فمن ذلك غزوة مسلمة بْن هشام بْن عبد الملك الروم، فافتتح بها مطامير وغزوة مروان بْن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، فافتتح قلاعه …
وخرب أرضه، وأذعن له بالجزية، في كل سنة ألف رأس يؤديه إليه، وأخذ منه بذلك الرهن، وملكه مروان على أرضه.
وفيها ولد العباس بن محمد.
ذكر الخبر عن ظهور زيد بن على
وفيها قتل زيد بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب في قول الواقدي في صفر، وأما هشام بْن محمد فانه زعانه قتل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، في صفر منها.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وأموره وسبب مخرجه:
اختلف في سبب خروجه، فأما الهيثم بْن عدي فإنه قَالَ – فيما ذكر عنه، عن عبد الله بْن عياش – قَالَ: قدم زيد بْن علي ومحمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب وداود بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس على خالد بْن عبد الله وهو على العراق، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فلما ولي بن يوسف بْن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن خالدا ابتاع من زيد بْن علي أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم رد الأرض عليه فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسرحهم إليه ففعل، فسألهم هشام فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيدا عن الأرض فأنكرها، وحلفوا لهشام فصدقهم.
وأما هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، فإنه ذكر أن أبا مخنف حدثه أن أول أمر زيد بْن علي كان أن يزيد بْن خالد القسري ادعى مالا قبل زيد بْن علي ومحمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب وداود بْن علي بْن عبد الله بْن العباس ابن عبد المطلب وإبراهيم بْن سعد بْن عبد الرحمن بْن عوف الزهري وأيوب بْن سلمة بْن عبد الله بْن الوليد بْن المغيرة المخزومي، فكتب فيهم يوسف بْن عمر إلى هشام بْن عبد الملك- وزيد بْن على يومئذ بالرصافة يخاصم بنى الحسن ابن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي صدقه رسول الله ص، ومحمد بْن عمر بْن علي يومئذ مع زيد بْن علي- فلما قدمت كتب يوسف ابن عمر على هشام بْن عبد الملك بعث إليهم فذكر لهم ما كتب به يوسف ابن عمر إليه مما ادعى قبلهم يزيد بْن خالد، فأنكروا، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم اليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بْن علي: أنشدك الله والرحم أن تبعث بي إلى يوسف بْن عمر! قَالَ: وما الذي تخاف من يوسف بْن عمر؟ قَالَ: أخاف أن يعتدي علي، قَالَ له هشام: ليس ذلك له، ودعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف بْن عمر:
أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين يزيد بْن خالد القسري، فإن هم أقروا بما ادعى عليهم فسرح بهم إلي، وإن هم أنكروا فسله بينة، فإن هو لم يقم البينة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو، ما استودعهم يزيد بْن خالد القسري وديعة ولا له قبلهم، شيء! ثم خل سبيلهم.
فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدى كتابك، ويطول علينا، قَالَ:
كلا، أنا باعث معكم رجلا من الحرس يأخذه بذلك، حتى يعجل الفراغ، فقالوا: جزاك الله والرحم خيرا، لقد حكمت بالعدل فسرح بهم إلى يوسف، واحتبس أيوب بْن سلمة، لأن أم هشام بْن عبد الملك ابنه هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو في أخواله، فلم يؤخذ بشيء من ذلك القرف.
فلما قدموا على يوسف، ادخلوا عليه، فأجلس زيد بْن علي قريبا منه، وألطفه في المسألة، ثم سألهم عن المال، فأنكروا جميعا، وقالوا: لم يستودعنا مالا، ولا له قبلنا حق، فأخرج يوسف يزيد بْن خالد إليهم، فجمع بينه وبينهم، وقال له: هذا زيد بْن علي، وهذا محمد بْن عمر بْن علي، وهذا فلان وفلان الذين كنت ادعيت عليهم ما ادعيت، فقال: ما لي قبلهم قليل ولا كثير، فقال يوسف: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين! فعذبه يومئذ عذابا ظن أنه قد قتله، ثم أخرجهم إلى المسجد بعد صلاة العصر، فاستحلفهم فحلفوا له، وامر بالقوم فبسط عليهم، ما عدا زيد بْن علي فإنه كف عنه فلم يقتدر عند القوم على شيء فكتب إلى هشام يعلمه الحال، فكتب إليه هشام: أن استحلفهم، وخل سبيلهم، فخلى عنهم فخرجوا فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بْن علي بالكوفة.
وذكر عبيد بْن جناد، عن عطاء بْن مسلم الخفاف أن زيد بْن علي رأى في منامه أنه أضرم في العراق نارا، ثم أطفأها ثم مات فهالته، فقال لابنه يحيى: يا بني، إني رأيت رؤيا قد راعتني، فقصها عليه وجاءه كتاب هشام بْن عبد الملك بأمره بالقدوم عليه، فقدم، فقال له: الحق بأميرك يوسف، فقال له: نشدتك بالله يا أمير المؤمنين، فو الله ما آمن إن بعثتني إليه ألا أجتمع أنا وأنت حيين على ظهر الأرض بعدها، فقال: الحق بيوسف كما تؤمر، فقدم عليه.
