فأما أحمد فحين بلغ خشبة بابك مات، وحين وصلوا بأبي نوح مات، فدفن أحمد بين الحائطين ويقال إن أبا نوح مات من يومه في حبس السرخسي خليفة طلمجور على شرط الخاصة، وبقي الحسن بن مخلد في الحبس.
وذكر عن بعض من حضر أنه قال: لقد رأيت حماد بن محمد بن حماد بن دنقش وهو يقول للجلادين: أنفسكم يا بني الفاعلة- لا يكني- ويقول: أوجعوا وغيروا السياط، وبدلوا الرجال، وأحمد بن إسرائيل وعيسى يستغيثان، فذكر أن المهتدي لما بلغه ذلك قال: أما عقوبة إلا السوط أو القتل! أما يقوم مقام هذا شيء! أما يكفي! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، يقول ذلك ويسترجع مرارا.
وذكر عن الحسن بن مخلد أنه قال: لم يكن الأمر فينا عند صالح إذا لم يحضره عبد الله بن محمد بن يزداد على ما كان يكون عليه من الغلظة إذا حضر قال: وكان يقول لصالح: اضرب وعذب فإن الأصلح من وراء ذلك القتل، فإنهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب، فضلا عن الواترين، ويذكره قبيح ما بلغه عنهم وكان يسر بذلك.
قال: وكان داود بن ابى العباس الطوسي يحضرنا عند صالح فيقول:
وما هؤلاء، أعزك الله، فبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ! فظنه يرققه علينا حتى يقول: على أني والله أعلم انهم ان تخلصوا انتشر منهم شر كبير وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف وقد أفتاه بقتلنا، وأشار عليه بإهلاكنا، فيزداد برأيه وما قال له علينا غيظا، وإلى الإساءة بنا أنسا، فسئل بعض من كان يخبر أمرهم: كيف نجا الحسن بن مخلد مما صلي به صاحباه؟ فقال: بخصلتين، إحداهما أنه صدقه عن الخبر في أول وهله واوجد الدلائل على ما قاله له أنه حق، وقد كان وعده العفو إن صدقه، وحلف له على ذلك، والأخرى أن أمير المؤمنين كلمه فيه وأعلمه حرمة أهله به، وأوما إلى محبته لإصلاح شأنه، فرده عن عظيم المكروه فيه، وقد كنت أرى أنه لو طالت لصالح مدة وهو في يده، أطلقه واصطنعه، ولم يكن صالح بن وصيف اقتصر في أمر الكتاب على أخذ أموالهم وأموال أولادهم، حتى أخاف أسبابهم وقراباتهم بأخذ أموالهم، وتخطى الى المتصلين بهم
. شغب الجند والعامه ببغداد وولايه سليمان بن عبد الله بن طاهر عليها
ولثلاث عشرة خلت من شهر رمضان منها فتح السجن ببغداد، ووثبت الشاكرية والنائبة ببغداد من جندها بمحمد بن أوس البلخي: ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل الأمر إليه فيه:
ذكر أن السبب في ذلك كان أن محمد بن أوس، قدم بغداد مع سليمان ابن عبد الله بن طاهر وهو على الجيش القادمين من خراسان مع سليمان والصعاليك الذين تألفهم سليمان بالري، ولم تكن أسماؤهم في ديوان السلطان بالعراق، ولا أمر سليمان فيهم بشيء، وكانت السنة فيهم أن يقام لمن قدم معه من خراسان بالعراق حسب ما يقام بخراسان لنظرائهم من مال ضياع ورثة ذي اليمينين، ويكتب بذلك إلى خراسان ليعارض الورثه هناك من مال العامة، بدل ما كان دفع من مالهم بالعراق فلما قدم سليمان بن عبد الله العراق، وجد بيت مال الورثة فارغا وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد تقدم عند ما صح عنده من الخبر بتصيير الأمر فيما كان يتولاه إلى أخيه سليمان بن عبد الله، فأخذ ما كان حاصلا لورثة أبيه وجده في بيت ما لهم، واستسلف على ما لم يرتفع، وتعجل من المتقبلين اموال نجوم لم تحل حتى استنظفت ذلك أجمع، وشخص فأقام بالجويث في شرقي دجلة، ثم عبر حتى صار في غربيها، فضاقت بسليمان الدنيا، وتحرك الشاكرية والجند في طلب الأرزاق، وكتب سليمان إلى أبي عبد الله المعتز بذلك وقدر أموالهم، وأدخل في المال تقدير القادمين معه، ووجه محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب الخراساني كاتبه في ذلك فأجيب بعد مناظرات إلى أن سبب له على عمال السواد مال صودر عليه لطمع من بمدينة السلام وشحن السواد لا يقوم بما يجب للنائبة فضلا عن القادمين مع النائبة، فلم يتهيأ لسليمان الوصول إلى شيء من المال، وقدم ابن أوس والصعاليك وأصحابه، فقصر المال عنه وعمن كان يقدر وصوله إليه من النائبة، فوقفوا على ذلك وعلى السبب المضر بهم فيه وكان القادمون مع سليمان من الصعاليك وغيرهم لما قدموا بغداد أساءوا المجاورة لأهلها، وجاهروا بالفاحشة، وتعرضوا للحرم والعبيد والغلمان، وعادوهم لمكانهم من السلطان، حتى امتلئوا عليهم غيظا وحنقا وقد كان سليمان بن عبد الله وحر على الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب بن رزيق، لمكانه كان من عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ونصرته له وكفايته، وانصرافه عن سليمان وأسبابه فلما انصرف الحسين ابن إسماعيل إلى بغداد بعقب ما كان يتولاه لعبيد الله من أمر الجند والشاكرية، فحبس كاتبه في المطبق وحاجبه في سجن باب الشام، ووكل بباب الحسين ابن إسماعيل جندا من قبل إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، لأن سليمان ولى إبراهيم ما كان الحسين بن إسماعيل يتولاه لعبيد الله من أمر جسري بغداد وطساسيج قطربل ومسكن والأنبار، فلما حدث ما حدث من بيعة المهتدي وشغب الجند والشاكرية بمدينة السلام، ووقعت الحرب في تلك الأيام، شد محمد ابن أوس على رجل من المراوزة، كان من الشيعة، فضربه في دار سليمان ثلاثمائة سوط ضربا مبرحا، وحبسه بباب الشام، وكان هذا الرجل من خاصة الحسين بن إسماعيل، فلما حدث هذا الحادث احتيج إلى الحسين بن إسماعيل، لفضل جلده وإقدامه فنحي من كان ببابه موكلا فظهر، فتراجع أصحابه من غير أمر، وقد كانوا فرقوا على القواد، وضم منهم جمع كبير إلى محمد بن أبي عون القائد، فذكر أن المضمومين إلى ابن أبي عون لما صاروا إلى بابه، فرق فيهم من ماله، للراجل عشرة دراهم، وللفارس دينارا، فلما رجعوا إلى الحسين رفع ابن أبي عون بذكر ذلك، فلم يخرج في ذلك تعيين ولا أمر، فلم يزل الحال على هذا والجند والشاكرية يصيحون في طلب مال البيعة وما بقي لهم من مال الطمع المتقدم، وقد رد أمرهم في تقسيط مالهم، وقبضهم إلى الحسين على ما كان الأمر عليه أيام عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكان الحسين لا يزال يلقي إليهم ما عليه محمد بن أوس ومن قدم مع سليمان من القصد لاخذ أموالهم والفوز بها دونهم، حتى امتلأت قلوبهم فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، اجتمع جماعة من الجند والشاكرية، ومعهم جماعة من العامة حتى صاروا إلى سجن باب الشام ليلا، فكسروا بابه، وأطلقوا في تلك الليلة أكثر من كان فيه، ولم يبق فيه من أصحاب الجرائم أحد إلا الضعيف والمريض والمثقل، فكان ممن خرج في تلك الليلة نفر من أهل بيت مساور بن عبد الحميد الشاري، وخرج معهم المروزي مضروب محمد بن أوس وجماعة ممن قد لزم السلطان إلى أن صاروا إلى قبضته زهاء خمسين ألفا، وأصبح الناس في يوم الجمعة وباب الحبس مفتوح، فمن قدر أن يمشي مشى، ومن لم يقدر اكترى له ما يركبه، وما يمنع من ذلك مانع، ولا يدفع دافع، فكان ذلك من أقوى الأمور التي بعثت الخاصة والعامة على دفع الهيبة بينهم وبين سليمان بن عبد الله وسد باب السجن بباب الشام بآجر وطين، ولم يعلم أنه كان لإبراهيم ابن إسحاق في هذه الليلة ولا لأحد من أصحابه حركة أصلا، فتحدث الناس أن الذي جني على سجن باب الشام بمكان المروزي الذي ضربه ابن أوس فيه حتى يخلص ثم لم يمض بعد ذلك خمسة أيام، حتى نافر ابن أوس الحسين ابن إسماعيل في أمر مال النائبة أراده محمد بن أوس لأصحابه ومنعه الحسين، وتجاريا في ذلك كلاما غلظ بينهما، فخرج محمد متنكرا، فلما كان الغد من ذلك اليوم غدا محمد بن أوس إلى دار سليمان، وغدا الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال مولى طاهر، وحضر الناس باب سليمان، وكان بين من حضر من أصحاب ابن أوس وبين النائبة محادثة، علت فيها الأصوات، فتبادر أصحاب ابن أوس والقادمون إلى الجزيرة، وعبر إليهم ابن أوس وولده، وتصايح الناس بالسلاح، وخرج الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال والمظفر ابن سيسل في أصحابهم، وصاح الناس بالعامة: من أراد النهب فليلحق بنا، فقيل: أنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت مائة ألف إنسان في الزواريق، وتوافى الجند والشاكرية بالسلاح، فوافى أوائل الناس الجزيرة، فلم يكن إلا قدر اللحظة حتى حمل رجل من أهل سرخس على الكبير من ولد محمد بن أوس، وطعنه، فاراده عن شهري كان تحته، ثم أخذته السيوف فانهزم عنه أصحابه، فلم يعمل أحد منهم شيئا، وسلب الجريح وحمل في زورق، حتى عبر به إلى دار سليمان بن عبد الله بن طاهر، فألقي هناك فذكر بعض من حضر سليمان، أنه لما رآه اغرورقت عيناه من الدمع، ومهد له، وأحضر له الأطباء، ومضى ابن أوس من وجهه إلى منزله، وكان ينزل في دار لآل أحمد بن صالح بن شيرزاد بالدور، مما يلي قصر جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك وجد أهل بغداد في آثارهم والقواد معهم حتى تلقوهم، فكانت بينهم وقعة بالدور، أولها في آخر الساعة الثانية وآخرها في أول الساعة السابعة، فلم يزالوا يتراشقون بالنشاب، ويتطاعنون بالرماح، ويتخابطون بالسيوف وأعان ابن أوس جيرانه من أهل سويقة قطوطا وأصحاب الزواريق من ملاحي الدور واشتدت الحرب، ووجه أهل بغداد يطلبون نفاطين من دار سليمان فذكروا أن حاجبه دخل، فأعلمه ذلك، فأمر بمنعهم منه، وقاتل ابن أوس قتالا شديدا، فناله جراح من سهام وطعن، فانهزم وأصحابه، وقد كان أخرج حرمه من داره، فلم يزل أهل بغداد يتبعونهم حتى أخرجوهم من باب الشماسية، ووصل الناس إلى منزل ابن أوس، فانتهبوا جميع ما كان فيه، فذكر أنه انتهب له بقيمة ألفي ألف درهم، والمقلل يقول:
ألف ألف وخمسين ألفا، وأنه انتهب له زهاء مائة سراويل مبطن بسمور، سوى ما كان مبطنا بغيره من الوبر مما يشاكل ذلك، وانتهب له من الفرش الطبري الخام والمقصور والمدرج والمقطوع ما يكون قيمته ألف ألف درهم، وانصرف الناس، فجعل الجند يدخلون دار سليمان، وهم يكثرون، ومعهم النهب وهم يصيحون، وما لهم مانع ولا زاجر وأقام ابن أوس ليلته تلك بالشماسية مع من لحق به من أصحابه وقد كان أهل بغداد وثبوا بمنازل الصعاليك التي كانوا فيها سكانا، فنهبوها، وتعرضوا لمن كان تخلف منهم، فتلاحق القوم هرابا، ولم يبق منهم في اليوم الثاني ببغداد أحد ظاهرا.
