وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- كان فتح رامهرمز والسوس وتستر وفيها أسر الهرمزان …
في رواية سيف ذكر الخبر عن فتح ذلك من روايته:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم، فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم، أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد وما والاه، والأهواز.
ثم لم يرضوا بذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحركوا وتكاتبوا:
أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بْن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب، فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بْن مقرن، وعجل وابعث سويد بْن مقرن، وعبد اللَّه بْن ذي السهمين، وجرير بْن عبد اللَّه الحميري، وجرير بْن عبد اللَّه البجلي، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره وكتب إلى أبي موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمر عليهم سهل بن عدى- أخا سهيل ابن عدي- وابعث معه البراء بْن مالك، وعاصم بْن عمرو، ومجزأة بْن ثور، وكعب بْن سور، وعرفجة بْن هرثمة، وحذيفة بْن محصن، وعبد الرحمن ابن سهل، والحصين بْن معبد، وعلى أهل الكوفة واهل البصره جميعا ابو سبره ابن ابى رهم، وكل من أتاه فمدد له.
وخرج النعمان بْن مقرن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثم سار نحو الهرمزان- والهرمزان يومئذ برامهرمز- ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا ثم إن اللَّه عز وجل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر، وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها.
قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبي موسى، وسار النعمان وسهل، سبق النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكب الهرمزان، وجاء سهل في أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وهم يريدون رامهرمز، فأتتهم الوقعة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمده أبو سبرة فأمدهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل وقتل البراء بْن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح اللَّه على المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بْن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بْن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدة من أهل البصرة وفي الكوفيين مثل ذلك، منهم حبيب بْن قرة، وربعي بْن عامر، وعامر بْن عبد الأسود- وكان من الرؤساء- في ذلك ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم، يكون عليهم مرة ولهم أخرى، حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا! فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني.
قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت حربهم، خرج إلى النعمان رجل فاستأمنه على أن يدله على مدخل يؤتون منه، ورمى في ناحية أبي موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتحها، فآمنوه في نشابة فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء، فإنكم ستفتحونها، فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بْن عبد قيس، وكعب بْن سور، ومجزأة بْن ثور، وحسكة الحبطي، وبشر كثير، فنهدوا لذلك المكان ليلا، وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرجل، فانتدب له سويد بْن المثعبة، وورقاء بْن الحارث، وبشر بن ربيعه الخثعمى، ونافع ابن زيد الحميري، وعبد اللَّه بْن بشر الهلالي، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد اللَّه بْن بشر، فأتبعهم هؤلاء وهؤلاء، حتى إذا اجتمعوا فيها- والناس على رجل من خارج- كبروا فيها، وكبر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب، فاجتلدوا فيها، فأناموا كل مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم!
قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعى في جعبتى مائه نشابه، والله ما تصلون إلي ما دام معي منها نشابه، وما يقع لي سهم، وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء اللَّه عليهم، فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا، ودعا صاحب الرمية بها، فجاء هو والرجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا بالأمان الذي طلبنا، علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بْن ثور، والبراء بْن مالك.
قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفل من تستر- وقد قصدوا للسوس- إلى السوس، وخرج بالنعمان وأبي موسى ومعهم الهرمزان، حتى اشتملوا على السوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عمر بْن سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبي موسى فرده على البصرة، وقد رد أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، ورد عمر عليها مرتين، وكتب إلى زر بْن عبد اللَّه بْن كليب الفقيمي ان يسير الى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر، وأمر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بْن ربيعة أحد بني ربيعة بْن مالك، وكان الأسود وَزِرٌّ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين- وكان الأسود قد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: جئت لأقترب إلى اللَّه عز وجل بصحبتك، فسماه المقترب، وكان زر قد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: فنى بطني، وكثر إخوتنا، فادع اللَّه لنا، فقال: «اللهم اوف لزرعمره، فتحول إليهم العدد- وأوفد أبو سبرة وفدا» فيهم أنس بْن مالك والأحنف بْن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة، حتى إذا دخلوا هيئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكللا بالياقوت، وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مروا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلددكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه- وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسده فنام- فانطلقوا ومعهم النظارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرة في يده معلقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه، وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس، فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم، فتأمله، وتأمل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين اللَّه! وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين، تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدى نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء، فرمي عنه بكل شيء عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر اللَّه! فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان اللَّه قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا ثم قال عمر: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك واستسقى ماء، فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد أمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمنته، قال:
ويحك يا أنس! أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم، فأسلم. ففرض له على ألفين، وأنزله الْمَدِينَة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن ابى سفيان طلحه ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عِيسَى، قَالَ: كَانَ التَّرْجُمَانَ يَوْمَ الْهُرْمُزَانِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْمُتَرْجِمُ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ يَفْقَهُ شَيْئًا مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُغِيرَةِ: قُلْ لَهُ: من اى ارض أنت؟ فقال المغيره: از كدام ارضى؟ فقال: مهرجاني، فقال: تكلم بحجتك، قال: كلام حي أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد أمنتني، قال: خدعتني، إن للمخدوع في الحرب حكمه، لا والله لا أؤمنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله المدينة وقال للمغيرة:
ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خب، وما خب إلا دق إياكم وإياها، فإنها تنقض الإعراب وأقبل زيد فكلمه، وأخبر عمر بقوله، والهرمزان بقول عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحه وعمرو، عن الشعبى وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال: فكيف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلا ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعز أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربون جأشا فقال: صدقتني والله، وشرحت لي الأمر عن حقه ونظر في حوائجهم وسرحهم.
وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجانقذق، وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الانسياح.