فمما كان فيها من ذلك خروج محمد بْن عبد الله بْن حسن بالمدينة، وخروج أخيه إبراهيم بْن عبد الله بعده بالبصرة ومقتلهما …
ذكر الخبر عن مخرج محمد بْن عبد الله ومقتله
ذكر عمر أن محمد بْن يحيى حدثه، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما انحدر أبو جعفر ببني حسن، رجع رياح إلى المدينة، فألح في الطلب، واخرج محمدا حتى عزم على الظهور.
قَالَ عمر: فحدثت إبراهيم بْن محمد بْن عبد الله الجعفري أن محمدا أحرج، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم، فأنكر ذلك، وقال: ما زال محمد يطلب أشد الطلب حتى سقط ابنه فمات وحتى رهقه الطلب، فتدلى في بعض آبار المدينة يناول أصحابه الماء، وقد انغمس فيه إلى رأسه، وكان بدنه لا يخفى عظما، ولكن إبراهيم تأخر عن وقته لجدرى أصابه.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: تحدث أهل المدينة بظهور محمد، فأسرعنا في شراء الطعام حتى باع بعضهم حلي نسائه، وبلغ رياحا أن محمدا أتى المذاد، فركب في جنده يريده وقد خرج قبله محمد يريده، ومعه جبير بْن عبد الله السلمي وجبير ابن عبد الله بْن يعقوب بْن عطاء وعبد الله بْن عامر الأسلمي، فسمعوا سقاءة تحدث صاحبتها أن رياحا قد ركب يطلب محمدا بالمذاد، وأنه قد سار إلى السوق، فدخلوا دارا لجهينه وأجافوا بابها عليهم، ومر رياح على الباب لا يعلم بهم، ثم رجع إلى دار مروان، فلما حضرت العشاء الأخيرة صلى في الدار ولم يخرج وقيل: إن الذي أعلم رياحا بمحمد سليمان بْن عبد الله بْن أبي سبرة من بني عامر بْن لؤي.
وذكر عن الفضل بْن دكين، قَالَ: بلغني أن عبيد الله بْن عمرو بْن أبي ذؤيب وعبد الحميد بْن جعفر دخلوا على محمد قبل خروجه، فقالوا له: ما ننتظر بالخروج! والله ما نجد في هذه الأمة أحدا أشام عليها منك.
ما يمنعك أن تخرج وحدك! قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: بعث إلينا رياح فأتيته أنا وجعفر بْن محمد بْن علي بْن حسين، وحسين بْن علي بْن حسين بْن علي، على بْن عمر بْن علي بْن حسين بْن على، وحسن بن على بن حسين ابن علي بْن حسين بْن علي ورجال من قريش، منهم اسماعيل بن أيوب ابن سلمة بْن عبد الله بْن الوليد بْن المغيرة، ومعه ابنه خالد، فإنا لعنده في دار مروان إذ سمعنا التكبير قد حال دون كل شيء، فظنناه من عند الحرس، وظن الحرس أنه من الدار قَالَ: فوثب ابن مسلم بْن عقبة- وكان مع رياح- فاتكأ على سيفه، فقال: أطعني في هؤلاء فاضرب أعناقهم، فقال علي بْن عمر: فكدنا والله تلك الليلة أن نطيح حتى قام حسين بْن علي، فقال: والله ما ذاك لك، إنا على السمع والطاعة قَالَ: وقام رياح ومحمد بْن عبد العزيز، فدخلا جنبذا في دار يزيد، فاختفيا فيه، وقمنا فخرجنا من دار عبد العزيز ابن مروان حتى تسورنا على كبا كانت في زقاق عاصم بْن عمرو، فقال إسماعيل بْن أيوب لابنه خالد: يا بني، والله ما تجيبني نفسي إلى الوثوب، فارفعني، فرفعه.
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: جاء الخبر إلى رياح وهو في دار مروان ان محمدا الخارج الليلة، فأرسل إلى أخي محمد بْن عمران وإلى العباس بْن عبد الله بْن الحارث ابن العباس وإلى غير واحد قَالَ: فخرج أخي وخرجت معه، حتى دخلنا عليه بعد العشاء الآخرة، فسلمنا عليه فلم يرد علينا، فجلسنا فقال أخي: كيف أمسى الأمير أصلحه الله! قَالَ: بخير- بصوت ضعيف- قَالَ: ثم صمت طويلا ثم تنبه، فقال: ايها يا أهل المدينة! أمير المؤمنين يطلب بغيته في شرق الأرض وغربها، وهو ينتفق بين أظهركم! أقسم بالله لئن خرج لا أترك منكم أحدا إلا ضربت عنقه فقال أخي: أصلحك الله! أنا عذيرك منه، هذا والله الباطل، قَالَ: فأنت أكثر من هاهنا عشيرة، وأنت قاضي أمير المؤمنين، فادع عشيرتك قَالَ: فوثب أخي ليخرج، فقال: اجلس، اذهب أنت يا ثابت، فوثبت، فأرسلت إلى بني زهرة ممن يسكن حش طلحة ودار سعد ودار بني أزهر: أن أحضروا سلاحكم.
قَالَ: فجاء منهم بشر، وجاء إبراهيم بْن يعقوب بْن سعد بْن أبي وقاص متنكبا قوسا- وكان من أرمى الناس- فلما رأيت كثرتهم، دخلت على رياح، فقلت: هذه بنو زهرة في السلاح يكونون معك، ائذن لهم قَالَ: هيهات! تريد أن تدخل علي الرجال طروقا في السلاح، قل لهم: فليجلسوا في الرحبة، فإن حدث شيء فليقاتلوا، قَالَ: قلت لهم: قد أبى أن يأذن لكم، لا والله ما هاهنا شيء، فاجلسوا بنا نتحدث.
قَالَ: فمكثنا قليلا، فخرج العباس بْن عبد الله بْن الحارث في خيل يعس حتى جاء رأس الثنية، ثم انصرف الى منزله واغلقه عليه، فو الله إنا لعلى تلك الحال إذ طلع فارسان من قبل الزوراء، يركضان، حتى وقفا بين دار عبد الله بْن مطيع ورحبة القضاء في موضع السقاية قَالَ: قلنا: شر الأمر والله جد قَالَ: ثم سمعنا صوتا بعيدا، فأقمنا ليلا طويلا، فأقبل محمد بْن عبد الله من المذاد ومعه مائتان وخمسون رجلا، حتى إذا شرع على بني سلمة وبطحان، قال: اسلكوا بنى سلمه إن شاء الله، قَالَ: فسمعنا تكبيرا، ثم هدأ الصوت فأقبل حتى إذا خرج من زقاق ابن حبين استبطن السوق حتى جاء على التمارين، حتى دخل من أصحاب الأقفاص، فأتى السجن وهو يومئذ في دار ابن هشام، فدقه، وأخرج من كان فيه، ثم أقبل حتى إذا كان بين دار يزيد ودار اويس نظرنا الى هول من الهئول.
قَالَ: فنزل إبراهيم بْن يعقوب، ونكب كنانته وقال: ارمي؟ فقلنا: لا تفعل، ودار محمد بالرحبة، حتى جاء بيت عاتكة بنت يزيد، فجلس على بابها، وتناوش الناس حتى قتل رجل سندي كان يستصبح في المسجد، قتله رجل من أصحاب محمد.
قال: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر، أخبرني جهم بْن عثمان، قَالَ: خرج محمد من المذاد على حمار ونحن معه، فولى خوات بْن بكير بْن خوات بْن جبير الرجالة، وولى عبد الحميد بْن جعفر الحربة، وقال: أكفنيها، فحملها ثم استعفاه منها فأعفاه، ووجهه مع ابنه حسن بْن محمد.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يزيد بْن ركانة قَالَ: بعث إبراهيم بْن عبد الله إلى أخيه بحملي سيوف، فوضعها بالمذاد، فأرسل إلينا ليلة خرج: وما نكون؟ مائة رجل! وهو على حمار أعرابي أسود، فافترق طريقان: طريق بطحان وطريق بني سلمة، فقلنا له: كيف نأخذ؟ قَالَ: على بني سلمة، يسلمكم الله، قَالَ: فجئنا حتى صرنا بباب مروان.
قَالَ: وحدثني محمد بْن عمرو بْن رتبيل بْن نهشل أحد بني يربوع، عن أبي عمرو المديني- شيخ من قريش- قَالَ: أصابتنا السماء بالمدينة أياما، فلما أقلعت خرجت في غبها متمطرا، فانتسأت عن المدينة، فإني لفي رحلي إذ هبط علي رجل لا أدري من أين أتى، حتى جلس الى، وعليه أطمار له درنة وعمامة رثة، فقلت له: من أين أقبلت؟ قَالَ: من غنيمة لي أوصيت راعيها بحاجة لي، ثم أقبلت أريد أهلي قَالَ: فجعلت لا أسلك من العلم طريقا إلا سبقني إليه وكثرني فيه، فجعلت أعجب له ولما يأتي به، قلت: ممن الرجل؟ قَالَ: من المسلمين، قلت: أجل، فمن أيهم أنت؟ قال: لا عليك، الا تريد؟ قلت: بلى علي ذلك، فمن أنت؟ قَالَ: فوثب وقال:
منخرق الخفين يشكو الوجى.
الأبيات الثلاثة.
قَالَ: ثم ادبر فذهب، فو الله ما فات مدى بصري حتى ندمت على تركه قبل معرفته، فاتبعته لأسأله، فكأن الأرض التأمت عليه، ثم رجعت إلى رحلي، ثم أتيت المدينة فما غبرت إلا يومي وليلتي، حتى شهدت صلاة الصبح بالمدينة، فإذا رجل يصلي بنا، لأعرف صوته، فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}[الفتح: 1]، فلما انصرف صعد المنبر، فإذا صاحبي، وإذا هو محمد بْن عبد الله بْن حسن.
قَالَ: وحدثني إسماعيل بْن إبراهيم بْن هود مولى قريش، قَالَ: سمعت إسماعيل بْن الحكم بْن عوانة يخبر عن رجل قد سماه بشبيهة بهذه القصة.
قَالَ إسماعيل: فحدثت بها رجلا من الأنبار يكنى أبا عبيد، فذكر أن محمدا- أو إبراهيم- وجه رجلا من بني ضبة- فيما يحسب إسماعيل بْن إبراهيم بْن هود- ليعلم له بعض علم أبي جعفر، فأتى الرجل المسيب وهو يومئذ على الشرط، فمت إليه برحمه، فقال المسيب: إنه لا بد من رفعك إلى أمير المؤمنين.
فأدخله على أبي جعفر فاعترف، فقال: ما سمعته يقول؟ قَالَ:
شرده الخوف فأزرى به *** كذاك من يكره حر الجلاد
قَالَ أبو جعفر: فأبلغه أنا نقول:
وخطة ذل نجعل الموت دونها *** نقول لها للموت أهلا ومرحبا
وقال: انطلق فابلغه.
قال عمر: وحدثنى أزهر بْن سعيد بْن نافع- وقد شهد ذلك- قَالَ: خرج محمد في أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، فبات بالمذاد هو وأصحابه، ثم أقبل في الليل، فدق السجن وبيت المال، وأمر برياح وابن مسلم فحبسا معا في دار ابن هشام قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني علي بْن أبي طالب، قَالَ: خرج محمد لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة.
وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: خرج لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، فرأيت عليه ليله خرج قلنسوة صفراء مضريه وجبة صفراء، وعمامة قد شد بها حقويه وأخرى قد اعتم بها، متوشحا سيفا، فجعل يقول لأصحابه: لا تقتلوا، فلما امتنعت منهم الدار، قَالَ: ادخلوا من باب المقصورة، قَالَ: فاقتحموا وحرقوا باب الخوخة التي فيها، فلم يستطع أحد أن يمر، فوضع رزام مولى القسري ترسه على النار، ثم تخطى عليه، فصنع الناس ما صنع، ودخلوا من بابها، وقد كان بعض أصحاب رياح مارسوا على الباب، وخرج من كان مع رياح في الدار من دار عبد العزيز من الحمام، وتعلق رياح في مشربة في دار مروان، فأمر بدرجها فهدمت، فصعدوا إليه، فأنزلوه وحبسوه في دار مروان، وحبسوا معه أخاه عباس بْن عثمان وكان محمد بْن خالد وابن أخيه النذير بْن يزيد ورزام في الحبس، فأخرجهم محمد، وأمر النذير بالاستيثاق من رياح وأصحابه.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حبس محمد رياحا وابن أخيه وابن مسلم بْن عقبة في دار مروان.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن أبي ثابت، عن خاله راشد بْن حفص، قَالَ: قَالَ رزام للنذير: دعني وإياه فقد رأيت عذابه إياي قَالَ: شأنك وإياه، ثم قام ليخرج، فقال له رياح: يا أبا قيس، قد كنت أفعل بكم ما كنت افعل، وانا بسؤددكم عالم فقال له النذير:
فعلت ما كنت اهله، ونفعل اما نحن أهله، وتناوله رزام فلم يزل به رياح يطلب إليه حتى كف، وقال: والله إن كنت لبطرا عند القدرة، لئيما عند البلية.
قَالَ: وحدثني موسى بْن سعيد الجمحي، قال: حبس رياح محمد ابن مروان بْن أبي سليط من الأنصار، ثم أحد بني عمرو بْن عوف، فمدحه وهو محبوس، فقال:
وما نسي الذمام كريم قيس *** ولا ملقى الرجال إلى الرجال
إذا ما الباب قعقعه سعيد *** هدجنا نحوه هدج الرئال
دبيب الذر تصبح حين يمشي *** قصار الخطو غير ذوي اختيال
قَالَ: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني إسماعيل بْن يعقوب التيمي قَالَ: صعد محمد المنبر فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أيها الناس، فإنه كان من أمر هذا الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم، من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندا لله في ملكه، وتصغيرا للكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ} [النازعات: 24] وإن أحق الناس بالقيام بهذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين.
اللهم إنهم قد أحلوا حرامك، وحرموا حلالك، وآمنوا من أخفت، وأخافوا من آمنت اللهم فأحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.
أيها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة.
ولكني اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة.
قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ. لما وجهني رياح بلغ محمدا فخرج من ليلته، وقد كان رياح تقدم إلى الأجناد الذين معي، أن اطلع عليهم من ناحية المدينة رجل أن يضربوا عنقي، فلما أتي محمد برياح، قَالَ: أين موسى؟ قَالَ: لا سبيل إليه، والله لقد حدرته إلى العراق قَالَ: فأرسل في أثره فرده قَالَ: قد عهدت إلى الجند الذين معه إن رأوا أحدا مقبلا من المدينة أن يقتلوه قَالَ: فقال محمد لأصحابه: من لي بموسى؟ فقال ابن خضير: أنا لك به قَالَ: فانظر رجالا، فانتخب رجالا ثم أقبل.
قال: فو الله ما راعنا إلا وهو بين أيدينا، كأنما أقبل من العراق، فلما نظر إليه الجند قالوا: رسل أمير المؤمنين، فلما خالطونا شهروا السلاح، فأخذني القائد وأصحابه، وأناخ بي وأطلقني من وثاقي، وشخص بي حتى أقدمني على محمد.
قَالَ عمر: حدثني علي بْن الجعد، قَالَ: كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسن قواده يدعونه إلى الظهور، ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول: لو التقينا مال إلي القواد كلهم.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما أخذ محمد المدينة استعمل عليها عثمان بْن محمد بْن خالد بْن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بْن المطلب بْن عبد الله المخزومي، وعلى الشرط أبا القلمس عثمان بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر بْن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بْن جعفر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وبعث إلى محمد بْن عبد العزيز: إني كنت لأظنك ستنصرنا، وتقيم معنا فاعتذر إليه وقال: أفعل، ثم انسل منه فأتى مكة.
قَالَ: وحدثني إسماعيل بْن إبراهيم بْن هود، قَالَ: حدثني سعيد بْن يحيى أبو سفيان الحميري، قَالَ: حدثني عبد الحميد بْن جعفر، قَالَ: كنت على شرط محمد بْن عبد الله حتى وجهني وجها، وولي شرطه الزبيري.
قَالَ: وحدثني أزهر بْن سعيد بْن نافع، قَالَ: لم يتخلف عن محمد أحد من وجوه الناس إلا نفر، منهم الضحاك بْن عثمان بْن عبد الله بْن خالد بْن حزام وعبد الله بْن المنذر بْن المغيرة بْن عبد الله بْن خالد بْن حزام، وأبو سلمة بْن عبيد الله ابن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب وخبيب بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثتني جدتي كلثم بنت وهب، قالت: لما خرج محمد تنحى أهل المدينة، فكان فيمن خرج زوجي عبد الوهاب بْن يَحْيَى بْن عباد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير إلى البقيع، فاختبات عند أسماء بنت حسن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عباس قالت: فكتب إلي عبد الوهاب بأبيات قالها، فكتبت إليه:
رحم الله شبابا *** قاتلوا يوم الثنية
قاتلوا عنه: بنيات *** وأحساب نقيه
فر عنه الناس طرا *** غير خيل أسديه
قالت: فزاد الناس:
قتل الرحمن عيسى *** قاتل النفس الزكية
قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم ابن سنان الحكمي أخو الأنصار، قَالَ: أخبرني غير واحد أن مالك بْن أنس استفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على كل مكره يمين فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته.
وحدثني محمد بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني ابن أبي مليكه مولى عبد الله ابن جعفر، قَالَ: أرسل محمد إلى إسماعيل بْن عبد الله بْن جعفر- وقد كان بلغ عمرا- فدعاه محمد حين خرج إلى البيعة، فقال: يا بن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك! فارتدع الناس عنه قليلا، وكان بنو معاوية قد أسرعوا إلى محمد، فأتته حمادة بنت معاوية، فقالت: يا عم، إن أخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبطت عنه الناس، فيقتل ابن خالي وإخوتي قَالَ: فأبى الشيخ إلا النهي عنه، فيقال: إن حمادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمد الصلاة عليه، فوثب عليه عبد الله بْن إسماعيل، فقال: تأمر بقتل أبي ثم تصلي عليه! فنحاه الحرس، وصلى عليه محمد.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: اتى محمد بعبيد الله ابن الحسين بْن علي بْن الحسين بْن علي مغمضا عينيه، فقال: إن علي يمينا إن رأيته لأقتلنه فقال عيسى بْن زيد: دعني أضرب عنقه، فكفه عنه محمد.
قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني محمد بْن معن، قَالَ: حدثني محمد بْن خالد القسري، قَالَ: لما ظهر محمد وأنا في حبس ابن حيان أطلقني، فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حق، والله لأبلين الله فيها بلاء حسنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد خرجت في هذا البلد، والله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعا وعطشا، فانهض معي، فإنما هي عشر حتى أضربه بمائه ألف سيف فأبى علي، فإني لعنده يوما إذ قَالَ لي: ما وجدنا من حر المتاع شيئا أجود من شيء وجدناه عند ابن ابى فروه، ختن ابى الخطيب- وكان انتهبه- قَالَ: فقلت: ألا أراك قد أبصرت حر المتاع! فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلة من معه، فعطف علي، فحبسني حتى أطلقني عيسى بْن موسى بعد قتله إياه قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر، قَالَ: حدثتني أختي بريكة بنت عبد الحميد، عن أبيها، قَالَ: إني لعند محمد يوما ورجله في حجري، إذ دخل عليه خوات بْن بكير بْن خوات بْن جبير، فسلم عليه، فرد عليه سلاما ليس بالقوي، ثم دخل عليه شاب من قريش، فسلم عليه، فأحسن الرد عليه، فقلت: ما تدع عصبيتك بعد! قَالَ: وما ذلك؟ قلت: دخل عليك سيد الأنصار فسلم فرددت عليه ردا ضعيفا، ودخل عليك صعلوك من صعاليك قريش فسلم فاحتفلت في الرد عليه! فقال: ما فعلت ذاك، ولكنك تفقدت مني ما لا يتفقد أحد من أحد قَالَ: وحدثني عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم، قَالَ: استعمل محمد الحسن بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر على مكة، ووجه معه القاسم بْن إسحاق واستعمله على اليمن قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل عن أهله، أن محمدا استعمل القاسم ابن إسحاق على اليمن وموسى بْن عبد الله على الشام، يدعوان إليه، فقتل قبل أن يصلا قَالَ: وحدثني أزهر بْن سعيد، قَالَ: استعمل محمد حين ظهر عبد العزيز ابن الدراوردي على السلاح قَالَ: وأخبرني محمد بْن يحيى ومحمد بْن الحسن بن زبالة وغيرهما، قالوا:
لما ظهر محمد، قَالَ ابن هرمة- وقد أنشد بعضهم ما لم ينشد غيره لأبي جعفر:
غلبت على الخلافة من تمنى *** ومناه المضل بها الضلول
فأهلك نفسه سفها وجبنا *** ولم يقسم له منها فتيل
ووازره ذوو طمع فكانوا *** غثاء السيل يجمعه السيول
دعوا إبليس إذ كذبوا وجاروا *** فلم يصرخهم المغوي الخذول
وكانوا أهل طاعته فولى *** وسار وراءه منهم قبيل
وهم لم يقصروا فيها بحق *** على أثر المضل ولم يطيلوا
وما الناس احتبوك بها ولكن*** حباك بذلك الملك الجليل
تراث محمد لكم وكنتم *** أصول الحق إذ نفي الأصول
قَالَ: وحدثني محمود بْن معمر بْن أبي الشدائد الفزاري وموهوب بْن رشيد ابن حيان الكلابي، قَالَ: قَالَ أبو الشدائد لما ظهر محمد وتوجه إليه عيسى:
أتتك النجائب والمقربات *** بعيسى بْن موسى فلا تعجل
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: كان محمد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيما عظيما، وكان يلقب القاري من أدمته، حتى كان أبو جعفر يدعوه محمما قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني إبراهيم بْن زياد بْن عنبسة، قَالَ: ما رأيت محمدا رقي المنبر قط إلا سمعت بقعقعة من تحته، وإني لبمكاني ذلك قَالَ: وحدثني عبد الله بْن عمر بْن حبيب، قَالَ: حدثني من حضر محمدا على المنبر يخطب، فاعترض بلغم في حلقه فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، ثم عاد فتنحنح ثم نظر فلم ير موضعا، فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به قَالَ: وحدثني عبد الله بْن نافع، قَالَ: حدثني إبراهيم بْن علي من آل أبي رافع، قَالَ: كان محمد تمتاما، فرأيته على المنبر يتلجلج الكلام في صدره، فيضرب بيده على صدره، ويستخرج الكلام قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: دخل عيسى بْن موسى يوما على أبي جعفر، فقال: سرك الله يا أمير المؤمنين! قَالَ: فيم؟ قَالَ: ابتعت وجه دار عبد الله بْن جعفر من بني معاوية، حسن ويزيد وصالح، قَالَ أتفرح! أما والله ما باعوها إلا ليثبوا عليك بثمنها قَالَ:
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران عن محمد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الربيع بْن عبيد الله بن عبد المدان بن عبيد الله، قَالَ: خرج محمد بالمدينة، وقد خط المنصور مدينته بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة وسرت معه، فصيح بي فلحقته، فصمت طويلا ثم قال: يا بن الربيع، خرج محمد، قلت: أين؟ قَالَ: بالمدينة، قلت: هلك والله وأهلك، خرج والله في غير عدد ولا رجال يا أمير المؤمنين، ألا أحدثك حديثا حدثنيه سعيد بْن عمرو بْن جعدة المخزومي؟ قَالَ: كنت مع مروان يوم الزاب واقفا، فقال: يا سعيد، من هذا الذى يقاتلني في هذه الخيل؟ قلت: عبد الله ابن علي بْن عبد الله بْن عباس، قَالَ: أيهم هو؟ عرفه، قلت: نعم، رجل أصفر حسن الوجه رقيق الذراعين، رجل دخل عليك يشتم عبد الله بْن معاوية حين هزم، قَالَ: قد عرفته، والله لوددت أن علي بْن أبي طالب يقاتلني مكانه، إن عليا وولده لا حظ لهم في هذا الأمر، وهذا رجل من بنى هاشم وابن عم رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عباس، معه ريح الشام ونصر الشام يا بن جعدة، تدري ما حملني على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله؟ قلت: لا، قَالَ:
وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك، فعقدت له فقال: أنشدك الله! أحدثك هذا ابن جعدة! قلت: ابنة سفيان بْن معاوية طالق البتة إن لم يكن حدثني ما حدثتك قَالَ عمر:
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: خرج إلى أبي جعفر في الليلة التي ظهر فيها محمد رجل من آل اويس ابن أبي سرح من بني عامر بْن لؤي، فسار تسعا من المدينة، فقدم ليلا، فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى نذر به، فأدخل، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم! قَالَ: لا بد لي منه، قَالَ: أعلمنا نعلمه، فأبى، فدخل الربيع عليه فأعلمه، فقال: سله عن حاجته ثم أعلمني، قَالَ: قد أبى الرجل إلا مشافهتك فأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بْن عبد الله بالمدينة، قَالَ: قتلته والله إن كنت صادقا! أخبرني من معه؟ فسمى له من خرج معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قَالَ: أنت رأيته وعاينته؟ قَالَ: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا فأدخله أبو جعفر بيتا، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بْن دينار، غلام عيسى بْن موسى كان يلي أموال عيسى بالمدينة، فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسي فقال: لأوطئن الرجال عقبيك ولأغنينك، وأمر له بتسعة آلاف، لكل ليلة سارها ألفا قَالَ: وحدثني ابن أبي حرب، قَالَ: لما بلغ أبا جعفر ظهوره أشفق منه، فجعل الحارث المنجم يقول له: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه! فو الله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوما.