فذكر أن سليمان وجه تلك الليلة إلى ابن أوس ثيابا وفرشا وطعاما، فيقال:
إن محمدا قبله، وقيل: أنه رده وأصبح الناس في اليوم الثاني وغدا الحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل إلى دار الشاه بن ميكال، ولحق به وجوه الشاكرية والنائبة وغيرهم، فأقاموا هناك مراغمين سليمان بن عبد الله بن طاهر وخلت دار سليمان فلم يحضرها إلا جميعه فبعث إليهم سليمان مع محمد بن نصر بن حمزة بن مالك الخزاعي، وهو لا يعلم ما عليه عقد القوم، يعلمهم قبح ما ركبوا من محمد بن أوس، وما يجب لمحمد بحرمته وقديمه، وأنهم لو أنهوا إليه ما أنكروا منه لتقدم في ذلك بما يكفيهم معه الحال التي ركبوها، فضج الشاكرية الذين حضروا دار الشاه جميعا وقالوا: لا نرضى بمجاورة ابن أوس ولا بمجاورة أحد من أصحابه ولا من الصعاليك المنضمين إليه، وإنهم ان أكرهوا على ذلك تعاقدوا مباينته، وخلع من يسومهم إياه، وأحال الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل على كراهة القوم، فرجع الرسول بذلك إلى سليمان، فرده إليهم بكلام دون ذلك، ووعدهم وقال: أنا أثق بقولكم وضمانكم دون أيمانكم وعهودكم ثم استوى جالسا.
وذكر أنه لم يزل مستثقلا محمد بن أوس ومن لحق به من الصعاليك وغيرهم، عارفا بسوء رغبتهم ورداءة مذاهبهم، وبسوم محمد بن أوس في نفسه خاصة ومحبته وشروعه في كل ما دعا إلى خلاف وفرقة، وأسبغ هذا المعنى، وكثر فيه حتى خرج به إلى الإغراق فيه، إلى أن قال: لقد كنت أدخل في قنوتي في الصلاة طلب الراحة من ابن أوس ثم التفت إلى محمد بن علي بن طاهر، فأمره بالمصير إلى ابن أوس، والتقدم إليه في العزم على الانصراف إلى خراسان، وأن يعلمه أنه لا سبيل له إلى الرجوع إلى مدينة السلام، ولا إلى تولي شيء من الأمور التي يتولاها لسليمان.
فلما تناهى الخبر إلى ابن أوس رحل من الشماسيه، فصار في رقه البردان على دجلة، فأقام بها أياما حتى اجتمع اليه من تفرق من اصحابه، رحل فنزل النهروان، فلم يزل بها مقيما وقد كان كتب الى بايكباك وصالح ابن وصيف يعرض عليهما نفسه، ويشكو إليهما ما نزل به، فلم يجد عنده شيئا مما قصد، وقد كان محمد بن عيسى بن عبد الرحمن مقيما بسامرا لينجز أمور سليمان، وكان كارها لابن أوس، منحرفا عنه وكان ابن أوس مضطرب الأمر لسوء محضر محمد بن عيسى الكاتب، فلما انقطعت عن ابن أوس وأصحابه المادة، تعبثوا بأهل القرى والسابلة، وأكثروا الغارات والنهب، ورحل حتى نزل النهروان.
فذكر عن بعض من قصدوه لينتهبوه، فذكرهم المعاد، وخوفهم الله أنهم ردوا عليه أن قالوا له: إن كان النهب والقتل جائزا في مدينة السلام، وهي قبة الإسلام، ودار عز السلطان، فما استنكار ذلك في الصحاري والبراري!
ثم رحل ابن أوس عن النهروان بعد أن أثر في تلك الناحية آثارا قبيحة، وأخذ أهل البلاد بأداء الأموال، وحمل منها الطعام في السفن في بطن النهروان إلى إسكاف بني جنيد لبيعه هناك.
وكان محمد بن المظفر بن سيسل بالمدائن، فلما بلغه مصير ابن أوس الى نهروان صير إقامته بالنعمانية من عمل الزوابي خوفا على نفسه منه لحضور أبيه كان في يوم الوقعة.
فذكر عن محمد بن نصر بن منصور بن بسام- وعبرتا ضيعته- أن وكيله انصرف عنها هاربا بعد أن أدى إلى ابن أوس تحت العذاب وخوف الموت قريبا من الف وخمسمائة دينار، ولم يزل ابن أوس مقيما هناك، يقرب ويباعد، ويقبض ويبسط، ويشتد ويلين، ويرهب، حتى أتاه كتاب بايكباك بولاية طريق خراسان من قبله، فكان من وقت خروجه من مدينة السلام إلى وقت ورود الكتاب عليه بالولاية شهران وخمسة عشر يوما.
وذكر عن بعض ولد عاصم بن يونس العجلي أن أباه كان يتولى ضياعا للنوشري بناحية طريق خراسان، وأنه كتب إلى النوشري يذكر ما عاين من قوة عسكر ابن أوس وظاهر عدتهم، ويشير بأن يذكر ذلك لبايكباك، ويصف خلاء طريق خراسان من سلطان يتولاه ويحوط أهله، وأن هذا عسكر مشحن بالرجال والعدة والعتاد، مقيم في العمل، وأن النوشري ذكر ذلك لبايكباك، وأشار عليه بتوليته طريق خراسان، وتخفيف المؤنة عن السلطان، فقبل ما أشار به عليه، وأمر بكتبه فكتبت، وولي طريق خراسان في ذي القعدة من هذه السنة- وهي سنة خمس وخمسين ومائتين- وكان موسى خليفه مساور ابن عبد الحميد الشاري مقيما بالدسكرة ونواحيها في زهاء ثلاثمائة رجل، قد ولاه مساور ما بين حلوان إلى السوس على طريق خراسان وبطن جوخى وما قرب ذلك من طساسيج السواد وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفيهم منها إلى بغداد، بعد أمر كان قد تقدم من قبيحة في ذلك قبل أن ينزل بابنها ما نزل، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس لذلك للعامة، وكانت ولايته والدنيا كلها من ارض الاسلام مفتونه.
ذكر خبر استيلاء مفلح على طبرستان ثم انصرافه عنها
وفيها شخص موسى بن بغا ومن معه من الموالي وجند السلطان من الري وانصرف مفلح عن طبرستان بعد أن دخلها، وهزم الحسن بن زيد، وأخرجه عنها إلى أرض الديلم.
ذكر الخبر عن شخوصه عنها:
ذكر أن السبب في ذلك أن قبيحة أم المعتز، لما رأت من الأتراك اضطرابا، وأنكرت أمرهم، كتبت إلى موسى بن بغا تسأله القدوم إلى ما قبلها، وأملت وروده عليها قبل حدوث ما حدث عليها وعلى ابنها المعتز، فعزم موسى على الانصراف إليها، وكان ورود كتابها عليه ومفلح بطبرستان.
فكتب موسى الى مفلح يأمره بالانصراف إليها وهو بالري، فحدثني بعض أصحابنا من أهل طبرستان، أن كتاب موسى ورد على مفلح بذلك، وقد توجه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد الطالبي فلما ورد عليه الكتاب انصرف راجعا إلى حيث توجه منه، فعظم ذلك على قوم كانوا معه من رؤساء أهل طبرستان ممن كان هاربا قبل مقدم مفلح عليهم من الحسن ابن زيد، لما كانوا قد رجوا من مقدمه عليهم وكفايتهم أمر الحسن بن زيد والرجوع إلى منازلهم وأوطانهم، وذلك أن مفلحا كان يعدهم اتباع الحسن ابن زيد حيث توجه حتى يظفر به أو يخترم دونه، ويقول لهم- فيما ذكر لي- لو رميت قلنسوتي في أرض الديلم ما اجترأ أحد منهم أن يدنو منها فلما رأى القوم انصرافه عن الوجه الذي توجه له من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم صده، سألوه- فيما ذكر لي- عن السبب الذي صرفه عما كان يعدهم به من اتباع ابن زيد، وجعلوا يكلمونه- فيما أخبرت- وهو كالمسبوت لا يجيبهم بشيء، فلما أكثروا عليه قال لهم: ورد على كتاب الأمير موسى بعزمة منه الا أضع كتابه من يدي بعد ما يصل إلي حتى أقبل إليه.
وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير فلم يتهيأ لموسى الشخوص من الري إلى سامرا حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتز وقيام المهتدي بعده بالأمر، ففثأه ذلك عما كان عزم عليه من الشخوص، لفوته ما قدر إدراكه من أمر المعتز.
ولما وردت عليه بيعة المهتدي، امتنع أصحابه عليه من بيعته، ثم بايعوا.
فورد خبر بيعتهم سامرا لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان من هذه السنة.
ثم إن الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسباب المعتز والمتوكل، فشحوا بذلك على المقيمين بسامرا، فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سامرا.
وقدم مفلح على موسى بالري تاركا طبرستان على الحسن بن زيد، فذكر عن القاشاني أنه قال: كتب إلي ابن أخي من الري يذكر أنه لقي مفلحا بالري، فسأله عن سبب انصرافه فذكر أن الموالي قد أبوا أن يقيموا، وأنهم إذا انصرفوا لم يغن مقامه شيئا.
ثم أن موسى افتتح خراج سنة ست وخمسين ومائتين يوم الأحد مستهل شهر رمضان سنه ست وخمسين ومائتين، فاجتنى- فيما ذكر- في يوم الأحد قدر خمسمائة ألف درهم، فاجتمع أهل الري، فقالوا، أعز الله الأمير!
إنك تزعم أن الموالي يرجعون إلى سامرا لما يقدرونه من كثرة العطاء هناك، وأنت وأصحابك في أكثر وأوسع مما القوم هناك فيه، فإن رأيت أن تسد هذا الثغر، وتحتسب في أهله الأجر والثواب، وتلزمنا من خراجنا في خاص أموالنا لمن معك ما ترى أن نحتمله فعلت فلم يجبهم إلى ما سألوا، فقالوا: أصلح الله الأمير! فإذا كان الأمير عزم على تركنا، والانصراف عنا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبتدئ بعمارتها، وأكثر غلة سنة خمس وخمسين ومائتين، التي قد أخذ الأمير خراجها في الصحاري لا يمكننا الوصول إليها إن رحل الأمير عنا! فلم يلتفت إلى شيء مما وصفوه له، وسألوه إياه.
واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبا كثيرة، لم تؤثر أثرا فلما انتهى إليه قفول موسى من الري، ولم تغن الكتب شيئا وجه رجلين من بني هاشم، يقال لأحدهما عبد الصمد بن موسى، ويعرف الآخر بأبي عيسى يحيى بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وحملا رسالة إلى موسى وإلى من ضم عسكرة من الموالى، يصدقهم فيها عن الحال بالحضرة وضيق الأموال بها، وما يحاذر من ذهاب ما يخلفونه وراء ظهورهم، وغلبه الطالبيين عليه واتساع آثارهم إلى ناحية الجبل فشخص بذلك الهاشميان في جماعه من الموالي واتباعهم من الديلم، وأقبل موسى ومن معه، وصالح بن وصيف في ذلك يعظم على المهتدي انصرافه، وينسبه إلى المعصية والخلاف، ويبتهل عليه في أكثر ذلك، ويبرأ إلى الله من فعله.
فذكر أن كتاب صاحب البريد بهمذان لما ورد على المهتدي بفصول موسى عنها، رفع المهتدي يديه إلى السماء، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدو، فإني قد أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تول كيد من كايد المسلمين، اللهم انصر جيوش المسلمين حيث كانوا، اللهم إني شاخص بنيتي واختياري إلى حيث نكب المسلمون فيه، ناصرا لهم ودافعا عنهم اللهم فآجرني بنيتي إذ عدمت صالح الأعوان! ثم انحدرت دموعه يبكى.
وذكر عن بعض من حضر المهتدي في بعض مجالسه التي يقول فيها هذا القول، وحضره سليمان بن وهب، فقال: أيأمرني أمير المؤمنين أن اكتب الى موسى بما اسمع منه، فقال له: نعم، اكتب بما تسمع مني، وان امكنك ان تنقشه في الصخر فافعل فلقيه الهاشميان في الطريق ولم يغنيا شيئا، وضج الموالي، وكادوا يثبون بالرسل، ورد موسى في جواب الرسالة يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، وأنه إن رام التخلف عنهم لم يأمنهم على نفسه، ويحتج بما عاين الرسل الموجهون إليه.
فورد الرسل بذلك، وأوفد مع الرسل موسى وفدا من عسكره، فوافوا سامرا لأربع خلون من المحرم سنه ست وخمسين ومائتين.
ذكر الخبر عن مفارقه كنجور على بن الحسين بن قريش
وفي هذه السنة فارق كنجور علي بن الحسين بن قريش، وكان قد نفي أيام المعتز إلى فارس، فوكل به علي بن الحسين، وحبسه، فلما اراد على ابن الحسين محاربة يعقوب بن الليث أخرجه من الحبس، وضم إليه خيلا ورجالا، فلما انهزم الناس عن علي بن الحسين لحق كنجور بناحية الأهواز، فأثر في ناحية رامهرمز أثرا، ثم لحق بابن أبي دلف، فوافاه بهمذان، وأساء السيرة في أسباب وصيف وضياعه ووكلائه في تلك الناحية، ثم لحق بعد ذلك بعسكر موسى فلما أقبل موسى فيمن ضمه العسكر، بلغ ذلك صالحا، فكتب عن المهتدي في حمل كنجور إلى الباب مقيدا، فأبى ذلك الموالي، ثم لم تزل الكتب تختلف فيه إلى أن نزل العسكر القاطول ثم ظهر أن صالحا قعد لمراغمته، وأن موسى ترحل إلى سامرا على المباينة لصالح ومن مال إليه، ولحق بايكباك بعسكر موسى، وأقام موسى هناك يومين ووجه المهتدي إليه أخاه إبراهيم لأمه في أمر كنجور يعلمه أن الموالي بسامرا قد أبوا أن يقاروا على دخول كنجور، ويأمره بتقييده وحمله إلى مدينة السلام، فلم يتهيأ في ذلك ما قدره صالح، وكان جوابهم أن قالوا: إذا دخلنا سامرا امتثلنا ما أمر به أمير المؤمنين في كنجور وغيره.
خروج أول علوي بالبصرة
وللنصف من شوال من هذه السنة، ظهر في فرات البصرة رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، وجمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، ثم عبر دجلة، فنزل الديناري.
ذكر الخبر عن أمره والسبب الذي بعثه على الخروج هنالك:
وكان اسمه ونسبه- فيما ذكر- علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، وأمه قرة ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم، من بنى اسد ابن خزيمة، من ساكني قرية من قرى الري، يقال لها ورزنين، بها مولده ومنشؤه، فذكر عنه أنه كان يقول: جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن على بن الحسين فلما قل زيد هرب فلحق بالري، فلجأ إلى ورزنين، فأقام بها وإن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان، وأنه قدم العراق فأقام بها، واشترى جارية سندية، فأولدها محمدا أباه، فهو علي بن محمد هذا، وأنه كان متصلا قبل بجماعة من آل المنتصر، منهم غانم الشطرنجي وسعيد الصغير ويسر الخادم، وكان منهم معاشه ومن قوم من أصحاب السلطان وكتابه يمدحهم ويستميحهم بشعره.
ثم أنه شخص- فيما ذكر- من سامرا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، واتبعه جماعة كثيرة من أهلها، وأبته جماعة أخر، فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية قتلت بينهم جماعة، فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء، وضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد، يقال لهم بنو الشماس، فكان بينهم مقامه وقد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي- فيما ذكر- حتى جبي له الخراج هنالك ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه ووتر منهم جماعة كثيرة، فتنكروا له، فتحول عنهم إلى البادية ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين، منهم رجل كيال من أهل الأحساء، يقال له يحيى بن محمد الأزرق المعروف بالبحراني، مولى لبني دارم ويحيى بن أبي ثعلب، وكان تاجرا من أهل هجر، وبعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع، وهو قائد جيشه، ثم كان ينتقل في البادية من حي إلى حي فذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس، منها- فيما ذكر عنه- أنه قال: إني لقيت سورا من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها سبحان والكهف وص.
قال: ومن ذلك انى لقيت نفسي على فراشي، فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له، وأجعل مقامي به، إذ نبت بي البادية، وضقت بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها بسمعي، فخوطبت فيه، فقيل: اقصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكنفونني:
إني أمرت بصوت هذا الرعد بالمصير إلى البصرة.
وذكر أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، فاختدع بذلك قوما منهم، حتى اجتمع بها منهم جماعة كثيرة، فزحف بهم إلى موضع بالبحرين يقال له الردم، فكانت بينهم وقعة عظيمة، كانت الدائرة فيها عليه وعلى أصحابه، قتلوا فيها قتلا ذريعا، فنفرت عنه العرب وكرهته، وتجنبت صحبته فلما تفرقت عنه العرب، ونبت به البادية، شخص عنها إلى البصرة، فنزل بها في بني ضبيعة، فاتبعه بها جماعة، منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي وأخواه محمد والخليل وغيرهم.
وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، ومحمد بن رجاء الحضاري عامل السلطان بها، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية، فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأمر أربعة نفر من أصحابه، فخرجوا بمسجد عباد، أحدهم يسمى محمد بن سلم القصاب الهجري، والآخر بريش القريعي، والثالث علي الضراب، والرابع الحسين الصيدناني، وهم الذين كانوا صحبوه بالبحرين، فدعوا إليه، فلم يجبه من أهل البلد أحد، وثاب إليهم الجند، فتفرقوا ولم يظفر بأحد منهم فخرج من البصرة هاربا، فطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه، وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه، فأخذهم فحبسهم، فكان فيمن حبس يحيى بن أبي ثعلب ومحمد بن الحسن الإيادي وابن صاحب الزنج علي بن محمد الأكبر وزوجته أم ابنه ومعها ابنة له وجارية حامل، فحبسهم ومضى هو لوجهه يريد بغداد، ومعه من اصحابه محمد بن سلم ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع وبريش القريعي فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، يقال له عمير بن عمار، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون، وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده، ثم صار إلى مدينة السلام، فأقام بها حولا، وانتسب فيها إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه بها آيات، وعرف ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم، وأنه سأل ربه بها آيه أن يعلم حقيقة أمره، فرأى كتابا يكتب له، وهو ينظر إليه على حائط، ولا يرى شخص كاتبه.
وذكر عن بعض تباعه أنه بمقامه بمدينة السلام استمال جماعة، منهم جعفر بن محمد الصوحاني- كان ينتسب إلى زيد بن صوحان- ومحمد بن القاسم وغلاما يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان: مشرق ورفيق، فسمى مشرقا حمزة وكناه أبا أحمد، وسمى رفيقا جعفرا وكناه أبا الفضل ثم لم يزل عامه ذلك بمدينة السلام حتى عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فخرج عنها، فوثب رؤساء الفتنة من البلالية والسعدية، ففتحوا المحابس، وأطلقوا من كان فيها، فتخلصوا فيمن تخلص فلما بلغه خلاص أهله، شخص إلى البصرة، فكان رجوعه إليها في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه علي بن أبان- وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام- ويحيى بن محمد، ومحمد بن سلم، وسليمان بن جامع، وغلاما يحيى بن عبد الرحمن: مشرق ورفيق، وكان يحضر هؤلاء الستة رجل من الجند يكنى أبا يعقوب، ولقب نفسه بعد ذلك بجربان، فساروا جميعا حتى وافوا برنخل، فنزلوا قصرا هنالك يعرف بقصر القرشي، على نهر يعرف بعمود ابن المنجم، كان بنو موسى بن المنجم احتفروه، وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ، وأمر أصحابه أن ينحلوه ذلك، فأقام هنالك.
فذكر عن ريحان بن صالح أحد غلمان الشورجيين- وهو أول من صحبه منهم- أنه قال: كنت موكلا بغِلْمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة، وأفرقه فيهم، فحملت ذلك إليهم كما كنت أفعل، فمررت به وهو مقيم ببرنخل في قصر القرشي، فأخذني أصحابه، فصاروا بي إليه، وأمروني بالتسليم عليه بالإمرة، ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته أني أقبلت من البصرة، فقال: هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟ قلت:
لا، قال: فما خبر الزينبي؟ قلت: لا علم لي به، قال: فخبر البلالية والسعدية؟ قلت: ولا أعرف أخبارهم أيضا، فسألني عن أخبار غلمان الشورجيين وما يجري لكل غلام منهم من الدقيق والسويق والتمر وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني إلى ما هو عليه، فأجبته، فقال لي: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، فأقبل بهم إلي ووعدني أن يقودني على من آتيه به منهم، وأن يحسن إلي، واستحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه، وأن أرجع إليه فخلى سبيلي، فأتيت بالدقيق الذي معي الموضع الذي كنت قصدته به، وأقمت عنده يومي، ثم رجعت إليه من غد، فوافيته وقد قدم عليه رفيق غلام يحيى بن عبد الرحمن، وكان وجه إلى البصرة في حوائج من حوائجه، ووافاه بشبل بن سالم- وكان من غلمان الدباسين- وبحريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء، فكتب فيها بحمرة وخضرة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111] ، إلى آخر الآية، وكتب اسمه واسم أبيه، وعلقها في رأس مردي، وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار، متوجهين إلى أعمالهم، فأمر بأخذهم فأخذوا، وكتف وكيلهم، وأخذ معهم، وكانوا خمسين غلاما، ثم صار إلى الموضع الذي يعمل فيه السنائى، فاخذ منه خمسمائة غلام، فيهم المعروف بأبي حديد، وأمر بوكيلهم فأخذ معهم مكتوفا، وكانوا في نهر يعرف بنهر المكاثر، ثم مضى إلى موضع السيرافي، فأخذ منه خمسين ومائة غلام، فيهم زريق وأبو الخنجر.