وقد قيل: إن هشام بْن عبد الملك إنما استقدم زيدا من المدينة عن كتاب يوسف بْن عمر، وكان السبب في ذلك- فيما زعم أبو عبيدة- أن يوسف بْن عمر عذب خالد بْن عبد الله، فادعى خالد أنه استودع زيد بْن علي وداود بن على ابن عبد الله بْن عباس ورجلين من قريش: أحدهما مخزومي والآخر جمحي مالا عظيما، فكتب بذلك يوسف إلى هشام، فكتب هشام إلى خاله ابراهيم ابن هشام – وهو عامله على المدينة- يأمره بحملهم إليه فدعا إبراهيم بْن هشام زيدا وداود، فسألهما عما ذكر خالد، فحلفا ما أودعهما خالد شيئا، فقال:
إنكما عندي لصادقان، ولكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان، فلا بد من إنفاذه فحملهما إلى الشام، فحلفا بالأيمان الغلاظ ما أودعهما خالد شيئا قط وقال داود: كنت قدمت عليه العراق، فأمر لي بمائة ألف درهم، فقال هشام: أنتما عندي أصدق من ابن النصرانية، فأقدما على يوسف، حتى يجمع بينكما وبينه فتكذباه في وجهه.
وقيل: إن زيدا إنما قدم على هشام مخاصما ابن عمه عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي، ذكر ذلك عن جويرية بْن أسماء، قَالَ: شهدت زيد بْن علي وجعفر بْن حسن بْن حسن يختصمان في ولاية وقوف علي، وكان زيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن، فكان جعفر وزيد يتبالغان بين يدي الوالي إلى كل غاية، ثم يقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفا، فلما مات جعفر قَالَ عبد الله: من يكفينا زيدا؟ قَالَ حسن بْن حسن بْن حسن: أنا أكفيكه، قَالَ: كلا، إنا نخاف لسانك ويدك، ولكني أنا، قَالَ: إذن لا تبلغ حاجتك وحجتك، قَالَ: أما حجتي فسأبلغها، فتنازعا إلى الوالي- والوالي يومئذ عندهم فيما قيل إبراهيم بْن هشام- قَالَ: فقال عبد الله لزيد: أتطمع أن تنالها وأنت لأمة سندية! قَالَ:
قد كان إسماعيل لأمة، فنال أكثر منها، فسكت عبد الله، وتبالغا يومئذ كل غاية، فلما كان الغد أحضرهم الوالي، وأحضر قريشا والأنصار، فتنازعا، فاعترض رجل من الأنصار، فدخل بينهما، فقال له زيد: وما أنت والدخول بيننا، وأنت رجل من قحطان! قَالَ: أنا والله خير منك نفسا وأبا وأما.
قَالَ: فسكت زيد، وانبرى له رجل من قريش فقال: كذبت، لعمر الله لهو خير منك نفسا وأبا وأما وأولا وآخرا، وفوق الأرض وتحتها، فقال الوالي:
وما أنت وهذا! فأخذ القرشي كفا من الحصى، فضرب به الأرض وقال:
والله ما على هذا من صبر، وفطن عبد الله وزيد لشماتة الوالي بهما، فذهب عبد الله ليتكلم، فطلب إليه زيد فسكت، وقال زيد للوالي: أما والله لقد جمعتنا لأمر ما كان أبو بكر ولا عمر ليجمعانا على مثله، وإني أشهد الله ألا أنازعه إليك محقا ولا مبطلا ما كنت حيا ثم قال لعبد الله:
انهض يا بن عم، فنهضا وتفرق الناس.
وقال بعضهم: لم يزل زيد ينازع جعفر بْن حسن ثم عبد الله بعده، حتى ولى هشام بْن عبد الملك خالد بْن عبد الملك بْن الحارث بْن الحكم المدينة، فتنازعا، فأغلظ عبد الله لزيد، وقال: يا بن الهندكية! فتضاحك زيد، وقال: قد فعلتها يا أبا محمد! ثم ذكر أمه بشيء وذكر المدائني أن عبد الله لما قَالَ ذلك لزيد قَالَ زيد: أجل والله، لقد صبرت بعد وفاة سيدها فما تعتبت بابها إذ لم يصبر غيرها قَالَ:
ثم ندم زيد واستحيا من عمته، فلم يدخل عليها زمانا، فاسلت اليه:
يا بن أخي، إني لأعلم أن أمك عندك كأم عبد الله عنده.
وقيل: إن فاطمة أرسلت إلى زيد: أن سب عبد الله أمك فاسبب أمه، وإنها قَالَت لعبد الله: أقلت لأم زيد كذا وكذا؟ قَالَ: نعم، قالت:
فبئس والله ما صنعت! اما والله لنعم دخيلة القوم كانت! فذكر أن خالد بْن عبد الملك، قَالَ لهما: اغدوا علينا غدا، فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما فباتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قائل:
كذا وقائل كذا، قائل يقول قَالَ زيد كذا، وقائل يقول: قَالَ عبد الله كذا.