قَالَ: وحدثني سهيل بْن عقيل بْن إسماعيل، عن أبيه، قَالَ: لما بلغ أبا جعفر خبره بادر إلى الكوفة، وقال: أنا ابو جعفر، استخرجت الثعلب من جحره.
قَالَ: وحدثني عبد الملك بْن سليمان، عن حبيب بْن مرزوق، قَالَ: حدثني تسنيم بْن الحواري، قَالَ: لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، أرسل أبو جعفر إلى عبد الله بْن علي وهو محبوس عنده: إن هذا الرجل قد خرج، فإن كان عندك رأي فأشر به علينا- وكان ذا رأي عندهم- فقال: إن المحبوس محبوس الرأي، فأخرجني حتى يخرج رأيي، فأرسل إليه أبو جعفر: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك، وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك فأرسل إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكبادهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها الى وجه من الوجوه او أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بْن قتيبة ينحدر عليك- وكان بالري- واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجده ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجههم مع سلم ففعل.
قَالَ: وحدثني العباس بْن سفيان بْن يحيى بْن زياد، قَالَ: سمعت أشياخنا يقولون: لما ظهر محمد ظهر وعبد الله بْن علي محبوس، فقال أبو جعفر لإخوته: إن هذا الأحمق لا يزال يطلع له الرأي الجيد في الحرب، فادخلوا عليه فشاوروه ولا تعلموه أني أمرتكم فدخلوا عليه، فلما رآهم قَالَ: لأمر ما جئتم، ما جاء بكم جميعا وقد هجرتموني منذ دهر! قالوا: استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا، قَالَ: ليس هذا بشيء، فما الخبر؟ قالوا: خرج ابن عبد الله، قَالَ: فما ترون ابن سلامة صانعا؟ يعني أبا جعفر- قالوا: لا ندري والله، قَالَ: إن البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، فليعط الأجناد، فإن غلب فما أوشك أن يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم واحد.
قَالَ: وحدثنا عبد الملك بْن شيبان، قَالَ: أخبرني زيد مولى مسمع بْن عبد الملك، قَالَ: لما ظهر محمد دعا أبو جعفر عيسى بْن موسى، فقال له:
قد ظهر محمد فسر إليه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، هؤلاء عمومتك حولك، فادعهم فشاورهم، قَالَ: فأين قول ابن هرمة:
ترون امرأ لا يمحض القوم سره *** ولا ينتجى الأذنين فيما يحاول
إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أبى *** وإن قَالَ إني فاعل فهو فاعل
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قال: نسخت هذه الرسائل من محمد ابن بشير، وكان بشير يصححها، وحدثنيها أبو عبد الرحمن من كتاب أهل العراق والحكم بْن صدقة بْن نزار، وسمعت ابن أبي حرب يصححها، ويزعم أن رسالة محمد لما وردت على أبي جعفر، قَالَ أبو أيوب: دعني أجبه عليها، فقال أبو جعفر: لا بل أنا أجيبه عنها، إذ تقارعنا على الأحساب فدعني وإياه.
قالوا: لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله المدينة كتب إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد اللَّه عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بْن عبد الله: {إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33-34] ولك علي عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك، أو دخل معك في شيء من أمرك، ثم لا أتبع أحدا منهم بشيء كان منه أبدا فإن أردت أن تتوثق لنفسك، فوجه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تثق به.
وكتب على العنوان: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله فكتب إليه محمد بْن عبد الله:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه المهدي محمد بْن عبد الله إلى عبد الله بْن محمد: {طسۤمۤ (1) تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ (2) نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ} [القصص: 1-6] وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت علي، فإن الحق حقنا، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، وإنا بنو أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة بنت عمرو في الجاهلية وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم.
إن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ومن السلف أولهم إسلاما علي، ومن الأزواج أفضلهن خديجة الطاهرة، وأول من صلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن عبد المطلب ولد حسنا مرتين وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني أوسط بني هاشم نسبا، وأصرحهم أبا، لم تعرق في العجم، ولم تنازع في أمهات الأولاد، فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابا في النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة، وابن خير أهل النار ولك الله علي إن دخلت في طاعتي، وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك، وعلى كل أمر أحدثته، إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالا قبلي، فأي الأمانات تعطيني! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بْن علي، أم أمان أبي مسلم!
فكتب إليه أبو جعفر:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة أقربهن رحما، وأعظمهن حقا، وأول من يدخل الجنة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه لما مضى منهم، واصطفائه لهم.
وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب وولادتها، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام لا بنتا ولا ابنا، ولو أن أحدا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قَالَ الله عز وجل: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] ، ولقد بعث الله محمدا عليه السلام وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ}[الشعراء: 214] فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينه وبينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثا وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا وابن خير الأشرار، وليس في الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم، {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]
وأما ما فخرت به من فاطمة أم علي وأن هاشما ولده مرتين، ومن فاطمة أم حسن، وأن عبد المطلب ولده مرتين، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدك مرتين، فخير الأولين والآخرين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلده هاشم إلا مرة ولا عبد المطلب إلا مرة.
وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبا، وأصرحهم أما وأبا، وأنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا، فانظر ويحك أين أنت من الله غدا! فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا، ابراهيم بن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى والد ولده، وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد، وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من علي ابن حسين، وهو لأم ولد، ولهو خير من جدك حسن بْن حسن، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بْن علي، وجدته أم ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد، ولهو خير منك.
وأما قولك: إنكم بنو رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] ، ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها! ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرجها نهارا، ومرضها سرا، ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا الشيخين وتفضيلهما، ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يرثون.
وأما ما فخرت به من علي وسابقته، فقد حَضَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوفاة، فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه، وكان في الستة فتركوه كلهم دفعا له عنها، ولم يروا له حقا فيها، أما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبي سعد بيعته، وأغلق دونه بابه، ثم بايع معاوية بعده ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها، وتفرق عنه أصحابه، وشك فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكم حكمين رضي بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز، وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير ولائه ولا حله، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه ثم خرج عمك حسين بْن علي على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه، وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بْن زيد بخراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء في المحافل كالسبي المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنينا سلفكم وفضلناه، فاتخذت ذلك علينا حجة.
وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضلناه للتقدمة منا له على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلما منهم، مجتمعا عليهم بالفضل، وابتلي أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له، وذكرناهم فضله، وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه إلا بأبينا، حتى نعشهم الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره، فكان وراثه من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته وميراث النبي له، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في دنيا ولا آخرة إلا والعباس وارثه ومورثه.
وأما ما ذكرت من بدر، فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التي أصابته، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا، وللحساجفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطعمين، فأذهب عنكم العار والسبة، وكفاكم النفقة والمئونة، ثم فدى عقيلا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر وفديناكم من الأسر، وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا لأنفسكم! والسلام عليك ورحمة الله.
قَالَ عمر بْن شبة: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: أجمع ابن القسري على الغدر بمحمد، فقال له: يا أمير المؤمنين، ابعث موسى بْن عبد الله ومعه رزاما مولاي إلى الشام يدعوان إليك.
فبعثهما فخرج رزام بموسى إلى الشام، وظهر محمد على أن القسري كتب إلى أبي جعفر في أمره، فحبسه في نفر ممن كان معه في دار ابن هشام التي في قبلة مصلى الجنائز- وهي اليوم لفرج الخصي- وورد رزام بموسى الشام، ثم انسل منه، فذهب إلى أبي جعفر، فكتب موسى إلى محمد: إني أخبرك أني لقيت الشام وأهله، فكان أحسنهم قولا الذي قَالَ: والله لقد مللنا البلاء، وضقنا به ذرعا، حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة، ومنهم طائفة تحلف: لئن أصبحنا من ليلتنا او مسينا من غد ليرفعن أمرنا وليدلن علينا، فكتبت إليك وقد غيبت وجهي، وخفت على نفسي قَالَ الحارث:
ويقال أن موسى ورزاما وعبد الله بْن جعفر بْن عبد الرحمن بْن المسور توجهوا إلى الشام في جماعة، فلما ساروا بتيماء، تخلف رزام ليشتري لهم زادا، فركب إلى العراق، ورجع موسى وأصحابه إلى المدينة.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني موسى بن عبد الله ببغداد ورزام معنا، قَالَ: بعثني محمد ورزاما في رجال معنا إلى الشام، لندعو له، فإنا لبدومة الجندل، إذ أصابنا حر شديد، فنزلنا عن رواحلنا نغتسل في غدير، فاستل رزام سيفه، ثم وقف على رأسي، وقال: يا موسى، أرأيت لو ضربت عنقك ثم مضيت برأسك إلى أبي جعفر، أيكون أحد عنده في منزلتي! قَالَ: قلت لا تدع هزلك يا أبا قيس! شم سيفك غفر الله لك.
قَالَ: فشام سيفه، فركبنا قَالَ عيسى: فرجع موسى قبل أن يصل إلى الشام، فأتى البصرة هو وعثمان بْن محمد، فدل عليهما، فأخذا.
قَالَ: وحدثني عبد الله بْن نافع بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حدثني أخي عبد الله بْن نافع الأكبر، قَالَ: لما ظهر محمد لم يأته أبي نافع ابن ثابت، فأرسل إليه، فأتاه وهو في دار مروان، فقال: يا أبا عبد الله، لم أرك جئتنا! قَالَ: ليس في ما تريد، فألح عليه محمد، حتى قَالَ: ألبس السلاح يتأس بك غيرك، فقال: أيها الرجل، إني والله ما أراك في شيء، خرجت في بلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح، وما أنا بمهلك نفسي معك، ولا معين على دمي قَالَ: انصرف، فلا شيء فيك بعد هذا.
قَالَ: فمكث يختلف إلى المسجد إلى أن قتل محمد، فلم يصل فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قتل إلا نافع وحده.
ووجه محمد بْن عبد الله لما ظهر- فيما ذكر عمر عن أزهر بْن سعيد بْن نافع- الحسن بْن معاوية إلى مكة عاملا عليها، ومعه العباس بْن القاسم- رجل من آل أبي لهب- فلم يشعر بهم السري بْن عبد الله حتى دنوا من مكة، فخرج إليهم، فقال له مولاه: ما رأيك؟ قد دنونا منهم، قَالَ: انهزموا على بركة الله، وموعدكم بئر ميمون فانهزموا، ودخلها الحسن بْن معاوية وخرج الحسين بْن صخر- رجل من آل أويس- من ليلته، فسار إلى أبي جعفر تسعا فأخبره فقال: قد أنصف القارة من راماها، وأجازه بثلاثمائة درهم قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني محمد بْن صالح بْن معاوية، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: كنت عند محمد حين عقد للحسن بْن معاوية على مكة، فقال له الحسن: أرأيت إن التحم القتال بيننا وبينهم، ما ترى في السري؟ قَالَ: يا حسن، إن السري لم يزل مجتنبا لما كرهنا، كارها للذي صنع ابو جعفر، ان ظفرت به فلا تقتله، ولا تحركن له أهلا، ولا تأخذن له متاعا، وإن تنحى فلا تطلبن له أثرا قَالَ: فقال له الحسن: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبك تقول هذا في أحد من آل العباس، قَالَ: بلى، إن السري لم يزل ساخطا لما صنع أبو جعفر.
قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد مولى عنج، قَالَ: كنت بمكة، فبعث إلينا محمد حين ظهر الحسن بْن معاوية والقاسم بْن إسحاق ومحمد بْن عبد الله ابن عنبسة يدعى أبا جبرة، أميرهم الحسن بْن معاوية، فبعث إليهم السري بْن عبد الله كاتبه مسكين بْن هلال في ألف، ومولى له يدعى مسكين بْن نافع في ألف، ورجلا من أهل مكة يقال له ابن فرس- وكان شجاعا- في سبعمائة، واعطاه خمسمائة دينار، فالتقوا ببطن اذاخر بين الثنيتين وهي الثنية التي تهبط على ذي طوى، منها هبط النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة، وهي داخلة في الحرم، فتراسلوا، فأرسل حسن إلى السري أن خل بيننا وبين مكة، ولا تهريقوا الدماء في حرم الله وحلف الرسولان للسري: ما جئناك حتى مات أبو جعفر فقال لهما السري: وعلي مثل ما حلفتما به، إن كانت مضت لي أربعة، منذ جاءني رسول من عند أمير المؤمنين، فانظروني أربع ليال، فأني أنتظر رسولا لي آخر، وعلي ما يصلحكم، ويصلح دوابكم، فإن يكن ما تقولونه حقا سلمتها إليكم، وإن يكن باطلا أجاهدكم حتى تغلبوني أو أغلبكم، فأبى الحسن، وقال: لا نبرح حتى نناجزك، ومع الحسن سبعون رجلا وسبعة من الخيل، فلما دنوا منه، قَالَ لهم الحسن: لا يقدمن أحد منكم حتى ينفخ في البوق، فإذا نفخ فلتكن حملتكم حملة رجل واحد فلما رهقناهم وخشي الحسن أن يغشاه وأصحابه، ناداه: أنفخ ويحك في البوق! فنفخ ووثبوا وحملوا علينا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب السري، وقتل منهم سبعة نفر قَالَ: واطلع عليهم بفرسان من أصحابه وهم من وراء الثنية في نفر من قريش قد خرج بهم، وأخذ عليهم لينصرنه، فلما رآهم القرشيون قالوا: هؤلاء أصحابك قد انهزموا، قَالَ: لا تعجلوا، إلى أن طلعت الخيل والرجال في الجبال، فقيل له: ما بقي؟ فقال: انهزموا على بركة الله، فانهزموا حتى دخلوا دار الإمارة، وطرحوا أداة الحرب، وتسوروا على رجل من الجند يكنى أبا الرزام فدخلوا بيته فكانوا فيه ودخل الحسن بْن معاوية المسجد، فخطب الناس ونعى إليهم أبا جعفر ودعا لمحمد.
قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني الغمر بْن حمزة بْن أبي رملة، مولى العباس بْن عبد المطلب، قَالَ: لما أخذ الحسن بْن معاوية مكة، وفر السري بلغ الخبر أبا جعفر، فقال: لهفي على ابن أبي العضل.
قَالَ: وحدثني ابن أبي مساور بْن عبد الله بْن مساور مولى بني نائلة من بني عبد الله بْن معيص، قَالَ: كنت بمكة مع السري بْن عبد الله، فقدم عليه الحسن بْن معاوية قبل مخرج محمد- والسري يومئذ بالطائف وخليفته بمكة ابن سراقة من بني عدي بْن كعب- قَالَ: فاستعدى عتبة بْن أبي خداش اللهبي على الحسن بْن معاوية في دين عليه فحبسه، فكتب له السري إلى ابن أبي خداش: أما بعد فقد أخطأت حظك، وساء نظرك لنفسك حين تحبس ابن معاوية، وإنما أصبت المال من أخيه وكتب إلى ابن سراقة يأمره بتخليته، وكتب إلى ابن معاوية يأمره بالمقام إلى أن يقدم فيقضي عنه قَالَ: فلم يلبث أن ظهر محمد، فشخص إليه الحسن بْن معاوية عاملا على مكة، فقيل للسري: هذا ابن معاوية قد أقبل إليك، قَالَ: كلا ما يفعل وبلائي عنده بلائي، وكيف يخرج الى اهل المدينة! فو الله ما بها دار إلا وقد دخلها لي معروف، فقيل له: قد نزل فجاء قَالَ: فشخص إليه ابن جريج، فقال له: أيها الرجل، إنك والله ما أنت بواصل إلى مكة وقد اجتمع أهلها مع السري، أتراك قاهرا قريشا وغاصبها على دارها! قال: يا بن الحائك، أبأهل مكة تخوفني! والله ما أبيت إلا بها أو أموت دونها ثم وثب في أصحابه وأقبل إليه السري، فلقيه بفخ، فضرب رجل من أصحاب الحسن مسكين بْن هلال كاتب السري على رأسه فشجه، فانهزم السري وأصحابه، فدخلوا مكة، والتف أبو الرزام- رجل من بني عبد الدار ثم أحد آل شيبة- على السري، فواراه في بيته، ودخل الحسن مكة ثم إن الحسن أقام بمكة يسيرا، ثم ورد كتاب محمد عليه يأمره باللحاق به.
وذكر عمر عن عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم، قَالَ: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكر أن الحسن والقاسم لما أخذا مكة، تجهزا وجمعا جمعا كثيرا، ثم أقبلا يريدان محمدا ونصرته على عيسى بْن موسى، واستخلفا على مكة رجلا من الانصار، فلما كانا بقديد لقيهما قتل محمد، فتفرق الناس عنهما، وأخذ الحسن على بسقة- وهي حرة في الرمل تدعى بسقة قديد- فلحق بإبراهيم، فلم يزل مقيما بالبصرة حتى قتل إبراهيم وخرج القاسم بْن إسحاق يريد إبراهيم، فلما كان بيديع من أرض فدك، لقيه قتل إبراهيم، فرجع إلى المدينة، فلم يزل مختفيا حتى أخذت ابنة عبد الله بْن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، زوجة عيسى بْن موسى له، ولإخوته الامان فظهر بنو معاوية، وظهر القاسم.
قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد مولى عنج، قَالَ: لما ظهر الحسن بْن معاوية على السري أقام قليلا حتى أتاه كتاب محمد يأمره بالشخوص إليه، ويخبره أن عيسى قد دنا من المدينة، ويستعجله بالقدوم قَالَ: فخرج من مكة يوم الاثنين في مطر شديد- زعموا أنه اليوم الذي قتل فيه محمد- فتلقاه بريد لعيسى بْن موسى بأمج- وهو ماء لخزاعة بين عسفان وقديد- بقتل محمد، فهرب وهرب أصحابه.
قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن أبي ثابت عن أبي سيار، قَالَ: كنت حاجب محمد بْن عبد الله، فجاءني راكب من الليل، قَالَ: قدمت من البصرة، وقد خرج بها إبراهيم، فأخذها قَالَ: فجئت دار مروان، ثم جئت المنزل الذي فيه محمد، فدققت الباب، فصاح بأعلى صوته: من هذا؟ قلت: أبو سيار، قَالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل، إلا طارق يطرق منك بخير، قَالَ: خير! قلت: خير، قَالَ: ما وراءك؟ قلت: أخذ ابراهيم البصره- قال: وكان محمد إذا صلى المغرب والصبح صاح صائح: ادعوا الله لإخوانكم من أهل البصرة، وللحسن بْن معاوية واستنصروه على عدوكم.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: قدم علينا رجل من أهل الشام، فنزل دارنا- وكان يكنى أبا عمرو- فكان أبي يقول له: كيف ترى هذا الرجل؟
فيقول: حتى ألقاه فأسبره ثم أخبرك قَالَ عيسى: فلقيه أبي بعد، فسأله فقال: هو والله الرجل كل الرجل، ولكن رأيت شحم ظهره ذراعا، وليس هكذا يكون صاحب الحرب قَالَ: ثم بايعه بعد، وقاتل معه.
قَالَ: وحدثني عبد الله بْن محمد بْن سلم- يدعى ابن البواب مولى المنصور- قَالَ: كتب أبو جعفر إلى الأعمش كتابا على لسان محمد، يدعوه إلى نصرته، فلما قرأه قَالَ: قد خبرناكم يا بني هاشم، فإذا أنتم تحبون الثريد.
فلما رجع الرسول إلى أبي جعفر فأخبره، قَالَ: أشهد أن هذا كلام الأعمش.
وَحَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: غلب محمد بْن عبد الله على المدينة، فبلغنا ذلك، فخرجنا ونحن شباب، أنا يومئذ ابن خمس عشرة سنة، فانتهينا إليه، وهو قد اجتمع إليه الناس ينظرون إليه، ليس يصد عنه أحد، فدنوت حتى رأيته وتأملته، وهو على فرس، وعليه قميص أبيض محشو وعمامة بيضاء، وكان رجلا أحزم، قد أثر الجدري في وجهه، ثم وجه إلى مكة فأخذت له، وبيضوا، ووجه أخاه إبراهيم بْن عبد الله إلى البصرة، فأخذها وغلبها وبيضوا معه.
رجع الحديث إلى حديث عمر قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ندب أمير المؤمنين أبو جعفر عيسى بْن موسى لقتال محمد، وقال: لا أبالي أيهما قتل صاحبه، وضم إليه أربعة آلاف من الجند، وبعث معه محمد بْن أبي العباس أمير المؤمنين.
قَالَ: وحدثني عبد الملك بْن شيبان عن زيد مولى مسمع، قَالَ: لما أمر أبو جعفر عيسى بْن موسى بالشخوص، قَالَ: شاور عمومتك، فقال له: امض أيها الرجل، فو الله ما يراد غيري وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أو أشخص، قَالَ: فسار حتى قدم علينا ونحن بالمدينة.
قَالَ: وحدثني عبد الملك بْن شيبان، قَالَ: دعا أبو جعفر بْن حنظلة البهراني- وكان أبرص طوالا، أعلم الناس بالحرب، وقد شهد مع مروان حروبه- فقال: يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قَالَ: وأين ظهر؟ قَالَ: بالمدينة، قَالَ: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا، ففعل.
قَالَ: وحدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: سمعت أصحابنا إسماعيل بْن موسى وعيسى بْن النضر وغيرهما يذكرون أن أبا جعفر قدم كثير ابن حصين العبدي، فعسكر بفيد، وخندق عليه خندقا، حتى قدم عليه عيسى بْن موسى، فخرج به إلى المدينة قَالَ عبد الله: فأنا رأيت الخندق قائما دهرا طويلا، ثم عفا ودرس.
قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني علي بْن أبي طالب- ولقيته بصنعاء- قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعيسى حين بعثه إلى محمد: عليك بأبي العسكر مسمع بْن محمد بْن شيبان بْن مالك بْن مسمع، فسر به معك، فإني قد رأيته منع سعيد بْن عمرو بْن جعدة بْن هبيرة من أهل البصرة، وهم محلبون عليه، وهو يدعو إلى مروان، وهو عند أبي العسكر يأكل المخ بالطبرزد، فخرج به عيسى، فلما كان ببطن نخل، تخلف هو والمسعودي بْن عبد الرحمن ابن عبد الله بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود حتى قتل محمد، فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لعيسى بْن موسى: ألا ضربت عنقه!
وحدثني عيسى بْن عبد الله بْن محمد بْن عمر بن علي بْن أبي طالب، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعيسى بْن موسى حين ودعه: يا عيسى، إني أبعثك إلى ما بين هذين- وأشار إلى جنبيه- فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك، وابذل الأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم يعرفون مذاهبه قَالَ: فلما دخلها عيسى فعل ذلك.
فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وجه أبو جعفر إلى محمد بْن عبد الله بالمدينة عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله بْن عباس، ووجه معه محمد بْن أبي العباس أمير المؤمنين وعدة من قواد أهل خراسان وجندهم، وعلى مقدمة عيسى بْن موسى حميد بْن قحطبة الطائي، وجهزهم بالخيل والبغال والسلاح والميرة، فلم ينزل، ووجه مع عيسى ابن موسى بْن أبي الكرام الجعفري، وكان في صحابه أبي جعفر، وكان مائلا إلى بني العباس، فوثق به أبو جعفر فوجهه.
رجع الحديث إلى حديث عمر بْن شبة قَالَ عمر: وحدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: كتب أبو جعفر إلى عيسى بْن موسى: من لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله قَالَ: فقبض عين أبي زياد- وكان جعفر بْن محمد تغيب عنه- فلما قدم أبو جعفر كلمه جعفر، وقال: مالي، قَالَ: قد قبضه مهديكم.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما صار عيسى بفيد، كتب إلى رجال من أهل المدينة في خرق الحرير، منهم عبد العزيز بْن المطلب المخزومي وعبيد الله بْن محمد بْن صفوان الجمحي، فلما وردت كتبه المدينة، تفرق ناس كثير عن محمد، منهم عبد العزيز بْن المطلب، فأخذ فرد، فأقام يسيرا، ثم خرج، فرد مرة أخرى، وكان أخوه علي بْن المطلب من أشد الناس مع محمد، فكلم محمدا في أخيه حتى كفه عنه.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: كتب عيسى بْن موسى إلى أبي في حريرة صفراء جاء بها أعرابي بين خصافي نعله، قَالَ عيسى: فرأيت الأعرابي قاعدا في دارنا، وإني لصبي صغير، فدفعها إلى أبي فإذا فيها: أن محمدا تعاطى ما ليس يعطيه الله، وتناول ما لم يؤته الله، قال عز وجل في كتابه: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] فعجل التخلص وأقل التربص، وادع من أطاعك من قومك إلى الخروج معك.
قَالَ: فخرج وخرج معه عمر بْن محمد بْن عمر، وأبو عقيل محمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، قَالَ: ودعوا الأفطس حسن بْن علي بْن أبي طالب إلى الخروج معهم فأبى، وثبت مع محمد، وذكر خروجهم لمحمد فأرسل إلى ظهرهم فأخذه، فأتاه عمر بْن محمد، فقال: أنت تدعو إلى العدل ونفي الجور، فما بال إبلي تؤخذ! فإنما أعددتها لحج أو عمرة قَالَ: فدفعها إليه- فخرجوا من تحت ليلتهم، فلقوا عيسى على أربع- أو خمس- من المدينة.
قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر بْن أبي عمرو بْن نعيم بن مهان، قال:
كتب أبو جعفر إلى رجال من قريش وغيرهم كتبا، وأمر عيسى: إذا دنا من المدينة أن يبعث بها إليهم فلما دنا بعث بها إليهم، فأخذ حرس محمد الرسول والكتب، فوجد فيها كتابا إلى إبراهيم بْن طلحة بْن عمر بْن عبيد الله ابن معمر وإلى جماعة من رؤساء قريش فبعث محمد إلينا جميعا ما خلا ابن عمر وأبا بكر بْن سبرة، فحبسنا في دار ابن هشام التي في المصلى.
قَالَ أبي: وبعث إلي وإلى أخي، فأتي بنا فضربنا ثلاثمائة قَالَ: فقلت له وهو يضربني ويقول: أردت أن تقتلني! تركتك وأنت تستتر بحجر وبيت شعر، حتى إذا صارت المدينة في يدك، وغلظ أمرك، قمت عليك فبمن أقوم! أبطاقتي، أم بمالي، أم بعشيرتي! قَالَ: ثم أمر بنا إلى الحبس، وقيدنا بكبول وسلاسل تبلغ ثمانين رطلا، قَالَ: فدخل عليه محمد بْن عجلان، فقال: انى ضربت هذين الرجلين ضربا فاحشا، وقيدتهما بما منعهما من الصلاة قَالَ: فلم يزالا محبوسين حتى قدم عيسى.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن أبي ثابت، عن عبد الحميد بْن جعفر بْن عبد الله بْن أبي الحكم، قَالَ: إنا لعند محمد ليلة- وذلك عند دنو عيسى من المدينة- إذ قَالَ محمد: أشيروا علي في الخروج والمقام، قَالَ: فاختلفوا فأقبل علي فقال: أشر علي يا أبا جعفر، قلت: الست تعلم انك اقل بلاد الله فرسا وطعاما وسلاحا، وأضعفها رجالا؟ قال: بلى، قلت: تعلم أنك تقاتل أشد بلاد الله رجلا وأكثرها مالا وسلاحا؟ قَالَ: بلى، قلت: فالرأي أن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فو الله لا يردك راد، فتقاتل الرجل بمثل سلاحه وكراعه ورجاله وماله فصاح حنين بْن عبد الله: أعوذ بالله أن تخرج من المدينة!
وحدثه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة».
قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل بْن جعفر، عن الثقة عنده، قَالَ:
أجاب محمدا لما ظهر أهل المدينة وأعراضها وقبائل من العرب، منهم جهينة ومزينه وسليم وبنو بكر وأسلم وغفار، فكان يقدم جهينة، فغضبت من ذلك قبائل قيس.
قَالَ محمد: فحدثني عبد الله بْن معروف أحد بني رياح بْن مالك بْن عصية بْن خفاف- وقد شهد ذاك- قَالَ: جاءت محمدا بنو سليم على رؤسائها، فقال متكلمهم جابر بْن أنس الرياحي: يا أمير المؤمنين، نحن أخوالك وجيرانك، وفينا السلاح والكراع، والله لقد جاء الإسلام والخيل في بني سليم أكثر منها بالحجاز، لقد بقي فينا منها ما إن بقي مثله عند عربي تسكن إليه البادية، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله خندق خندقه لما الله أعلم به، فإنك إن خندقته لم يحسن القتال رجاله، ولم توجه لنا الخيل بين الأزقة، وإن الذين يخندق دونهم هم الذين يقاتلون فيها، وإن الذين يخندق عليهم يحول الخندق دونهم فقال أحد بني شجاع: خندق رسول الله فاقتد برأيه، أو تريد أنت أن تدع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيك! قال: انه يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، ولا شيء أحب إلي وإلى أصحابي من مناجزتهم فقال محمد: إنما اتبعنا في الخندق اثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يردني عنه أحد، فلست بتاركه.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، عن الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما تيقن محمد أن عيسى قد أقبل حفر الخندق، خندق النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان حفره للأحزاب.
قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر، قَالَ: حدثني محمد ابن عطية مولى المطلبيين، قَالَ: لما حفر محمد الخندق ركب إليه وعليه قباء أبيض ومنطقة، وركب الناس معه، فلما أتى الموضع نزل فيه، بدا هو فحفر بيده، فأخرج لبنة من خندق النبي صلى الله عليه وسلم، فكبر وكبر الناس معه، وقالوا: أبشر بالنصر، هذا خندق جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني مصعب بْن عثمان بْن مصعب بْن عروة بْن الزبير، قَالَ: لما نزل عيسى الأعوص رقي محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قَالَ: إن عدو الله وعدوكم عيسى بْن موسى قد نزل الأعوص، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الدين، أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين.
قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن أبي إسحاق العبسي- شيخ من غطفان- قَالَ:
أخبرني أبو عمرو مؤدب محمد بْن عبد الرحمن بْن سليمان، قَالَ: سمعت الزبيري الذي قتله أبو جعفر- يعني عثمان بْن محمد بْن خالد- قَالَ: اجتمع مع محمد جمع لم أر مثله ولا أكثر منه، إني لأحسب أنا قد كنا مائة ألف، فلما قرب عيسى خطبنا، فقال: يأيها الناس، إن هذا الرجل قد قرب منكم في عدد وعدة، وقد حللتكم من بيعتي، فمن أحب المقام فليقم، ومن أحب الانصراف فلينصرف فتسللوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة.
قَالَ: وحدثني موهوب بْن رشيد بْن حيان بْن أبي سليمان بْن سمعان، أحد بني قريط بْن عبد الله بْن أبي بكر بْن كلاب، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما ظهر محمد جمع الناس وحشرهم، وأخذ عليهم المناقب فلا يخرج أحد، فلما سمع بعيسى وحميد بْن قحطبة قد أقبلا، صعد المنبر، فقال: يأيها الناس، إنا قد جمعناكم للقتال، وأخذنا عليكم المناقب، وإن هذا العدو منكم قريب، وهو في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده، وإنه قد بدا لي أن آذن لكم وأفرج عنكم المناقب، فمن أحب أن يقيم أقام، ومن أحب أن يظعن ظعن قَالَ أبي: فخرج عالم من الناس، كنت فيهم، فلما كنا بالعريض- وهو على ثلاثة أميال من المدينة- لقيتنا مقدمة عيسى بْن موسى دون الرحبة، فما شبهت رجالهم إلا رجلا من جراد قَالَ: فمضينا وخالفونا إلى المدينة.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: خرج ناس كثير من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، فأمر محمد أبا القلمس، فرد من قدر عليه منهم، فأعجزه كثير منهم، فتركهم.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني الغاضري، قَالَ: قَالَ لي محمد: أعطيك سلاحا وتقاتل معي؟ قلت: نعم، إن أعطيتني رمحا أطعنهم به، وهم بالأعوص وسيفا أضربهم به وهم بهيفا قَالَ: ثم مكث غير كثير، ثم بعث إلي فقال: ما تنتظر؟ قلت: ما أهون عليك- أبقاك الله- أن أقتل وتمروا، فيقال: والله إن كان لباديا! قَالَ: ويحك! قد بيض أهل الشام وأهل العراق وخراسان، قَالَ: قلت: اجعل الدنيا زبدة بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة، ما ينفعني هذا وعيسى بالأعوص!
قَالَ: وحدثني عيسى، عن أبيه، عن جده، قَالَ: وجه أبو جعفر مع عيسى بْن موسى بابن الأصم ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الأصم: ألا إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة، وإني أخاف إن كشفوكم كشفه ان يدخلوا عسكرهم. فرفعهم إلى سقاية سليمان بْن عبد الملك بالجرف- وهي على أربعة أميال من المدينة- وقال: لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني محمد بْن أبي الكرام، قَالَ: لما نزل عيسى طرف القدوم أرسل إلي نصف الليل، فوجدته جالسا والشمع والأموال بين يديه، فقال: جاءتني العيون تخبرني إن هذا الرجل في ضعف، وأنا أخاف أن ينكشف، وقد ظننت ألا مسلك له الا الى مكة، فاضمم إليك خمسمائة رجل، فامض بهم معاندا عن الطريق حتى تأتي الشجرة فتقيم بها قَالَ: فأعطاهم على الشمع، فخرجت بهم حتى مررت بالبصرة بالبطحاء- وهي بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة- فخاف أهلها، فقلت: لا بأس عليكم، أنا محمد بْن عبد الله، هل من سويق؟ قَالَ: فأخرجوا إلينا سويقا، فشربنا وأقمنا بها حتى قتل محمد.
قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل، عن الثقة عنده، قَالَ: لما قرب عيسى أرسل إلى محمد القاسم بْن الحسن بْن زيد يدعوه إلى الرجوع عما هو عليه، ويخبره أن أمير المؤمنين قد آمنه وأهل بيته، فقال محمد للقاسم:
وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ عنقك، لأني لم أرك منذ كنت غلاما في فرقتين، خير وشر، إلا كنت مع الشر على الخير وأرسل محمد إلى عيسى: يا هذا، إن لك برسول الله قرابة قريبة، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإني والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، فإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله، فتكون شر قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك، وأكثر لمأثمك فأرسل هذه الرسالة مع إبراهيم بْن جعفر، فبلغه، فقال: ارجع إلى صاحبك، فقل له: ليس بيننا إلا القتال.
قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن محمد بْن أبي الكرام بْن عبد الله بْن علي بْن عبد الله بْن جعفر، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: لما قرب عيسى من المدينة، أرسلني إلى محمد بأمانة، فقال لي محمد: علام تقاتلونني وتستحلون دمي، وإنما أنا رجل فر من أن يقتل! قَالَ: قلت: إن القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك على طلحة والزبير، على نكث بيعتهم وكيد ملكهم، والسعي عليهم قَالَ: فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال: والله ما سرني أنك قلت له غير ذلك، وأن لي كذا وكذا.
قَالَ: وحدثني هشام بْن محمد بْن عروة بْن هشام بْن عروة، قَالَ: أخبرني ماهان بْن بخت مولى قحطبة، قَالَ: لما صرنا بالمدينة أتانا إبراهيم بْن جعفر بْن مصعب طليعه، فطاف بعسكرنا حتى حسه كله، ثم ولى ذاهبا قَالَ: فرعبنا منه والله رعبا شديدا، حتى جعل عيسى وحميد بْن قحطبة يعجبان فيقولان: فارس واحد طليعة لأصحابه! فلما ولى مدى أبصارنا نظرنا إليه مقيما بموضع واحد، فقال حميد: ويحكم! انظروا ما حال الرجل، فإني أرى دابته واقفا لا تزول، فوجه إليه حميد رجلين من أصحابه، فوجدا دابته قد عثر به، فصرعه فقوس التنور عنقه فأخذا سلبه، فأتينا بتنور- قيل إنه كان لمصعب بْن الزبير- مذهب لم ير مثله قط.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: نزل عيسى بقصر سليمان بالجرف، صبيحة ثنتي عشره من رمضان من سنه خمس وأربعين ومائة، يوم السبت، فأقام يوم السبت ويوم الأحد وغدا يوم الاثنين، حتى استوى على سلع، فنظر إلى المدينة وإلى من دخلها وخرج منها، وشحن وجوهها كلها بالخيل والرجال إلا ناحية مسجد أبي الجراح، وهو على بطحان، فإنه تركه لخروج من هرب، وبرز محمد في أهل المدينة
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثنا محمد بْن زيد، قَالَ: قدمنا مع عيسى، فدعا محمدا ثلاثا: الجمعة والسبت والأحد.
قَالَ وحدثني عبد الملك بْن شيبان، قَالَ: حدثني زيد مولى مسمع، قَالَ: لما عسكر عيسى أقبل على دابة يمشي حواليه نحو من خمسمائة، وبين يديه راية يسار بها معه، فوقف على الثنية ونادى: يا أهل المدينة، إن الله قد حرم دماء بعضنا على بعض، فهلموا إلى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن خلوا بيننا وبين صاحبنا فإما لنا أو له قَالَ: فشتموه وأقذعوا له، وقالوا: يا بن الشاه، يا بن كذا. يا بن كذا فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد ففعل مثل ذلك، فشتموه، فلما كان اليوم الثالث أقبل بما لم أر مثله قط من الخيل والرجال والسلاح، فو الله ما لبثنا أن ظهر علينا ونادى بالأمان، فانصرف إلى معسكره.
قَالَ: وحدثني إبراهيم الغطفاني، قال: سمعت أبا عمرو مؤدب محمد ابن عبد الرحمن يحدث عن الزبيري- يعني عثمان بْن محمد بْن خالد- قَالَ:
لما التقينا نادى عيسى بنفسه: أيا محمد، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أقاتلك حتى أعرض عليك الأمان، فلك علي نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطى من المال كذا وكذا، ويقضى عنك دينك، ويفعل بك ويفعل! قَالَ: فصاح: محمد اله عن هذا، فو الله لو علمت أنه لا يثنيني عنكم فزع، ولا يقربني منكم طمع ما كان هذا قَالَ: ولج القتال، وترجل محمد، فإني لأحسبه قتل بيده يومئذ سبعين رجلا.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني محمد بْن زيد، قَالَ: لما كان يوم الاثنين، وقف عيسى على ذباب، ثم دعا مولى لعبد الله بْن معاوية كان معه، وكان على مجففته، فقال: خذ عشرة من أصحابك، أصحاب التجافيف، فجاء بهم، فقال لنا: ليقم معه عشرة منكم يا آل أبي طالب.
قَالَ: فقمنا معه، ومعنا ابنا محمد بْن عمر بْن علي: عبد الله وعمر، ومحمد بْن عبد الله بْن عقيل، والقاسم بْن الحسن بْن زيد بْن الحسن بن على، وعبد الله ابن إسماعيل بْن عبد الله بْن جعفر، في عشرة منا فقال: انطلقوا إلى القوم، فادعوهم وأعطوهم أمانا، وبقي أمان الله قَالَ: فخرجنا حتى جئنا سوق الحطابين، فدعوناهم فسبونا ورشقونا بالنبل، وقالوا: هذا ابن رسول الله معنا ونحن معه، فكلمهم القاسم بْن الحسن بْن زيد، فقال: وأنا ابن رسول الله، وأكثر من ترون بنو رسول الله، ونحن ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وحقن دمائكم والأمان لكم، فجعلوا يسبوننا ويرشقوننا بالنبل، فقال القاسم لغلامه: القط هذه النبل، فلقطها فأخذها قاسم بيده، ثم دخل بها إلى عيسى، فقال: ما تنتظر! انظر ما صنعوا بنا، فأرسل عيسى بْن حميد قحطبة في مائة.
قَالَ: حدثني أزهر بْن سعيد بْن نافع، قال: حدثنى اخواى عثمان ومحمد ابنا سعيد- وكانا مع محمد- قالا: وقف القاسم بْن الحسن ورجل معه من آل أبي طالب على رأس ثنية الوداع، فدعوا محمدا إلى الأمان، فسبهما فرجعا، وأقبل عيسى وقد فرق القواد فجعل هزار مرد عند حمام بْن أبي الصعبة، وكثير بْن حصين عند دار ابن أفلح التي ببقيع الغرقد، ومحمد بْن أبي العباس على باب بني سلمة، وفرق سائر القواد على أنقاب المدينة، وصار عيسى في أصحابه على رأس الثنية، فرموا بالنشاب والمقاليع ساعة.
وحدثني أزهر، قَالَ: جعل محمد ستور المسجد دراريع لأصحابه.
قَالَ: وحدثني عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم، قَالَ: حدثني عمر، شيخ من الأنصار، قَالَ: جعل محمد ظلال المسجد خفاتين لأصحابه، فأتاه رجلان من جهينة، فأعطى أحدهما خفتانا ولم يعط الآخر، فقاتل صاحب الخفتان، ولم يقاتل الآخر معه، فلما حضرت الحرب أصابت صاحب الخفتان نشابة، فقتلته، فقال صاحبه:
يا رب لا تجعلني كمن خان *** وباع باقي عيشه بخفتان
قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني إسماعيل بْن أبي عمرو، قَالَ: إنا لوقوف على خندق بني غفار، إذ أقبل رجل على فرس، ما يرى منه إلا عيناه، فنادى: الأمان، فأعطي الأمان، فدنا حتى لصق بنا، فقال: أفيكم من يبلغ عني محمدا؟ قلت: نعم، أنا، قَالَ: فأبلغه عني- وحسر عن وجهه، فإذا شيخ مخضوب- فقال: قل له: يقول لك فلان التميمي، بآية أني وإياك جلسنا في ظل الصخرة في جبل جهينة في سنة كذا، اصبر إلى الليل، فإن عامة الجند معك قَالَ: فأتيته قبل أن يغدو- وذلك يوم الاثنين في اليوم الذي قتل فيه- فوجدت بين يديه قربة عسل أبيض قد شقت من وسطها، ورجل يتناول من العسل ملء كفه ثم يغمسه في الماء، ثم يلقمه إياه، ورجل يحزم بطنه بعمامة، فأبلغته الرسالة فقال:
قد أبلغت، فقلت: أخواي في يدك، قَالَ: مكانهما خير لهما.
قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب بْن الزبير، قَالَ: حدثني محمد بْن عثمان بْن محمد بْن خالد بْن الزبير، قَالَ: كانت راية محمد إلى أبي، فكنت احملها عنه.
قَالَ: وحدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: كان مع الأفطس حسن بْن علي بْن حسين علم أصفر، فيه صورة حية، ومع كل رجل من أصحابه من آل علي بْن أبي طالب علم، وشعارهم: أحد أحد، قَالَ: وكذلك كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر بْن عبد الله بْن أبي الحكم، قَالَ: أخبرنا جهم بْن عثمان مولى بني سليم، ثم أحد بني بهز، قَالَ:
قَالَ لي عبد الحميد بْن جعفر يوم لقينا أصحاب عيسى: نحن اليوم على عدة أهل بدر يوم لقوا المشركين- قَالَ: وكنا ثلاثمائة ونيفا.
قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي ابن عبد الله بْن عباس، قَالَ: سمعت أبي يقول: ولد عيسى بْن موسى في سنة ثلاث ومائة، وشهد حرب محمد وإبراهيم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وعلى مقدمته حميد بْن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بْن أبي العباس أمير المؤمنين، وعلى ميسرته داود بْن كراز من أهل خراسان، وعلى ساقته الهيثم بن شعبه.
قَالَ: وحدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: لقي أبو القلمس محمد بْن عثمان، أخا أسد بْن المرزبان بسوق الحطابين، فاجتلدا بسيفيهما حتى تقطعا ثم تراجعا إلى مواقفهما، فأخذ أخو أسد سيفا، وأخذ أبو القلمس بأثفية، فوضعها على قربوس سرجه، وسترها بدرعه، ثم تعاودا، فلما تدانيا قام أبو القلمس في ركائبه، ثم ضرب بها صدره فصرعه، ونزل فاحتز رأسه.
قَالَ: وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمر بْن القاسم بْن عبد الله العمري، قَالَ: كنا مع محمد، فبرز رجل من أهل المدينة، مولى لآل الزبير يدعى القاسم بْن وائل، فدعا للبراز، فبرز إليه رجل لم أر مثل كماله وعدته، فلما رآه ابن وائل انصرف قَالَ: فوجدنا من ذلك وجدا شديدا، فإنا لعلى ذلك إذ سمعت خشف رجل ورائي، فالتفت فإذا أبو القلمس، فسمعته يقول: لعن الله أمير السفهاء، إن ترك مثل هذا اجترأ علينا! وإن خرج رجل خرج إلى أمر عسى ألا يكون من شأنه، قَالَ: ثم برز له فقتله.
قَالَ: وحدثني أزهر بْن سعيد بْن نافع، قَالَ: خرج القاسم بْن وائل يومئذ من الخندق، ثم دعا للبراز، فبرز له هزار مرد، فلما رآه القاسم هابه، فرجع فبرز له أبو القلمس، فقال: ما انتفع في مثل هذا اليوم بسيفه قط، ثم ضربه على حبل عاتقه فقتله، فقال: خذها وأنا ابن الفاروق، فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيرا من ألف فاروق.
قَالَ: وحدثني علي أبو الحسن الحذاء من أهل الكوفة، قَالَ: حدثني مسعود الرحال، قَالَ: شهدت مقتل محمد بالمدينة، فإني لأنظر إليهم عند أحجار الزيت، وأنا مشرف عليهم من الجبل- يعني سلعا- إذ نظرت إلى رجل من أصحاب عيسى قد أقبل مستلئما في الحديد، لا ترى منه إلا عيناه، على فرس، حتى فصل من صف أصحابه، فوقف بين الصفين، فدعا للبراز، فخرج إليه رجل من أصحاب محمد، عليه قباء أبيض، وكمه بيضاء، وهو راجل، فكلمه مليا، ظننت أنه استرجله لتستوي حالاهما، فنظرت إلى الفارس ثنى رجله، فنزل، ثم التقيا فضربه صاحب محمد ضربة على خوذة حديد على رأسه، فأقعده على استه وقيذا لا حراك به، ثم انتزع الخوذة، فضرب رأسه فقتله، ثم رجع فدخل في أصحابه، فلم ينشب أن خرج من صف عيسى آخر، كأنه صاحبه، فبرز له الرجل الأول، فصنع به مثل ما صنع بصاحبه، ثم عاد إلى صفه، وبرز ثالث فدعاه، فبرز له فقتله، فلما قتل الثالث ولى يريد أصحابه، فاعتوره أصحاب عيسى فرموه فأثبتوه، وأسرع يريد أصحابه، فلم يبلغهم حتى خر صريعا فقتلوه دونهم.
وحدثني عيسى، قَالَ: أخبرني محمد بْن زيد، قَالَ: لما أخبرنا عيسى برميهم إيانا، قَالَ لحميد بْن قحطبة: تقدم، فتقدم في مائة كلهم راجل غيره معهم النشاب والترسة، فلم يلبثوا أن زحفوا إلى جدار دون الخندق، عليه أناس من أصحاب محمد، فكشفوهم ووقفوا عند الجدار، فأرسل حميد إلى عيسى بهدم الجدار قَالَ: فأرسل إلى فعلة فهدموه، وانتهوا إلى الخندق، فأرسل إلى عيسى: إنا قد انتهينا إلى الخندق فأرسل إليه عيسى بأبواب بقدر الخندق، فعبروا عليها، حتى كانوا من ورائه، ثم اقتتلوا أشد القتال من بكرة حتى صار العصر.
وحدثني الحارث، قَالَ: أخبرنا ابن سعد، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْن عُمَرَ: أقبل عيسى بْن موسى بمن معه، حتى أناخ على المدينة، وخرج اليه محمد ابن عبد الله ومن معه، فاقتتلوا أياما قتالا شديدا، وصبر نفر من جهينة، يقال لهم بنو شجاع مع محمد بْن عبد الله، حتى قتلوا وكان لهم غناء.
رجع الحديث إلى حديث عمر:
حدثني أزهر، قَالَ: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل في الخندق فأمر ببابي دار سعد بْن مسعود التي في الثنية فطرحا على الخندق، فجازت الخيل، فالتقوا عند مفاتح خشرم، فاقتتلوا حتى كان العصر.
حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: انصرف محمد يومئذ قبل الظهر حتى جاء دار مروان، فاغتسل وتحنط، ثم خرج.
قَالَ عبد العزيز بْن أبي ثابت: فحدثني عبد الله بْن جعفر، قَالَ: دنوت منه، فقلت له: بأبي أنت! إنه والله مالك بما رأيت طاقة، وما معك أحد يصدق القتال، فاخرج الساعة حتى تلحق بالحسن بْن معاوية بمكة، فإن معه جلة أصحابك، فقال: يا أبا جعفر، والله لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت مني في سعة، فاذهب حيث شئت فخرجت معه حتى إذا جاء دار ابن مسعود في سوق الظهر ركضت فأخذت على الزياتين، ومضى إلى الثنية، وقتل من كان معه بالنشاب وجاءت العصر فصلى.
حدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني إبراهيم بْن محمد، قَالَ: رأيت محمدا بين داري بني سعد، عليه جبة ممشقة، وهو على برذون، وابن خضير إلى جانبه يناشده الله إلا مضى إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: والله لا تبتلون بي مرتين، ولكن اذهب حيث شئت فأنت في حل.
قَالَ ابن خضير: وأين المذهب عنك! ثم مضى فأحرق الديوان، وقتل رياحا ثم لحقه بالثنية، فقاتل حتى قتل.
وحدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: خرج مع محمد بْن عبد الله بْن خضير، رجل من ولد مصعب بْن الزبير، فلما كان اليوم الذي قتل فيه محمد، ورأى الخلل في أصحابه، وأن السيف قد أفناهم، استأذن محمدا في دخول المدينة فأذن له، ولا يعلم ما يريد، فدخل على رياح بْن عثمان بْن حيان المري وأخيه، فذبحهما ثم رجع، فأخبر محمدا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل من ساعته.
رجع الحديث إلى حديث عمر:
حدثني أزهر، قَالَ: حدثني أخي، قَالَ: لما رجع ابن خضير قتل رياحا وابن مسلم بْن عقبة.
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ذبح ابن خضير رياحا ولم يجهز عليه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى مات، وقتل معه عباسا أخاه، وكان مستقيم الطريقة، فعاب الناس ذلك عليه، ثم مضى إلى ابن القسري وهو محبوس في دار ابن هشام، فنذر به فردم بابى الدار دونه، فعالج البابين، فاجتمع من في الحبس فسدوهما، فلم يقدر عليهم، فرجع إلى محمد، فقاتل بين يديه حتى قتل.