ثم صار إلى موضع ابن عطاء، فأخذ طريقا وصبيحا الأعسر وراشدا المغربي وراشدا القرماطي، وأخذ معهم ثمانين غلاما ثم أتى موضع إسماعيل المعروف بغلام سهل الطحان، ثم لم يزل يفعل ذلك كذلك في يومه، حتى اجتمع إليه بشر كثير من غلمان الشورجيين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيبا، فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم، ويملكهم الأموال، وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدر بهم، ولا يخذلهم، ولا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم ثم دعا مواليهم، فقال: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم، وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم، وجعلتم عليهم ما لا يطيقون، فكلمني أصحابي فيكم، فرأيت إطلاقكم، فقالوا: إن هؤلاء الغلمان أباق، وهم يهربون منك فلا يبقون عليك ولا علينا، فخذ منا مالا وأطلقهم لنا فأمر غلمانهم فأحضروا شطبا ثم بطح كل قوم مولاهم ووكيلهم، فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه، ولا بعدد أصحابه، وأطلقهم فمضوا نحو البصرة.
ومضى رجل منهم يقال له عبد الله، ويعرف بكريخا، حتى عبر دجيلا، فأنذر الشورجيين ليحرزوا غلمانهم، وكان هناك خمسة عشر الف غلام.
ثم سار بعد ما صلى العصر حتى وافى دجيلا، فوجد سفن سماد تدخل في المد، فقدمها، فركب فيها، وركب أصحابه حتى عبروا دجيلا، وصاروا إلى نهر ميمون، فنزل المسجد الذي في وسط السوق الشارع على نهر ميمون، وأقام هناك ولم يزل ذلك دأبه، يجتمع إليه السودان إلى يوم الفطر.
فلما أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا، وركز المردي الذي عليه لواؤه، وصلى بهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأن الله قد استنقذهم به من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم، ويملكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك فلما فرغ من صلاته وخطبته، أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك، ودخل القصر فلما كان بعد يوم قصد نهر بور، فوافى جماعة من أصحابه هناك الحميري في جماعة، فدفعوهم حتى أخرجوهم إلى الصحراء، فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه، فأوقع بالحميري وأصحابه، فانهزموا حتى صاروا إلى بطن دجلة واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنى بأبي صالح، يعرف بالقصير، في ثلاثمائة من الزنج، فمناهم ووعدهم فلما كثر من اجتمع اليه من الزنج قود قواده، وقال لهم: كل من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه وقيل أنه لم يقود قواده إلا بعد مواقعة الخول ببيان ومصيره إلى سبخة القندل.
وكان ابن أبي عون نقل عن ولاية واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، فذكر أنه انتهى إليه في اليوم الذي قود فيه قواده أن الحميري وعقيلا مع خليفة ابن أبي عون المقيم كان بالأبلة، قد أقبلوا نحوه، ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الرزيقية وهي في مؤخر الباذاورد، فصار إليها في وقت صلاة الظهر، فصلوا بها، واستعدوا للقتال، وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف: سيفه، وسيف علي بن أبان، وسيف محمد بن سلم ونهض بأصحابه فيما بين الظهر والعصر راجعا نحو المحمدية، وجعل علي بن أبان في آخر أصحابه، وأمره أن يعرف خبر من يأتيه من ورائه، وتقدم في أوائل الناس حتى وافى المحمدية، فقعد على النهر، وأمر الناس فشربوا منه، وتوافى إليه أصحابه، فقال له علي بن أبان: قد كنا نرى من ورائنا بارقة ونسمع حس قوم يتبعوننا، فلسنا ندري: أرجعوا عنا أم هم قاصدون إلينا؟ فلم يستتم كلامه حتى لحق القوم، وتنادى الزنج السلاح، فبدر مفرج النوبى المكنى بابى صالح، وريحان ابن صالح، وفتح الحجام- وكان فتح يأكل- فلما نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدم أصحابه، فلقيه رجل من الشورجيين، يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، فرمى بلبل بسلاحه، وولى هاربا، وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف رجل، فذهبوا على وجوههم، وقتل من قتل منهم، ومات بعضهم عطشا، وأسر منهم قوم، فأتي بهم صاحب الزنج، فأمر بضرب أعناقهم فضربت، وحملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين، كانت تنقل الشورج، ومضى حتى وافى القادسية، وذلك وقت المغرب، فخرج من القرية رجل من موالي بعض الهاشميين على أصحابه، فقتل رجلا من السودان، فأتاه الخبر، فقال له أصحابه: ائذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا، فقال: لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلا ساغ لنا قتالهم وأعجلهم المسير، فصاروا إلى نهر ميمون راجعين، فأقام في المسجد الذي كان أقام فيه في بدأته وأمر بالرءوس المحمولة معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبي فأذن، وسلم عليه بالإمرة، فقام فصلى بأصحابه العشاء الآخرة، وبات ليلته بها، ثم مضى من الغد حتى مر بالكرخ فطواها، وأتى قرية تعرف بجبى في وقت صلاة الظهر، فعبر دجيلا من مخاضة دل عليها، ولم يدخل القرية، وأقام خارجا منها، وأرسل إلى من فيها، فأتاه كبراؤهم وكبراء أهل الكرخ، فأمرهم بإقامة الأنزال له ولأصحابه فأقيم له ما أراد، وبات عندهم ليلته تلك، فلما أصبح أهدى له رجل من أهل جبى فرسا كميتا، فلم يجد سرجا ولا لجاما، فركبه بحبل وسنفه بليف، وسار حتى انتهى إلى المعروف بالعباسي العتيق، فأخذ منه دليلا إلى السيب، وهو نهر القرية المعروفة بالجعفرية، ونذر به أهل القرية، فهربوا عنها، ودخلها فنزل دار جعفر بن سليمان وهي في السوق، وتفرق أصحابه في القرية، فأتوه برجل وجدوه، فسأله عن وكلاء الهاشميين، فأخبره أنهم في الأجمة، فوجه الملقب بجربان، فأتاه برئيسهم وهو يحيى بن يحيى المعروف بالزبيري أحد موالي الزياديين، فسأله عن المال، فقال:
لا مال عندي، فأمر بضرب عنقه، فلما خاف القتل أقر بشيء قد كان أخفاه، فوجه معه، فأتاه بمائتي دينار وخمسين دينارا وألف درهم، فكان هذا أول ما صار إليه، ثم سأله عن دواب وكلاء الهاشميين فدله على ثلاثة براذين:
كميت، وأشقر، وأشهب، فدفع أحدها إلى ابن سلم، والآخر الى يحيى ابن محمد، وأعطى مشرقا غلام يحيى بن عبد الرحمن الثالث.
وكان رفيق يركب بغلا كان يحمل عليه الثقل، ووجد بعض السودان دارا لبعض بني هاشم فيها سلاح، فانتهبوه، فجاء النوبي الصغير بسيف، فأخذه صاحب الزنج، فدفعه إلى يحيى بن محمد، فصار في أيدي الزنج سيوف وبالات وزقايات وتراس، وبات ليلته تلك بالسيب، فلما أصبح أتاه الخبر أن رميسا والحميري وعقيلا الابلى قد وافوا السيب، فوجه يحيى ابن محمد في خمسمائة رجل، فيهم سليمان وريحان بن صالح وأبو صالح النوبي الصغير، فلقوا القوم فهزموهم، وأخذوا سميرية وسلاحا، وهرب من كان هنالك، ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر، فأقام يومه، وسار من غد يريد المذار، بعد أن اتخذ على أهل الجعفرية ألا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، ولا يستروا عنه فلما عبر السيب صار إلى قرية تعرف بقرية اليهود شارعة على دجلة، فوافق هنالك رميسا في جمع، فلم يزل يقاتلهم يومه ذلك، وأسر من أصحابه عدة، وعقر منهم جماعة بالنشاب وقتل غلام لمحمد بن أبي عون كان مع رميس، وغرقت سميرية كان فيها ملاحها، فأخذ وضربت عنقه، وسار من ذلك الموضع يريد المذار فلما صار الى النهر المعروف بباب مداد جاوزه حتى أصحر، فرأى بستانا، وتلا يعرف بجبل الشياطين، فقصد للتل فقعد عليه، وأثبت أصحابه في الصحراء، وجعل لنفسه طليعة.
