الحمس عِنْد قُرَيْش: …
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ – لَا أَدْرِي أَقَبْلَ عَامِ الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ – ابْتَدَعَتْ رَأْيَ الْحُمْسِ رَأْيًا رَأَوْهُ وَأَدَارُوهُ فَقَالُوا: نَحْنُ بَنُو إبْرَاهِيمَ وَأَهْلُ الْحُرْمَةِ وَوُلَاةُ الْبَيْتِ، وَقُطّانُ مَكّةَ وَسَاكِنُهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْعَرَبِ مِثْلُ حَقّنَا، وَلَا مِثْلُ مَنْزِلَتِنَا، وَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَنَا، فَلَا تُعَظّمُوا شَيْئًا مِنْ الْحِلّ كَمَا تُعَظّمُونَ الْحَرَمَ، فَإِنّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفّتْ الْعَرَبُ بِحُرْمَتِكُمْ وَقَالُوا: قَدْ عَظّمُوا مِنْ الْحِلّ مِثْلَ مَا عَظّمُوا مِنْ الْحَرَمِ. فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ عَلَى عَرَفَةَ وَالْإِفَاضَةُ مِنْهَا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ وَيُقِرّونَ أَنّهَا مِنْ الْمَشَاعِرِ وَالْحَجّ وَدِينِ إبْرَاهِيمَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ الْعَرَبِ أَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا، إلّا أَنّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ الْحُرْمَةِ وَلَا نُعَظّمَ غَيْرَهَا، كَمَا نُعَظّمُهَا نَحْنُ الْحُمْسُ وَالْحُمْسُ أَهْلُ الْحَرَمِ، ثُمّ جَعَلُوا لِمَنْ وُلِدُوا مِنْ الْعَرَبِ مِنْ سَاكِنِ الْحِلّ وَالْحَرَمِ مِثْلَ الّذِي لَهُمْ بِوِلَادَتِهِمْ إيّاهُمْ يَحِلّ لَهُمْ مَا يَحِلّ لَهُمْ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يحرم عَلَيْهِم.
الْقَبَائِل الَّتِي دَانَتْ مَعَ قُرَيْش بالحمس:
وَكَانَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ: أَنّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مُعَاوِيَةَ بْنَ بَكْرِ بْنِ هَوَازِن دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَنْشَدَنِي لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا *** بِتَثْلِيثِ مَا نَاصَبْت بَعْدِي الْأَحَامِسَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَثْلِيثٌ: مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادهمْ. والشيار: السمان الْحِسَانُ. يَعْنِي بِالْأَحَامِسِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَبِعَبّاسِ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ وَكَانَ أَغَارَ عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ بِتَثْلِيثِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِعَمْرِو.
وَأَنْشَدَنِي لِلَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ الدّارِمِيّ فِي يَوْمِ جَبَلَةَ:
أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ *** الْمُعْشِرُ الْجِلّةَ فِي الْقَوْمِ الْحَمَسْ
لِأَنّ بَنِي عَبَسٍ كَانُوا يَوْمَ جَبَلَةَ حُلَفَاءَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صعصعة.
يَوْم جبلة:
وَيَوْمُ جَبَلَةَ: يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ بَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَبَيْنَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَكَانَ الظّفَرُ فِيهِ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى بَنِي حَنْظَلَةَ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَأُسِرَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَانْهَزَمَ عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ عُدُسُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ. فَفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ:
كَأَنّك لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا *** وَعَمْرَ بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعَوْا: يَا لَدَارِمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
يَوْم ذِي نجيب:
ثُمّ الْتَقَوْا يَوْمَ ذِي نَجَبٍ فَكَانَ الظّفَرُ لِحَنْظَلَةَ عَلَى بَنِي عَامِرٍ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ حَسّانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيّ، وَهُوَ أَبُو كَبْشَةَ. وَأُسِرَ يَزِيدُ بْنُ الصّعْقِ الْكِلَابِيّ وَانْهَزَمَ الطّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو عَامِرِ بْنُ الطّفَيْلِ.
فَفِيهِ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ:
وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ *** عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا هَامَةَ ابْنِ خُوَيْلِدٍ *** يَزِيدَ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
فَقَالَ جَرِيرٌ:
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَه *** وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مُصْقِعَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَحَدِيثُ يَوْمِ جَبَلَةَ، وَيَوْمُ ذِي نَجَبٍ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْنَا. وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت فِي حَدِيثِ يَوْم الْفجار.