حدثني مسكين بْن حبيب بْن محمد، قَالَ: لما جاءت العصر صلاها محمد في مسجد بني الديل، في الثنية، فلما سلم استسقى، فسقته ربيحة بنت أبي شاكر القرشية، ثم قالت له: جعلت فداك! انج بنفسك، قَالَ: إذا لا يبقى بها ديك يصرخ، ثم مضى فلما كان ببطن مسيل سلع، نزل فعرقب دابته، وعرقب بنو شجاع دوابهم، ولم يبق أحد إلا كسر غمد سيفه قَالَ مسكين: فلقد رأيتني وأنا غلام، جمعت من حليها نحوا من ثلاثمائة درهم، ثم قَالَ لهم: قد بايعتموني ولست بارحا حتى أقتل، فمن أحب أن ينصرف فقد أذنت له، ثم أقبل على ابن خضير، فقال له: قد أحرقت الديوان؟ قَالَ: نعم، خفت أن يؤخذ الناس عليه؟ قَالَ: أصبت.
حدثني أزهر، قَالَ: حدثني أخواي، قالا: لقد هزمنا يومئذ أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثا، ولكنا لم نكن نعرف الهزيمة، ولقد سمعنا يزيد بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر، يقول، وقد هزمناهم: ويل أمه فتحا لو كان له رجال! حدثنى عيسى، قَالَ: كان ممن انهزم يومئذ وفر عن محمد عبد العزيز ابن عبد الله بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فأرسل محمد وراءه، فأتي به، فجعل الصبيان يصيحون وراءه: ألا باقة بقبقبه، فكان عبد العزيز يقول بعد ذلك: إن أشد ما أتي علي لصياح الصبيان.
وحدثني عيسى، قَالَ: حدثنا مولى لهشام بْن عمارة بن الوليد بن عدى ابن الخيار، قَالَ: كنا مع محمد، فتقدم هشام بْن عمارة إليه وأنا معه، فقال: إني لا آمن أن يخذلك من ترى، فأشهد أن غلامي هذا حر لوجه الله إن رمت أبدا أو تقتل أو اقتل او نغلب، فقلت: فو الله إني لمعه إذ وقعت بترسه نشابة، ففلقته باثنتين، ثم خسفت في درعه، فالتفت إلي فقال:
فلان! قلت: لبيك! قَالَ: ويلك! رأيت مثل هذا قط يا فلان! أيما أحب إليك، نفسي أم أنت؟ قلت: لا بل نفسك، قَالَ: فأنت حر لوجه الله، فانطلق هاربا.
وحدثني متوكل بْن أبي الفحوة، قَالَ: حدثني محمد بْن عبد الواحد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ: إنا لعلى ظهر سلع ننظر، وعليه أعاريب جهينة، إذ صعد إلينا رجل بيده رمح، قد نصب عليه رأس رجل متصل بحلقومه وكبده وأعفاج بطنه، قَالَ: فرأيت منه منظرا هائلا، وتطيرت منه الأعاريب، وأجفلت هاربة حتى أسهلت، وعلا الرجل الجبل، ونادى على الجبل رطانة لأصحابه بالفارسية كوهبان، فصعد إليه أصحابه حتى علوا سلعا فنصبوا عليه راية سوداء، ثم انصبوا إلى المدينة، فدخلوها، وأمرت أسماء بنت حسن ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بْن عبد المطلب- وكانت تحت عبد الله ابن حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عباس- بخمار أسود، فنصب على منارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: دخلت المدينة، وهربوا قَالَ: وبلغ محمدا دخول الناس من سلع، فقال: لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤتى إلا منه.
وحدثني محمد بْن إسماعيل، عن الثقة عنده، قَالَ: فتح بنو ابى عمرو الغفاريون للمسودة طريقا في بني غفار، فدخلوا منه حتى جاءوا من وراء أصحاب محمد.
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران، قَالَ: نادى محمد يومئذ حميد بْن قحطبة: إن كنت فارسا وأنت تعتد ذاك على أهل خراسان فابرز لي، فأنا محمد بْن عبد الله، قَالَ: قد عرفتك وأنت الكريم ابْن الكريم، الشريف ابْن الشريف، لا والله يا أبا عبد الله لا أبرز لك وبين يدي من هؤلاء الأغمار إنسان واحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز لك لعمري.
وحدثني عثمان بْن المنذر بن مصعب بْن عروة بْن الزبير، قَالَ: حدثني رجل من بني ثعلبة بْن سعد، قَالَ: كنت بالثنية يوم قتل محمد بْن عبد الله ابن حسن ومعه ابن خضير، قَالَ: فجعل ابن قحطبة يدعو ابن خضير إلى الأمان، ويشح به عن الموت، وهو يشد على الناس بسيفه مترجلا، يتمثل:
لا تسقه حزرا ولا حليبا *** إن لم تجده سابحا يعبوبا
ذا ميعه يلتهم الجبوبا *** كالذئب يتلو طمعا قريبا
يبادر الآثار أن تئوبا *** وحاجب الجونة أن يغيبا
قَالَ: فخالط الناس، فضربه ضارب على اليته فخلها، فرجع إلى أصحابه، فشق ثوبا فعصبها إلى ظهره، ثم عاد إلى القتال، فضربه ضارب على حجاج عينه، فاغمض السيف في عينه، وخر فابتدره القوم، فحزوا رأسه، فلما قتل ترجل محمد، فقاتل على جيفته حتى قتل.
وحدثني مخلد بْن يحيى بْن حاضر بْن المهاجر الباهلي، قَالَ: سمعت الفضل بْن سليمان مولى بني نمير يخبر عن أخيه- وكان قد قتل له أخ مع محمد- قَالَ: كان الخراسانية إذا نظروا إلى ابن خضير تنادوا: خضير آمد، خضير آمد!، وتصعصعوا لذلك.
وحدثني هشام بْن محمد بْن عروة بْن هشام بْن عروة، قَالَ: أخبرني ماهان بْن بخت مولى قحطبة، قَالَ: أتينا برأس ابن خضير، فو الله ما جعلنا نستطيع حمله لما كان به من الجراح، والله لكانه باذنجاته مفلقه، وكنا نضم اعظمه ضماه.
وحدثني أزهر بْن سعيد، قَالَ: لما نظر أصحاب محمد إلى العلم الأسود على منارة المسجد فت ذلك في أعضادهم، ودخل حميد بْن قحطبة من زقاق أشجع على محمد فقتله وهو لا يشعر، وأخذ رأسه فأتى به عيسى، وقتل معه بشرا كثيرا.
قال: وحدثني أبو الحسن الحذاء، قَالَ: أخبرني مسعود الرحال، قَالَ: رأيت محمدا يومئذ باشر القتال بنفسه، فأنظر إليه حين ضربه رجل بسيف دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه وتعاوروا عليه، وصاح حميد بْن قحطبة: لا تقتلوه، فكفوا، وجاء حميد فاحتز رأسه.
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: برك محمد يومئذ لركبتيه وجعل يذب عن نفسه ويقول: ويحكم! انا ابن نبيكم، محرج مظلوم!
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ، حدثني ابن أبي ثابت، عن عبد الله بْن جعفر، قَالَ: طعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل فاحتز رأسه، فأتى به عيسى.
وحدثني محمد بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني أبو الحجاج المنقري، قَالَ: رأيت محمدا يومئذ وإن أشبه ما خلق الله به لما ذكر عن حمزة بْن عبد المطلب، يهذ الناس بسيفه هذا، ما يقاربه أحد إلا قتله، ومعه سيف، لا والله ما يليق شيئا، حتى رماه إنسان بسهم كأني أنظر إليه، أحمر أزرق، ثم دهمتنا الخيل، فوقف إلى ناحية جدار، فتحاماه الناس، فوجد الموت، فتحامل على سيفه فكسره، قَالَ: فسمعت جدي يقول: كان معه سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو الفقار.
وحدثني هرمز أبو علي مولى باهلة، قَالَ: حدثني عمرو بْن المتوكل- وكانت أمه تخدم فاطمة بنت حسين- قَالَ: كان مع محمد يوم قتل سيف النبي صلى الله عليه وسلم ذو الفقار، فلما أحس الموت أعطى سيفه رجلا من التجار كان معه- وكان له عليه أربعمائة دينار- فقال له: خذ هذا السيف، فإنك لا تلقى به أحدا من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك قَالَ: فكان السيف عنده، حتى ولي جعفر بْن سليمان المدينة فأخبر عنه، فدعا الرجل وأخذ السيف منه، واعطاه أربعمائة دينار، فلم يزل عنده حتى قام المهدي، وولي جعفر المدينة، وبلغه مكان السيف، فأخذه، ثم صار إلى موسى، فجرب به على كلب، فانقطع السيف.
وحدثني عبد الملك بْن قريب الأصمعي، قَالَ: رأيت الرشيد أمير المؤمنين بطوس، متقلدا سيفا، فقال لي: يا أصمعي، ألا أريك ذا الفقار؟ قلت: بلى، جعلني الله فداك! قَالَ: استل سيفي، فاستللته، فرايت فيه ثمان عشرة فقارة.
وحدثني أبو عاصم النبيل، قَالَ: حدثني أخو الفضل بْن سليمان النميري قَالَ: كنا مع محمد، فأطاف بنا أربعون ألفا، فكانوا حولنا كالحرة السوداء، فقلت له: لو حملت فيهم لانفرجوا عنك، فقال: إن أمير المؤمنين لا يحمل، إنه إن حمل لم تكن له بقية قَالَ: فجعلنا نعيد ذلك عليه، فحمل، فالتفوا عليه فقتلوه.
وحدثني عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بن سلم- ويدعى ابن البواب، وكان خليفة الفضل بْن الربيع يحجب هارون، من أدباء الناس وعلمائهم- قَالَ: حدثني أبي عن الأسلمي- يعني عبد الله بْن عامر- قَالَ: قَالَ لي محمد ونحن نقاتل معه عيسى: تغشانا سحابة، فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر الى دمى على احجار الزيت، قال: فو الله ما لبثنا أن أطلتنا سحابة فأحالت حتى قلت: تفعل، ثم جاوزتنا فأصابت عيسى وأصحابه، فما كان إلا كلا ولا، حتى رأيته قتيلا بين أحجار الزيت.
وحدثني إبراهيم بْن محمد بْن عبد الله بْن أبي الكرام، قَالَ: قَالَ عيسى لحميد بْن قحطبة عند العصر: أراك قد أبطأت في أمر هذا الرجل، فول حمزة بْن مالك حربه، فقال: والله لو رمت أنت ذاك ما تركتك، أحين قتلت الرجال ووجدت ريح الفتح! ثم جد في القتال حتى قتل محمد.
وحدثني جواد بْن غالب بْن موسى مولى بني عجل، قَالَ: أخبرني حميد مولى محمد بْن أبي العباس، قَالَ: اتهم عيسى حميد بْن قحطبة يومئذ- وكان على الخيل- فقال: يا حميد، ما أراك تبالغ، قال: اتتهمني! فو الله لأضربن محمدا حين أراه بالسيف أو أقتل دونه قَالَ: فمر به وهو مقتول، فضربه بالسيف ليبر يمينه.
وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني علي بْن أبي طالب، قَالَ: قتل محمد بعد العصر، يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: بعث عيسى فدق السجن، فحملنا إليه والقتال دائب بينهم، فلم نزل مطرحين بين يديه، حين أتي برأس محمد، فقلت لأخي يوسف: إنه سيدعونا إلى معرفته، ولا نعرفه له، فإنا نخاف أن نخطئ، فلما أتي به قَالَ: أتعرفانه؟ قلنا: نعم، قَالَ: أنظرا، أهو هذا؟ قَالَ أبي: فبدرت يوسف، فقلت: أرى دما كثيرا وارى ضربا، فو الله ما أثبته، قَالَ: فأطلقنا من الحديد، وبتنا عنده ليلتنا كلها حتى أصبحنا قَالَ: ثم ولاني ما بين مكة والمدينة، فلم أزل واليا عليه حتى قدم جعفر بْن سليمان، فحدرني إليه، وألزمني نفسه.
وحدثني علي بْن إسماعيل بْن صالح بْن ميثم، قَالَ: حدثني أبو كعب، قَالَ: حضرت عيسى حين قتل محمدا، فوضع رأسه بين يديه، فأقبل على أصحابه، فقال: ما تقولون في هذا؟ فوقعوا فيه، قَالَ: فأقبل عليهم قائد له، فقال: كذبتم والله وقلتم باطلا، لما على هذا قاتلناه، ولكنه خالف أمير المؤمنين، وشق عصا المسلمين، وإن كان لصواما قواما فسكت القوم.
وحدثني ابن البواب عبد الله بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، عن الأسلمي، قَالَ: قدم على أبي جعفر قادم، فقال: هرب محمد، فقال: كذبت! نحن أهل البيت لا نفر.
وحدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: حدثني أبو الحجاج الجمال، قَالَ: إني لقائم على رأس أبي جعفر، وهو مسائلي عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى قد هزم- وكان متكئا فجلس- فضرب بقضيب معه مصلاه، وقال: كلا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء! ما إني لذلك بعد.
قال: وحدثني محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني بعض أصحابنا، قَالَ: أصاب أبا القلمس نشابة في ركبته، فبقي نصلها، فعالجها فأعياه، فقيل له: دعه حتى يقيح فيخرج، فتركه، فلما طلب بعد الهزيمة لحق بالحرة، وأبطأ به ما أصاب ركبته، فلم يزل بالنصل حتى استخرجه ثم جثا لركبتيه، ونكب كنانته، فرماهم فتصدعوا عنه، فلحق بأصحابه فنجا.
وحدثني محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمر بْن القاسم، قَالَ: لما انهزمنا يومئذ كنت في جماعة، فيهم أبو القلمس، فالتفت إليه، فإذا هو مستغرب ضحكا، قَالَ: فقلت: والله ما هذا بموضع ضحك، وخفضت بصري، فإذا برجل من المنهزمة قد تقطع قميصه، فلم يبق منه إلا جربانه وما يستر صدره إلى ثدييه، وإذا عورته بادية وهو لا يشعر، قَالَ: فجعلت أضحك لضحك أبي القلمس.
فحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لم يزل أبو القلمس مختفيا بالفرع، وبقي زمانا ثم عدا عليه عبد له، فشدخ رأسه بصخرة فقتله، ثم أتى أم ولد كانت له، فقال: إني قد قتلت سيدك، فهلمى اتتزوجك؟
قالت: رويدا أتصنع لك، فأمهلها، فأتت السلطان فأخبرته، فأخذ العبد فشدخ رأسه.
حدثني محمود بْن معمر بْن أبي الشدائد، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: لما دخلت خيل عيسى من شعب بني فزارة، فقتل محمد، اقتحم نفر على أبي الشدائد فقتلوه، وأخذوا رأسه، فنادت ابنته الناعمة بنت ابى الشدائد:
وا رجالاه! فقال لها رجل من الجند: ومن رجالك؟ قالت: بنو فزارة، قَالَ: والله لو علمت ما دخلت بيتك، فلا بأس عليك، أنا امرؤ من عشيرتك من باهلة، وأعطاها قطعة من عمامته فعلقتها على بابها.
قَالَ: وأتي عيسى برأسه، وعنده ابن أبي الكرام ومحمد بْن لوط بْن المغيرة بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فاسترجعا وقالا: والله ما بقي من أهل المدينة أحد، هذا رأس أبي الشدائد، فالح بْن معمر- رجل من بني فزارة مكفوف- قَالَ: فأمر مناديا فنادى: من جاء برأس ضربنا رأسه. وحدثني علي بْن زادان، قَالَ: حدثني عبد الله بْن برقي، قَالَ: رأيت قائدا من قواد عيسى، جاء في جماعة يسأل عن منزل ابن هرمز، فأرشدناه إليه.
قَالَ: فخرج وعليه قميص رياط، قَالَ: فأنزلوا قائدهم، وحملوه على برذونه وخرجوا به يزفونه، حتى أدخلوه على عيسى، فما هاجه.
حدثني قدامة بْن محمد، قَالَ: خرج عبد الله بْن يزيد بْن هرمز ومحمد ابن عجلان مع محمد، فلما حضر القتال، تقلد كل واحد منهما قوسا، فظننا أنهما أرادا أن يريا الناس أنهما قد صلحا لذلك.
وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني حسين بْن يزيد، قَالَ: أتي بابن هرمز الى عيسى بعد ما قتل محمد، فقال: أيها الشيخ، أما وزعك فقهك عن الخروج مع من خرج! قَالَ: كانت فتنة شملت الناس، فشملتنا فيهم، قَالَ: اذهب راشدا.
وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: سمعت مالك بْن أنس، يقول:
كنت آتي ابن هرمز فيأمر الجارية فتغلق الباب، وترخي الستر، ثم يذكر أول هذه الأمة، ثم يبكي حتى تخضل لحيته قَالَ: ثم خرج مع محمد فقيل له: والله ما فيك شيء، قَالَ: قد علمت، ولكن يراني جاهل فيقتدي بي.
حدثني عيسى، قَالَ: حدثني محمد بْن زيد، قَالَ: لما قتل محمد انخرقت السماء بالمطر بما لم أر مثله انخرق قط منها، فنادى منادي عيسى: لا يبيتن بالمدينة أحد من الجند إلا كثير بْن حصين وجنده، ولحق عيسى بعسكره بالجرف، فكان به حتى أصبح، ثم بعث بالبشارة مع القاسم بْن حسن بْن زيد، وبعث بالرأس مع ابن أبي الكرام.
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما أصبح محمد في مصرعه، أرسلت أخته زينب بنت عبد الله وابنته فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتم هذا الرجل، وقضيتم منه حاجتكم، فلو أذنتم لنا فواريناه! فأرسل إليهما: أما ما ذكرتما يا بنتي عمى مما نيل منه فو الله ما أمرت ولا علمت، فوارياه راشدتين فبعثتا إليه فاحتمل، فقيل: إنه حشي في مقطع عنقه عديله قطنا، ودفن بالبقيع، وكان قبره وجاه زقاق دار علي بْن أبي طالب، شارعا على الطريق أو قريبا من ذلك، وبعث عيسى بألوية فوضع على باب أسماء بنت حسن بْن عبد الله واحد، وعلى باب العباس بْن عبد الله بْن الحارث آخر، وعلى باب محمد بْن عبد العزيز الزهري آخر، وعلى باب عبيد الله بْن محمد بْن صفوان آخر، وعلى باب دار أبي عمرو الغفاري آخر، وصاح مناديه: من دخل تحت لواء منها، أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن، ومطرت السماء مطرا جودا، فأصبح الناس هادئين في أسواقهم، وجعل عيسى يختلف إلى المسجد من الجرف، فأقام بالمدينة أياما، ثم شخص صبح تسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان يريد مكة.
حدثنى أزهر بْن سعيد، قَالَ: لما كان الغد من قتل محمد أذن عيسى في دفنه، وأمر بأصحابه فصلبوا ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بْن عبد العزيز.
قَالَ أزهر: فرأيتهم صفين، ووكل بخشبة ابن خضير من يحرسها، فاحتمله قوم في الليل فواروه، ولم يقدر عليهم، وأقام الآخرون مصلبين ثلاثا، ثم تأذى بهم الناس، فأمر عيسى بهم فألقوا على المفرح من سلع، وهي مقبرة اليهود، فلم يزالوا هنالك، ثم ألقوا في خندق بأصل ذباب.
حدثني عيسى بْن عبد الله قَالَ: حدثتني أمي أم حسين بنت عبد الله بن محمد بن علي بن حسين، قالت: قلت لعمي جعفر بْن محمد: إني- فديتك- ما أمر محمد بْن عبد الله؟ هذا قَالَ: فتنته يقتل فيها محمد عند بيت رومي، ويقتل أخوه لأبيه وأمه بالعراق وحوافر فرسه في ماء.
حدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: خرج مع محمد حمزة بْن عبد الله بْن محمد بْن علي- وكان عمه جعفر ينهاه، وكان من أشد الناس مع محمد- قَالَ: فكان جعفر يقول له: هو والله مقتول، قال: فتنحى جعفر.
حدثنى عيسى، قَالَ: حدثنا ابن أبي الكرام، قَالَ: بعثني عيسى برأس محمد، وبعث معي مائة من الجند، قَالَ: فجئنا حتى إذا أشرفنا على النجف كبرنا- قَالَ: وعامر بْن إسماعيل يومئذ بواسط محاصر هارون ابن سعد العجلي- فقال أبو جعفر للربيع: ويحك! ما هذا التكبير! قَالَ: هذا ابن أبي الكرام، جاء برأس محمد بْن عبد الله، قَالَ: ائذن له ولعشرة ممن معه، قَالَ: فأذن لي، فوضعت الرأس بين يديه في ترس، فقال: من قتل معه من أهل بيته؟ قلت: لا والله ولا إنسان، قَالَ: سبحان الله! هو ذاك قَالَ: فرفع رأسه إلى الربيع، فقال: ما أخبرنا صاحبه الذي كان قبله؟
قَالَ الربيع: زعم أنه قتل منهم عدد كثير، قلت: لا والله ولا واحد.
حدثني علي بْن إسماعيل بْن صالح بْن ميثم، قَالَ: لما قدم برأس محمد على أبي جعفر وهو بالكوفة، أمر به فطيف في طبق أبيض، فرأيته آدم أرقط، فلما أمسى من يومه بعث به إلى الآفاق.
وحدثني عبد الله بْن عمر بْن حبيب من أهل ينبع، قَالَ: لما أتي أبو جعفر برءوس بني شجاع، قَالَ: هكذا فليكن الناس، طلبت محمدا فاشتمل هؤلاء عليه، ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه فصبروا حتى قتلوا.
قَالَ عمر: أنشدني عيسى بْن إبراهيم وإبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب، ومحمد بْن يحيى ومحمد بْن الحسن بْن زبالة وغيرهم لعبد الله ابن مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير يرثي محمدا:
تبكي مدله أن تقنص حبلهم *** عيسى وأقصد صائبا عثمانا
هلا على المهدي وابني مصعب *** أذريت دمعك ساكبا تهتانا!
ولفقد إبراهيم حين تصدعت *** عنه الجموع فواجه الأقرانا
سالت دموعك ضلة قد هجت لي *** برحاء وجد تبعث الأحزانا
والله ما ولد الحواضن مثلهم *** أمضى وأرفع محتدا ومكانا
وأشد ناهضة وأقول للتي *** تنفي مصادر عدلها البهتانا
فهناك لو فقأت غير مشوه *** عينيك من جزع عذرت علانا
رزء لعمرك لو يصاب بمثله *** مبطان صدع رزوه مبطانا
وقال ابن مصعب:
يا صاحبي دعا الملامة واعلما *** أن لست في هذا بألوم منكما
وقفا بقبر ابن النبي فسلما *** لا بأس أن تقفا به فتسلما
قبر تضمن خير أهل زمانه *** حسبا وطيب سجية وتكرما
رجل نفى بالعدل جور بلادنا *** وعفا عظيمات الأمور وأنعما
لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر *** عنه، ولم يفتح بفاحشة فما
لو أعظم الحدثان شيئا قبله *** بعد النبي به لكنت المعظما
أو كان أمتع بالسلامة قبله *** أحدا لكان قصاره أن يسلما
ضحوا بإبراهيم خير ضحية *** فتصرمت أيامه وتصرما
بطلا يخوض بنفسه غمراتها *** لا طائشا رعشا ولا مستسلما
حتى مضت فيه السيوف وربما *** كانت حتوفهم السيوف وربما
أضحى بنو حسن أبيح حريمهم *** فينا وأصبح نهبهم متقسما
ونساؤهم في دورهن نوائح *** سجع الحمام إذا الحمام ترنما
يتوسلون بقتلهم ويرونه *** شرفا لهم عند الإمام ومغنما
والله لو شهد النبي محمد *** صلى الإله على النبي وسلما
إشراع أمته الأسنة لابنه *** حتى تقطر من ظباتهم دما
حقا لأيقن أنهم قد ضيعوا *** تلك القرابة واستحلوا المحرما
وحدثني إسماعيل بْن جعفر بْن إبراهيم، قَالَ: حدثني موسى بْن عبد الله ابن حسن، قَالَ: خرجت من منازلنا بسويقة في الليل، وذلك قبل مخرج محمد ابن عبد الله، فإذا بنسوة كأنما خرجن من ديارنا، فأخذتني عليهن غيرة، فإني لأتبعهن أنظر أين يردن، حتى إذا كن بطرف الحميراء من جانب الغرس، التفتت إلي إحداهن، فقالت:
سويقة بعد ساكنها يباب *** لقد أمست أجد بها الخراب
فعرفت أنهن من ساكني الأرض، فرجعت.
وحدثني عيسى، قَالَ: لما قتل عيسى بْن موسى محمدا قبض أموال بني حسن كلها، فأجاز ذلك أبو جعفر.
وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: [لقي جعفر بْن محمد أبا جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، رد علي قطيعتي عين أبي زياد آكل من سعفها، قَالَ: إياي تكلم بهذا الكلام! والله لأزهقن نفسك قَالَ: فلا تعجل علي، قد بلغت ثلاثا وستين، وفيها مات أبي وجدي على بْن أبي طالب، وعلي كذا وكذا إن ربتك بشيء أبدا، وإن بقيت بعدك أن ربت الذي يقوم بعدك] قَالَ: فرق له وأعفاه.
وحدثني هشام بْن إبراهيم بْن هشام بْن راشد، قَالَ: لم يرد أبو جعفر عين أبي زياد حتى مات فردها المهدي على ولده.
وحدثني هشام بْن إبراهيم، قَالَ: لما قتل محمد أمر أبو جعفر بالبحر فأقفل على أهل المدينة، فلم يحمل إليهم من ناحيه البحار شيء، حتى كان المهدي فأمر بالبحر ففتح لهم، واذن في الحمل.