فذكر عن شبل أنه قال: أنا كنت طليعته على دجلة، فأرسلت إليه أخبره أن رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدي عنه رسالة، فوجه إليه علي بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلما أتوه قال لهم: اقرءوا على صاحبكم السلام، وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض، لا يعرض لك احد، واردد هؤلاء العبيد على مواليهم، وآخذ لك عن كل رأس خمسة دنانير فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس، فغضب من ذلك وآلى ليرجعن فليبقرن بطن امرأة رميس، وليحرقن داره، وليخوضن الدماء هنالك فانصرفوا إليه، فأجابوه بما أمروا به، فانصرف إلى مقابل الموضع الذي هو به من دجلة، فأقام به، فوافاه في ذلك اليوم إبراهيم بن جعفر المعروف بالهمداني، ولم يكن لحق به إلا في ذلك الوقت، وأتاه بكتب فقرأها، فلما صلى العشاء الآخرة، أتاه إبراهيم، فقال له: ليس الرأي لك إتيان المذار، قال: فما الرأي؟ قال: ترجع، فقد بايع لك أهل عبادان وميان روذان وسليمانان، وخلفت جمعا من البلالية بفوهة القندل وأبرسان ينتظرونك فلما سمع السودان ذلك من قول إبراهيم مع ما كان رميس عرض عليه في ذلك اليوم خافوا إن يكون احتال عليهم ليردهم إلى مواليهم، فهرب بعضهم، واضطرب الباقون فجاءه محمد بن سلم فأعلمه اضطرابهم، وهرب من هرب منهم، فأمر بجمعهم في ليلته تلك، ودعا مصلحا، وميز الزنج من الفراتية ثم أمر مصلحا أن يعلمهم أنه لا يردهم ولا أحدا منهم إلى مواليهم، وحلف لهم على ذلك بالأيمان الغلاظ، وقال: ليحط بي منكم جماعة، فإن أحسوا مني غدرا فتكوا بي ثم جمع الباقين، وهم الفراتية والقرماطيون والنوبة وغيرهم ممن يفصح بلسان العرب، فحلف لهم على مثل ذلك، وضمن ووثق من نفسه، وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض من أعراض الدنيا، وما خرج إلا غضبا لله، ولما رأى ما عليه الناس من الفساد في الدين، وقال: ها أنا ذا معكم في كل حرب، أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي فرضوا ودعوا له بخير فلما أسحر أمر غلاما من الشورجيين يكنى أبا منارة، فنفخ في بوق لهم كانوا يجتمعون بصوته، وسار حتى اتى السيب راجعا، فالفى هناك الحميري ورميسا وصاحب ابن أبي عون، فوجه إليهم مشرقا برسالة أخفاها، فرجع إليه بجوابها، فصار صاحب الزنج إلى النهر، فتقدم صاحب محمد بن أبي عون، فسلم عليه، وقال له: لم يكن جزاء صاحبنا منك أن تفسد عليه عمله، وقد كان منه إليك ما قد علمت بواسط، فقال: لم آت لقتالكم، فقل لأصحابك يوسعون لي في الطريق، حتى أجاوزكم. فخرج من النهر إلى دجلة، ولم يلبث أن جاء الجند ومعهم أهل الجعفرية في السلاح الشاك، فتقدم المكتنى بأبي يعقوب المعروف بجربان، فقال لهم: يا أهل الجعفرية، أما علمتم ما أعطيتمونا من الأيمان المغلظة ألا تقاتلونا، ولا تعينوا علينا أحدا، وأن تعينونا متى اجتاز بكم أحد منا! فارتفعت أصواتهم بالنعير والضجيج، ورموه بالحجارة والنشاب وكان هناك موضع فيه زهاء ثلاثمائة زرنوق، فأمر بأخذها فأخذت، وقرن بعضها ببعض حتى صارت كالشاشات، وطرحت إلى الماء، وركبها المقاتلة فلحقوا القوم، فقال بعضهم: عبر علي بن أبان يومئذ قبل أخذ الزرانيق سباحة، ثم جمعت الزرانيق، وعبر الزنج، وقد زالوا عن شاطئ النهر فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وأتى منهم بأسرى، فوبخهم وخلى سبيلهم، ووجه غلاما من غلمان الشورجيين يقال له سالم يعرف بالزغاوي، إلى من كان دخل الجعفرية من أصحابه، فردهم، ونادى: ألا برئت الذمة ممن انتهب شيئا من هذه القرية، أو سبى منها أحدا، فمن فعل ذلك فقد حلت به العقوبة الموجعة ثم عبر من غربي السيب إلى شرقيه، واجتمع أصحابه الرؤساء حتى إذا جاوز القرية بمقدار غلوة سمع النعير من ورائه في بطن النهر، فتراجع الزنج، فإذا رميس والحميري وصاحب ابن أبي عون قد وافوه لما بلغهم حال أهل الجعفرية فألقى السودان أنفسهم عليهم، فأخذوا منهم أربع سميريات بملاحيها ومقاتليها، فأخرجوا السميريات بمن فيها، ودعا بالمقاتلة فسألهم، فأخبروه أن رميسا وصاحب ابن أبي عون لم يدعاهم حتى حملاهم على المصير إليه، وأن أهل القرى حرضوا رميسا وضمنوا له ولصاحب ابن أبي عون مالا جليلا، وضمن له الشورجيون على رد غلمانهم، لكل غلام خمسة دنانير، فسألهم عن الغلام المعروف بالنميري المأسور والمعروف بالحجام، فقالوا: أما النميري فأسير في أيديهم، وأما الحجام فإن أهل الناحية ذكروا أنه كان يتلصص في ناحيتهم، ويسفك الدماء، فضربت عنقه، وصلب على نهر أبي الأسد. فلما عرف خبرهم أمر بضرب أعناقهم، فضربت إلا رجلا يقال له محمد بن الحسن البغدادي، فإنه حلف له أنه جاء في الأمان، لم يشهر عليه سيفا، ولا نصب له حربا، فأطلقه وحمل الرءوس والأعلام على البغال، وأمر بإحراق سفنهم فأحرقت.
وسار حتى أتى نهر فريد، فانتهى إلى نهر يعرف بالحسن بن محمد القاضي وعليه مسناة تعترض بين الجعفرية ورستاق القفص، فجاءه قوم من أهل القرية من بني عجل، فعرضوا عليه أنفسهم، وبذلوا له ما لديهم، فجزاهم خيرا، وأمر بترك العرض لهم. وسار حتى أتى نهرا يعرف بباقثا، فنزل خارجا من القرية التي على النهر وهي قرية تشرع على دجيل، فأتاه أهل الكرخ، فسلموا عليه، ودعوا له بخير، وأمدوه من الأنزال بما أراد وجاءه رجل يهودي خيبري يقال له ماندويه فقبل يده، وسجد له- زعم- شكرا لرؤيته إياه، ثم سأله عن مسائل كثيرة، فأجابه عنها، فزعم أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى القتال معه، وسأله عن علامات في بدنه ذكر أنه عرفها فيه، فأقام معه ليلته تلك يحادثه.
وكان إذا نزل اعتزل عسكره بأصحابه الستة، ولم يكن يومئذ ينكر النبيذ على أحد من أصحابه، وكان يتقدم إلى محمد بن سلم في حفظ عسكره، فلما كان في تلك الليلة أتاه في آخر الليل رجل من أهل الكرخ، فأعلمه أن رميسا وأهل المفتح والقرى التي تتصل بها وعقيلا واهل الأيلة قد أتوه ومعهم الدبيلا بالسلاح الشاك، وأن الحميري في جمع من أهل الفرات وقد صاروا في تلك الليلة إلى قنطرة نهر ميمون، فقطعوها ليمنعوه العبور فلما أصبح أمر، فصيح بالزنج، فعبروا دجيلا، وأخذ في مؤخر الكرخ حتى وافى نهر ميمون، فوجد القنطرة مقطوعة، والناس في شرقي النهر والسميريات في بطنه، والدبيلا في السميريات، وأهل القرى في الجريبيات والمجونحات، فأمر أصحابه بالإمساك عنهم، وأن يرحلوا عن النهر توقيا للنشاب، ورجع فقعد على مائة ذراع من القرية، فلما لم يروا أحدا يقاتلهم خرج منهم قوم ليعرفوا الخبر، وقد كان أمر جماعة من أصحابه، فأتوا القرية، فكمنوا فيها مخفين لأشخاصهم، فلما أحسوا خروج من خرج منهم، شدوا عليهم، فأسروا اثنين وعشرين رجلا، وسعوا نحو الباقين، فقتلوا منهم جماعة على شاطئ النهر، ورجعوا إليه بالرءوس والأسرى، فأمر بضرب أعناقهم بعد مناظرة جرت بينه وبينهم، وأمر بالاحتفاظ بالرءوس، وأقام إلى نصف النهار، وهو يسمع أصواتهم، فأتاه رجل من أهل البادية مستأمنا، فسأله عن غور النهر، فأعلمه أنه يعرف موضعا منه يخاض، وأعلمه أن القوم على معاودته بجمعهم يقاتلونه، فنهض مع الرجل حتى أتى به موضعا على مقدار ميل من المحمدية، فخاض النهر بين يديه، وخاض الناس خلفه، وحمله ناصح المعروف بالرملي، وعبر بالدواب، فلما صار في شرقي النهر كر راجعا نحو نهر ميمون، حتى أتى المسجد فنزل فيه، وأمر بالرءوس فنصبت، وأقام يومه، وانحدر جيش رميس بجمعه في بطن دجيل، فأقاموا بموضع يعرف بأقشى بإزاء النهر المعروف ببرد الخيار، ووجه طليعة فرجع إليه، فأخبره بمقام القوم هناك، فوجه من ساعته ألف رجل، فأقاموا بسبخة هناك على فوهة هذا النهر، وقال لهم: إن أتوكم إلى المغرب، وإلا فأعلموني وكتب كتابا إلى عقيل، يذكره فيه انه قد بايعه في جماعة من أهل الأبلة، وكتب إلى رميس يذكره حلفه له بالسيب أنه لا يقاتله، وأنه ينهي أخبار السلطان إليه، ووجه بالكتابين إليهما مع بعض الأكرة بعد أن أحلفه أن يوصلهما.
وسار من نهر ميمون يريد السبخة التي كان هيأ فيها طليعة، فلما صار إلى القادسية والشيفيا، سمع هناك نعيرا، ورأى رميا، وكان إذا سار يتنكب القرى، فلم يدخلها، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى الشيفيا في جماعة، فيسأل أهلها أن يسلموا إليه قاتل الرجل من أصحابه في ممره كان بهم، فرجع إليه، فأخبره أنهم زعموا أنه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميين ومنعهم له، فصاح بالغلمان، وأمرهم بانتهاب القريتين، فانتهب منهما مالا عظيما، عينا وورقا وجوهرا وحليا وأواني ذهب وفضة، وسبى منهما يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أول سبي سبي، ووقفوا على دار فيها أربعة عشر غلاما من غلمان الشورج، قد سد عليهم باب، فأخذهم وأتي بمولى الهاشميين القاتل صاحبه فأمر محمد بن سلم بضرب عنقه، ففعل ذلك، وخرج من القريتين في وقت العصر، فنزل السبخة المعروفة ببرد الخيار.
فلما كان في وقت المغرب أتاه أحد أصحابه الستة، فأعلمه أن أصحابه، قد شغلوا بخمور وأنبذة وجدوها في القادسية، فصار ومعه محمد بن سلم ويحيى ابن محمد إليهم، فأعلمهم أن ذلك مما لا يجوز لهم، وحرم النبيذ في ذلك اليوم عليهم، وقال لهم: إنكم تلاقون جيوشا تقاتلونهم، فدعوا شرب النبيذ والتشاغل به، فأجابوه إلى ذلك، فلما أصبح جاءه غلام من السودان، يقال له قاقويه، فأخبره أن أصحاب رميس قد صاروا إلى شرقي دجيل، وخرجوا إلى الشط، فدعا علي بن أبان، فتقدم إليه أن يمضي بالزنج، فيوقع بهم، ودعا مشرقا، فأخذ منه اصطرلابا، فقاس به الشمس، ونظر في الوقت، ثم عبر وعبر الناس خلفه القنطرة التي على النهر المعروف ببرد الخيار، فلما صاروا في شرقيه، تلاحق الناس بعلي بن أبان، فوجدوا أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشط، والدبيلا في السفن يرمون بالنشاب، فحملوا عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهبت ريح من غربي دجيل، فحملت السفن، فأدنتها من الشط، فنزل السودان إليها، فقتلوا من وجدوا فيها، وانحاز رميس ومن كان معه إلى نهر الدير على طريق أقشى، وترك سفنه لم يحركها ليظن أنه مقيم، وخرج عقيل وصاحب ابن أبي عون إلى دجلة مبادرين، لا يلويان على شيء وأمر صاحب الزنج بإخراج ما في السفن التي فيها الدبيلا، وكانت مقرونا بعضها ببعض، فنزل فيها قاقويه ليفتشها، فوجد رجلا من الدبيلا، فحاول اخراجه فامتنع عليه، واهوى اليه بسرتى كان معه، فضربه ضربة على ساعده، فقطع بها عرقا من عروقه، وضربه ضربة على رجله، فقطعت عصبة من عصبه، وأهوى له قاقويه، فضربه ضربة على هامته فسقط، فأخذ بشعره، واحتز رأسه، فأتى به صاحب الزنج، فأمر له بدينار خفيف، وأمر يحيى بن محمد أن يقوده على مائة من السودان ثم سار صاحب الزنج إلى قرية تعرف بالمهلبي تقابل قياران، ورجع السودان الذين كانوا اتبعوا عقيلا وخليفة ابن أبي عون، وقد أخذ سميرية فيها ملاحان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: اتبعناهم فطرحوا أنفسهم إلى الشط، وتركوا هذه السميرية، فجئنا بها.