مَا زادته الْعَرَب فِي الحمس:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ ابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَتّى قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يَأْتَقِطُوا الأقط وَلَا يسلئوا السّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ وَلَا يَسْتَظِلّوا – إنْ اسْتَظَلّوا – إلّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ مَا كَانُوا حُرُمًا، ثُمّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلّ إلَى الْحَرَمِ إذَا جَاءُوا حُجّاجًا أَوْ عُمّارًا، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا أَوّلَ طَوَافِهِمْ إلّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَإِنْ تَكَرّمَ مِنْكُمْ مُتَكَرّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمْسِ. فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ ثُمّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا، وَلَمْ يَمَسّهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أبدا.
اللقى عَن الحمس وَشعر فِيهِ:
فَكَانَت الْعَرَبُ تُسَمّي تِلْكَ الثّيَابَ اللّقَى، فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَرَبَ. فَدَانَتْ بِهِ وَوَقَفُوا عَلَى عَرَفَاتٍ، وَأَفَاضُوا مِنْهَا، وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً أَمّا الرّجَالُ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً. وَأَمّا النّسَاءُ فَتَضَعُ إحْدَاهُنّ ثِيَابَهَا كُلّهَا إلّا دِرْعًا مُفَرّجًا عَلَيْهَا، ثُمّ تَطُوفُ فِيهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطُوفُ الْبَيْتَ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ *** وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلّهُ
وَمَنْ طَافَ مِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَذْكُرُ شَيْئًا تَرَكَهُ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَا يَقْرَبُهُ – وَهُوَ يُحِبّهُ -:
كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهَا كَأَنّهَا *** لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ
يَقُولُ: لَا تمس.
حكم الْإِسْلَام فِي الطّواف، وَإِبْطَال عادات الحمس فِيهِ:
فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللهُ تَعَالَى مُحَمّدًا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ حِينَ أَحْكَمَ لَهُ دِينَهُ. وَشَرَعَ لَهُ سُنَنَ حَجّهِ: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الْبَقَرَةُ: 199] . يَعْنِي قُرَيْشًا، وَالنّاسُ الْعَرَبُ، فَرَفَعَهُمْ فِي سُنّةِ الْحَجّ إلَى عَرَفَاتٍ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا.
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِيمَا كَانُوا حَرّمُوا عَلَى النّاسِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلُبُوسِهِمْ عِنْدَ الْبَيْتِ. حِينَ طَافُوا عُرَاةً وَحَرّمُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْحِلّ مِنْ الطّعَامِ {يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافُ 31 – 32] . فَوَضَعَ اللهُ تَعَالَى أَمْرَ الْحُمْسِ وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ عَنْ النّاسِ بِالْإِسْلَامِ حِينَ بَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْن أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَمّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. قَالَ لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَإِنّهُ لَوَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتِ مَعَ النّاسِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ حَتّى يَدْفَعَ مَعَهُمْ تَوْفِيقًا مِنْ اللهِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
الْحُمْسُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْحُمْسَ وَمَا ابْتَدَعَتْهُ قُرَيْشٌ فِي ذَلِكَ وَالتّحَمّسُ التّشَدّدُ وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ التّزَهّدِ وَالتّأَلّهِ فَكَانَتْ نِسَاؤُهُمْ لَا يَنْسِجْنَ الشّعْرَ وَلَا الْوَبَرَ وَكَانُوا لَا يَسْلَئُونَ السّمْنَ وَسَلَأَ السّمْنَ أَنْ يُطْبَخَ الزّبْدُ حَتّى يَصِيرَ سَمْنًا قَالَ أَبْرَهَةُ:
إنّ لَنَا صِرْمَةً مَخِيسَة *** نَشْرَبُ أَلْبَانَهَا وَنَسْلَؤُهَا
ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا.
الْبَيْتُ: شِيَارًا مِنْ الشّارَةِ الْحَسَنَةِ يَعْنِي: سِمَانًا حِسَانًا وَبَعْدَ الْبَيْتِ:
وَلَكِنّهَا قِيدَتْ بِصَعْدَةِ مَرّةً *** فَأَصْبَحْنَ مَا يَمْشِينَ إلّا تَكَارُسَا
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ
أَجْذِمْ: زَجْرٌ مَعْرُوفٌ لِلْخَيْلِ وَكَذَلِكَ أَرْحِبْ وَهَبْ وَهِقِطْ وَهِقَطْ وَهِقَبْ.
يَوْمُ جَبَلَةَ:
وَذَكَرَ يَوْمَ جَبَلَةَ. وَجَبَلَةُ هَضْبَةٌ عَالِيَةٌ كَانُوا قَدْ أَحْرَزُوا فِيهَا عِيَالَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَكَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَئِيسُ نَجْرَانَ، وَهُوَ ابْنُ الْجَوْنِ الْكِنْدِيّ وَأَخٌ لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَحْسَبُ اسْمُهُ حَسّانُ بْنُ وَبَرَةَ وَهُوَ أَخُو النّعْمَانِ لِأُمّهِ وَفِي أَيّامِ جَبَلَةَ كَانَ مَوْلِدُ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَلِثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قُبَاذٍ وَكَانَ مَوْلِدُ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ لِأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ مَضَتْ مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ الْمَذْكُورِ فَبَيْنَهُ – عَلَيْهِ السّلَامُ – وَبَيْنَ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً.