وحدثنى محمد بْن جعفر بْن إبراهيم، قَالَ: حدثتني أمي أم سلمة بنت محمد بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي بكر زوجة موسى بْن عبد الله، قالت: خاصم بنو المخزومية عيسى وسليمان وإدريس بنو عبد الله بْن حسن بْن محمد بْن عبد الله بْن حسن في ميراث عبد الله، وقالوا: قتل أبوكم محمد فورثه عبد الله، فتنازعوا إلى الحسن بْن زيد، فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين أبي جعفر، فكتب إليه: أما بعد، فإذا بلغك كتابي هذا فورثهم من جدهم، فإني قد رددت عليهم أموالهم صلة لأرحامهم، وحفظا لقرابتهم.
وحدثني عيسى، قَالَ: خرج مع محمد من بني هاشم الحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وحسين وعيسى ابنا زيد بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب، قَالَ: فحدثني عيسى، قَالَ: بلغني ان أبا جعفر كان يقول: وا عجبا لخروج ابني زيد بْن علي وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه، واحرقناه كما احرقه، وحمزه ابن عبد الله بن محمد بن علي بن حسين بْن أبي طالب، وعلي وزيد ابنا حسن ابن زيد بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب! قَالَ عيسى: قَالَ أبو جعفر للحسن بْن زيد: كأني أنظر إلى ابنيك واقفين على راس محمد بسيفين، عليهما قباءان قَالَ: يا أمير المؤمنين، قد كنت أشكو إليك عقوقهما قبل اليوم، قَالَ: أجل فهذا من ذاك والقاسم ابن إسحاق بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، والمرجى علي بْن جعفر بْن إسحاق بْن علي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ عيسى: قَالَ أبو جعفر لجعفر بْن إسحاق: من المرجي هذا؟ فعل الله به وفعل! قَالَ: يا أمير المؤمنين، ذاك ابني، والله لئن شئت أن أنتفي منه لأفعلن ومن بني عبد شمس محمد بْن عبد الله بْن عمرو بْن سعيد بْن العاص بْن أمية بْن عبد شمس.
قَالَ: وحدثني أبو عاصم النبيل، قَالَ: حدثني عباد بْن كثير، قَالَ: خرج ابن عجلان مع محمد، وكان على ثقله، فلما ولي جعفر بْن سليمان المدينة قيده، فدخلت عليه، فقلت: كيف ترى رأي أهل البصره في رجل قيد الحسن؟ قال: سيئا والله، قَالَ: قلت: فإن ابن عجلان بهذه كالحسن ثم، فتركه ومحمد بْن عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس.
وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر بْن عبد الله، أن عبيد الله بن عمر ابن حفص بْن عاصم خرج معه، فأتى به أبو جعفر بعد قتل محمد، فقال له: أنت الخارج علي مع محمد؟ قَالَ: لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، قَالَ عمر: هذا وهم.
قَالَ: وحدثني عبد العزيز بْن أبي سلمة بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قَالَ: كان عبيد الله قد أجاب محمدا إلى الخروج معه، فمات قبل أن يخرج، وخرج معه أبو بكر بْن عبد الله بْن محمد بْن أبي سبرة بْن أبي رهم بْن عبد العزى ابن أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عامر بن لؤي، وخرج معه عبد الواحد بْن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بْن جعفر بن عبد الرحمن ابن المسور بْن مخرمة وعبد العزيز بْن محمد الدراوردي وعبد الحميد بْن جعفر وعبد الله بْن عطاء بْن يعقوب مولى بني سباع، وابن سباع من خزاعة حليف بني زهرة، وبنو إبراهيم وإسحاق وربيعة وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقوب وعثمان وعبد العزيز، بنو عبد الله بْن عطاء.
وحدثني إبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب بْن الزبير.
قَالَ: وحدثني الزبير بْن خبيب بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: إنا لبالمر من بطن إضم، وعندي زوجتي أمينة بنت خضير، إذ مر بنا رجل مصعد من المدينة، فقالت له: ما فعل محمد؟ قَالَ: قتل، قالت: فما فعل ابن خضير؟ قَالَ: قتل، فخرت ساجدة، فقلت: أتسجدين أن قتل أخوك! قالت: نعم، أليس لم يفر ولم يؤسر! قَالَ عيسى: حدثني أبي، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعيسى بْن موسى: من استنصر مع محمد؟ قَالَ: آل الزبير، قَالَ: ومن؟ قَالَ: وآل عمر، قَالَ: أما والله لعن غير مودة بهما له ولا محبة له ولا لأهل بيته قَالَ: وكان أبو جعفر يقول: لو وجدت ألفا من آل الزبير كلهم محسن وفيهم مسيء واحد لقتلتهم جميعا، ولو وجدت ألفا من آل عمر كلهم مسيء وفيهم محسن واحد لأعفيتهم جميعا قَالَ عمر: وحدثني إبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب، قَالَ: حدثني محمد بْن عثمان بْن محمد بْن خالد بْن الزبير، قَالَ: لما قتل محمد، هرب أبي وموسى بْن عبد الله بْن حسن وأنا معهما وأبو هبار المزني، فأتينا مكة، ثم انحدرنا إلى البصرة، فاكترينا من رجل يدعى حكيما، فلما وردنا البصرة- وذلك بعد ثلث الليل- وجدنا الدروب مغلقة، فجلسنا عندها حتى طلع الفجر، ثم دخلنا فنزلنا المربد، فلما أصبحنا أرسلنا حكيما يبتاع لنا طعاما، فجاء به على رجل أسود، في رجله حديدة، فدخل به علينا فأعطاه جعله، فتسخط علينا، فقلنا: زده، فتسخط، فقلنا له: ويلك! أضعف له، فأبى، فاستراب بنا، وجعل يتصفح وجوهنا ثم خرج فلم ننشب أن أحاطت بمنزلنا الخيل، فقلنا لربة المنزل: ما بال الخيل؟ فقالت: لا بأس فيها، تطلب رجلا من بني سعد يدعى نميلة بْن مرة، كان خرج مع ابراهيم.
قال: فو الله ما راعنا إلا بالأسود قد دخل به علينا، قد غطي رأسه ووجهه فلما دخل به كشف عنه، ثم قيل: أهؤلاء؟ قَالَ: نعم هؤلاء، هذا موسى بْن عبد الله، وهذا عثمان بْن محمد، وهذا ابنه، ولا أعرف الرابع غير أنه من أصحابهم قَالَ: فأخذنا جميعا، فدخل بنا على محمد بْن سليمان فلما نظر إلينا أقبل على موسى، فقال: لا وصل الله رحمك! أتركت البلاد جميعا وجئتني! فإما أطلقتك فتعرضت لأمير المؤمنين، وإما أخذتك فقطعت رحمك ثم كتب إلى امير المؤمنين بخبرنا: قَالَ: فجاء الجواب أن احملهم إلي، فوجهنا إليه ومعنا جند، فلما صرنا بالبطيحة وجدنا بها جندا آخر ينتظروننا، ثم لم نزل نأتي على المسالح من الجند في طريقنا كله، حتى وردنا بغداد، فدخل بنا على أبي جعفر، فلما نظر إلى أبي قَالَ: هيه! أخرجت علي مع محمد! قَالَ: قد كان ذاك، فأغلظ له أبو جعفر، فراجعه مليا، ثم أمر به فضربت عنقه ثم أمر بموسى فضرب بالسياط، ثم أمر بي فقربت إليه، فقال: اذهبوا به فأقيموه على رأس أبيه، فإذا نظر إليه فاضربوا عنقه على جيفته قَالَ: فكلمه عيسى بْن علي، وقال: والله ما أحسبه بلغ، فقلت: يا أمير المؤمنين، كنت غلاما حدثا غرا أمرني أبي فأطعته، قَالَ: فأمر بي فضربت خمسين سوطا، ثم حبسني في المطبق وفيه يومئذ يعقوب بْن داود، فكان خير رفيق أرافقه وأعطفه، يطعمني من طعامه، ويسقيني من شرابه، فلم نزل كذلك حتى توفي أبو جعفر، وقام المهدي وأخرج يعقوب، فكلمه في فأخرجني.
قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني محمد بْن خالد، قَالَ: أخبرني محمد بْن عروة بْن هشام بْن عروة، قَالَ: إني لعند أبي جعفر، إذ أتى فقيل له: هذا عثمان بْن محمد بْن خالد قد دخل به، فلما رآه أبو جعفر، قَالَ: أين المال الذي عندك؟ قَالَ: دفعته إلى أمير المؤمنين رحمه الله، قَالَ: ومن أمير المؤمنين؟ قَالَ: محمد بْن عبد الله، قَالَ: أبايعته؟ قَالَ: نعم كما بايعته، قال: يا بن اللخناء! قَالَ: ذاك من قامت عنه الإماء، قال: اضرب عنقه.
قال: فاخذ فضربت عنقه.
قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثنى محمد ابن عثمان بْن خالد الزبيري، قَالَ: لما خرج محمد خرج معه رجل من آل كثير بْن الصلت، فلما قتل وهزم أصحابه تغيبوا، فكان أبي والكثيري فيمن تغيب، فلبثوا بذلك، حتى قدم جعفر بْن سليمان واليا على المدينة، فاشتد في طلب أصحاب محمد، فاكترى أبي من الكثيري إبلا كانت له، فخرجنا متوجهين نحو البصرة، وبلغ الخبر جعفرا، فكتب إلى أخيه محمد يعلمه بتوجهنا إلى البصرة، ويأمره بالترصد لنا والتيقظ لأمرنا ومقدمنا، فلما قدمنا علم محمد بمقدمنا ومكاننا، فأرسل إلينا فأخذنا، فأتي بنا، فأقبل عليه أبي، فقال: يا هذا، اتق الله في كرينا هذا، فإنه أعرابي لا علم له بنا، إنما أكرانا ابتغاء الرزق، ولو علم بجريرتنا ما فعل، وأنت معرضه لأبي جعفر، وهو من قد علمت، فأنت قاتله ومتحمل مأثمه قَالَ: فوجم محمد طويلا، ثم قَالَ: هو والله أبو جعفر، والله ما أتعرض له، ثم حملنا جميعا فدخلنا على أبي جعفر، وليس عنده أحد يعرف الكثيري غير الحسن بْن زيد، فأقبل على الكثيري، فقال: يا عدو الله، أتكري عدو أمير المؤمنين، ثم تنقله من بلد إلى بلد، تواريه مرة وتظهره أخرى! قَالَ: يا أمير المؤمنين، وما علمي بخبره وجريرته وعداوته إياك! إنما اكربته جاهلا به، ولا أحسبه إلا رجلا من المسلمين، بريء الساحة، سليم الناحية، ولو علمت حاله لم أفعل قَالَ: وأكب الحسن بْن زيد ينظر إلى الأرض، لا يرفع رأسه قَالَ: فأوعد أبو جعفر الكثيري وتهدده، ثم أمر بإطلاقه، فخرج فتغيب، ثم أقبل على أبي، فقال: هيه يا عثمان! أنت الخارج على أمير المؤمنين، والمعين عليه! قَالَ: بايعت أنا وأنت رجلا بمكة، فوفيت ببيعتي وغدرت ببيعتك قَالَ: فأمر به فضربت عنقه.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: أتي أبو جعفر بعبد العزيز بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فنظر إليه فقال: إذا قتلت مثل هذا من قريش فمن أستبقي! ثم أطلقه، وأتي بعثمان بن محمد ابن خالد فقتله، وأطلق ناسا من القرشيين، فقال له عيسى بْن موسى: يا أمير المؤمنين، ما أشقى هذا بك من بينهم! فقال: ان هذا يدي.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: سمعت حسن بْن زيد يقول: غدوت يوما على أبي جعفر، فإذا هو قد أمر بعمل دكان، ثم أقام عليه خالدا.
وأتي بعلي بْن المطلب بْن عبد الله بْن حنطب، فأمر به فضرب خمسمائة سوط، ثم أتي بعبد العزيز بْن إبراهيم بْن عبد الله بْن مطيع فأمر به فجلد خمسمائة سوط، فما تحرك واحد منهما، فقال لي: هل رأيت أصبر من هذين قط! والله إنا لنؤتى بالذين قد قاسوا غلظ المعيشة وكدها، فما يصبرون هذا الصبر، وهؤلاء أهل الخفض والكن والنعمة، قلت: يا أمير المؤمنين، هؤلاء قومك أهل الشرف والقدر، قَالَ: فأعرض عني، وقال: أبيت إلا العصبية! ثم أعاد عبد العزيز بْن إبراهيم بعد ذلك ليضربه، فقال: يا أمير ، الله الله فينا! فو الله إني لمكب على وجهي منذ أربعين ليلة، ما صليت لله صلاة! قَالَ: أنتم صنعتم ذلك بأنفسكم، قَالَ: فأين العفو يا أمير المؤمنين؟
قَالَ: فالعفو والله إذا، ثم خلى سبيله.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كثروا محمدا وألحوا في القتال حتى قتل محمد في النصف من شهر رمضان سنة خمسة وأربعين ومائة، وحمل رأسه إلى عيسى بْن موسى، فدعا ابن أبي الكرام، فأراه إياه، فعرفه فسجد عيسى بْن موسى، ودخل المدينة، وآمن الناس كلهم وكان مكث محمد بْن عبد الله من حين ظهر إلى أن قتل شهرين وسبعة عشر يوما.
وفي هذه السنة: استخلف عيسى بْن موسى على المدينة كثير بْن حصين حين شخص عنها بعد مقتل محمد بْن عبد الله بْن حسن، فمكث واليا عليها شهرا، ثم قدم عبد الله بْن الربيع الحارثي واليا عليها من قبل أبي جعفر المنصور.
وفي هذه السنة ثارت السودان بالمدينة بعبد الله بْن الربيع، فهرب منهم
ذكر الخبر عن وثوب السودان بالمدينة في هذه السنة والسبب الذي هيج ذلك
ذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن يحيى حدثه، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: كان رياح بْن عثمان استعمل أبا بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة على صدقه اسد وطيّئ فلما خرج محمد أقبل إليه أبو بكر بما كان جبا وشمر معه، فلما استخلف عيسى كثير ابن حصين على المدينة أخذ أبا بكر، فضربه سبعين سوطا وحدده وحبسه.
ثم قدم عبد الله بْن الربيع واليا من قبل أبي جعفر يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة خمس وأربعين ومائة، فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم، فخرجت طائفة من التجار حتى جاءوا دار مروان، وفيها ابن الربيع، فشكوا ذلك إليه، فنهرهم وشتمهم، وطمع فيهم الجند، فتزايدوا في سوء الرأي.
قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: انتهب الجند شيئا من متاع السوق، وغدوا على رجل من الصرافين يدعى عثمان بْن زيد، فغالبوه على كيسه، فاستغاث فخلص، ماله منهم، فاجتمع رؤساء أهل المدينة فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فلم ينكره ولم يغيره، ثم جاء رجل من الجند فاشترى من جزار لحما يوم الجمعة، فأبى أن يعطيه ثمنه، وشهر عليه السيف، فخرج عليه الجزار من تحت الوضم بشفرة، فطعن بها خاصرته، فخر عن دابته، واعتوره الجزارون فقتلوه، وتنادى السودان عن الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد في كل ناحية، فلم يزالوا على ذلك حتى أمسوا، فلما كان الغد هرب ابن الربيع.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنى الحارث بْن إسحاق، قَالَ: نفخ السودان في بوق لهم، فذكر لي بعض من كان في العالية وبعض من كان في السافلة، أنه كان يرى الأسود من سكانهما في بعض عمله يسمع نفخ البوق، فيصغي له حتى يتيقنه ثم يوحش بما في يده، ويأتم الصوت حتى يأتيه قَالَ: وذلك يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائة، ورؤساء السودان ثلاثة نفر: وثيق ويعقل ورمقة قَالَ: فغدوا على ابن الربيع، والناس في الجمعة فأعجلوهم عن الصلاة، وخرج إليهم فاستطردوا له، حتى أتى السوق فمر بمساكين خمسة يسألون في طريق المسجد، فحمل عليهم بمن معه حتى قتلوهم، ثم مر بأصيبية على طنف دار، فظن أن القوم منهم، فاستنزلهم واختدعهم وآمنهم، فلما نزلوا ضرب أعناقهم، ثم مضى ووقف عند الحناطين، وحمل عليه السودان، فأجلى هاربا فاتبعوه حتى صار إلى البقيع، ورهقوه فنثر لهم دارهم، فشغلهم بها، ومضى على وجهه حتى نزل ببطن نخل، عن ليلتين من المدينة.
قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: خرج السودان على ابن الربيع، ورؤساؤهم: وثيق وحديا وعنقود وأبو قيس، فقاتلهم فهزموه، فخرج حتى أتى بطن نخل فأقام بها.
وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: لما هرب ابن الربيع وقع السودان في طعام لأبي جعفر من سويق ودقيق وزيت وقسب، فانتهبوه، فكان حمل الدقيق بدرهمين، وراوية زيت بأربعة دراهم.
وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: أغاروا على دار مروان ودار يزيد، وفيهما طعام كان حمل للجند في البحر، فلم يدعوا فيهما شيئا قَالَ: وشخص سليمان بْن فليح بْن سليمان في ذلك اليوم إلى أبي جعفر، فقدم عليه فأخبره الخبر.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: وقتل السودان نفرا من الجند، فهابهم الجند حتى إن كان الفارس ليلقى الأسود وما عليه إلا خرقتان على عورته ودراعة، فيوليه دبره احتقارا له، ثم لم ينشب أن يشد عليه بعمود من عمد السوق فيقتله: فكانوا يقولون: ما هؤلاء السودان إلا سحرة او شياطين! قال: وحدثنى عثامه بن عمرو السهمي، قَالَ: حدثني المسور بْن عبد الملك، قَالَ: لما حبس ابن الربيع أبا بكر بْن ابى سبره، وكان جاء بجباية طيّئ واسد، فدفعها الى محمد، اشفق القرشيون على ابن أبي سبرة، فلما خرج السودان على ابن الربيع، خرج ابن أبي سبرة من السجن، فخطب الناس، ودعاهم إلى الطاعة، وصلى بالناس حتى رجع ابن الربيع.
قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: خرج ابن أبي سبرة من السجن والحديد عليه، حتى أتى المسجد، فأرسل إلى محمد بْن عمران ومحمد بْن عبد العزيز وغيرهما، فاجتمعوا عنده، فقال: أنشدكم الله وهذه البليه التي وقعت! فو الله لئن تمت علينا عند أميرالمؤمنين بعد الفعلة الأولى، إنه لاصطلام البلد وأهله والعبيد في السوق بأجمعهم، فأنشدكم الله إلا ذهبتم إليهم فكلمتموهم في الرجعة والفيئة إلى رأيكم، فإنهم لا نظام لهم ولم يقوموا بدعوة، وإنما هم قوم أخرجتهم الحمية! قَالَ: فذهبوا إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحبا بكم يا موالينا، والله ما قمنا إلا أنفة لكم مما عمل بكم، فأيدينا مع أيديكم وأمرنا إليكم، فأقبلوا بهم إلى المسجد.
وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني الحسين بْن مصعب، قَالَ: لما خرج السودان وهرب ابن الربيع، جئتهم أنا وجماعة معي، وقد عسكروا في السوق، فسألناهم أن يتفرقوا.
وأخبرناهم أنا وإياهم لا نقوى على ما نصبوا له، قَالَ: فقال لنا وثيق: إن الأمر قد وقع بما ترون، وهو غير مبق لنا ولا لكم، فدعونا نشفكم ونشتف أنفسنا، فأبينا، ولم نزل بهم حتى تفرقوا وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: كان رئيسهم وثيق وخليفته يعقل الجزار.
قَالَ: فدخل عليه ابن عمران، قَالَ: إلى من تعهد يا وثيق؟ قَالَ: إلى أربعة من بني هاشم، وأربعة من قريش، وأربعة من الأنصار، وأربعة من الموالي، ثم الأمر شورى بينهم قَالَ: أسأل الله إن ولاك شيئا من أمرنا أن يرزقنا عدلك، قال: قد والله ولا نيه الله قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: حضر السودان المسجد مع ابن أبي سبرة، فرقي المنبر في كبل حديد حتى استوى في مجلس رسول الله.
صلى الله عليه وسلم، وتبعه محمد بْن عمران، فكان تحته، وتبعهم محمد بْن عبد العزيز فكان تحتهما، وتبعهم سليمان ابن عبد الله بْن أبي سبرة، فكان تحتهم جميعا، وجعل الناس يلغطون لغطا شديدا، وابن أبي سبرة جالس صامت فقال ابن عمران: أنا ذاهب إلى السوق، فانحدر وانحدر من دونه، وثبت ابن أبي سبرة، فتكلم فحث على طاعة أمير المؤمنين، وذكر أمر محمد بْن عبد الله فأبلغ.
ومضى ابن عمران إلى السوق، فقام على بلاس من بلس الحنظلة، فتكلم هناك، فتراجع الناس، ولم يصل بالناس يومئذ إلا المؤذن، فلما حضرت العشاء الآخرة وقد ثاب الناس، فاجتمع القرشيون في المقصورة، وأقام الصلاة محمد بْن عمار المؤذن، الذي يلقب كساكس، فقال للقرشيين: من يصلي بكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: ألا تسمعون! فلم يجيبوه، فقال: يا بن عمران، ويا بن فلان، فلم يجبه احد، فقام الأصبغ بن سفيان بن عاصم ابن عبد العزيز بْن مروان، فقال: أنا أصلي، فقام في المقام، فقال للناس: استووا، فلما استوت الصفوف أقبل عليهم بوجهه، ونادى بأعلى صوته: ألا تسمعون! أنا الأصبغ بْن سفيان بْن عاصم بْن عبد العزيز بْن مروان، أصلي بالناس على طاعة أبي جعفر، فردد ذلك مرتين أو ثلاثا، ثم كبر فصلى، فلما أصبح الناس قَالَ ابن أبي سبرة: إنه قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم، نهبتم ما في دار عاملكم وطعام جند أمير المؤمنين، فلا يبقين عند أحد منكم شيء إلا رده، فقد أقعدت لكم الحكم بْن عبد الله بْن المغيرة بْن موهب، فرفع الناس إليه ما انتهبوا، فقيل: إنه أصاب قيمة ألف دينار.
وحدثني عثامة بْن عمرو، قَالَ: حدثني المسور بْن عبد الملك، قَالَ: ائتمر القرشيون أن يدعوا ابن الربيع يخرج ثم يكلموه في استخلاف ابن أبي سبرة على المدينة، ليتحلل ما في نفس أمير المؤمنين عليه، فلما أخرجه السودان، قَالَ له ابن عبد العزيز: أتخرج بغير وال استخلف! ولها رجلا، قَالَ: من؟ قَالَ: قدامة بْن موسى، قَالَ: فصيح بقدامة، فدخل فجلس بين ابن الربيع وبين ابن عبد العزيز، فقال: ارجع يا قدامة، فقد وليتك المدينة وأعمالها، قَالَ: والله ما قَالَ لك هذا من نصحك، ولا نظر لمن وراءه، ولا أراد إلا الفساد، ولأحق بهذا مني ومنه من قام بأمر الناس وهو جالس في بيته- يعني ابن أبي سبرة- ارجع ايها الرجل، فو الله ما لك عذر في الخروج، فرجع ابن الربيع قَالَ وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ركب ابن عبد العزيز في نفر من قريش إلى ابن الربيع، فناشدوه وهو ببطن نخل إلا رجع إلى عمله، فتأبى قَالَ: فخلا به ابن عبد العزيز، فلم يزل به حتى رجع وسكن الناس وهدءوا.
قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: ركب إليه ابن عمران وغيره وقد نزل الأعوص، فكلموه فرجع، فقطع يد وثيق وابى النار ويعقل ومسعر.
ذكر الخبر عن بناء مدينه بغداد
وفي هذه السنة أسست مدينة بغداد، وهي التي تدعى مدينة المنصور.
ذكر الخبر عن سبب بناء أبي جعفر إياها:
وكان سبب ذلك أن أبا جعفر المنصور بنى- فيما ذكر- حين أفضى الأمر إليه الهاشمية، قبالة مدينة ابن هبيرة، بينهما عرض الطريق، وكانت مدينة ابن هبيرة التي بحيالها مدينة أبي جعفر الهاشمية إلى جانب الكوفة وبنى المنصور أيضا مدينة بظهر الكوفة سماها الرصافة، فلما ثارت الراوندية بأبي جعفر في مدينته التي تسمى الهاشمية، وهي التي بحيال مدينة ابن هبيرة، كره سكناها لاضطراب من اضطرب أمره عليه من الراوندية، مع قرب جواره من الكوفة، ولم يأمن أهلها على نفسه، فأراد أن يبعد من جوارهم، فذكر أنه خرج بنفسه يرتاد لها موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده، ويبتني به مدينة، فبدأ فانحدر إلى جرجرايا ثم صار إلى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إلى بغداد، فقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك فنزل وضرب عسكره على الصراة، وخط المدينة، ووكل بكل ربع قائدا.
وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن معروف بْن سويد حدثه، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مجالد، قَالَ: أفسد أهل الكوفة جند أمير المؤمنين المنصور عليه، فخرج نحو الجبل يرتاد منزلا، والطريق يومئذ على المدائن، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، فأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب: أين يريد أمير المؤمنين؟ قَالَ: يرتاد منزلا، قَالَ: فإنا نجد في كتاب عندنا، أن رجلا يدعى مقلاصا، يبني مدينة بين دجلة والصراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى عرقا منها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها، وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر عليه منه، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر عمرا طويلا، ويبقى الملك في عقبه قَالَ سليمان: فإن أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل، إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر فأخبرت به أمير المؤمنين، فدعا الرجل فحدثه الحديث، فكر راجعا عوده على بدئه، وقال: أنا والله ذاك! لقد سميت مقلاصا وأنا صبي، ثم انقطعت عني.
وذكر عن الهيثم بْن عدي، عن ابن عياش، قَالَ: لما أراد أبو جعفر الانتقال من الهاشمية بعث روادا يرتادون له موضعا ينزله واسطا، رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من بارما، وذكر له عنه غذاء طيب، فخرج إليه بنفسه حتى ينظر إليه، وبات فيه، وكرر نظره فيه، فرآه موضعا طيبا، فقال لجماعة من أصحابه، منهم سليمان بْن مجالد وأبو أيوب الخوزي وعبد الملك بْن حميد الكاتب وغيرهم: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: ما رأينا مثله، هو طيب صالح موافق، قَالَ: صدقتم، هو هكذا، ولكنه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وانما أريد موضعا يرتفق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي، ولا تغلو عليهم فيه الأسعار، ولا تشتد فيه المئونة، فإني إن أقمت في موضع لا يجلب إليه من البر والبحر شيء غلت الأسعار، وقلت المادة، واشتدت المئونة، وشق ذلك على الناس، وقد مررت في طريقي على موضع فيه مجتمعة هذه الخصال، فأنا نازل فيه، وبائت به، فإن اجتمع لي فيه ما أريد من طيب الليل والموافقة مع احتماله للجند والناس ابتنيه.
قَالَ الهيثم بْن عدي: فخبرت أنه أتى ناحية الجسر، فعبر في موضع قصر السلام، ثم صلى العصر- وكان في صيف، وكان في موضع القصر بيعة قس- ثم بات ليلة حتى أصبح، فبات أطيب مبيت في الأرض وأرفقه، وأقام يومه فلم ير إلا ما يحب، فقال: هذا موضع ابني فيه، فإنه تأتيه المادة من الفرات ودجلة وجماعة من الأنهار، ولا يحمل الجند والعامة إلا مثله، فخطها وقدر بناءها، ووضع أول لبنة بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، {ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] ثم قَالَ: ابنوا على بركة الله.
وذكر عن بشر بْن ميمون الشروي وسليمان بْن مجالد، أن المنصور لما رجع من ناحية الجبل، سأل عن خبر القائد الذي حدثه عن الطبيب الذي أخبره عما يجدون في كتبهم من خبر مقلاص، ونزل الدير الذي هو حذاء قصره المعروف بالخلد، فدعا بصاحب الدير، وأحضر البطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرم وصاحب الدير المعروف ببستان القس وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم، وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام؟ فأخبره كل واحد بما عنده من العلم، فوجه رجالا من قبله، وأمر كل واحد منهم أن يبيت في قرية منها، فبات كل رجل منهم في قرية منها، وأتاه بخبرها وشاور المنصور الذين أحضرهم، وتنحر أخبارهم، فاجتمع اختيارهم على صاحب بغداد، فأحضره وشاوره، وساءله- فهو الدهقان الذي قريته قائمة إلى اليوم في المربعة المعروفة بأبي العباس الفضل بْن سليمان الطوسي، وقباب القرية قائم بناؤها إلى اليوم، وداره ثابتة على حالها- فقال: يا أمير المؤمنين، سألتني عن هذه الأمكنة وطيبها وما يختار منها، فالذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج في الجانب الغربي طسوجين وهما قطربل وبادوريا، وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى، فأنت تكون بين نخل وقرب الماء، فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تأمرا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة، وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل فازداد المنصور عزما على النزول في الموضع الذي اختاره وقال له: يا أمير المؤمنين، ومع هذا فإن الله قد من على أمير المؤمنين بكثرة جيوشه وقواده وجنده، فليس أحد من أعدائه يطمع في الدنو منه، والتدبير في المدن أن تتخذ لها الأسوار والخنادق، والحصون، ودجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين.
وذكر عن ابراهيم بن عيسى ان حمادا التركي، قَالَ: بعث المنصور رجالا في سنة خمس وأربعين ومائة، يطلبون له موضعا يبني فيه مدينته، فطلبوا وارتادوا، فلم يرض موضعا، حتى جاء فنزل الدير على الصراة، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ومن هذه الصراة.
وذكر عن محمد بْن صالح بْن النطاح عن محمد بْن جابر، عن أبيه، قَالَ: لما أراد أبو جعفر أن يبني مدينته ببغداد رأى راهبا، فناداه فأجابه، فقال: تجدون في كتبكم أنه تبنى هاهنا مدينة؟ قَالَ الراهب: نعم، يبنيها مقلاص، قَالَ أبو جعفر: أنا كنت أدعى مقلاصا في حداثتي.
قَالَ: فأنت إذا صاحبها، قَالَ: وكذلك لما أراد أن يبني الرافقة بأرض الروم امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا، وتذهب بمعاشنا، وتضيق منازلنا، فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة، فقال: هل عندك علم أن يبنى هاهنا مدينة؟ فقال له: بلغني أن رجلا يقال له مقلاص يبنيها، قَالَ: أنا مقلاص، فبناها على بناء مدينة بغداد، سوى السور وأبواب الحديد وخندق منفرد.
وذكر عن السري، عن سليمان بْن مجالد، أن المنصور وجه في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة، فأحضروا، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بْن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بْن ثابت، وأمر بخط المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللبن وطبخ الآجر، فبدئ بذلك، وكان أول ما ابتدى به في عملها سنة خمس وأربعين ومائة.
وذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحب أن ينظر إليها عيانا، فأمر أن يخط بالرماد، ثم أقبل يدخل من كل باب، ويمر في فصلانها وطاقاتها ورحابها، وهي مخطوطة بالرماد، ودار عليهم ينظر إليهم وإلى ما خط من خنادقها، فلما فعل ذلك أمر أن يجعل على تلك الخطوط حب القطن، وينصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم، ثم ابتدئ في عملها.
وذكر عن حماد التركي أن المنصور بعث رجالا يطلبون له موضعا يبني فيه المدينة، فطلبوا ذلك في سنة أربع وأربعين ومائة، قبل خروج محمد بْن عبد الله بسنة أو نحوها، فوقع اختيارهم على موضع بغداد، قرية على شاطئ الصراة، مما يلي الخلد، وكان في موضع بناء الخلد دير، وكان في قرن الصراة مما يلي الخلد من الجانب الشرقي أيضا قرية ودير كبير كانت تسمى سوق البقر، وكانت القرية تسمى العتيقة، وهي التي افتتحها المثنى بْن حارثة الشيباني، قَالَ: وجاء المنصور، فنزل الدير الذي في موضع الخلد على الصراة، فوجده قليل البق، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ويصلح أن تبتنى فيه مدينة، فقال للراهب الذي في الدير:
يا راهب، أريد أن أبني هاهنا مدينة، فقال: لا يكون، إنما يبنى هاهنا ملك يقال له أبو الدوانيق، فضحك المنصور في نفسه، وقال: أنا أبو الدوانيق.
وأمر فخطت المدينة، ووكل بها أربعة قواد، كل قائد بربع.
وذكر عن سليمان بْن مجالد، أن المنصور أراد أبا حنيفه النعمان بْن ثابت على القضاء، فامتنع من ذلك، فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فولاه القيام ببناء المدينة وضرب اللبن وعده، وأخذ الرجال بالعمل قَالَ: وإنما فعل المنصور ذلك ليخرج من يمينه، قَالَ: وكان أبو حنيفة المتولي لذلك، حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة.
وذكر عن الهيثم بْن عدي، أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف ألا يقلع عنه حتى يعمل، فأخبر بذلك أبو حنيفة، فدعا بقصبة، فعد اللبن على رجل قد لبنه، وكان أبو حنيفة أول من عد اللبن بالقصب، فأخرج أبا جعفر عن يمينه، واعتل فمات ببغداد.
وقيل: إن أبا جعفر لما أمر بحفر الخندق وإنشاء البناء وإحكام الأساس، أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا، وقدر أعلاه عشرين ذراعا، وجعل في البناء جوائز قصب مكان الخشب، في كل طرقة، فلما بلغ الحائط مقدار قامة- وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة- أتاه خبر خروج محمد فقطع البناء.
وذكر عن أحمد بْن حميد بْن جبلة، قَالَ: حدثني أبي، عن جدي جبلة، قَالَ: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة للبغداديين، يقال لها المباركة، وكانت لستين نفسا منهم، فعوضهم منها وأرضاهم، فأخذ جدي قسمه منها.
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى بْن المنصور، أن حمادا التركي قَالَ: كان حول مدينة أبي جعفر قرى قبل بنائها، فكان إلى جانب باب الشام قرية يقال لها الخطابية، على باب درب النورة، إلى درب الأقفاص، وكان بعض نخلها في شارع باب الشام، إلى ايام المخلوع في الطريق، حتى قطع في أيام الفتنة، وكانت الخطابية هذه لقوم من الدهاقين، يقال لهم بنو فروة وبنو قنورا، منهم إسماعيل بْن دينار ويعقوب بْن سليمان وأصحابهم وذكر عن محمد بْن موسى بْن الفرات أن القرية التي في مربعة أبي العباس كانت قرية جده من قبل أمه، وأنهم من دهاقين يقال لهم بنو زراري، وكانت القرية تسمى الوردانية، وقرية أخرى قائمة إلى اليوم مما يلي مربعة أبي فروة.
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى أن المعروفة اليوم بدار سعيد الخطيب كانت قرية يقال لها شرفانية، ولها نخيل قائم إلى اليوم مما يلي قنطرة أبي الجون، وأبو الجون من دهاقين بغداد من أهل هذه القرية.
وذكر أن قطيعة الربيع كانت مزارع للناس من قرية يقال لها بناورى من رستاق الفروسيج من بادوريا.
وذكر عن محمد بْن موسى بْن الفرات، أنه سمع أباه أو جده- شك راوي ذلك عنه- يقول: دخل علي رجل من دهاقين بادوريا وهو مخرق الطيلسان، فقلت له: من خرق طيلسانك؟ قَالَ: خرق والله في زحمة الناس اليوم، في موضع طالما طردت فيه الأرانب والظباء- يريد باب الكرخ ويقال: إن قطيعة الربيع الخارجة إنما هي أقطاع المهدي للربيع، وأن المنصور إنما كان أقطعه الداخلة.
وقيل: إن نهر طابق كسروي، وإنه نهر بابك بْن بهرام بْن بابك، وأن بابك هذا هو الذي اتخذ العقر الذي عليه قصر عيسى بْن علي، واحتفر هذا النهر.
وذكر أن فرضة جعفر إقطاع من أبي جعفر لابنه جعفر، وأن القنطرة العتيقة من بناء الفرس.
وذكر عن حماد التركي، قَالَ: كان المنصور نازلا بالدير الذي على شاطئ دجلة بالموضع المعروف بالخلد، ونحن في يوم صائف شديد الحر في سنة خمس وأربعين ومائة، وقد خرجت فجلست مع الربيع وأصحابه، إذ جاء رجل، فجاوز الحرس إلى المقصورة، فاستأذن فأذنا المنصور به، وكان معه سلم بْن أبي سلم، فأذن له فخبره بخروج محمد، فقال المنصور: نكتب الساعة إلى مصر أن يقطع عن الحرمين المادة، ثم قَالَ: إنما هم في مثل حرجة، إذا انقطعت عنهم المادة والميرة من مصر قَالَ: وأمر بالكتاب إلى العباس بْن محمد- وكان على الجزيرة يخبره بخبر محمد- وقال: إني راحل ساعة كتبت إلى الكوفة، فأمدني في كل يوم بما قدرت عليه من الرجال من أهل الجزيرة وكتب بمثل ذلك إلى أمراء الشام، ولو أن يرد علي في كل يوم رجل واحد أكثر به من معي من أهل خراسان، فإنه إن بلغ الخبر الكذاب انكسر قَالَ: ثم نادى بالرحيل من ساعته، فخرجنا في حر شديد حتى قدم الكوفة، ثم لم يزل بها حتى انقضت الحرب بينه وبين محمد وإبراهيم، فلما فرغ منهما رجع إلى بغداد وذكر عن أحمد بْن ثابت، قَالَ: سمعت شيخا من قريش يحدث أن أبا جعفر لما فصل من بغداد، متوجها نحو الكوفة، وقد جاءه البريد بمخرج محمد بْن عبد الله بالمدينة، نظر إليه عثمان بْن عمارة بْن حريم وإسحاق بْن مسلم العقيلي وعبد الله بْن الربيع المداني- وكانوا من صحابته- وهو يسير على دابته وبنو أبيه حوله فقال عثمان: أظن محمدا خائبا ومن معه من أهل بيته، إن حشو ثياب هذا العباسي لمكر ونكر ودهاء، وإنه فيما نصب له محمد من الحرب لكما قَالَ ابن جذل الطعان:
فكم من غارة ورعيل خيل *** تداركها وقد حمي اللقاء
فرد مخيلها حتى ثناها *** بأسمر ما يرى فيه التواء
قَالَ: فقال إسحاق بْن مسلم: قد والله سبرته ولمست عوده فوجدته خشنا، وغمزته فوجدته صليبا، وذقته فوجدته مرا، وإنه ومن حوله من بني أبيه لكما قَالَ ربيعة بْن مكدم:
سما لي فرسان كأن وجوههم *** مصابيح تبدو في الظلام زواهر
يقودهم كبش أخو مصمئلة *** عبوس السري قد لوحته الهواجر
قَالَ: وقال عبد الله بْن الربيع: هو ليث خيس، ضيغم شموس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس، وانه يهيج من الحرب كما قَالَ أبو سفيان بْن الحارث:
وإن لنا شيخا إذا الحرب شمرت *** بديهته الإقدام قبل النوافر
قَالَ: فمضى حتى سار إلى قصر ابن هبيرة، فنزل الكوفة ووجه الجيوش، فلما انقضت الحرب، رجع الى بغداد فاستتم بناءها.
ذكر الخبر عن ظهور ابراهيم بن محمد ومقتله
وفي هذه السنة ظهر إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن، أخو محمد بْن عبد الله ابن حسن بالبصرة، فحارب أبا جعفر المنصور وفيها قتل أيضا.
ذكر الخبر عن سبب مخرجه وعن مقتله وكيف كان:
فذكر عن عبد الله بْن محمد بْن حفص، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما أخذ أبو جعفر عبد الله بْن حسن، أشفق محمد وإبراهيم من ذلك، فخرجا إلى عدن، فخافا بها، وركبا البحر حتى صار إلى السند فسعي بهما إلى عمر بْن حفص، فخرجا حتى قدما الكوفة وبها أبو جعفر.
وذكر عمر بْن شبة أن سعيد بْن نوح الضبعي، ابن ابنة أبي الساج الضبعى، حدثه قال: حدثتني منه بنت أبي المنهال، قالت: نزل إبراهيم في الحي من بني ضبيعة في دار الحارث بْن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكانت معه أم ولد له، فكنت أتحدث إليها، ولا ندري من هم، حتى ظهر فأتيتها، فقلت: إنك لصاحبتي؟ فقالت: أنا هي، لا والله ما أقرتنا الأرض منذ خمس سنين، مره بفارس، ومره بكرمان، ومرة بالحجاز، ومرة باليمن.
قَالَ عمر: حدثني أبو نعيم الفضل بْن دكين، قَالَ: حدثني مطهر ابن الحارث، قَالَ: أقبلنا مع إبراهيم من مكة نريد البصرة، ونحن عشرة، فصحبنا أعرابي في بعض الطريق، فقلنا له: ما اسمك؟ قَالَ: فلان بْن أبي مصاد الكلبي، فلم يفارقنا حتى قربنا من البصرة، فأقبل علي يوما، فقال: أليس هذا إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن؟ فقلت: لا، هذا رجل من أهل الشام، فلما كنا على ليلة من البصرة، تقدم إبراهيم وتخلفنا عنه، ثم دخلنا من غد.
قال عمر: وحدثنى أبو صفوان نصر بْن قديد بْن نصر بْن سيار، قَالَ: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، منصرف الناس من الحج، فكان الذي أقدمه وتولى كراءه وعادله في محمله يحيى بْن زياد ابن حسان النبطي، فأنزله في داره في بني ليث، واشترى له جارية أعجمية سندية، فأولدها ولدا في دار يحيى بْن زياد، فحدثني ابن قديد ابن نصر، أنه شهد جنازة ذلك المولود، وصلى عليه يحيى بْن زياد.
قَالَ: وحدثني محمد بْن معروف، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: نزل إبراهيم بالخيار من أرض الشام على آل القعقاع بْن خليد العبسي، فكتب الفضل بْن صالح بْن علي- وكان على قنسرين- إلى أبي جعفر في رقعة أدرجها في أسفل كتابه، يخبره خبر إبراهيم، وأنه طلبه فوجده قد سبقه منحدرا إلى البصرة، فورد الكتاب على أبي جعفر، فقرأ أوله فلم يجد إلا السلامة، فألقى الكتاب إلى أبي أيوب المورياني، فألقاه في ديوانه، فلما أرادوا أن يجيبوا الولاة عن كتبهم فتح أبان بْن صدقة- وهو يومئذ كاتب أبي أيوب- كتاب الفضل، لينظر في تأريخه، فأفضى إلى الرقعة، فلما رأى أولها: أخبر أمير المؤمنين، أعادها في الكتاب، وقام إلى أبي جعفر، فقرأ الكتاب، فأمر بإذكاء العيون ووضع المراصد والمسالح.
قَالَ: وحدثني الفضل بْن عبد الرحمن بْن الفضل، قَالَ: أخبرني أبي قَالَ: سمعت إبراهيم يقول: اضطرني الطلب بالموصل حتى جلست على موائد أبي جعفر، وذلك أنه قدمها يطلبني، فتحيرت، فلفظتني الأرض، فجعلت لا أجد مساغا، ووضع الطلب والمراصد، ودعا الناس إلى غدائه، فدخلت فيمن دخل، وأكلت فيمن أكل، ثم خرجت وقد كف الطلب.
قَالَ: وحدثني أبو نعيم الفضل بْن دكين، قَالَ: قَالَ رجل لمطهر بْن الحارث: مر إبراهيم بالكوفة ولقيته، قَالَ: لا والله ما دخلها قط، ولقد كان بالموصل، ثم مر بالأنبار، ثم ببغداد، ثم بالمدائن والنيل وواسط.
قَالَ: وحدثني نصر بْن قديد بْن نصر، قَالَ: كاتب إبراهيم قوما من أهل العسكر كانوا يتشيعون، فكتبوا يسألونه الخروج إليهم، ووعدوه الوثوب بأبي جعفر، فخرج حتى قدم عسكر أبي جعفر، وهو يومئذ نازل ببغداد في الدير، وقد خط بغداد، وأجمع على البناء، وكانت لأبي جعفر مرآة ينظر فيها، فيرى عدوه من صديقه قَالَ: فزعم زاعم أنه نظر فيها، فقال: يا مسيب، قد والله رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض عدو أعدى لي منه، فانظر ما أنت صانع! قَالَ: وحدثني عبد الله بْن محمد بْن البواب، قَالَ: أمر أبو جعفر ببناء قنطرة الصراة العتيقة، ثم خرج ينظر إليها، فوقعت عينه على إبراهيم، وخنس إبراهيم، فذهب في الناس، فأتي فاميا فلجأ إليه فأصعده غرفة له.
وجد أبو جعفر في طلبه، ووضع الرصد بكل مكان، فنشب إبراهيم بمكانه الذي هو به، وطلبه أبو جعفر أشد الطلب، وخفي عليه أمره.
قَالَ: وحدثني محمد بْن معروف، قَالَ: حدثني أبي- وحدثني نصر ابن قديد، قَالَ: حدثني أبي قَالَ، وحدثني عبد الله بْن محمد بْن البواب وكثير بْن النضر بْن كثير وعمرو بْن إدريس وابن أبي سفيان العمي، واتفقوا على جل الحديث، واختلفوا في بعضه- أن إبراهيم لما نشب وخاف الرصد كان معه رجل من بني العم- قَالَ عمر: فقال لي أبو صفوان، يدعى روح بْن ثقف، وقال لي ابن البواب: يكنى أبا عبد الله، وقال لي الآخرون: يقال له سفيان بْن حيان بْن موسى: قَالَ عمر: وهو جد العمي الذي حدثنى- قَالَ: قلت لإبراهيم: قد نزل ما ترى، ولا بد من التغرير والمخاطرة، قَالَ: فأنت وذاك! فأقبل إلى الربيع، فسأله الإذن، قَالَ: ومن أنت؟ قال: انا السفيان العمي، فأدخله على أبي جعفر، فلما رآه شتمه، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أني أتيتك نازعا تائبا، ولك عندي كل ما تحب إن أعطيتني ما أسألك، قَالَ: وما لي عندك؟ قَالَ: آتيك بابراهيم ابن عبد الله بْن حسن، إني قد بلوته وأهل بيته، فلم أجد فيهم خيرا، فما لي عندك إن فعلت؟ قَالَ: كل ما تسأل، فأين إبراهيم؟ قَالَ: قد دخل بغداد- أو هو داخلها عن قريب- قَالَ عمر: وقال لي أبو صفوان، قَالَ: هو بعبدسي، تركته في منزل خالد بْن نهيك، فاكتب لي جوازا ولغلام لي ولفرانق واحملني على البريد قَالَ عمر: وقال بعضهم: وجه معي جندا واكتب لي جوازا ولغلام لي آتيك به قَالَ: فكتب له جوازا، ودفع إليه جندا، وقال: هذه ألف دينار فاستعن بها، قال: لا حاجه لي فيها فيها كلها، فاخذ ثلاثمائة دينار، وأقبل بها حتى أتى إبراهيم وهو في بيت، عليه مدرعة صوف وعمامة- وقيل بل عليه قباء كأقبية العبيد- فصاح به: قم، فوثب كالفزع، فجعل يأمره وينهاه حتى أتى المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع إليه جوازه، فقال: أين غلامك؟ قَالَ: هذا، فلما نظر في وجهه، قَالَ: والله ما هذا غلامك، وإنه لإبراهيم بْن عبد الله بْن حسن، ولكن اذهب راشدا فأطلقهما وهرب.
قَالَ عمر: فقال بعضهم: ركبا البريد حتى صارا بعبدسي، ثم ركبا السفينة حتى قدما البصرة فاختفيا بها قَالَ: وقد قيل: إنه خرج من عند أبي جعفر حتى قدم البصرة، فجعل يأتي بهم الدار، لها بابان، فيقعد العشرة منهم على أحد البابين، ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرق الجند عن نفسه، وبقي وحده، فاختفى حتى بلغ الخبر سفيان بْن معاوية، فأرسل إليهم فجمعهم، وطلب العمي فأعجزه.
قَالَ عمر: وحدثني ابن عائشة، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: الذي احتال لإبراهيم حتى أنجاهما منه عمرو بْن شداد.
قَالَ عمر: وحدثني رجل من أهل المدائن، عن الحسن بْن عمرو بْن شداد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: مر بي إبراهيم بالمدائن مستخفيا، فأنزلته دارا لي على شاطئ دجلة، وسعي بي إلى عامل المدائن، فضربني مائة سوط، فلم أقرر له، فلما تركني أتيت إبراهيم فأخبرته فانحدر.
قَالَ: وحدثني العباس بْن سفيان بْن يحيى بْن زياد مولى الحجاج بْن يوسف- وكان يحيى بْن زياد ممن سبي من عسكر قطري بْن الفجاءة- قَالَ: لما ظهر إبراهيم كنت غلاما ابن خمس سنين، فسمعت أشياخنا يقولون: إنه مر منحدرا يريد البصرة من الشام، فخرج إليه عبد الرحيم بْن صفوان من موالي الحجاج، ممن سبي من عسكر قطري، قَالَ: فمشى معه حتى عبره المآصر، قَالَ: فأقبل بعض من رآه، فقال: رأيت عبد الرحيم مع رجل شاطر، محتجز بإزار مورد، في يده قوس جلاهق يرمي به، فلما رجع عبد الرحيم سئل عن ذلك فأنكره، فكان إبراهيم يتنكر بذلك.
قال: وحدثني نصر بْن قديد، قَالَ: لما قدم إبراهيم منصرفه من بغداد، نزل على أبي فروة في كندة فاختفى، وأرسل إلى الناس يندبهم للخروج.