فلما كان الغد جلس خالد في المجلس في المسجد، واجتمع الناس، فمن شامت ومن مهموم، فدعا بهما خالد، وهو يحب أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا، ثم أقبل على خالد فقال له: يا خالد، لقد جمعت ذرية رسول الله ص لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر، قَالَ خالد: أما لهذا السفيه أحد! فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال: يا بن ابى تراب وابن حسين السفيه، ما ترى لوال عليك حقا ولا طاعة! فقال زيد: اسكت أيها القحطاني، فإنا لا نجيب مثلك، قَالَ: ولم ترغب عنى! فو الله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمي خير من أمك! فتضاحك زيد، وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، افذهبت الاحساب! فو الله إنه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم فتكلم عبد الله بْن واقد بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فقال: كذبت والله ايها القحطانى، فو الله لهو خير منك نفسا وأبا وأما ومحتدا، وتناوله بكلام كثير، قَالَ القحطاني: دعنا منك يا بن واقد، فأخذ ابن واقد كفا من حصى، فضرب بها الأرض، ثم قَالَ له: والله ما لنا على هذا صبر، وقام.
وشخص زيد إلى هشام بْن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص، فكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك، فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدا، وما أسأل مالا، إنما أنا رجل مخاصم، ثم أذن له يوما بعد طول حبس.
فذكر عمر بْن شبة، عن أيوب بْن عمر بْن ابى عمرو، قَالَ: حدثني محمد بْن عبد العزيز الزهري قَالَ: لما قدم زيد بْن علي على هشام بْن عبد الملك أعلمه حاجبه بمكانه، فرقي هشام إلى علية له طويلة، ثم أذن له، وأمر خادما أن يتبعه، وقال: لا يرينك، واسمع ما يقول قال: فاتعبته الدرجة- وكان بادنا- فوقف في بعضها، فقال: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل، فلما صار إلى هشام قضى حوائجه، ثم مضى نحو الكوفة، ونسي هشام أن يسأل الخادم حتى مضى لذلك أيام، ثم سأله فأخبره، فالتفت إلى الأبرش فقال.
والله ليأتينك خلعه أول شيء، وكان كما قَالَ وذكر عن زيد أنه حلف لهشام على أمر، فقال له: لا أصدقك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يرفع قدر أحد عن أن يرضى بالله، ولم يضع قدر أحد عن ألا يرضى بذلك منه، فقال له هشام: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها، ولست هناك وأنت ابن أمة! فقال زيد: إن لك يا أمير المؤمنين جوابا، قال: تكلم، قال: ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع عنده منزلة من نبي ابتعثه، وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وولد خيرهم محمدا ص، وكان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة مثلك، فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر، وما على أحد من ذلك جده رسول الله ص ما كانت أمه أمه فقال له هشام: اخرج، قَالَ: أخرج ثم لا تراني إلا حيث تكره، فقال له سالم:
يا أبا الحسين، لا يظهرن هذا منك.
رجع الحديث إلى حديث هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي عن أبي مخنف قَالَ:
فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد بْن علي، وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو أن تكون المنصور، وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية.
فأقام بالكوفة، فجعل يوسف بْن عمر يسأل عنه، فيقال: هو هاهنا، فيبعث إليه أن اشخص، فيقول: نعم، ويعتل له بالوجع فمكث ما شاء الله، ثم سأل أيضا عنه فقيل له: هو مقيم بالكوفة بعد لم يبرح، فبعث إليه، فاستحثه بالشخوص، فاعتل عليه بأشياء يبتاعها، وأخبره أنه في جهازه، ورأى جد يوسف في أمره فتهيأ، ثم شخص حتى أتى القادسية وقال بعض الناس: أرسل معه رسولا حتى بلغه العذيب، فلحقته الشيعة، فقالوا له: أين تذهب عنا ومعك مائة ألف رجل من أهل الكوفة، يضربون دونك بأسيافهم غدا وليس قبلك من أهل الشام إلا عدة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نحو مذحج أو همدان أو تميم أو بكر نصبت لهم لكفتكهم بإذن الله تعالى! فننشدك الله لما رجعت، فلم يزالوا به حتى ردوه إلى الكوفة وأما غير أبي مخنف، فإنه قَالَ ما ذكر عبيد بْن جناد، عن عطاء بْن مسلم، أن زيد بْن علي لما قدم على يوسف، قَالَ له يوسف: زعم خالد أنه قد أودعك مالا، قَالَ: أنى يودعني مالا وهو يشتم آبائي على منبره! فأرسل الى خالد، فاحضره في عباءه، فقال له: هذا زيد، زعمت أنك قد أودعته مالا، وقد أنكر، فنظر خالد في وجههما، ثم قَالَ: أتريد أن تجمع مع إثمك في إثما في هذا! وكيف أودعه مالا وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قَالَ: فشتمه يوسف، ثم رده.
وأما أبو عبيدة، فذكر عنه، أنه قَالَ: صدق هشام زيدا ومن كان يوسف قرفه بما قرفه به، ووجههم إلى يوسف، وقال: إنهم قد حلفوا لي، وقبلت أيمانهم وأبرأتهم من المال، وإنما وجهت بهم إليك لتجمع بينهم وبين خالد فيكذبوه قَالَ: ووصلهم هشام، فلما قدموا على يوسف أنزلهم وأكرمهم، وبعث إلى خالد فأتى به، فقال: قد حلف القوم، وهذا كتاب أمير المؤمنين ببراءتهم، فهل عندك بينة بما ادعيت؟ فلم تكن له بينة، فقال القوم لخالد:
ما دعاك إلى ما صنعت؟ قَالَ: غلظ علي العذاب فادعيت ما ادعيت، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم فأطلقهم يوسف، فمضى القرشيان:
الجمحي والمخزومي إلى المدينة، وتخلف الهاشميان: داود بن على وزيد ابن علي بالكوفة.
وذكر أن زيدا أقام بالكوفة أربعة أشهر أو خمسة ويوسف يأمره بالخروج، ويكتب إلى عامله على الكوفة وهو يومئذ بالحيرة يأمره بإزعاج زيد، وزيد يذكر أنه ينازع بعض آل طلحة بْن عبيد الله في مال بينه وبينهم بالمدينة، فيكتب العامل بذلك إلى يوسف، فيقره أياما، ثم يبلغه أن الشيعة تختلف إليه، فيكتب إليه أن أخرجه ولا تؤخره، وإن ادعى أنه ينازع فليجر جرا، وليوكل من يقوم مقامه فيما يطالب به، وقد بايعه جماعة منهم سلمة بْن كهيل ونصر بْن خزيمة العبسي ومعاوية بْن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري وحجية بْن الأجلج الكندي وناس من وجوه أهل الكوفة، فلما راى ذلك داود ابن على قال له: يا بن عم، لا يغرنك هؤلاء من نفسك، ففي أهل بيتك لك عبرة، وفي خذلان هؤلاء إياهم فقال: يا داود، إن بني أمية قد عتوا وقست قلوبهم، فلم يزل به داود حتى عزم على الشخوص، فشخصا حتى بلغا القادسية.
وذكر عن أبي عبيدة، أنه قَالَ: أتبعوه إلى الثعلبية وقالوا له: نحن اربعون ألفا، إن رجعت إلى الكوفة لم يتخلف عنك أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدي.
فيحلفون له، فيقول داود بْن على: يا بن عم، إن هؤلاء يغرونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك، جدك علي بْن أبي طالب حتى قتل! والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه، وانتهبوا فسطاطه، وجرحوه! او ليس قد أخرجوا جدك الحسين، وحلفوا له بأوكد الأيمان ثم خذلوه وأسلموه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه! فلا تفعل ولا ترجع معهم فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر منكم، فقال: زيد لداود: إن عليا كان يقاتله معاوية بدهائه ونكرائه بأهل الشام، وإن الحسين قاتله يزيد بْن معاوية والأمر عليهم مقبل، فقال له داود: إني لخائف إن رجعت معهم ألا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.
وقال عبيد بْن جناد، عن عطاء بْن مسلم الخفاف، قَالَ: كتب هشام إلى يوسف أن أشخص زيدا إلى بلده، فإنه لا يقيم ببلد غيره فيدعو أهله إلا أجابوه، فأشخصه، فلما كان بالثعلبية- أو القادسية- لحقه المشائيم- يعني أهل الكوفة- فردوه وبايعوه، فأتاه سلمة بْن كهيل، فأستأذن عليه، فأذن له، فذكر قرابته من رسول الله ص وحقه فأحسن.
ثم تكلم زيد فأحسن، فقال له سلمة: اجعل لي الأمان، فقال: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي الأمان! وإنما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه، ثم قَالَ: لك الأمان، فقال: نشدتك بالله، كم بايعك؟ قَالَ: أربعون ألفا، قَالَ: فكم بايع جدك؟ قَالَ: ثمانون ألفا، قَالَ: فكم حصل معه؟ قال:
ثلاثمائة، قَالَ: نشدتك الله أنت خير أم جدك؟ قَالَ: بل جدي، قَالَ:
أفقرنك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيهم جدك؟ قَالَ:
بل القرن الذي خرج فيهم جدي، قَالَ: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك بجدك! قَالَ: قد بايعوني، ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم، قَالَ: أفتأذن لي أن أخرج من البلد؟ قَالَ: لم؟ قَالَ: لا آمن أن يحدث في أمرك حدث فلا أملك نفسي، قَالَ: قد أذنت لك، فخرج إلى اليمامة، وخرج زيد فقتل وصلب فكتب هشام إلى يوسف يلومه على تركه سلمة ابن كهيل يخرج من الكوفه، ويقول: مقامه كان خيرا من كذا وكذا من الخيل تكون معك.
وذكر عمر عن ابى إسحاق- شيخ من أهل أصبهان حدثه- أن عبد الله ابن حسن كتب الى زيد بن على: يا بن عم، إن أهل الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هوج في الرخاء، جزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعده في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوة، ولقد تواترت إلى كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسا منهم وإطراحا لهم، وما لهم مثل إلا ما قَالَ علي بْن أبي طالب:
إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خزتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم.
وذكر عن هشام بْن عبد الملك، أنه كتب إلى يوسف بْن عمر في أمر زيد بْن علي: أما بعد فقد علمت بحال أهل الكوفة في حبهم أهل هذا البيت، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم، لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم، ووظفوا عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن، حتى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفوهم فيها إلى الخروج، وقد قدم زين بْن علي على أمير المؤمنين في خصومة عمر بْن الوليد، ففصل أمير المؤمنين بينهما، وراى رجلا جدلا لسنا خليقا بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه، وبكثرة مخارجه في حججه، وما يدلي به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوة الحادة لنيل الفلج، فعجل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تخله والمقام قبلك، فإنه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه، وحلاوة منطقه، مع ما يدلى به من القرابة برسول الله ص، وجدهم ميلا إليه، غير متئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم، وبعض التحامل عليه فيه أذى له، وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع والحقن للدماء والأمن للفرقة أحب إلي من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم، والجماعة حبل الله المتين، ودين الله القويم وعروته الوثقى، فادع إليك أشراف أهل المصر، وأوعدهم العقوبة في الأبشار، واستصفاء الأموال، فإن من له عقد أو عهد منهم سيبطئ عنه، ولا يخف معه إلا الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة، استلذاذا للفتنة، وأولئك ممن يستعبد إبليس، وهو يستعبدهم.
فبادهم بالوعيد واعضضهم بسوطك، وجرد فيهم سيفك، وأخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السفلة واعلم أنك قائم على باب ألفة، وداع إلى طاعة، وحاض على جماعة، ومشمر لدين الله، فلا تستوحش لكثرتهم، واجعل معقلك الذي تأوي إليه، وصغوك الذي تخرج منه الثقة بربك، والغضب لدينك، والمحاماة عن الجماعة، ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الذى امرهم الله بالدخول فيه، والتشاح عليه، فإن أمير المؤمنين قد أعذر إليه وقضى من ذمامه، فليس له منزى إلى ادعاء حق هو له ظلمه من نصيب نفسه، أو فيء، أو صلة لذي قربى، إلا الذي خاف أمير المؤمنين من حمل بادرة السفلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وأضل، ولهم أمر، ولأمير المؤمنين أعز وأسهل إلى حياطة الدين والذب عنه، فإنه لا يحب أن يرى في أمته حالا متفاوتا نكالا لهم مفنيا، فهو يستديم النظرة، ويتأتى للرشاد، ويجتنبهم على المخاوف، ويستجرهم الى المراشد، ويعدل بهم عن المهالك، فعل الوالد الشفيق على ولده، والراعي الحدب على رعيته.
واعلم أن من حجتك عليهم في استحقاق نصر الله لك عند معاندتهم توفيتك أطماعهم، وأعطية ذريتهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم، فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله، فإنه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغي، وقد أوقعهم الشيطان، ودلاهم فيه، ودلهم عليه، والعصمة بتارك البغي أولى، فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيته، ويسأل إلهه ومولاه ووليه أن يصلح منهم ما كان فاسدا، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز، إنه سميع قريب.
رجع الحديث إلى حديث هشام قَالَ: فرجع زيد إلى الكوفة، فاستخفى، قَالَ: فقال له محمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب حيث أراد الرجوع إلى الكوفة: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك، ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك إلى ما يدعونك إليه، فإنهم لا يفون لك، فلم يقبل منه ذلك، ورجع.
قَالَ هشام: قَالَ أبو مخنف: فأقبلت الشيعة لما رجع إلى الكوفة يختلفون إليه، ويبايعون له، حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل، فأقام بالكوفة بضعة عشر شهرا، إلا أنه قد كان منها بالبصرة نحو شهرين، ثم أقبل إلى الكوفة، فأقام بها، وأرسل إلى أهل السواد وأهل الموصل رجالا يدعون إليه.
قَالَ: وتزوج حيث قدم الكوفة ابنة يعقوب بْن عبد الله السلمي، أحد بني فرقد، وتزوج ابنة عبد الله بْن أبي العنبس الأزدي قَالَ:
وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت ترى رأي الشيعة، فبلغها مكان زيد، فأتته لتسلم عليه- وكانت امرأة جسيمة جميلة لحيمة، قد دخلت في السن، إلا أن الكبر لا يستبين عليها- فلما دخلت على زيد بْن علي فسلمت عليه ظن أنها شابة، فكلمته فإذا أفصح الناس لسانا، وأجمله منظرا، فسألها عن نسبها فانتسبت له، وأخبرته ممن هي، فقال لها: هل لك رحمك الله أن تتزوجيني؟ قالت: أنت والله – رحمك الله – رغبة لو كان من أمري التزويج، قَالَ لها: وما الذي يمنعك؟
قالت: يمنعني من ذلك أني قد أسننت، فقال لها: كلا قد رضيت، ما أبعدك من أن تكوني قد أسننت! قالت: رحمك الله، أنا أعلم بنفسي منك، وبما أتى علي من الدهر، ولو كنت متزوجة يوما من الدهر لما عدلت بك، ولكن لي ابنة أبوها ابن عمي، وهي أجمل مني، وانا أزوجكها ان احببت، قال: رضيت أن تكون مثلك، قالت له: لكن خالقها ومصورها لم يرض أن يجعلها مثلي، حتى جعلها أبيض وأوسم وأجسم، وأحسن مني دلا وشكلا فضحك زيد، وقال لها: قد رزقت فصاحة ومنطقا حسنا، فأين فصاحتها من فصاحتك؟ قالت: أما هذا فلا علم لي به، لأني نشأت بالحجاز، ونشأت ابنتي بالكوفة، فلا أدري لعل ابنتي قد أخذت لغة أهلها فقال زيد: ليس ذلك بأكره إلي، ثم واعدها موعدا فأتاها فتزوجها، ثم بنى بها فولدت له جارية ثم أنها ماتت بعد، وكان بها معجبا.
قَالَ: وكان زيد بْن علي ينزل بالكوفة منازل شتى، في دار امرأته في الأزد مرة، ومرة في أصهاره السلميين، ومرة عند نصر بْن خزيمة في بني عبس، ومرة في بني غبر ثم إنه تحول من بني غبر إلى دار معاويه ابن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري في أقصى جبانة سالم السلولي، وفي بني نهد وبني تغلب عند مسجد بني هلال بْن عامر، فأقام يبايع أصحابه، وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس: إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، ورد الظالمين، وإقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا، أتبايعون على ذلك؟فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن في السر والعلانية؟
فإذا قَالَ: نعم مسح يده على يده، ثم قَالَ: اللهم اشهد فمكث بذلك بضعة عشر شهرا، فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد والتهيؤ، فجعل من يريد ان يفى ويخرج معه يستعد لو يتهيأ، فشاع امره في الناس.
ذكر الخبر عن غزوه نصر بن سيار ما وراء النهر
وفي هذه السنة غزا نصر بْن سيار ما وراء النهر مرتين، ثم غزا الثالثة، فقتل كور صول.
ذكر الخبر عن غزواته هذه:
ذكر علي عن شيوخه، أن نصرا غزا من بلخ ما وراء النهر من ناحية باب الحديد، ثم قفل إلى مرو، فخطب الناس، فقال: ألا إن بهرامسيس كان مانح المجوس، يمنحهم ويدفع عنهم، ويحمل أثقالهم على المسلمين، ألا إن أشبداد بْن جريجور كان مانح النصارى، ألا إن عقيبة اليهودي كان مانح اليهود يفعل ذلك ألا إني مانح المسلمين أمنحهم وأدفع عنهم، وأحمل أثقالهم على المشركين، ألا إنه لا يقبل مني إلا توفي الخراج على ما كتب ورفع وقد استعملت عليكم منصور بْن عمر بْن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم، فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقل عليه في خراجه، وخفف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك الى المنصور بْن عمر، يحوله عن المسلم إلى المشرك قَالَ: فما كانت الجمعة الثانية، حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم، كانوا يؤدون الجزية عن رءوسهم وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحول ذلك عليهم، وألقاه عن المسلمين ثم صنف الخراج حتى وضعه مواضعة، ثم وظف الوظيفة التي جرى عليها الصلح قَالَ: فكانت مرو يؤخذ منها مائة ألف سوى الخراج أيام بني أمية ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم قفل، ثم غزا الثانيه إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين قطوع النهر نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفا، استأجر كل رجل منهم في كل شهر بشقه حرير، الشقه يومئذ بخمسة وعشرين درهما، فكانت بينهم مراماة، فمنع نصرا من القطوع إلى الشاش وكان الحارث بْن سريج يومئذ بأرض الترك، فأقبل معهم، فكان بإزاء نصر، فرمى نصرا، وهو على سريره على شاطئ النهر بحسبان، فوقع السهم في شدق وصيف لنصر يوضئه، فتحول نصر عن سريره، ورمى فرسا لرجل من أهل الشام فنفق وعبر كورصول في أربعين رجلا، فبيت أهل العسكر، وساق شاء لأهل بخارى، وكانوا في الساقة، وأطاف بالعسكر في ليلة مظلمة، ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكس وأشروسنة، وهم عشرون ألفا، فنادى نصر في الأخماس:
ألا لا يخرجن أحد من بنائه، واثبتوا على مواضعكم فخرج عاصم بْن عمير وهو على جند أهل سمرقند، حتى مرت خيل كورصول، وقد كانت الترك صاحت صيحة، فظن أهل العسكر أن الترك قد قطعوا كلهم فلما مرت خيل كورصول على ذلك حمل على آخرهم، فأسر رجلا، فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبة، فجاءوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبرا، وعليه رانا ديباج فيهما حلق، وقباء فرند مكفف بالديباج، فقال له نصر: من أنت؟ قَالَ: كورصول، فقال نصر:
الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله! قَالَ: فما ترجو من قتل شيخ، وأنا أعطيك ألف بعير من إبل الترك، وألف برذون تقوي بها جندك، وخل سبيلي! فقال نصر لمن حوله من أهل الشام وأهل خراسان: ما تقولون؟ فقالوا:
خل سبيله، فسأله عن سنه، قَالَ: لا أدري، قَالَ: كم غزوت؟ قَالَ:
اثنتين وسبعين غزوة، قَالَ: أشهدت يوم العطش؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك وقال لعاصم بْن عمير السغدي: قم إلى سلبه فخذه، فلما أيقن بالقتل، قَالَ: من أسرني؟ قَالَ نصر وهو يضحك: يزيد بْن قران الحنظلي- وأشار إليه – قَالَ: هذا لا يستطيع أن يغسل استه – أو قَالَ:
لا يستطيع أن يتم بوله- فكيف يأسرني! فأخبرني من أسرني، فإني أهل أن أقتل سبع قتلات، قيل له: عاصم بْن عمير، قَالَ: لست أجد مس القتل إذ كان الذي أسرني فارسا من فرسان العرب فقتله وصلبه على شاطئ النهر قال: وعاصم بن عمير هو الهزار مرد، قتل بنهاوند أيام قحطبة.
قَالَ: فلما قتل كورصول تخدرت الترك وجاءوا بأبنيته فحرقوها، وقطعوا آذانهم، وجردوا وجوههم، وطفقوا يبكون عليه، فلما أمسى نصر وأراد الرحلة، بعث إلى كورصول بقارورة نفط، فصبها عليه، وأشعل فيه النار لئلا يحملوا عظامه قَالَ: وكان ذلك أشد عليهم من قتله.
وارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس، قَالَ: فقال عنبر بْن برعمة الأزدي: كتب يوسف بْن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشاش- يعني الحارث بْن سريج- فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش، فخرب بلادهم، واسب ذراريهم، وإياك وورطه المسلمين قَالَ: فدعا نصر الناس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال: ما ترون؟ فقال يحيى بْن حضين: امض لأمر أمير المؤمنين وأمر الأمير، فقال نصر: يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة، فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد في عطائك، وفرض لأهل بيتك، وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت: أقول مثلها.
سر يا يحيى، فقد وليتك مقدمتي، فأقبل الناس على يحيى يلومونه، فقال نصر يومئذ: وأي ورطة أشد من أن تكون في السفر وهم في القرار! قَالَ: فسار إلى الشاش، فأتاه الحارث بْن سريج فنصب عرادتين تلقاء بني تميم، فقيل له: هؤلاء بنو تميم، فنقلهما فنصبهما على الأزد- ويقال: على بكر بْن وائل- وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترك، فقتله المسلمون، وأسروا سبعة من أصحابه، فأمر نصر بْن سيار برأس الأخرم، فرمي به في عسكرهم بمنجنيق، فلما رأوه ضجوا ضجة عظيمة، ثم ارتحلوا منهزمين، ورجع نصر، وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك، فقال أبو نميلة صالح بْن الأبار:
كنا وأوبة نصر عند غيبته *** كراقب النوء حتى جاده المطر
اودى باخرم منه عارض برد *** مسترجف بمنايا القوم منهمر
وأقبل نصر فنزل سمرقند في السنة التي لقي فيها الحارث بْن سريج، فأتاه بخارى خذاه منصرفا، وكانت المسلحة عليهم، ومعهم دهقانان من دهاقين بخارى، وكانا أسلما على يدي نصر، وقد أجمعا على الفتك بواصل بْن عمرو القيسى عامل بخارى وببخار اخذاه يتظلمان من بخار اخذاه، – واسمه طوق شياده- فقال بخار اخذاه لنصر: أصلح الله الأمير! قد علمت أنهما قد أسلما على يديك، فما بالهما معلقي الخناجر عليهما! فقال لهما نصر: ما بالكما معلقي الخناجر وقد أسلمتما! قَالَ: بيننا وبين بخار اخذاه عداوة فلا نأمنه على أنفسنا فأمر نصر هارون بْن السياوش مولى بني سليم- وكان يكون على الرابطة- فاجتذبهما فقطعهما، ونهض بخار اخذاه إلى نصر يساره في أمرهما، فقالا: نموت كريمين، فشد أحدهما على واصل ابن عمرو فطعنه في بطنه بسكين، وضربه واصل بسيفه على رأسه، فأطار قحف رأسه فقتله، ومضى الآخر الى بخار اخذاه- وأقيمت الصلاة، وبخار اخذاه جالس على كرسي- فوثب نصر، فدخل السرادق، واحضر بخار اخذاه، فعثر عند باب السرادق فطعنه، وشد عليه الجوزجان بْن الجوزجان، فضربه بجرز كان معه فقتله، وحمل بخار اخذاه فادخل سرادق نصر، ودعا له نصر بوسادة فاتكأ عليها، وأتاه قرعة الطبيب، فجعل يعالجه وأوصى إلى نصر، ومات من ساعته، ودفن واصل في السرادق، وصلى عليه نصر واما طوق شياده فكشطوا عنه لحمه، وحملوا عظامه إلى بخارى.
قال: وسار نصر إلى الشاش، فلما قدم أشروسنة عرض دهقانها أباراخرة مالا، ثم نفذ إلى الشاش، واستعمل على فرغانة محمد بْن خالد الأزدي، وجهه إليها في عشرة نفر، ورد من فرغانه أخا جيش فيمن كان معه من دهاقين الختل وغيرهم، وانصرف منها بتماثيل كثيرة، فنصبها في أشروسنة.
وقال بعضهم: لما أتى نصر الشاش تلقاه قدر ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه إخراج الحارث بْن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب، واستعمل على الشاش نيزك بْن صالح مولى عمرو بْن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وقد كانوا أحسوا بمجيئه، فأحرقوا الحشيش وحبسوا الميرة ووجه نصر إلى ولي عهد صاحب فرغانة في بقية سنة إحدى وعشرين ومائة، فحاصروه في قلعة من قلاعها، فغفل عنهم المسلمون، فخرجوا على دوابهم فاستاقوها، وأسروا ناسا من المسلمين، فوجه إليهم نصر رجالا من بني تميم، ومعهم محمد بن المثنى- وكان فارسا- فكايدهم المسلمون، فأهملوا دوابهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدهقان، وأسروا منهم أسراء، وحمل ابن الدهقان المقتول على ابن المثنى، فختله محمد بْن المثنى، فأسره، وهو غلام أمرد، فأتى به نصرا، فضرب عنقه.
وكان نصر بعث سليمان بْن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصلح بينهما قَالَ سليمان: فقدمت عليه فقال لي: من أنت؟ قلت:
شاكري خليفة كاتب الأمير، قَالَ: فقال: أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددنا، فقيل له: قم، قَالَ: قلت ليس بي مشي، قَالَ: قدموا له دابة يركبها، قَالَ: فدخلت خزائنه، فقلت في نفسي: يا سليمان، شمت بك اسرايل وبشر بْن عبيد، ليس هذا إلا لكراهة الصلح، وسأنصرف بخفي حنين.
قَالَ: فرجعت إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟
قلت: سهلا كثير الماء والمرعى، فكره ما قلت له، فقال: ما علمك؟
فقلت: قد غزوت غرشستان وغور والختل وطبرستان، فكيف لا أعلم! قَالَ: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قلت: رأيت عدة حسنة، ولكن أما علمت أن صاحب الحصار لا يسلم من خصال! قَالَ: وما هن؟ قلت: لا يأمن أقرب الناس إليه وأحبهم إليه وأوثقهم في نفسه أن يثب به يطلب مرتبته، ويتقرب بذلك، أو يفنى ما قد جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت فقطب وكره ما قلت له وقال: انصرف إلى منزلك، فانصرفت فأقمت يومين، وأنا لا أشك في تركه الصلح، فدعاني فحملت كتاب الصلح مع غلامي، وقلت له: إن أتاك رسولي يطلب الكتاب فانصرف إلى المنزل، ولا تظهر الكتاب، وقل لي: إني خلفت الكتاب في المنزل فدخلت عليه، فسألني عن الكتاب، فقلت: خلفته في المنزل فقال: ابعث من يجيئك به، فقبل الصلح، وأحسن جائزتي، وسرح معي أمه، وكانت صاحبة أمره قَالَ: فقدمت على نصر، فلما نظر إلي قَالَ: ما مثلك إلا كما قَالَ الأول: فأرسل حكيما ولا توصه.
فأخبرته، فقال: وفقت، وأذن لأمه عليه، وجعل يكلمها والترجمان يعبر عنها، فدخل تميم بْن نصر، فقال للترجمان: قل لها: تعرفين هذا؟
فقالت: لا، فقال: هذا تميم بْن نصر، فقالت: والله ما أرى له حلاوة الصغير، ولا نبل الكبير.
قَالَ أبو إسحاق بْن ربيعة: قالت لنصر: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزير يباثه بكتاب نفسه وما شجر في صدره من الكلام، ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتما فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه فأنجاه – تعني البرذون – وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين وقع بها.
من الأرض عاش بها ثم دخل تميم بن نصر في الازفله وجماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا:
هذا فتى خراسان، هذا تميم بْن نصر، قالت: ما له نبل الكبار ولا حلاوة الصغار.
ثم دخل الحجاج بْن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بْن قتيبة، قَالَ: فحيته، وسألت عنه، وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء، لا يصلح بعضكم لبعض قتيبة الذي وطن لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك! فحقك أن تجلسه هذا المجلس، وتجلس أنت مجلسه وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام بْن إسماعيل المخزومي- كذلك قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه وكذلك قَالَ الواقدي وغيره.
وكان عامل هشام بْن عبد الملك على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة محمد بْن هشام، وعامله على العراق كله يوسف بْن عمر، وعامله على أذربيجان وأرمينية مروان بْن محمد، وعلى خراسان نصر بْن سيار، وعلى قضاء البصرة عامر بْن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.