عُدُسٌ وَالْحِلّةُ وَالطّلْسُ:
وَذَكَرَ زُرَارَةُ بْنُ عُدُسِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ عُدُسٌ بِضَمّ الدّالِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ إلّا أَبَا عُبَيْدَةَ فَإِنّهُ كَانَ يَفْتَحُ الدّالَ مِنْهُ وَكُلّ عُدُسٍ فِي الْعَرَبِ سِوَاهُ فَإِنّهُ مَفْتُوحُ الدّالِ. وَذَكَرَ الْحِلّةَ وَهُمْ مَا عَدَا الْحُمْسَ وَأَنّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً إنْ لَمْ يَجِدُوا ثِيَابَ أَحْمَسَ وَكَانُوا يَقْصِدُونَ فِي ذَلِكَ طَرْحَ الثّيَابِ الّتِي اقْتَرَفُوا فِيهَا الذّنُوبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ الطّلْسَ مِنْ الْعَرَبِ، وَهُمْ صِنْفٌ ثَالِثٌ غَيْرَ الْحِلّةِ، وَالْحُمْسُ كَانُوا يَأْتُونَ مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ طُلْسًا مِنْ الْغُبَارِ فَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي تِلْكَ الثّيَابِ الطّلْسِ فَسُمّوا بِذَلِكَ. ذَكَرَهُ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ.
اللّقَى:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ اللّقَى وَهُوَ الثّوْبُ الّذِي كَانَ يُطْرَحُ بَعْدَ الطّوَافِ فَلَا يَأْخُذُهُ أَحَدٌ، وَأَنْشَدَ:
كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهِ كَأَنّهُ *** لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ
حَرِيمٌ: أَيْ مُحْرِمٌ لَا يُؤْخَذُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَكُلّ شَيْءٍ مُطّرَحٌ، فَهُوَ لَقًى قَالَ الشّاعِرُ يَصِفُ فَرْخَ قَطًا:
تَرْوِي لَقًى أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ *** تَصْهَرُهُ الشّمْسُ فَمَا يَنْصَهِرْ
تُرْوَى بِفَتْحِ التّاءِ أَيْ تَسْتَقِي لَهُ وَمِنْ اللّقَى: حَدِيثُ فَاخِتَةَ أُمّ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَكَانَتْ دَخَلَتْ الْكَعْبَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمّ بِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ فَلَمْ تَسْتَطِعْ الْخُرُوجَ مِنْ الْكَعْبَةِ، فَوَضَعَتْهُ فِيهَا، فَلُفّتْ فِي الْأَنْطَاعِ هِيَ وَجَنِينُهَا، وَطُرِحَ مَثْبِرُهَا وَثِيَابُهَا الّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا، فَجُعِلْت لَقًى لَا تُقْرَبُ.
رِجْزُ الْمَرْأَةِ الطّائِفَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ
الْبَيْتَيْنِ وَيَذْكُرُ أَنّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَطَبَهَا، فَذُكِرَتْ لَهُ عَنْهَا كِبْرَةٌ فَتَرَكَهَا، فَقِيلَ إنّهَا مَاتَتْ كَمَدًا وَحُزْنًا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الْمُؤَلّفُ إنْ كَانَ صَحّ هَذَا، فَمَا أَخّرَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ أُمّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجًا لِرَسُولِ رَبّ الْعَالَمِينَ إلّا قَوْلُهَا:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ. تَكْرِمَةً مِنْ اللهِ لِنَبِيّهِ وَعِلْمًا مِنْهُ بِغَيْرَتِهِ وَاَللهُ أَغْيَرُ مِنْهُ.
أُسْطُورَةٌ:
وَمِمّا ذُكِرَ مِنْ تَعَرّيهمْ فِي الطّوَافِ أَنّ رَجُلًا وَامْرَأَةً طَافَا كَذَلِكَ فَانْضَمّ الرّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ تَلَذّذًا وَاسْتِمْتَاعًا، فَلَصَقَ عَضُدَهُ بِعَضُدِهَا، فَفَزِعَا عِنْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَا مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُمَا مُلْتَصِقَانِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى فَكّ عَضُدِهِ مِنْ عَضُدِهَا، حَتّى قَالَ لَهُمَا قَائِلٌ تُوبَا مِمّا كَانَ فِي ضَمِيرِكُمَا، وَأَخْلِصَا لِلّهِ التّوْبَةَ فَفَعَلَا، فَانْحَلّ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخِرِ.