قَالَ عمر: وحدثني علي بْن إسماعيل بْن صالح بْن ميثم الأهوازي، قَالَ: حدثني عبد الله بْن الحسن بْن حبيب، عن أبيه، قَالَ: كان إبراهيم مختفيا عندي على شاطئ دجيل، في ناحية مدينة الأهواز، وكان محمد ابن حصين يطلبه، فقال يوما: إن أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أن المنجمين يخبرونه أن إبراهيم بالأهواز نازل في جزيرة بين نهرين، فقد طلبته في الجزيرة حتى وثقت أنه ليس هناك- يعني بالجزيرة التي بين نهر الشاه جرد ودجيل- فقد اعتزمت أن أطلبه غدا في المدينة، لعل أمير المؤمنين يعني بين دجيل والمسرقان، قَالَ: فأتيت إبراهيم، فقلت له: أنت مطلوب غدا في هذه الناحية، قَالَ: فأقمت معه بقية يومي، فلما غشيني الليل، خرجت به حتى أنزلته في ادانى دشت أربك دون الكث، فرجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمدا أن يغدو لطلبه، فلم يفعل حتى تصرم النهار، وقربت الشمس تغرب، فخرجت حتى جئت إبراهيم، فأقبلت به حتى وافينا المدينة مع العشاء الآخرة ونحن على حمارين، فلما دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع، لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد، وجلس يبول، وطوتني الخيل، فلم يعرج علي منهم أحد، حتى صرت إلى ابن حصين، فقال لي: أبا محمد، من أين في مثل هذا الوقت؟ فقلت: تمسيت عند أهلي، قَالَ: ألا أرسل معك من يبلغك؟ قلت: لا، قد قربت من اهلى، فمضى يطلب، وتوجهت على سنني حتى انقطع آخر أصحابه، ثم كررت راجعا إلى إبراهيم، فالتمست حماره حتى وجدته، فركب، وانطلقنا حتى بتنا في أهلنا، فقال إبراهيم: تعلم والله لقد بلت البارحة دما، فأرسل من ينظر، فأتيت الموضع الذي بال فيه، فوجدته قد بال دما.
قَالَ: وحدثني الفضل بْن عبد الرحيم بْن سليمان بْن علي، قَالَ: قَالَ أبو جعفر: غمض علي أمر إبراهيم لما اشتملت عليه طفوف البصرة.
قَالَ: وحدثني محمد بْن مسعر بْن العلاء، قَالَ: لما قدم إبراهيم البصرة، دعا الناس، فأجابه موسى بْن عمر بْن موسى بْن عبد الله بْن خازم، ثم ذهب بإبراهيم إلى النضر بْن إسحاق بْن عبد الله بْن خازم مختفيا، فقال للنضر بْن إسحاق: هذا رسول إبراهيم، فكلمه إبراهيم ودعاه إلى الخروج، فقال له النضر: يا هذا، كيف أبايع صاحبك وقد عند جدي عبد الله بْن خازم عن جده علي بْن أبي طالب، وكان عليه فيمن خالفه، فقال له إبراهيم: دع سيرة الآباء عنك ومذاهبهم، فإنما هو الدين، وأنا أدعوك إلى حق قَالَ: إني والله ما ذكرت لك ما ذكرت إلا مازحا، وما ذاك الذي يمنعني من نصرة صاحبك، ولكني لا أرى القتال ولا أدين به.
قَالَ: وانصرف ابراهيم، وتخلف موسى، فقال: هذا والله إبراهيم نفسه، قَالَ: فبئس لعمر الله ما صنعت! لو كنت أعلمتني كلمته غير هذا الكلام!
قَالَ: وحدثني نصر بْن قديد، قَالَ: دعا إبراهيم الناس وهو في دار أبي فروة، فكان أول من بايعه نميلة بْن مرة وعفو الله بن سفيان وعبد الواحد ابن زياد وعمر بْن سلمة الهجيمي وعبيد الله بن يحيى بن حضين الرقاشي، وندبوا الناس له، فأجاب بعدهم فتيان من العرب، منهم المغيرة بْن الفزع وأشباه له، حتى ظنوا أنه قد أحصى ديوانه اربعه آلاف، وشهر امره، فقالوا: لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك من أتاك وهو مريح، فتحول ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم- رجل من أهل نيسابور.
قَالَ: وحدثني يونس بْن نجدة، قَالَ: كان إبراهيم نازلا في بني راسب على عبد الرحمن بْن حرب، فخرج من داره في جماعة من أصحابه، منهم عفو الله بْن سفيان وبرد بْن لبيد، أحد بني يشكر، والمضاء التغلبي والطهوي والمغيرة بْن الفزع ونميلة بْن مرة ويحيى بْن عمرو الهماني، فمروا على جفرة بني عقيل حتى خرجوا على الطفاوة، ثم مروا على دار كرزم ونافع إبليس، حتى دخلوا دار أبي مروان في مقبرة بني يشكر.
قَالَ: وحدثني ابن عفو الله بْن سفيان، قَالَ: سمعت أبي يقول: أتيت إبراهيم يوما وهو مرعوب، فأخبرني أن كتاب أخيه أتاه يخبره أنه قد ظهر، ويأمره بالخروج قَالَ: فوجم من ذلك واغتم له، فجعلت أسهل عليه الأمر وأقول: قد اجتمع لك امرك، معك المضاء والطهوى والمغيرة، وأنا وجماعة، فنخرج إلى السجن في الليل فنفتحه، فتصبح حين تصبح ومعك عالم من الناس، فطابت نفسه.
قَالَ: وحدثني سهل بْن عقيل بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما ظهر محمد أرسل أبو جعفر إلى جعفر بْن حنظلة البهراني- وكان ذا رأي- فقال: هات رأيك، قد ظهر محمد بالمدينة قَالَ: وجه الأجناد إلى البصرة قَالَ: انصرف حتى أرسل إليك فلما صار إبراهيم إلى البصرة، أرسل إليه، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، فقال: إياها خفت! بادره بالجنود، قَالَ: وكيف خفت البصرة؟ قَالَ: لأن محمدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة فوجه أبو جعفر ابني عقيل- قائدين من أهل خراسان من طيّئ- فقدما. وعلى البصرة سفيان بْن معاوية فأنزلهما.
قَالَ: وحدثني جواد بْن غالب بْن موسى مولى بني عجل، عن يحيى بْن بديل بْن يحيى بْن بديل، قَالَ: لما ظهر محمد، قَالَ أبو جعفر لأبي أيوب وعبد الملك بْن حميد: هل من رجل ذي رأي تعرفانه، نجمع رأيه على رأينا؟ قالا: بالكوفة بديل بْن يحيى- وقد كان أبو العباس يشاوره- فأرسل إليه، فأرسل إليه، فقال: إن محمدا قد ظهر بالمدينة، قَالَ: فاشحن الأهواز جندا، قَالَ: قد فهمت، ولكن الأهواز بابهم الذي يؤتون منه، قَالَ: فقبل أبو جعفر رأيه قَالَ: فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إلى بديل، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، قَالَ: فعاجله بالجند وأشغل الاهواز عنه.
وحدثني محمد بْن حفص الدمشقي، مولى قريش قَالَ: لما ظهر محمد شاور أبو جعفر شيخا من أهل الشام ذا رأي، فقال: وجه إلى البصرة أربعة آلاف من جند أهل الشام فلها عنه، وقال: خرف الشيخ، ثم أرسل إليه، فقال: قد ظهر إبراهيم بالبصرة، قَالَ: فوجه إليه جندا من أهل الشام، قَالَ: ويلك! ومن لي بهم! قَالَ: أكتب إلى عاملك عليها يحمل إليك في كل يوم عشرة على البريد، قَالَ: فكتب بذلك أبو جعفر إلى الشام.
قَالَ عمر بْن حفص: فإني لأذكر أبي يعطي الجند حينئذ، وأنا أمسك له المصباح، وهو يعطيهم ليلا، وأنا يومئذ غلام شاب.
قَالَ: وحدثني سهل بْن عقيل، قَالَ: أخبرني سلم بْن فرقد، قَالَ: لما أشار جعفر بْن حنظلة على أبي جعفر بحدر جند الشام إليه، كانوا يقدمون أرسالا، بعضهم على أثر بعض، وكان يريد أن يروع بهم أهل الكوفة، فإذا جنهم الليل في عسكره أمرهم فرجعوا منكبين عن الطريق، فإذا أصبحوا دخلوا، فلا يشك أهل الكوفة أنهم جند آخرون سوى الأولين.
حدثني عبد الحميد- وكان من خدم أبي العباس- قَالَ: كان محمد ابن يزيد من قواد أبي جعفر، وكان له دابة شهري كميت، فربما مر بنا ونحن بالكوفة وهو راكبه، قد ساوى رأسه رأسه، فوجهه أبو جعفر إلى البصرة، فلم يزل بها حتى خرج إبراهيم فأخذه فحبسه.
حدثني سعيد بْن نوح بْن مجالد الضبعي، قَالَ: وجه أبو جعفر مجالدا ومحمدا ابني يزيد بْن عمران من أهل أبيورد قائدين، فقدم مجالد قبل محمد، ثم قدم محمد في الليلة التي خرج فيها إبراهيم، فثبطهما سفيان وحبسهما عنده في دار الإمارة حتى ظهر إبراهيم فأخذهما، فقيدهما، ووجه أبو جعفر معهما قائدا من عبد القيس يدعى معمرا.
حدثني يونس بْن نجدة، قَالَ: قدم على سفيان مجالد بْن يزيد الضبعي من قبل أبي جعفر في الف وخمسمائة فارس وخمسمائة راجل.
حدثني سعيد بْن الحسن بْن تسنيم بْن الحواري بْن زياد بْن عمرو بْن الأشرف، قَالَ: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكرون أن أبا جعفر شاور في أمر إبراهيم، فقيل له: إن أهل الكوفة له شيعه، والكوفه قدر تفور، أنت طبقها، فاخرج حتى تنزلها ففعل.
حدثني مسلم الخصي مولى محمد بْن سليمان، قَالَ: كان أمر إبراهيم وأنا ابن بضع عشرة سنة، وأنا يومئذ لأبي جعفر، فأنزلنا الهاشمية بالكوفة ونزل هو بالرصافة في ظهر الكوفة، وكان جميع جنده الذين في عسكره نحوا من الف وخمسمائة، وكان المسيب بْن زهير على حرسه، فجزأ الجند ثلاثة اجزاء خمسمائة، خمسمائة، فكان يطوف الكوفة كلها في كل ليلة، وأمر مناديا فنادى: من أخذناه بعد عتمة فقد أحل بنفسه، فكان إذا أخذ رجلا بعد عتمة لفه في عباءة وحمله، فبيته عنده، فإذا أصبح سأل عنه، فإن علم براءته أطلقه، وإلا حبسه.
قَالَ: وحدثني أبو الحسن الحذاء، قَالَ أخذ أبو جعفر الناس بالسواد، فكنت أراهم يصبغون ثيابهم بالمداد.
وحدثني علي بْن الجعد، قَالَ: رأيت أهل الكوفة ايامئذ أخذوا بلبس الثياب السود حتى البقالين، إن أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس ثم يلبسه.
وحدثني جواد بْن غالب، قَالَ: حدثني العباس بْن سلم مولى قحطبة، قَالَ: كان أمير المؤمنين أبو جعفر إذا اتهم أحدا من أهل الكوفة بالميل إلى إبراهيم أمر أبي سلما بطلبه، فكان يمهل حتى إذا غسق الليل، وهدأ الناس، نصب سلما على منزل الرجل فطرقه في بيته حتى يخرجه فيقتله، ويأخذ خاتمه قَالَ أبو سهل جواد: فسمعت جميلا مولى محمد بْن أبي العباس يقول للعباس بْن سلم: والله لو لم يورثك أبوك إلا خواتيم من قتل من أهل الكوفة كنت أيسر الأبناء.
حدثني سهل بْن عقيل، قَالَ: حدثني سلم بْن فرقد حاجب سليمان بْن مجالد، قَالَ: كان لي بالكوفة صديق، فأتاني- فقال: أيا هذا، اعلم أن أهل الكوفة معدون للوثوب بصاحبكم، فإن قدرت على أن تبوئ أهلك مكانا حريزا فافعل، قَالَ: فأتيت سليمان بْن مجالد، فأخبرته الخبر، فأخبر أبا جعفر- ولأبي جعفر عين من أهل الكوفة من الصيارفة يدعى ابن مقرن- قَالَ: فأرسل إليه، فقال: ويحك! قد تحرك أهل الكوفة، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، أنا عذيرك منهم، قَالَ: فركن إلى قوله، وأضرب عنهم.
وحدثني يحيى بْن ميمون من أهل القادسية، قَالَ: سمعت عدة من أهل القادسية يذكرون أن رجلا من أهل خراسان، يكنى أبا الفضل، ويسمى فلان ابن معقل، ولى القادسية ليمنع اهل الكوفه إتيان إبراهيم، وكان الناس قد رصدوا في طريق البصرة، فكانوا يأتون القادسية ثم العذيب، ثم وادي السباع، ثم يعدلون ذات اليسار في البر، حتى يقدموا البصرة قَالَ: فخرج نفر من الكوفة اثنا عشر رجلا، حتى إذا كانوا بوادي السباع لقيهم رجل من موالي بني أسد، يسمى بكرا من أهل شراف دون واقصة بميلين من أهل المسجد الذي يدعى مسجد الموالي- فأتى ابن معقل فأخبره، فاتبعهم فأدركهم بخفان- وهي على أربعة فراسخ من القادسية- فقتلهم أجمعين.
حدثني إبراهيم بْن سلم، قَالَ: كان الفرافصة العجلي قد هم بالوثوب بالكوفة، فامتنع لمكان أبي جعفر ونزوله بها، وكان ابن ماعز الأسدي يبايع لإبراهيم فيها سرا.
حدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: سمعت إسماعيل بْن موسى البجلي وعيسى بْن النضر السمانين وغيرهما يخبرون أن غزوان كان لآل القعقاع بْن ضرار، فاشتراه أبو جعفر، فقال له يوما: يا أمير المؤمنين، هذه سفن منحدرة من الموصل فيها مبيضة تريد إبراهيم بالبصرة، قَالَ: فضم إليه جندا، فلقيهم بباحمشا بين بغداد والموصل فقتلهم اجمعين، وكانوا تجارا فيهم جماعة من العباد من أهل الخير وغيرهم، وفيهم رجل يدعى أبا العرفان من آل شعيب السمان، فجعل يقول: ويلك يا غزوان! ألست تعرفني! أنا أبو العرفان جارك، انما شخصت برقيق فبعتهم، فلم يقبل وقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى الكوفة، فنصبت ما بين دار إسحاق الأزرق إلى جانب دار عيسى بْن موسى إلى مدينة ابن هبيرة قَالَ أبو أحمد عبد الله بْن راشد: فأنا رأيتها منصوبة على كوم التراب.
قَالَ: وحدثنا أبو علي القداح، قَالَ: حدثني داود بْن سليمان ونيبخت وجماعة من القداحين، قالوا: كنا بالموصل، وبها حرب الراوندي رابطة في ألفين، لمكان الخوارج بالجزيرة، فأتاه كتاب أبي جعفر يأمره بالقفل إليه، فشخص، فلما كان بباحمشا اعترض له أهلها، وقالوا: لا ندعك تجوزنا لتنصر أبا جعفر على إبراهيم، فقال لهم: ويحكم! إني لا أريد بكم سوءا، إنما أنا مار، دعوني قالوا: لا والله لا تجوزنا أبدا، فقاتلهم فأبارهم وحمل منهم خمسمائة رأس، فقدم بها على أبي جعفر، وقص عليه قصتهم قَالَ أبو جعفر: هذا أول الفتح.
وحدثني خالد بْن خداش بْن عجلان مولى عمر بْن حفص، قَالَ: حدثني جماعة من أشياخنا أنهم شهدوا دفيف بْن راشد مولى بني يزيد بْن حاتم، أتى سفيان بْن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة، فقال: ادفع إلي فوارس آتك بإبراهيم أو برأسه قال او مالك عمل! اذهب إلى عملك قَالَ: فخرج دفيف من ليلته فلحق بيزيد بْن حاتم وهو بمصر.
وحدثني خالد بْن خداش، قَالَ: سمعت عدة من الأزد يحدثون عن جابر بْن حماد- وكان على شرطة سفيان- أنه قَالَ لسفيان قبل خروج إبراهيم بيوم: إني مررت في مقبرة بني يشكر، فصيحوا بي ورموني بالحجارة، فقال له: أما كان لك طريق!
وحدثني أبو عمر الحوضي حفص بْن عمر، قَالَ: مر عاقب صاحب شرط سفيان يوم الأحد قبل ظهور إبراهيم بيوم، في مقبرة بني يشكر، فقيل له: هذا إبراهيم يريد الخروج، فقال: كذبتم، ولم يعرج على ذلك! قَالَ أبو عمر الحوضي: جعل أصحاب إبراهيم ينادون سفيان وهو محصور: اذكر بيعتك في دار المخزوميين.
قَالَ أبو عمر: وحدثني محارب بْن نصر، قَالَ: مر سفيان بعد قتل إبراهيم في سفينة وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال: إن هذا لسفيان؟ قالوا: نعم، قَالَ: والله للعجب! كيف يفلتني ابن الفاعلة! قَالَ الحوضي: قَالَ سفيان لقائد من قواد إبراهيم: أقم عندي، فليس كل أصحابك يعلم ما كان بيني وبين إبراهيم.
قَالَ: وحدثني نصر بْن فرقد، قَالَ: كان كرزم السدوسي يغدو على سفيان بخبر إبراهيم ويروح، ويعلمه من يأتيه فلا يعرض له، ولا يتبع له أثرا وذكر أن سفيان بْن معاوية كان عامل المنصور أيامئذ على البصرة، وكان قد مالأ إبراهيم بْن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه.
اختلف في وقت قدوم إبراهيم البصرة فقال بعض: كان قدومه إياها أول يوم من شهر رمضان في سنة خمس وأربعين ومائة.
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: لما ظهر محمد بْن عبد الله بْن الحسن، وغلب على المدينة ومكة، وسلم عليه بالخلافة، وجه أخاه إبراهيم بْن عبد الله إلى البصرة، فدخلها في أول يوم من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، فغلب عليها، وبيض بها وبيض بها أهل البصرة معه، وخرج معه عيسى بن يونس ومعاذ بن معاذ بْن العوام وإسحاق بْن يوسف الأزرق ومعاوية بْن هشام، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، فلم يزل بالبصرة شهر رمضان وشوالا، فلما بلغه قتل أخيه محمد بْن عبد الله تأهب واستعد، وخرج يريد أبا جعفر بالكوفة.
وقد ذكرنا قول من قَالَ: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، غير أنه كان مقيما بها، مختفيا يدعو أهلها في السر إلى البيعة لأخيه محمد، فذكر سهل بْن عقيل، عن أبيه، أن سفيان كان يرسل إلى قائدين كانا قد ما عليه من عند أبي جعفر مددا له قبل ظهور إبراهيم، فيكونان عنده، فلما وعده ابراهيم بالخروج ارسل إليهما فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتى خرج، فأحاط به وبهما فاخذهم.
وحدثت عن محمد بْن معروف بْن سويد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ:
وجه أبو جعفر مجالدا ومحمدا ويزيد، قوادا ثلاثة كانوا إخوة قبل ظهور إبراهيم، فقدموا جندهم، فجعلوا يدخلون البصرة تترى، بعضهم على أثر بعض، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها فظهر.
وذكر نصر بْن قديد، أن إبراهيم خرج ليلة الاثنين لغرة شهر رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، فصار إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر رجلا فارسا، فيهم عبيد الله بْن يحيى بْن حصين الرقاشي قَالَ: وقدم تلك الليلة أبو حماد الأبرص مددا لسفيان في ألفي رجل، فنزل الرحبة إلى أن ينزلوا
فسار إبراهيم فكان أول شيء أصاب دواب أولئك الجند وأسلحتهم، وصلى بالناس الغداة في المسجد الجامع، وتحصن سفيان في الدار، ومعه فيها جماعة من بني أبيه، وأقبل الناس إلى إبراهيم من بين ناظر وناصر حتى كثروا، فلما رأى ذلك سفيان طلب الأمان، فأجيب إليه، فدس إلى إبراهيم مطهر بْن جويرية السدوسي، فأخذ لسفيان الأمان، وفتح الباب، ودخل إبراهيم الدار، فلما دخلها ألقي له حصير في مقدم الإيوان، فهبت ريح فقلبته ظهرا لبطن، فتطير الناس لذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطير، ثم جلس عليه مقلوبا والكراهة ترى في وجهه،
فلما دخل إبراهيم الدار خلى عن كل من كان فيها- فيما ذكر- غير سفيان بْن معاوية، فإنه حبسه في القصر وقيده قيدا خفيفا، فأراد إبراهيم- فيما ذكر- بذلك من فعله أن يري أبا جعفر أنه عنده محبوس، وبلغ جعفرا ومحمدا ابني سليمان بْن علي- وكانا بالبصرة يومئذ- مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فاقبلا- فيما قيل- في ستمائه من الرجالة والفرسان والناشبة يريدانه، فوجه إبراهيم إليهما المضاء بْن القاسم الجزري في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء ولحق محمدا رجل من أصحاب المضاء فطعنه في فخذه، ونادى مناد لإبراهيم: لا يتبع مدبر، ومضى هو بنفسه حتى وقف على باب زينب بنت سليمان، فنادى بالأمان لال سليمان، والا يعرض لهم أحد.
وذكر بكر بْن كثير، أن إبراهيم لما ظهر على جعفر ومحمد وأخذ البصره، وجد في بيت المال ستمائه ألف، فأمر بالاحتفاظ بها- وقيل إنه وجد في بيت المال الفى درهم- فقوي بذلك، وفرض لكل رجل خمسين خمسين، فلما غلب إبراهيم على البصرة وجه- فيما ذكر- إلى الأهواز رجلا يدعى الحسين ابن ثولاء، يدعوهم إلى البيعة، فخرج فأخذ بيعتهم، ثم رجع إلى إبراهيم.
فوجه إبراهيم المغيرة في خمسين رجلا، ثم اجتمع إلى المغيرة لما صار الى الاهواز تمام مائتي رجل وكان عامل الأهواز يومئذ من قبل ابى جعفر محمد ابن الحصين فلما بلغ ابن الحصين دنو المغيرة منه خرج إليه بمن معه، وهم- فيما قيل- أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز. بموضع يقال له دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز.
وقد قيل: إن المغيرة صار إلى الأهواز بعد شخوص إبراهيم عن البصرة إلى باخمري ذكر محمد بْن خالد المربعي، أن إبراهيم لما ظهر على البصرة ثم أراد الخروج إلى ناحية الكوفة، استخلف على البصرة نميلة بن مره العبشمى، وامر بتوجيه المغيرة بْن الفزع أحد بني بهدلة بْن عوف إلى الأهواز، وعليها يومئذ محمد بْن الحصين العبدي، ووجه إبراهيم إلى فارس عمرو بْن شداد عاملا عليها، فمر برام هرمز بيعقوب بْن الفضل وهو بها، فاستتبعه، فشخص معه حتى قدم فارس، وبها إسماعيل بْن علي بْن عبد الله عاملا عليها من قبل أبي جعفر، ومعه أخوه عبد الصمد بْن علي، فلما بلغ إسماعيل بْن علي وعبد الصمد إقبال عمرو بْن شداد ويعقوب بْن الفضل- وكانا بإصطخر- بادرا إلى دارابجرد، فتحصنا بها، فصارت فارس في يد عمرو بْن شداد ويعقوب بْن الفضل، فصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم.
وحدثت عن سليمان بْن أبي شيخ، قَالَ: لما ظهر إبراهيم بالبصرة، أقبل الحكم بْن أبي غيلان اليشكري في سبعة عشر ألفا حتى دخل واسطا، وبها هارون بْن حميد الإيادي من قبل أبي جعفر، فدخل هارون تنورا في القصر حتى أخرج منه، وأتى أهل واسط حفص بن عمر بن حفص بن عمر ابن عبد الرحمن بْن الحارث بْن هشام بْن المغيرة، فقالوا له: أنت أولى من هذا الهجيمي، فأخذها حفص، وخرج منها اليشكري، وولى حفص شرطه أبا مقرن الهجيمي.
وذكر عمر بْن عبد الغفار بْن عمرو الفقيمي، ابن أخي الفضل بْن عمرو الفقيمي، قَالَ: كان إبراهيم واجدا على هارون بْن سعد، لا يكلمه، فلما ظهر إبراهيم قدم هارون بْن سعد، فأتى سلم بْن أبي واصل، فقال له: أخبرني عن صاحبك، أما به إلينا حاجة في أمره هذا! قَالَ: بلى لعمر الله ثم قام فدخل على إبراهيم، فقال: هذا هارون بْن سعد قد جاءك، قَالَ: لا حاجة لي به، قَالَ: لا تفعل، في هارون تزهد، فلم يزل به حتى قبله، وأذن له فدخل عليه، فقال له هارون: استكفني أهم أمورك إليك، فاستكفاه واسطا، واستعمله عليها.
قَالَ سليمان بْن أبي شيخ: حدثني أبو الصعدي، قَالَ: أتانا هارون بْن سعد العجلي من أهل الكوفة، وقد وجهه إبراهيم من البصرة، وكان شيخا كبيرا، وكان أشهر من معه من أهل البصرة الطهوي، وكان معه ممن يشبه الطهوي في نجدته من أهل واسط عبد الرحيم الكلبي، وكان شجاعا، وكان ممن قدم به- أو قدم عليه- عبدويه كردام الخراساني وكان من فرسانهم صدقة بْن بكار، وكان منصور بْن جمهور يقول: إذا كان معي صدقة بْن بكار فما أبالي من لقيت! فوجه أبو جعفر إلى واسط لحرب هارون بْن سعد عامر بْن إسماعيل المسلي في خمسة آلاف في قول بعضهم، وقال بعضهم: في عشرين ألفا، وكانت بينهم وقعات.