فسأل الملاحين، فأخبراه أن عقيلا حملهما على إتباعه قهرا، وحبس نساءهما حتى اتبعاه، وفعل ذلك بجميع من تبعه من الملاحين، فسألهما عن سبب مجيء الدبيلا، فقالا: إن عقيلا وعدهم مالا، فتبعوه، فسألهما عن السفن الواقعة بأقشى، فقالا: هذه سفن رميس وقد تركها، وهرب في أول النهار، فرجع حتى إذا حاذاها أمر السودان فعبروا، فأتوه بها، فأنهبهم ما كان فيها، وأمر بها فأحرقت، ثم صار إلى القرية المعروفة بالمهلبية واسمها تنغت، فنزل قريبا منها، وأمر بانتهابها وإحراقها، فانتهبت وأحرقت، وسار على نهر الماديان، فوجد فيها تمورا، فأمر بإحراقها.
وكان لصاحب الزنج بعد ذلك أمور من عيثه هو وأصحابه في تلك الناحية تركنا ذكرها، إذ لم تكن عظيمة.
وإن كان كل أموره كانت عظيمة ثم كان من عظيم ما كان له من الوقائع مع أصحاب السلطان وقعة كانت مع رجل من الأتراك يكنى أبا هلال في سوق الريان، ذكر عن قائد من قواده يقال له ريحان، أن هذا التركي وافاهم في هذا السوق، ومعه زهاء أربعة آلاف رجل أو يزيدون، وفي مقدمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول، وأن السودان حملوا عليه حملة صادقة، وأن بعض السودان ألقى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا معه في يده فصرعه، وانهزم القوم، وتلاحق السودان، فقتلوا من أصحاب أبي هلال زهاء ألف وخمسمائة وإن بعضهم اتبع أبا هلال ففاته بنفسه على دابة عري، وحال بينهم وبين من أفلت ظلمة الليل، وأنه لما أصبح أمر بتتبعهم، ففعلوا ذلك فجاءوا بأسرى ورءوس، فقتل الأسرى كلهم.
ثم كانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة مع أصحاب السلطان، هزمهم فيها، وظفر بهم، وكان مبتدأ الأمر في ذلك- فيما ذكر عن قائد لصاحب الزنج من السودان يقال له ريحان- أنه قال: لما كان في بعض الليل من ليالي هذه السنة التي ذكرنا أنه ظهر فيها، سمع نباح كلب في أبواب تعرف بعمرو بن مسعدة، فأمر بتعرف الموضع الذي يأتي منه النباح، فوجه لذلك رجلا من أصحابه، ثم رجع فأخبره أنه لم ير شيئا، وعاد النباح قال ريحان: فدعاني، فقال لي: صر إلى موضع هذا الكلب النابح، فإنه إنما نبح شخصا يراه، فصرت فإذا أنا بالكلب على المسناة، ولم أر شيئا، فأشرفت فإذا أنا برجل قاعد في درجات هنا لك، فكلمته، فلما سمعني أفصح بالعربية كلمني، فقال: أنا سيران بن عفو الله، أتيت صاحبكم بكتب من شيعته بالبصرة، وكان سيران هذا أحد من صحب صاحب الزنج أيام مقامه بالبصرة، فأخذته فأتيته به، فقرأ الكتب التي كانت معه، وسأله عن الزينبي وعن عدة من كان معه، فقال: إن الزينبي قد أعد لك الخول والمطوعة والبلالية والسعدية، وهم خلق كثير، وهو على لقائك بهم ببيان، فقال له: اخفض صوتك، لئلا يرتاع الغلمان بخبرك وسأله عن الذي يقود هذا الجيش، فقال: قد ندب لذلك المعروف بأبي منصور، وهو أحد موالي الهاشميين: قال له: أفرأيت جمعهم؟ قال: نعم، وقد أعدوا الشرط لكتف من ظفروا به من السودان، فأمره بالانصراف إلى الموضع الذي يكون فيه مقامه، فانصرف سيران إلى علي بن أبان ومحمد بن سلم ويحيى بن محمد، فجعل يحدثهم إلى أن أسفر الصبح، ثم سار صاحب الزنج إلى أن أشرف عليهم فلما انتهى إلى مؤخر ترسى وبرسونا وسندادان بيان، عرض له قوم يريدون قتاله، فأمر علي بن أبان فأتاهم فهزمهم، وكان معهم مائة أسود، فظفر بهم قال ريحان: فسمعته يقول لأصحابه: من أمارات تمام أمركم ما ترون من إتيان هؤلاء القوم بعبيدهم فيسلمونهم إليكم، فيزيد الله في عددكم ثم سار حتى صار إلى بيان.
قال ريحان: فوجهني وجماعة من أصحابه إلى الحجر لطلب الكاروان وعسكرهم في طرف النخل في الجانب الغربي من بيان، فوجهنا إلى الموضع الذي امرنا بالمصير اليه، فالفينا هناك ألفا وتسعمائة سفينة، ومعها قوم من المطوعة قد احتبسوها، فلما رأونا خلوا عن السفن، وعبروا سلبان عرايا ماضين نحو جوبك وسقنا السفن حتى وافيناه بها، فلما أتيناه بها أمر فبسط له على نشز من الأرض وقعد، وكان في السفن قوم حجاج أرادوا سلوك طريق البصرة، فناظرهم بقية يومه إلى وقت غروب الشمس، فجعلوا يصدقونه في جميع قوله، وقالوا: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك، فردهم إلى سفنهم، فلما أصبحوا أخرجهم، فأحلفهم ألا يخبروا أحدا بعدة أصحابه، وأن يقللوا أمره عند من سألهم عنه وعرضوا عليه بساطا كان معهم، فأبدله ببساط كان معه، واستحلفهم أنه لا مال للسلطان معهم ولا تجارة، فقالوا: معنا رجل من أصحاب السلطان، فأمر بإحضاره، فأحضر، فحلف الرجل أنه ليس من أصحاب السلطان، وأنه رجل معه نقل أراد به البصرة، فأحضر صاحب السفينة التي وجد فيها، فحلف له أنه إنما اتجر فيه، فحمله فخلى سبيله، واطلق الحجاج فذهبوا، وشرع اهل سليمانان على بيان بإزائه في شرقي النهر، فكلمهم أصحابه وكان فيهم حسين الصيدناني الذي كان صحبه بالبصرة، وهو أحد الأربعة الذين ظهروا بمسجد عباد، فلحق به يومئذ، فقال له: لم أبطأت عني إلى هذه الغاية؟ قال: كنت مختفيا، فلما خرج هذا الجيش دخلت في سواده قال:
فأخبرني عن هذا الجيش، ما هم؟ وما عدة أصحابه؟ قال: خرج من الخول بحضرتي ألف ومائتا مقاتل، ومن أصحاب الزينبي ألف، ومن البلالية والسعدية زهاء ألفين، والفرسان مائتا فارس ولما صاروا بالأبلة وقع بينهم وبين أهلها اختلاف، حتى تلاعنوا، وشتم الخول محمد بن أبي عون، وخلفتهم بشاطئ عثمان وأحسبهم مصبحيك في غد قال: فكيف يريدون أن يفعلوا إذا أتونا؟ قال: هم على إدخال الخيل من سندادان بيان، ويأتيك رجالهم من جنبي النهر فلما أصبح وجه طليعة ليعرف الخبر، واختاره شيخا ضعيفا زمنا لئلا يعرض له، فلم يرجع إليه طليعته فلما أبطأ عنه وجه فتحا الحجام ومعه ثلاثمائة رجل، ووجه يحيى بن محمد إلى سندادان، وأمره أن يخرج في سوق بيان، فجاءه فتح فأخبره أن القوم مقبلون إليه في جمع كثير، وأنهم قد أخذوا جنبتي النهر، فسأل عن المد، فقيل: لم يأت بعد، فقال: لم تدخل خيلهم بعد، وأمر محمد بن سلم وعلي بن أبان أن يقعدا لهم في النخل، وقعد هو على جبل مشرف عليهم، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال حتى صاروا إلى الأرض المعروفة بأبي العلاء البلخي، وهي عطفة على دبيران، فأمر الزنج فكبروا ثم حملوا عليهم فوافوا بهم دبيران، ثم حمل الحول يقدمهم أبو العباس بن أيمن المعروف بأبي الكباش وبشير القيسي، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هو عليه، ثم رجعوا عليهم، فثبتوا لهم، وحمل أبو الكباش على فتح الحجام فقتله، وأدرك غلاما يقال له دينار من السودان فضربه ضربات، ثم حمل السودان عليهم، فوافوا بهم شاطئ بيان، وأخذتهم السيوف.
قال ريحان: فعهدي بمحمد بن سلم وقد ضرب أبا الكباش، فألقى نفسه في الطين، فلحقه بعض الزنج، فاحتز رأسه وأما علي بن أبان، فإنه كان ينتحل قتل أبي الكباش وبشير القيسي، وكان يتحدث عن ذلك اليوم فيقول: كان أول من لقيني بشير القيسي، فضربني وضربته، فوقعت ضربته في ترسي، ووقعت ضربتي في صدره وبطنه، فانتظمت جوانح صدره، وفريت بطنه، وسقط فأتيته، فاحتززت راسه ولقبني أبو الكباش، فشغل بي، وأتاه بعض السودان من ورائه فضربه بعصا كانت في يده على ساقيه، فكسرهما فسقط، فأتيته ولا امتناع به، فقتلته واحتززت رأسه، فأتيت بالرأسين صاحب الزنج.
قال محمد بن الحسن بن سهل: سمعت صاحب الزنج يخبر أن عليا أتاه برأس أبي الكباش ورأس بشير القيسي- قال: ولا اعرفهما- فقال: كان هذان يقدمان القوم، فقتلتهما فانهزم أصحابهما لما رأوا مصرعهما.
قال ريحان- فيما ذكر عنه: وانهزم الناس فذهبوا كل مذهب، واتبعهم السودان إلى نهر بيان، وقد جزر النهر، فلما وافوه انغمسوا في الوحل، فقتل أكثرهم قال: وجعل السودان يمرون بصاحبهم دينار الأسود الذي كان أبو الكباش ضربه، وهو جريح ملقى، فيحسبونه من الخول فيضربونه بالمناجل حتى أثخن، ومر به من عرفه، فحمل إلى صاحب الزنج، فأمر بمداواة كلومه.