قُرْزُلٌ وَطُفَيْلٌ:
وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ:
وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ *** عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
قُرْزُلٌ: اسْمُ فَرَسِهِ وَكَانَ طُفَيْلٌ يُسَمّى: فَارِسَ قُرْزُلٍ وَقُرْزُلٌ الْقَيْدُ سَمّى الْفَرَسَ بِهِ كَأَنّهُ يُقَيّدُ مَا يُسَابِقُهُ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِمُنْجَرِدِ قَيْدِ الْأَوَابِدِ هَيْكَلِ
وَطُفَيْلٌ هَذَا هُوَ: وَالِدُ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ، عَدُوّ اللهِ وَعَدُوّ رَسُولِهِ وَأَخُو طُفَيْلٍ هَذَا: عَامِرٌ مُلَاعِبُ الْأَسِنّةِ وَسَنَذْكُرُ لِمَ سُمّيَ مُلَاعِبًا، وَنَذْكُرُ إخْوَتَهُ وَأَلْقَابَهُمْ فِي الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللهُ.
الْهَامَةُ:
وَقَوْلُهُ: عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمِ. يَعْنِي: الْهَامَةَ وَهِيَ الْبُومُ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنّ الرّجُلَ إذَا قُتِلَ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِهِ هَامَةٌ تَصِيحُ اسْقُونِي اسْقُونِي، حَتّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ. قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ الْعَدْوَانِيّ:
أَضْرِبْك حَتّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي
شَرْحُ بَيْتِ جَرِيرٍ:
فَصْلٌ: وَأَنْشَدَ جَرِيرٌ:
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَهُ *** وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مِصْقَعَا
وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ هَذَا الْبَيْتَ الْمَعْرُوفَ فِي اللّغَةِ أَنّ – الْمِصْقَعَ الْخَطِيبُ الْبَلِيغُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَكِنْ يُقَالُ فِي اللّغَةِ: صَقَعَهُ: إذَا ضَرَبَهُ عَلَى شَيْءٍ مُصْمِتٍ يَابِسٍ قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِصْقَعٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَيُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ مِصْقَعٌ كَمَا يُقَالُ مِحْرَبٌ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ سَعْدًا لَمِحْرَبٌ يَعْنِي [ابْنَ] أَبِي وَقّاصٍ.
مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَمْرِ الْحُمْسِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْحُمْسِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ} الْآيَةُ [الْأَعْرَافُ: 31] فَقَوْلُهُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إشَارَةٌ إلَى مَا كَانَتْ الْحُمْسُ حَرّمَتْهُ مِنْ طَعَامِ الْحَجّ إلّا طَعَامَ أَحْمَسَ وَخُذُوا زِينَتَكُمْ يَعْنِي اللّبَاسَ وَلَا تَتَعَرّوْا، وَلَذَلِكَ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ يَا بَنِي آدَمَ بَعْدَ أَنْ قَصّ خَبَرَ آدَمَ وَزَوْجَهُ إذْ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنّةِ أَيْ إنْ كُنْتُمْ تَحْتَجّونَ بِأَنّهُ دِينُ آبَائِكُمْ فَآدَمُ أَبُوكُمْ وَدِينُهُ سِتْرٌ الْعَوْرَةُ كَمَا قَالَ مِلّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ إنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ دِينَ آبَائِكُمْ فَإِبْرَاهِيمُ أَبُوكُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمِمّا نَزَلَ فِي ذَلِكَ {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} [الْأَنْفَالُ: 35] . فَفِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً وَيُصَفّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُصَفّرُونَ فَالْمُكَاءُ الصّفِيرُ وَالتّصْدِيَةُ التّصْفِيقُ. قَالَ الرّاجِزُ:
وَأَنَا مِنْ غَرْوِ الْهَوَى أُصَدّي.
وَمِمّا نَزَلَ مِنْ أَمْرِ الْحُمْسِ:
{وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} [الْبَقَرَةُ: 189] .
لِأَنّ الْحُمْسَ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السّمَاءِ عَتَبَةُ بَابٍ وَلَا غَيْرُهَا، فَإِنْ احْتَاجَ أَحَدُهُمْ إلَى حَاجَةٍ فِي دَارِهِ تَسَنّمَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ مِنْ الْبَابِ فَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ {وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَةُ: 189] .
وُقُوفُ النّبِيّ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالنّبُوّةِ:
وَذَكَرَ وُقُوفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ مَعَ النّاسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَبْلَ النّبُوّةِ تَوْفِيقًا مِنْ اللهِ حَتّى لَا يَفُوتَهُ ثَوَابُ الْحَجّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ حِينَ رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ مَعَ النّاسِ هَذَا رَجُلٌ أَحْمَسُ فَمَا بَالُهُ لَا يَقِفُ مَعَ الْحُمْسِ حَيْثُ يَقِفُونَ؟!