وذكر عن ابن أبي الكرام، أنه قَالَ: قدمت على أبي جعفر برأس محمد، وعامر بْن إسماعيل بواسط محاصر هارون بْن سعد، وكانت الحرب بين أهل واسط وأصحاب أبي جعفر قبل شخوص إبراهيم من البصرة، فذكر سليمان بْن أبي شيخ، قَالَ: عسكر عامر بْن إسماعيل من وراء النيل، فكانت أول حرب جرت بينه وبين هارون، فضربه عبد سقاء وجرحه وصرعه وهو لا يعرفه، فأرسل إليه أبو جعفر بظبية فيها صمغ عربي، وقال: داو بها جراحتك، فالتقوا غير مرة، فقتل من أهل البصرة وأهل واسط خلق كثير، وكان هارون ينهاهم عن القتال، ويقول: لو لقي صاحبنا صاحبهم تبين لنا الأمر، فاستبقوا أنفسكم، فكانوا لا يفعلون فلما شخص إبراهيم إلى باخمري كف الفريقان من أهل واسط وعامر بْن إسماعيل، بعضهم عن بعض، وتوادعوا على ترك الحرب إلى أن يلتقي الفريقان، ثم يكونوا تبعا للغالب، فلما قتل إبراهيم أراد عامر بْن إسماعيل دخول واسط، فمانعه أهلها الدخول قَالَ سليمان: لما جاء قتل إبراهيم هرب هارون بْن سعد، وصالح أهل واسط عامر بْن إسماعيل على أن يؤمنهم، فلم يثق كثير منهم بأمانه، فخرجوا منها، ودخلها عامر بْن إسماعيل، وأقام بواسط فلم يهج أحدا.
وكان عامر- فيما ذكر- صالح أهل واسط على الا يقتل أحدا بواسط، فكانوا يقتلون كل من يجدونه من أهل واسط خارجا منها، ولما وقع الصلح بين أهل واسط وعامر بعد قتل إبراهيم هرب هارون بْن سعد إلى البصرة، فتوفي قبل أن يبلغها فيما ذكر.
وقيل إن هارون بْن سعد اختفى، فلم يزل مختفيا حتى ولي محمد بْن سليمان الكوفة، فأعطاه الأمان، واستدرجه حتى ظهر، وأمره أن يفرض لمائتين من أهل بيته، فهم أن يفعل، وركب إلى محمد، فلقيه ابن عم له، فقال له: أنت مخدوع، فرجع فتوارى حتى مات، وهدم محمد بْن سليمان داره.
قَالَ: ولم يزل إبراهيم مقيما بالبصرة بعد ظهوره بها، يفرق العمال في النواحي ويوجه الجيوش إلى البلدان، حتى أتاه نعي أخيه محمد، فذكر نصر بْن قديد، قَالَ: فرض إبراهيم فروضا بالبصرة، فلما كان قبل الفطر بثلاثة أيام، أتاه نعي أخيه محمد، فخرج بالناس إلى العيد، وهم يعرفون فيه الانكسار، وأخبر الناس بقتل محمد، فازدادوا في قتال أبي جعفر بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر، واستخلف نميلة على البصرة، وخلف ابنه حسنا معه.
قَالَ سعيد بْن هريم: حدثني أبي، قَالَ: قَالَ علي بْن داود: لقد نظرت إلى الموت في وجه إبراهيم حين خطبنا يوم الفطر، فانصرفت إلى أهلي فقلت:
قتل والله الرجل!
وذكر محمد بْن معروف، عن أبيه أن جعفرا ومحمدا ابني سليمان لما شخصا من البصرة، أرسلاه إلى أبي جعفر ليخبره خبر إبراهيم، قَالَ: فأخبرته خبرهما، فقال: والله ما أدري كيف أصنع! والله ما في عسكري إلا ألفا رجل، فرقت جندي، فمع المهدي بالري ثلاثون ألفا، ومع محمد بن الاشعث بأفريقية أربعون ألفا والباقون مع عيسى بْن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا.
وقال عبد الله بْن راشد: ما كان في عسكر أبي جعفر كثير أحد، ما هم إلا سودان وناس يسير، وكان يأمر بالحطب فيحزم ثم يوقد بالليل، فيراه الرائي فيحسب أن هناك ناسا، وما هي إلا نار تضرم، وليس عندها أحد.
قَالَ محمد بْن معروف بْن سويد: حدثني أبي، قَالَ: لما ورد الخبر على أبي جعفر، كتب إلى عيسى بْن موسى وهو بالمدينة: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل ودع كل ما أنت فيه، قَالَ: فلم ينشب أن قدم، فوجهه على الناس وكتب إلى سلم بْن قتيبة فقدم عليه من الري، فضمه الى جعفر ابن سليمان.
فذكر عن يوسف بْن قتيبة بْن مسلم، قَالَ: أخبرني أخي سلم بْن قتيبة ابن مسلم، قَالَ: لما دخلت على أبي جعفر قَالَ لي: اخرج، فإنه قد خرج ابنا عبد الله، فاعمد لإبراهيم ولا يرو عنك جمعه، فو الله إنهما جملا بني هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك.
قال: فو الله ما هو إلا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكر مقالته فأعجب.
قَالَ سعيد بْن سلم: فاستعمله على ميسرة الناس، وضم إليه بشار بن سلم العقيلي وأبا يحيى بن خريم وأبا هراسة سنان بْن مخيس القشيري، وكتب سلم إلى البصرة فلحقت به باهلة، عربها ومواليها، وكتب المنصور إلى المهدي وهو يومئذ بالري يأمره بتوجيه خازم بْن خزيمة إلى الأهواز، فوجهه المهدي- فيما ذكر- في أربعة آلاف من الجند، فصار إليها، وحارب بها المغيرة، فانصرف إلى البصرة، ودخل خازم الأهواز، فأباحها ثلاثا.
وذكر عن الفضل بْن العباس بْن موسى وعمر بْن ماهان، أنهما سمعا السندي يقول: كنت وصيفا أيام حرب محمد، أقوم على رأس المنصور بالمذبة، فرأيته لما كثف أمر إبراهيم وغلظ، أقام على مصلى نيفا وخمسين ليلة، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها وما تحت لحيته منها، فما غير الجبة، ولا هجر المصلى حتى فتح الله عليه، إلا أنه كان إذا ظهر للناس علا الجبة بالسواد، وقعد على فراشه، فإذا بطن عاد إلى هيئته قَالَ: فأتته ريسانة في تلك الأيام، وقد أهديت له امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بْن عيسى بْن طلحة بْن عبيد الله والأخرى أمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بْن أسيد بْن أبي العيص، فلم ينظر إليهما، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما، وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك لهما، فنهرها، وقال: ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي أم رأسي لإبراهيم! وذكر أن محمدا وجعفر ابني سليمان كتبا إلى أبي جعفر يعلمانه بعد خروجهما من البصرة الخبر في قطعة جراب، ولم يقدرا على شيء يكتبان فيه غير ذلك، فلما وصل الكتاب إليه، فرأى قطعة جراب بيد الرسول، قَالَ: خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم، ثم قرأ الكتاب، ودعا بعبد الرحمن الختلي وبأبي يعقوب ختن مالك بْن الهيثم، فوجههما في خيل كثيفة إليهما، وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما، وأن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما، وكتب إليهما يعجزهما ويضعفهما ويوبخهما على طمع إبراهيم في الخروج الى مصر هما فيه، واستتار خبره عنهما، حتى ظهر وكتب في آخر كتابه:
أبلغ بني هاشم عني مغلغلة *** فاستيقظوا إن هذا فعل نوام
تعدو الذئاب على من لا كلاب له *** وتتقي مربض المستنفر الحامي
وذكر عن جعفر بْن ربيعة العامري عن الحجاج بْن قتيبة بْن مسلم، قَالَ:
دخلت على المنصور أيام حرب محمد وإبراهيم، وقد جاءه فتق البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد، وهو ينكت الأرض بمخصرته ويتمثل:
ونصبت نفسي للرماح درية *** إن الرئيس لمثل ذاك فعول
قَالَ: فقلت: يا امير المؤمنين، ادام أعزازك ونصرك على عدوك! أنت كما قَالَ الأعشى:
وإن حربهم أوقدت بينهم *** فحرت لهم بعد ابرادها
وجدت صبورا على حرها *** وكر الحروب وتردادها
فقال: يا حجاج، إن إبراهيم قد عرف وعورة جانبي وصعوبة ناحيتي، وخشونة قرني، وإنما جرأه على المسير إلي من البصرة اجتماع هذه الكور المطلة على عسكر أمير المؤمنين وأهل السواد معه على الخلاف والمعصية، وقد رميت كل كوره بحجرها وكل ناحية بسهمها، ووجهت إليهم الشهم النجد الميمون المظفر عيسى بْن موسى، في كثرة من العدد والعدة، واستعنت بالله عليه، واستكفيته إياه، فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.
قَالَ جعفر بْن ربيعة: قَالَ الحجاج بْن قتيبة: لقد دخلت على أمير المؤمنين المنصور في ذلك اليوم مسلما، وما أظنه يقدر على رد السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه والعساكر المحيطة به ولمائه ألف سيف كامنه له بالكوفة بإزاء عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون، فوجدته صقرا أحوزيا مشمرا، قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ويمرسها، فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنه لكما قَالَ الأول:
نفس عصام سودت عصاما *** وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما
وذكر أبو عبيدة أنه كان عند يونس الجرمي، وقد وجه محمد بْن عبد الله أخاه لحرب أبي جعفر، فقال يونس: قدم هذا يريد أن يزيل ملكا، فألهته ابنة عمر بْن سلمة عما حاوله، ولقد اهديت التيميه إلى أبي جعفر في تلك الأيام، فتركها بمزجر الكلب، فما نظر إليها حتى انقضى أمر إبراهيم.
وكان إبراهيم تزوج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بْن سلمة، فكانت تأتيه في مصبغاتها وألوان ثيابها فلما أراد إبراهيم الشخوص نحو أبي جعفر، دخل- فيما ذكر بشر بْن سلم- عليه نميله الطهوى وجماعة من قواده من أهل البصرة، فقالوا له: أصلحك الله! إنك قد ظهرت على البصرة والأهواز وفارس وواسط، فأقم بمكانك، ووجه الأجناد، فإن هزم لك جند أمددتهم بجند، وإن هزم لك قائد أمددته بقائد، فخيف مكانك، واتقاك عدوك، وجبيت الأموال، وثبتت وطأتك، ثم رأيك بعد فقال الكوفيون: أصلحك الله! إن بالكوفة رجالا لو قد رأوك ماتوا دونك، وإلا يروك تقعد بهم أسباب شتى فلا يأتونك، فلم يزالوا به حتى شخص.
وذكر عن عبد الله بْن جعفر المديني، قَالَ: خرجنا مع إبراهيم إلى باخمري، فلما عسكرنا أتانا ليلة من الليالي، فقال: انطلق بنا نطف في عسكرنا قَالَ: فسمع أصوات طنابير وغناء فرجع، ثم أتاني ليلة أخرى فقال: انطلق بنا، فانطلقت معه، فسمع مثل ذلك فرجع وقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا.
وذكر عن عفان بْن مسلم الصفار، قَالَ: لما عسكر إبراهيم افترض معه رجال من جيراننا، فأتيت معسكره، فحزرت أن معه أقل من عشرة آلاف.
فأما داود بْن جعفر بْن سليمان، فإنه قَالَ: أحصي في ديوان إبراهيم من أهل البصرة مائة ألف ووجه أبو جعفر عيسى بْن موسى- فيما ذكر إبراهيم بْن موسى بْن عيسى- في خمسة عشر ألفا، وجعل على مقدمته حميد بْن قحطبة على ثلاثة آلاف فلما شخص عيسى بْن موسى نحو إبراهيم سار معه- فيما ذكر- أبو جعفر حتى بلغ نهر البصريين، ثم رجع أبو جعفر، وسار إبراهيم من معسكره بالماخور من خريبة البصرة نحو الكوفة.
فذكر بعض بني تيم الله عن أوس بْن مهلهل القطعي، قَالَ: مر بنا إبراهيم في طريقه ذلك، ومنزلنا بالقباب التي تدعى قباب أوس، فخرجت أتلقاه مع أبي وعمي، فانتهينا إليه وهو على برذون له يرتاد منزلا من الأرض، قَالَ: فسمعته يتمثل أبياتا للقطامي:
امور لو تدبرها حليم *** إذا لنهى وهيب ما استطاعا
ومعصية الشفيق عليك مما *** يزيدك مره منه استماعا
وخبر الأمر ما استقبلت منه *** وليس بأن تتبعه اتباعا
ولكن الأديم إذا تفرى *** بلى وتعيبا غلب الصناعا
فقلت للذي معي: إني لأسمع كلام رجل نادم على مسيره ثم سار فلما بلغ كرخثا قَالَ له- فيما ذكر عن سليمان بْن أبي شيخ عن عبد الواحد بْن زياد بْن لبيد- إن هذه بلاد قومي، وأنا أعلم بها، فلا تقصد قصد عيسى بْن موسى، وهذه العساكر التي وجهت إليك، ولكني أسلك بك إن تركتني طريقا لا يشعر بك أبو جعفر إلا وأنت معه بالكوفة فأبى عليه قَالَ: فإنا معشر ربيعة أصحاب بيات، فدعني أبيت أصحاب عيسى بياتا، قَالَ: إني أكره البيات.
وذكر عن سعيد بْن هريم أن أباه أخبره، قَالَ: قلت لإبراهيم: إنك غير ظاهر على هذا الرجل حتى تأخذ الكوفة، فإن صارت لك مع تحصنه بها لم تقم له بعدها قائمة، ولي بعد بها أهيل، فدعني اسر إليها مختفيا فادعو إليك في السر ثم أجهر، فإنهم إن سمعوا داعيا إليك أجابوه، وإن سمع أبو جعفر الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان قال: فاقبل على بشير الرحال، فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ قَالَ: إنا لو وثقنا بالذي تصف لكان رأيا، ولكنا لا نأمن أن تجيبك منهم طائفة، فيرسل إليهم أبو جعفر خيلا فيطأ البريء والنطف والصغير والكبير، فتكون قد تعرضت لمأثم ذلك، ولم تبلغ منه ما أملت فقلت لبشير: أخرجت حين خرجت لقتال أبي جعفر وأصحابه، وأنت تتوقى قتل الضعيف والصغير والمرأة والرجل، أو ليس قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه السرية فيقاتل فيكون في ذلك نحو ما كرهت! فقال: إن أولئك كانوا مشركين كلهم، وهؤلاء أهل ملتنا ودعوتنا وقبلتنا، حكمهم غير حكم أولئك، فاتبع إبراهيم رأيه ولم يأذن له، وسار إبراهيم حتى نزل باخمري.
وذكر خالد بْن أسيد الباهلي أنه لما نزلها أرسل إليه سلم بن قتيبة حكيم ابن عبد الكريم: إنك قد أصحرت، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه.
قَالَ: فدعا إبراهيم أصحابه، فعرض ذلك عليهم، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم! لا والله لا نفعل قَالَ: فنأتيه؟ قالوا: ولم وهو في أيدينا متى أردناه! فقال إبراهيم لحكيم: قد تسمع، فارجع راشدا.
فذكر إبراهيم بْن سلم أن أخاه حدثه عن أبيه، قَالَ: لما التقينا صف لهم أصحابنا، فخرجت من صفهم، فقلت لإبراهيم: إن الصف إذا انهزم بعضه تداعى، فلم يكن لهم نظام، فاجعلهم كراديس، فإن انهزم كردوس ثبت كردوس، فتنادوا: لا، إلا قتال أهل الإسلام يريدون قوله تعالى: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف: 4].
وذكر يحيى بْن شكر مولى محمد بْن سليمان، قَالَ: قَالَ المضاء: لما نزلنا باخمري أتيت إبراهيم فقلت له: إن هؤلاء القوم مصبحوك بما يسد عليك مغرب الشمس من السلاح والكراع، وإنما معك رجال عراة من اهل البصره، فدعني ابيته، فو الله لأشتتن جموعه، فقال: إني أكره القتل، فقلت: تريد الملك وتكره القتل!
وَحَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: لما بلغ إبراهيم قتل أخيه محمد بْن عبد الله، خرج يريد أبا جعفر المنصور بالكوفة، فكتب أبو جعفر إلى عيسى بْن موسى يعلمه ذلك، ويأمره أن يقبل إليه، فوافاه رسول أبي جعفر وكتابه- وقد أحرم بعمرة- فرفضها، وأقبل إلى أبي جعفر، فوجهه في القواد والجند والسلاح إلى إبراهيم بْن عبد الله وأقبل إبراهيم ومعه جماعة كثيرة من أفناء الناس، اكثر من جماعه عيسى ابن موسى، فالتقوا بباخمري- وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة- فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وانهزم حميد بْن قحطبة- وكان على مقدمة عيسى بْن موسى- وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى بن موسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه، ومروا منهزمين.
وأقبل حميد بْن قحطبة منهزما، فقال له عيسى بْن موسى: يا حميد، الله الله والطاعة! فقال: لا طاعة في الهزيمة ومر الناس كلهم حتى لم يبق منهم أحد بين يدي عيسى بْن موسى، وعسكر إبراهيم بْن عبد الله، فثبت عيسى بْن موسى في مكانه الذي كان فيه لا يزول، وهو في مائة رجل من خاصته وحشمه، فقيل له: أصلح الله الأمير! لو تنحيت عن هذا المكان حتى يثوب إليك الناس فتكر بهم! فقال: لا أزول عن مكاني هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدي، ولا يقال: انهزم.
وذكر عبد الرحيم بْن جعفر بْن سليمان بْن علي أن إسحاق بْن عيسى بْن علي حدثه أنه سمع عيسى بْن موسى يحدث أباه أنه قَالَ: لما أراد أمير المؤمنين توجيهي إلى إبراهيم، قَالَ: إن هؤلاء الخبثاء- يعني المنجمين- يزعمون أنك لاق الرجل، وأن لك جولة حين تلقاه، ثم يفيء إليك أصحابك، وتكون العاقبة لك قال: فو الله لكان كما قَالَ، ما هو إلا أن التقينا فهزمونا، فلقد رأيتني وما معي إلا ثلاثة أو أربعة، فأقبل علي مولى لي- كان ممسكا بلجام دابتي- فقال: جعلت فداك! علام تقيم وقد ذهب أصحابك! فقلت: لا والله، لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي ابدا وقد انهزمت عن عدوهم.
قال: فو الله لكان أكثر ما عندي أن جعلت أقول لمن مر بي ممن أعرف من المنهزمين: اقرئوا أهل بيتي مني السلام، وقولوا لهم: إني لم أجد فداء أفديكم به أعز علي من نفسي، وقد بذلتها دونكم.
قال: فو الله إنا لعلى ذلك والناس منهزمون ما يلوي أحد على أحد وصمد ابنا سليمان: جعفر ومحمد لإبراهيم، فخرجا عليه من ورائه، ولا يشعر من باعقابنا من أصحاب إبراهيم، حتى نظر بعضهم إلى بعض، وإذا القتال من ورائهم، فكروا نحوه، وعقبنا في آثارهم راجعين، فكانت إياها قال: فسمعت عيسى بن موسى يومئذ يقول لأبي: فو الله يا أبا العباس، لولا ابنا سليمان يومئذ لافتضحنا، وكان من صنع الله أن أصحابنا لما انهزموا يومئذ اعترض لهم نهر ذو ثنيتين مرتفعتين، فحالتا بينهم وبين الوثوب، ولم يجدوا مخاضة، فكروا راجعين بأجمعهم.
فذكر عن محمد بْن إسحاق بْن مهران، أنه قَالَ: كان بباخمري ناس من آل طلحة فمخروها على إبراهيم وأصحابه، وبثقوا الماء، فأصبح أهل عسكره مرتطمين في الماء وقد زعم بعضهم أن إبراهيم هو الذي مخر ليكون قتاله من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، فلما انهزم أصحاب إبراهيم ثبت إبراهيم وثبت معه جماعة من أصحابه يقاتلون دونه، اختلف في مبلغ عددهم، فقال بعضهم: كانوا خمسمائة، وقال بعضهم: كانوا أربعمائة، وقال بعضهم: بل كانوا سبعين.
فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: لما انهزم أصحاب عيسى بْن موسى وثبت عيسى مكانه، أقبل إبراهيم بْن عبد الله في عسكره يدنو ويدنو غبار عسكره، حتى يراه عيسى ومن معه، فبينا هم على ذلك إذا فارس قد أقبل وكر راجعا يجري نحو إبراهيم، لا يعرج على شيء، فإذا هو حميد بْن قحطبة قد غير لأمته، وعصب رأسه بعصابة صفراء، فكر الناس يتبعونه حتى لم يبق أحد ممن كان انهزم إلا كر راجعا، حتى خالطوا القوم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى قتل الفريقان بعضهم بعضا، وجعل حميد بْن قحطبة يرسل بالرءوس إلى عيسى بْن موسى إلى أن أتي برأس ومعه جماعة كثيرة وضجة وصياح، فقالوا: رأس إبراهيم بْن عبد الله، فدعا عيسى ابن موسى بْن أبي الكرام الجعفري، فأراه إياه، فقال: ليس هذا، وجعلوا يقتتلون يومهم ذلك، إلى أن جاء سهم عائر لا يدرى من رمى به، فوقع في حلق إبراهيم بْن عبد الله فنحره، فتنحى عن موقفه، فقال: انزلونى، فانزلوه عن مركبه، وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38] ، أردنا أمرا وأراد الله غيره، فأنزل إلى الأرض وهو مثخن، واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، ورأى حميد بْن قحطبة اجتماعهم، فأنكرهم فقال لأصحابه: شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدوا عليهم، فقاتلوهم أشد القتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم، وخلصوا إليه فحزوا رأسه، فأتوا به عيسى بْن موسى، فأراه ابن أبي الكرام الجعفري، فقال: نعم، هذا رأسه، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى أبي جعفر المنصور، وكان قتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة وكان يوم قتل ابن ثمان وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وذكر عبد الحميد أنه سأل أبا صلابة: كيف قتل إبراهيم؟ قَالَ: إني لأنظر إليه واقفا على دابة ينظر إلى أصحاب عيسى قد ولوا ومنحوه أكتافهم، ونكص عيسى بدابته القهقرى وأصحابه يقتلونهم، وعليه قباء زرد، فآذاه الحر، فحل أزرار قبائه، فشال الزرد حتى سال عن ثدييه، وحسر عن لبته، فأتته نشابة عائرة، فأصابته في لبته، فرأيته اعتنق فرسه، وكر راجعا، وأطافت به الزيدية.
وذكر إبراهيم بْن محمد بْن أبي الكرام، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما انهزم أصحاب عيسى تبعتهم رايات إبراهيم في آثارهم، فنادى منادي إبراهيم: ألا لا تتبعوا مدبرا، فكرت الرايات راجعة، ورآها أصحاب عيسى فخالوهم انهزموا، فكروا في آثارهم، فكانت الهزيمة.
وذكر أن أبا جعفر لما بلغته جولة أصحاب عيسى عزم على الرحيل إلى الري، فذكر سلم بْن فرقد حاجب سليمان بْن مجالد، أنه قَالَ: لما التقوا هزم أصحاب عيسى هزيمة قبيحة حتى دخل أوائلهم الكوفة، فأتاني صديق لي كوفي، فقال: أيها الرجل، تعلم والله لقد دخل أصحابك الكوفة، فهذا أخو أبي هريرة في دار فلان، وهذا فلان في دار فلان، فانظر لنفسك وأهلك ومالك، قَالَ: فأخبرت بذلك سليمان بْن مجالد، فأخبر به أبا جعفر، فقال: لا تكشفن من هذا شيئا ولا تلتفتن إليه، فإني لا آمن أن يهجم علي ما أكره، وأعدد على كل باب من أبواب المدينة إبلا ودواب، فإن أتينا من ناحية صرنا الى الناحية الأخرى فقيل لسلم: إلى أين أراد أبو جعفر؟ يذهب إن دهمه أمر.
قَالَ: كان عزم على إتيان الري، فبلغني أن نيبخت المنجم دخل على أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وسيقتل إبراهيم، فلم يقبل ذلك منه، فقال له: احبسني عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت لك فاقتلني، فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثل ببيت معقر بْن أوس ابن حمار البارقي:
فألقت عصاها واستقرت بِهَا النوى *** كما قر عينا بالإياب المسافر
فأقطع أبو جعفر نيبخت ألفي جريب بنهر جوبر، فذكر ابو نعيم الفضل ابن دكين أن أبا جعفر لما أصبح من الليلة التي أتي فيها برأس إبراهيم- وذلك ليلة الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة- أمر برأسه فنصب رأسه في السوق.
وذكر أن أبا جعفر لما أتي برأسه فوضع بين يديه بكى حتى قطرت دموعه على خد إبراهيم، ثم قَالَ: أما والله إن كنت لهذا لكارها، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك.
وذكر عن صالح مولى المنصور أن المنصور لما أتي برأس إبراهيم بْن عبد الله وضعه بين يديه، وجلس مجلسا عاما، وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيسلم ويتناول إبراهيم فيسيء القول فيه، ويذكر منه القبيح، التماسا لرضا أبي جعفر، وأبو جعفر ممسك متغير لونه، حتى دخل جعفر بْن حنظلة البهراني، فوقف فسلم، ثم قَالَ: عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك، وغفر له ما فرط فيه من حقك! فاصفر لون أبي جعفر وأقبل عليه، فقال: أبا خالد، مرحبا وأهلا هاهنا! فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قَالَ جعفر بْن حنظلة.
وفي هذه السنة خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.
وحج بالناس في هذه السنة السري بْن عبد الله بْن الحارث بْن العباس بْن عبد المطلب وكان عامل أبي جعفر على مكة.
وكان والي المدينة في هذه السنة عبد الله بْن الربيع الحارثي، ووالي الكوفة وأراضيها عيسى بْن موسى، ووالي البصرة سلم بْن قتيبة الباهلي وكان على قضائها عباد بْن منصور، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.