فمن ذلك مقتل عبد الله بن الزبير
ذكر الخبر عن صفة ذَلِكَ: …
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر.
قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن عبيد الله بن القبطية، قال: كانت الحرب بين ابن الزبير والحجاج ببطن مكة ستة أشهر وسبع عشرة ليلة.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي مُصْعَب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد- وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان حصر الحجاج لابن الزبير ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد ابن عمر: قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن يوسف بن ماهك، قال:
رأيت المنجنيق يرمى به، فرعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة، فاشتمل عليها، فأعظم ذلك أهل الشام، فأمسكوا بأيديهم، فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: أرموا، ورمى معهم قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة، وهم على خلاف الطاعة! فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنى إسحاق بن عبد الله، عن المنذر بن جهم الأسدي، قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه وخذله من معه خذلانا شديدا، وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف.
وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا، فدخل على أمه أسماء- كما ذكر مُحَمَّد بن عمر عن أبي الزناد، عن مخرمة بن سُلَيْمَان الوالبي، قال: دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع اكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني، بصيرة مع بصيرتي.
فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمى الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك قال: جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد فقالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا عشرا، ويقال: خمسة أيام.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يعقوب بن عبد الله، عن عمه قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والمغفر، فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد، قال ابن الزبير:
جئت مودعا، إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، وادن مني أودعك، فدنا منها فقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشد منك، قالت العجوز: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول:
البس ثيابك مثمره ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر *** إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
فسمعت العجوز قوله، فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب.
حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرني مُحَمَّد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن شيخ من أهل حمص شهد وقعة ابن الزبير مع أهل الشام، قال: رأيته يوم الثلاثاء وإنا لنطلع عليه اهل حمص خمسمائة خمسمائة من باب لنا ندخله، لا يدخله غيرنا، فيخرج إلينا وحده في أثرنا، ونحن منهزمون منه، فما أنسى أرجوزة له:
إني إذا أعرف يومي أصبر وإنما يعرف يوميه الحر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر.
فأقول: أنت والله الحر الشريف، فلقد رأيته يقف في الأبطح ما يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال:
رأيت الأبواب قد شحنت من أهل الشام يوم الثلاثاء، وأسلم أصحاب ابن الزبير المحارس، وكثرهم القوم فأقاموا على كل باب رجالا وقائدا وأهل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية فلكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال، فيعدو في أثر القوم وهم على الباب حتى يخرجهم وهو يرتجز:
إني إذا أعرف يومي أصبر وإنما يعرف يوميه الحر ثم يصيح: يا أبا صفوان، ويل أمه فتحا لو كان له رجال!
لو كان قرني واحدا كفيته.
قال ابن صفوان: إي والله وألف.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فحدثني ابن أبي الزناد وأبو بكر بن عبد الله بن مصعب، عن ابى المنذر، وحدثنا نافع مولى بني أسد، قالا: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يصلي عامة الليل، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه بالفجر فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدم، وأقام المؤذن فصلى بأصحابه، فقرأ «ن وَالْقَلَمِ» حرفا حرفا، ثم سلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
اكشفوا وجوهكم حتى أنظر، وعليهم المغافر والعمائم، فكشفوا وجوههم فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا في الله لم تصبنا زباء بتة أما بعد يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطنا قط الا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه، واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقه، وليشغل كل امرى قرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول.
ابى لابن سلمى أنه غير خالد *** ملاقي المنايا أي صرف تيمما
فلست بمبتاع الحياة بسبة *** ولا مرتق من خشية الموت سلما
مكة، فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان
[أخبار متفرقة]
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة ولى عبد الملك طارقا مولى عثمان المدينة فوليها خمسة أشهر.
وفي هذه السنة توفي بشر بن مروان في قول الواقدي، وأما غيره فإنه قال: كانت وفاته في سنة أربع وسبعين.
وفيها أيضا وجه- فيما ذكر- عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر لقتال أبي فديك، وأمره أن يندب معه من أحب من أهل المصرين، فقدم الكوفه فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، ثم قدم البصرة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم وأعطياتهم، فأعطوها ثم سار بهم عمر بن عبيد الله، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم مُحَمَّد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وجعل خيله في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر بن عبيد الله أصحابه، وقدم الرجالة في أيديهم الرماح قد ألزموها الأرض، واستتروا بالبراذع فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر بن عبيد الله حتى ذهبوا في الأرض إلا المغيرة بن المهلب ومعن بن المغيرة ومجاعة ابن عبد الرحمن وفرسان الناس فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة وهم ثابتون، وارتث عمر بن موسى بن عبيد الله، فهو في القتلى قد أثخن جراحة.
فلما رأى أهل البصرة أهل الكوفة لم ينهزموا تذمموا ورجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير حتى مروا بعمر بن موسى بن عبيد الله جريحا فحملوه حتى أدخلوه عسكر الخوارج وفيه تبن كثير فأحرقوه، ومالت عليهم الريح، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك، وحصروهم في المشقر، فنزلوا على الحكم، فقتل عمر بن عبيد الله منهم- فيما ذكر- نحوا من سته آلاف، واسر ثمانمائه، وأصابوا جاريه اميه بن عبد الله حبلى من أبي فديك وانصرفوا إلى البصرة وفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشر بن مروان، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه، فشخص بشر لما ولي مع الكوفة البصرة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث.
وفيها غزا مُحَمَّد بن مروان الصائفة، فهزم الروم وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم في ناحية أرمينية وهو في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا، فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وأقام الحج في هذه السنة للناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة، وعلى الكوفة والبصرة- في قول الواقدي- بشر بن مروان، وفي قول غيره على الكوفة بشر بن مروان، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء البصره هشام ابن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح.