وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلو العدد ــــ وفي الكثرة بعض الأُنس ــــ …
وأَضِف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
وقد أُولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلم فيها كلاماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد: {أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} [النجم: 19- 20] تلك الغرانيق – جمع غرنوق وهي الطيور، ويُراد بها الملائكة – العلى، وإن شفاعتهن لتُرجى. فسجدوا إعظاماً لذلك وفرحاً.
وهذا مما لا تجوز روايته إلا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته، وها نحن أُولاء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطلان ما ذكر، أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفا: «لم يخرّجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم»، وأما المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: {إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23]. فالكلام غير مُنْتَظم، ولو كان ذلك قد حصل لاتَّخذه الكفار عليه حجة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة، وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمَّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم في سورة البقرة: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142]. ولكن لم يُسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال: ما لك ذَممتَ آلهتنا بعد أن مدحتها؟ وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مُهج الرجال.
على أن المؤرخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سبباً لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم: إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال، ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمّل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهّل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابةَ بعد ذلك إن قلنا إن هذه الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين، ولكن الحمد لله فقد منَّ علينا بحفظ كتابنا المجيد الذي يحكم بيننا وبين كل مُفترٍ كذاب ففي السورة نفسها: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] والذي يلقيه الشيطان من أقبح ما يروى، فكيف يقول عليه الصلاة والسلام أو يجري على لسانه مما يبث الشكوك في الوحي؟ الأمر الذي يريده السفهاء، ردّ الله كيدهم في نحرهم.
والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد الله بن مسعود: أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ والنجم فسجد، وسجد مَنْ كان معه إلا رجلاً أخذ كفاً من حصى وضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته قُتِلَ بعد كافراً. وليس في هذا الحديث أدنى دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون، بل الذي يفيده قوله: فرأيته قُتِل بعد كافراً أنه كان مسلماً ثم رأيته ارتدّ، وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا الأذى فكفروا، منهم: علي بن أمية بن خلف.
هذا، ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن من الدخول إليها إلا مَنْ وجد له مُجيراً، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمانبن مظعون في جوار الوليدبن المغيرة، وقد ردّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين، فلم يَرَ أن يكون مرتاحاً وإخوانه معذبون.