قال ريحان: فلما صار القوم إلى فوهة نهر بيان، وغرق من غرق، وأخذت السفن التي كانت فيها الدواب، إذا ملوح يلوح من سفينة، فأتيناه فقال: ادخلوا النهر المعروف بشريكان، فإن لهم كمينا هناك، فدخل يحيى ابن محمد وعلي بن أبان، فأخذ يحيى في غربي النهر، وسلك علي بن أبان في شرقيه، فإذا كمين في زهاء ألف من المغاربة، ومعهم حسين الصيداني أسيرا قال: فلما رأونا شدوا على الحسين، فقطعوه قطعا، ثم أقبلوا إلينا، ومدوا رماحهم، فقاتلوا إلى صلاة الظهر، ثم أكب السودان عليهم فقتلوهم أجمعين، وحووا سلاحهم، ورجع السودان إلى عسكرهم، فوجدوا صاحبهم قاعدا على شاطئ بيان، وقد أتي بنيف وثلاثين علما وزهاء ألف رأس، فيها رءوس أنجاد الخول وأبطالهم، ولم يلبث أن أتوه بزهير يومئذ.
قال ريحان: فلم أعرفه، فأتى يحيى وهو بين يديه، فعرفه فقال لي: هذا زهير الخول، فما استبقاؤك إياه! فأمر به فضربت عنقه وأقام صاحب الزنج يومه وليلته فلما أصبح وجه طليعة إلى شاطئ دجلة، فأتاه طليعته، فأعلمه أن بدجلة شذاتين لاصقتين بالجزيرة، والجزيرة يومئذ على فوهة القندل، فرد الطليعة بعد العصر إلى دجلة ليعرف الخبر، فلما كان وقت المغرب أتاه المعروف بأبي العباس خال ابنه الأكبر، ومعه رجل من الجند يقال له عمران، وهو زوج أم أبي العباس هذا، فصف لهما أصحابه، ودعا بهما، فأدى إليه عمران رسالة ابن أبي عون، وسأله أن يعبر بيانا ليفارق عمله، وأعلمه أنه قد نحى الشذا عن طريقه، فأمر بأخذ السفن التي تخترق بيانا من جبى، فصار أصحابه إلى الحجر، فوجدوا في سلبان مائتي سفينة، فيها أعدال دقيق، فأخذت، ووجد فيها أكسية وبركانات، وفيها عشرة من الزنج، وأمر الناس بركوب السفن، فلما جاء المد- وذلك في وقت المغرب- عبر وعبر أصحابه حيال فوهة القندل، واشتدت الريح، فانقطع عنه من اصحابه المكنى بابى دلف، وكان معه السفن التي فيها الدقيق، فلما أصبح وافاه أبو دلف فأخبره أن الريح حملته إلى حسك عمران، وأن أهل القرية هموا به، وبما كان معه، فدفعهم عن ذلك وأتاه من السودان خمسون رجلا، فسار عند موافاة السفن والسودان إياه حتى دخل القندل، فصار إلى قرية للمعلى بن أيوب، فنزلها، وانبث اصحابه الى دبا، فوجدوا هناك ثلاثمائة رجل من الزنج، فأتوه بهم، ووجدوا وكيلا للمعلى بن أيوب، فطالبه بمال، فقال: أعبر الى برسان، فآتيك بالمال، فأطلقه، فذهب ولم يعد إليه، فلما أبطأ عليه أمر بانتهاب القرية فانتهبت.
قال ريحان- فيما ذكر عنه: فلقد رأيت صاحب الزنج يومئذ ينتهب معنا، ولقد وقعت يدي ويده على جبة صوف مضربة، فصار بعضها في يده وبعضها في يدي، وجعل يجاذبني عليها حتى تركتها له ثم سار حتى صار إلى مسلحة الزينبي على شاطئ القندل في غربي النهر، فثبت له القوم الذين كانوا في المسلحة، وهم يرون أنهم يطيقونه، فعجزوا عنه، فقتلوا أجمعين، وكانوا زهاء مائتين، وبات ليلته في القصر، ثم غدا في وقت المد قاصدا إلى سبخة القندل، واكتنف أصحابه حافتي النهر، حتى وافوا منذران، فدخل أصحابه القرية فانتهبوها، ووجدوا فيها جمعا من الزنج، فأتوه بهم، ففرقهم على قواده، ثم صار إلى مؤخر القندل، فأدخل السفن النهر المعروف بالحسني النافذ إلى النهر المعروف بالصالحى، وهو نهر يؤدى الى دبا، فأقام بسبخة هناك.
فذكر عن بعض أصحابه انه قال: هاهنا قود القواد، وأنكر أن يكون قود قبل ذلك وتفرق أصحابه في الأنهار حتى صاروا إلى مربعة دبا، فوجدوا رجلا من التمارين من أهل كلاء البصرة، يقال له محمد بن جعفر المريدي، فأتوه به، فسلم عليه وعرفه، وسأله عن البلالية، فقال: إنما أتيتك برسالتهم، فلقيني السودان، فأتوك بي، وهم يسألونك شروطا إذا أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا، فأعطاه ما سأل لهم، وضمن القيام له بأمرهم، حتى يصيروا في حيزه، ثم خلى سبيله، ووجه معه من صيره إلى الفياض، ورجع عنه، فأقام أربعة أيام ينتظره، فلم يأته، فسار في اليوم الخامس وقد سرح السفن التي كانت معه في النهر، وأخذ هو على الظهر فيما بين نهر يقال له الداورداني والنهر المعروف بالحسني والنهر المعروف بالصالحي، فلم يتعد حتى رأى خيلا مقبلة من نحو نهر الأمير زهاء ستمائه فارس، فأسرع أصحابه إلى النهر الداورداني، وكان الخيل في غربيه، فكلموهم طويلا، وإذا هم قوم من الأعراب فيهم عنترة بن حجنا وثمال، فوجه إليهم محمد بن سلم، فكلم ثمالا وعنترة، وسألا عن صاحب الزنج، فقال: ها هو ذا، فقال: نريد كلامه، فأتاه فأخبره بقولهما، وقال له: لو كلمتهما! فزجره، وقال: إن هذا مكيدة، وأمر السودان بقتالهم، فعبروا النهر، فعدلت الخيل عن السودان، ورفعوا علما أسود، وظهر سليمان أخو الزينبي- وكان معهم- ورجع أصحاب صاحب الزنج، وانصرف القوم، فقال لمحمد بن سلم: ألم أعلمك أنهم إنما أرادوا كيدنا! وسار حتى صار إلى دبا، وانبث أصحابه في النخل، فجاءوا بالغنم والبقر، فجعلوا يذبحون ويأكلون، وأقام ليلته هناك، فلما أصبح سار حتى دخل الأرخنج المعروف بالمطهري، وهو أرخنج ينفذ إلى نهر الأمير المقابل للفياض من جانبيه، فوجدوا هناك شهاب بن العلاء العنبري، ومعه قوم من الخول، فأوقعوا به، وأفلت شهاب في نفير ممن كان معه، وقتل من أصحابه جماعة، ولحق شهاب بالمنصف من الفياض، ووجد اصحاب صاحب الزنج ستمائه غلام من غلمان الشورجيين هناك، فاخذوهم، وقتلوا وكلاءهم، وأتوه بهم، ومضى حتى انتهى إلى قصر يعرف بالجوهري على السبخة المعروفة بالبرامكة، فأقام فيه ليلته تلك، ثم سار حيث أصبح حتى وافى السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالديناري، ومؤخرها يفضي إلى النهر المعروف بالمحدث، فأقام بها، وجمع أصحابه، وأمرهم ألا يعجلوا بالذهاب إلى البصرة حتى يأمرهم وتفرق أصحابه في انتهاب كل ما وجدوا، وبات هناك ليلته تلك.
ذكر الخبر عن مسير صاحب الزنج بزنوجه وجيوشه فيها إلى البصرة
ذكر أنه سار من السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالدينارى، ومؤخرها يفضى الى النهر المعروف بالحدث، بعد ما جمع بها أصحابه يريد البصرة، حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحي أتاه قوم من السودان، فأعلموه أنهم رأوا في الرياحي بارقة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى تنادى الزنج السلاح، فامر على بن ابان بالعبور إليهم، وكان القوم في شرقي النهر المعروف بالديناري، فعبر في زهاء ثلاثة آلاف، وحبش صاحب الزنج عنده أصحابه، وقال لعلي: إن احتجت إلى مزيد في الرجال فاستمدني فلما مضى، صاح الزنج: السلاح! لحركة رأوها من غير الجهة التي صار إليها علي، فسأل عن الخبر، فأخبر أنه قد أتاه قوم من ناحية القرية الشارعة على نهر حرب المعروفة بالجعفرية، فوجه محمد بن سلم إلى تلك الناحية.
فذكر عن صاحبه المعروف بريحان، أنه قال: كنت فيمن توجه مع محمد، وذلك في وقت صلاة الظهر، فوافينا القوم بالجعفرية، فنشب القتال بيننا وبينهم إلى آخر وقت العصر، ثم حمل السودان عليهم حملة صادقة، فولوا منهزمين وقتل من الجند والأعراب واهل البصره البلاليه والسعديه خمسمائة رجل، وكان فتح المعروف بغلام أبي شيث معهم يومئذ، فولى هاربا، فاتبعه فيروز الكبير، فلما رآه جادا في طلبه رماه ببيضة كانت على رأسه، فلم يرجع عنه، فرماه بترسه فلم يرجع عنه، فرماه بتنور حديد كان عليه فلم يرجع عنه، ووافى به نهر حرب، فألقى فتح نفسه فيه، فأفلت ورجع فيروز، ومعه ما كان فتح القاه من سلاحه، حتى أتى به صاحب الزنج.
قال محمد بن الحسن: قال شبل: حكي لنا ان فتحا ظفر يومئذ نهر حرب، قال: فحدثت هذا الحديث الفضل بن عدي الدارمي، فقال: أنا يومئذ مع السعدية، ولم يكن على فتح تنور حديد، وما كان عليه إلا صدرة حرير صفراء، ولقد قاتل يومئذ حتى لم يبق أحد يقاتل، وأتى نهر حرب، فوثبه حتى صار إلى الجانب الغربي منه ولم يعرف ما حكى ريحان من خبر فيروز.
قال: وقال ريحان: لقيت فيروز قبل انتهائه إلى صاحب الزنج، فاقتص علي قصته وقصه فتح، وأراني السلاح وأقبل الزنج على أخذ الأسلاب، وأخذت على النهر المعروف بالديناري، فإذا أنا برجل تحت نخلة عليه قلنسوة خز، وخف أحمر ودراعة، فأخذته فأراني كتبا معه، وقال لي: هذه كتب لقوم من أهل البصرة، وجهوني بها، فألقيت في عنقه عمامة، وقدته إليه، وأعلمته خبره، فسأله عن اسمه فقال: أنا محمد بن عبد الله، وأكنى بأبي الليث، من أهل أصبهان، وإنما أتيتك راغبا في صحبتك، فقبله، ولم يلبث أن سمع تكبيرا، فإذا علي بن أبان قد وافاه ومعه رأس البلالي المعروف بأبي الليث القواريري.
قال: وقال شبل: الذي قتل أبا الليث القواريري وصيف المعروف بالزهري وهو من مذكوري البلالية، ورأس المعروف بعبدان الكسبي، وكان له في البلالية صوت في رءوس جماعة منهم، فسأله عن الخبر فأخبره أنه لم يكن فيمن قاتله أشد قتالا من هذين- يعني أبا الليث وعبدان- وأنه هزمهم حتى ألقاهم في نهر نافذ، وكانت معهم شذاة فغرقها، ثم جاءه محمد بن سلم ومعه رجل من البلالية أسيرا، أسره شبل يقال له محمد الأزرق القواريري، ومعه رءوس كثيرة، فدعا الأسير فسأله عن أصحاب هذين الجيشين، فقال له: أما الذين كانوا في الرياحي فإن قائدهم كان أبا منصور الزينبي، وأما الذين كانوا مما يلي نهر حرب، فإن قائدهم كان سليمان أخا الزينبي من ورائهم مصحرا، فسأله عن عددهم فقال له: لا أحصيهم، إلا أني أعلم أنهم كثير عددهم فأطلق محمد القواريري، وضمه إلى شبل، وسار حتى وافى سبخة الجعفرية، فأقام ليلته بين القتلى، فلما أصبح جمع أصحابه فحذرهم أن يدخل أحد منهم البصرة، وسار فتسرع منهم أنكلويه وزريق وأبو الخنجر- ولم يكن قود يومئذ- وسليم ووصيف الكوفي فوافوا النهر المعروف بالشاذاني، وأتاهم أهل البصرة، وكثروا عليهم، وانتهى الخبر إليه، فوجه محمد بن سلم وعلي بن أبان ومشرقا غلام يحيى في خلق كثير، وجاء هو يسايرهم، ومعه السفن التي فيها الدواب المحمولة ونساء الغلمان حتى أقام بقنطرة نهر كثير قال ريحان: فأتيته وقد رميت بحجر، فأصاب ساقي، فسألني عن الخبر فأخبرته أن الحرب قائمة، فأمرني بالرجوع، وأقبل معي حتى أشرف على نهر السيابجه ثم قال لي: امض إلى أصحابنا، فقل لهم يستأخروا عنهم، فقلت له: ابعد عن هذا الموضع فإني لست آمن عليك الخول فتنحى، ومضيت فأخبرت القواد بما أمر به، فتراجعوا، وأكب أهل البصرة عليهم، وكانت هزيمة وذلك عند العصر، ووقع الناس في النهرين: نهر كثير ونهر شيطان، فجعل يهتف بهم ويردهم فلا يرجعون، وغرق جماعة من أصحابه في نهر كثير، وقتل منهم جماعة على شط النهر وفي الشاذاني، فكان ممن غرق يومئذ من قواده أبو الجون ومبارك البحراني وعطاء البربري وسلام الشامي، ولحقه غلام أبي شيث وحارث القيسي وسحيل، فعلوا القنطرة، فرجع إليهم وانهزموا عنه حتى صاروا إلى الأرض، وهو يومئذ في دراعة وعمامة ونعل وسيف، وترسه في يده، ونزل عن القنطرة وصعدها البصريون يطلبونه، فرجع فقتل منهم بيده رجلا على خمس مراق من القنطرة، وجعل يهتف بأصحابه ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق غلام يحيى قال ريحان: فكنت معه فرجع، حتى صار إلى المعلى، فنزل في غربي نهر شيطان قال محمد بن الحسن: فسمعت صاحب الزنج يحدث، قال: لقد رأيتني في بعض نهار هذا اليوم، وقد ضللت عن أصحابي، وضلوا عني، فلم يبق معي إلا مصلح ورفيق، وفي رجلي نعل سندي، وعلي عمامة قد انحل كور منها فأنا أسحبها من ورائي، ويعجلني المشي عن رفعها، ومعي سيفي وترسي وأسرع مصلح ورفيق في المشي وقصرت، فغابا عني، ورأيت في أثري رجلين من أهل البصرة، في يد أحدهما سيف، وفي يد الآخر حجارة، فلما رأياني عرفاني، فجدا في طلبي، فرجعت إليهما، فانصرفا عني، ومضيت حتى خرجت إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابي، وكانوا قد تحيروا لفقدي، فلما رأوني سكنوا إلى رؤيتي قال ريحان: فرجع بأصحابه إلى موضع يعرف بالمعلى في غربي نهر شيطان، فنزل به، وسأل عن الرجال، فإذا قد هرب كثير منهم، ونظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته، فلم يرجع إليه أحد، وبات ليلته، فلما كان في بعض الليل جاء الملقب بجربان، وقد كان هرب فيمن هرب، ومعه ثلاثون غلاما فسأله: أين كانت غيبته؟ فقال: ذهبت إلى الزوارقة طليعة قال ريحان: ووجهني لا تعرف له من في قنطرة نهر حرب، فلم أجد هناك أحدا، وقد كان أهل البصرة انتهبوا السفن التي كانت معه، وأخذوا الدواب التي كانت فيها في هذا اليوم، وظفروا بمتاع من متاعه، وكتب من كتبه، واصطرلابات كانت معه، فلما أصبح من غد هذا اليوم نظر في عدة أصحابه، فإذا هم ألف رجل قد كانوا ثابوا إليه في ليلتهم تلك قال ريحان: فكان فيمن هرب شبل، وكان ناصح الرملي ينكر هرب شبل قال ريحان: فرجع شبل من غد، ومعه عشرة غلمان، فلامه وعنفه، وسأل عن غلام كان يقال له نادر يكنى بأبي نعجة، وعن عنبر البربري، فأخبر أنهما هربا فيمن هرب، فأقام في موضعه، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى قنطرة نهر كثير، فيعظ الناس ويعلمهم ما الذي دعاه إلى الخروج، فصار محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد، فوقف سليمان ويحيى، وعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة، وجعل يكلمهم، ورأوا منه غرة فانطووا عليه، فقتلوه قال الفضل بن عدي: عبر محمد بن سلم إلى أهل البصرة ليعظهم وهم مجتمعون في أرض تعرف بالفضل بن ميمون، فكان أول من بدر إليه وضربه بالسيف فتح غلام أبي شيث، وأتاه ابن التومني السعدي، فاحتز رأسه، فرجع سليمان ويحيى إليه، فأخبراه الخبر، فأمرهما بطي ذلك عن الناس حتى يكون هو الذي يقوله لهم، فلما صلى العصر نعى محمد بن سلم لأصحابه، وعرف خبره من لم يكن عرفه، فقال لهم: إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة ووجه زريقا وغلاما له يقال له سقلبتويا، وأمرهما بمنع الناس من العبور، وذلك في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن سمعان الكاتب، قال: لما كان في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة جمع له أهل البصرة، وحشدوا له لما رأوا من ظهورهم عليه في يوم الأحد، وانتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي- وكان من غزاة البحر- في الشذا، وله علم بركوبها والحرب فيها، فجمع المطوعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبي البلالية والسعدية، ومن أحب النظر من غير هذه الأصناف من الهاشميين والقرشيين وسائر أصناف الناس، فشحن ثلاثة مراكب من الشذا من الرماة، وجعلوا يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد، ومضى جمهور الناس رجالة، منهم من معه السلاح، ومنهم نظارة لا سلاح معهم، فدخلت الشذا والسفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ النهر، قد سدوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة، وكان صاحب الزنج مقيما بموضعه من النهر المعروف بشيطان قال محمد بن الحسن: فأخبرنا صاحب الزنج أنه لما أحس بمصير الجمع إليه، وأتته طلائعه بذلك وجه زريقا وأبا الليث الأصبهاني في جماعه معهما في الجانب الشرقي من النهر كمينا وشبلا وحسينا الحمامي في جماعة من أصحابه في الجانب الغربي بمثل ذلك، وأمر علي بن أبان ومن بقي معه من جمعه بتلقى القوم، وان يجثوا لهم فيمن معه، ويستتروا بتراسهم فلا يثور إليهم منهم ثائر حتى يوافيهم القوم ويوموا إليهم بأسيافهم، فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم وتقدم إلى الكمينين: إذا جاوزهما الجمع وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبتي النهر، ويصيحا بالناس وأمر نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به قال: وكان يقول لأصحابه بعد ذلك: لما أقبل إلي الجمع يومئذ وعاينته رأيت أمرا هائلا راعني، وملأ صدري رهبة وجزعا، وفزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير، منهم مصلح، وليس منا أحد إلا وقد خيل له مصرعه في ذلك فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع، وجعلت أومي إليه أن يمسك فلما قرب القوم مني قلت:
اللهم إن هذه ساعة العسرة، فأعني، فرأيت طيورا بيضا تلقت ذلك الجمع، فلم أستتم كلامي حتى بصرت بسميرية قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا ثم تلتها الشذا، وثار أصحابي إلى القوم الذين قصدوا لهم فصاحوا بهم وخرج الكمينان عن جنبتي النهر من وراء السفن والرجالة، وخبطوا من ولى من الرجالة والنظارة الذين كانوا على شاطئ النهر المعروف، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو الشط طمعا في النجاة، فأدركها السيف، فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق، ولجأ من كان على شاطئ النهر من الرجاله الى النهر فغرقوا وقتلوا، حتى ابير أكثر ذلك الجمع، ولم ينج منهم إلا الشريد، وكثر المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من نسائهم وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس، وأعظموا ما كان فيه من القتل وكان فيمن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر ابن سليمان وأربعون رجلا من الرماة المشهورين، في خلق كثير لا يحصى عددهم.
وانصرف الخبيث وجمعت له الرءوس، فذهب إليه جماعة من أولياء القتلى، فعرضها عليهم، فأخذوا ما عرفوا منها، وعبأ ما بقي عنده من الرءوس التي لم يأت لها طالب في جريبية ملأها منها، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر، وأطلقها فوافت البصرة، فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار، فجعل الناس يأتون تلك الرءوس، فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه، وقوي عدو الله بعد هذا اليوم، وتمكن الرعب في قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه وكتب إلى السلطان بخبر ما كان منه، فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة، وأمر أبا الأحوص الباهلي بالمصير إلى الأبلة واليا، وأمده برجل من الأتراك يقال له جريح.
فزعم الخبيث أن أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة: إنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة، ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ومن لا حراك به، فأذن لنا في تقحمها.
فزبرهم وهجن آراءهم، وقال لهم: لا بل ابعدوا عنها، فقد أرعبناهم وأخفناهم وأمنتم جانبهم، فالرأي الآن أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم.
ثم انصرف باصحابه الى سبخه بماخير أنهارهم، إردب يقارب النهر المعروف بالحاجر قال شبل: هي سبخة أبي قرة وقعها بين النهرين: نهر أبي قرة والنهر المعروف بالحاجر.
فأقام هناك، وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ، وهذه السبخة متوسطة النخل والقرى والعمارات، وبث أصحابه يمينا وشمالا يغير بهم على القرى، ويقتل بهم الأكرة وينهب أموالهم، ويسوق مواشيهم.
فهذا ما كان من خبره وخبر الناس الذين قربوا من موضع مخرجه في هذه السنة.
ولليلتين بقيتا من ذي القعدة منها حبس الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وولي عبد الرحمن بن نائل البصري قضاء سامرا في ذي الحجة منها.
وحج بالناس فيها علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي.