أي بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال بمعنى المقاتلة، وهو فجار البرّاض بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وضاد معجمة عن ابن سعد قال: …
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد حضرته» يعني الحرب المذكورة «مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت» وكان له من العمر أربع عشرة سنة: أي وهذا الفجار الرابع.
وأما الفجار الأول فكان عمره صلى الله عليه وسلم حينئذ عشر سنين. وسببه أي هذا الفجار الأول أن بدر بن معشر الغفاري كان له مجلس يجلس فيه بسوق عكاظ ويفتخر على الناس، فبسط يوما رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف، فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته فأندرها: أي أسقطها وأزالها، وقيل جرحه جرحا يسيرا. قال بعضهم: وهو الأصح، فاقتتلوا.
وسبب الفجار الثاني أن امرأة من بني عامر كانت جالسة بسوق عكاظ فأطاف بها شاب من قريش من بني كنانة فسألها أن تكشف وجهها فأبت فجلس خلفها وهي لا تشعر وعقد زيلها بشوكة، فلما قامت انكشف دبرها فضحك الناس منها فنادت المرأة يا آل عامر، فثاروا بالسلاح ونادى الشاب يا بني كنانة، فاقتتلوا. وقوله: «فسألها أن تكشف وجهها فأبت» يدل على أن النساء في الجاهلية كنّ يأبين كشف وجوههن.
وسبب الفجار الثالث أنه كان لرجل من بني عامر دين على رجل من بني كنانة فلواه به: أي مطله فجرت بينهما مخاصمة، فاقتتل الحيان.
وقد ذكر أن عبد الله بن جدعان تحمل ذلك الدين في ماله، وكان ذلك سببا لانقضاء الحرب. وقيل لم يقاتل صلى الله عليه وسلم في فجار البراض، وعليه اقتصر في الوفاء: أي لم يرم فيه بأسهم، بل قال: «كنت أنبل على أعمامي» أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموه.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه ليس في هذه العبارة أنه لم يرم، بل فيها أنه كان ينبل. ويجوز أن يكون أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم ذلك أي أنه كان ينبل: أي يرد النبل، فلا ينافي أنه رمى في بعض الأوقات بأسهم: أي وفي كلام بعضهم: كان أبو طالب يحضر أيام الفجار: أي فجار البراض، وكانت أربعة أيام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فإذا جاء هزمت قيس، ولعل المراد قيس هوازن، فلا ينافي ما يأتي من الاقتصار على هوازن. وإذا لم يجئ هو أي في يوم من تلك الأيام هزمت كنانة، فقالوا: لا أبا لك لا تغب عنا ففعل، ذكره في الإمتاع. وذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم طعن أبا براء ملاعب الأسنة في تلك الحروب: أي في بعض تلك الأيام، وأبو براء هذا كان رئيس بني قيس وحامل رايتهم في تلك الحرب، والطعن ظاهر في الرمح محتمل للنبل. وظاهر كلامهم أنه لم يقاتل فيه بغير الرمي للأسهم على تقدير صحة تلك الرواية بذلك. ولا يبعد أن يكون رمى ولم يصب أحدا، إذ لو أصاب أحدا لنقل لأنه مما توفر الدواعي على نقله إلا أن يقال بجواز أن يكون أصاب ثمرة لم تذكر فليتأمل. قال: وسميت الفجار، لأن العرب فجرت فيه لأنه وقع في الشهر الحرام اهـ.
أقول: ظاهره حروب الفجار الأربعة: أي التي هي فجار البراض وغيرها.
وظاهر كلامهم صلى الله عليه وسلم أنه لم يحضر إلا في الفجار الرابع، الذي هو فجار البراض، ثم رأيت التصريح بذلك في الوفاء وسأذكره، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أن حرب الفجار لم يكن في شهر حرام، وسيأتي في هذا الباب ما يدل على ذلك.
أي أن القتال في ذلك لم يكن في الشهر الحرام وإنما سببه كان في الشهر الحرام وهو قتل البراض لعروة الرحال.
فقد قيل سبب القتال أن عروة الرحّال بتشديد الحاء المهملة، وكان من أهل هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ملك الحيرة. واللطيمة: العير التي تحمل الطيب والبز للتجارة: أي فإن المنذر كان يرسل تلك اللطيمة لتباع في سوق عكاظ ويشتري له بثمن ذلك أدم من أدم الطائف، ويرسل تلك اللطيمة في جوار رجل من أشراف العرب، فلما جهز اللطيمة كان عنده جماعة من العرب كان فيهم البرّاض وهو من بني كنانة، وعروة الرحال وهو من هوازن، فقال البراض: أنا أجيرها على بني كنانة يعني قومه، فقال له النعمان: ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتهامة، فقال له عروة الرحال: أنا أجيرها لك، فقال له البراض أتجيرها على كنانة؟ فقال نعم وعلى أهل الشيح والقيصوم، ونال من البراض، فخرج عروة الرحال مسافرا وخرج البراض خلفه يطلب غفلته، فلما استغفله وثب عليه فقتله: أي فإنه شرب الخمر وغنته القينات، فسكر ونام، فجاءه البراض وأيقظه، فقال له الرحال: ناشدتك الله لا تقتلني فإنها كانت مني زلة وهفوة، فلم يلتفت إليه وقتله وذلك في الشهر الحرام، فأتى آت كنانة وهم بعكاظ مع هوازن، فقال لكنانة: إن البراض قد قتل عروة الرحال وهو في الشهر الحرام، فانطلقوا وهوازن لا تشعر ثم بلغهم الخبر، فاتبعوهم فأدركوهم قبيل دخولهم الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم وعاونت قريش كنانة. ولا يخفى أن في هذا تصريحا بأن القتال لم يكن في الشهر الحرام، لأنهم إذا كانوا في الشهر الحرام لا يقاتلون مطلقا أي وإن لم يدخلوا الحرم، فكفهم عن قتالهم لمقاربتهم دخول الحرم، وقتالهم لهم في اليوم الثاني دليل على أن قتالهم لم يكن في الشهر الحرام، ومكث القتال بينهم أربعة أيام: أي كما تقدم.
أقول: قال السهيلي: الصواب ستة أيام، والله أعلم. قال: وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض تلك الأيام، أخرجه أعمامه معهم: أي ويدل له ما تقدم من أنه كان إذا حضر غلبت كنانة وإذا لم يحضر هزمت، وفي بعض تلك الأيام وهو أشدها: أي وهو اليوم الثالث قيد أمية وحرب ابنا أمية بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب أنفسهم كيلا يفروا، فسموا العنابس: أي الأسود اهـ.
أي وحرب والد أبي سفيان وأمية أخوه ماتا على الكفر، وأبو سفيان أسلم كما سيأتي، ثم تواعدوا للعام المقبل بعكاظ، فلما كان العام المقبل جاؤوا للوعد: أي وكان أمر قريش وكنانة إلى عبد الله بن جدعان. وقيل كان إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان، لأنه كان رئيس قريش وكنانة يومئذ، وكان عتبة ابن أخيه ربيعة بن عبد شمس يتيما في حجره، فضنّ أي بخل به حرب، وأشفق: أي خاف من خروجه معه، فخرج عتبة بغير إذنه، فلم يشعر أي يعلم به إلا وهو على بعير بين الصفين ينادي: يا معشر مضر غلام تفانون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم وتعفوا عن دمائنا: أي فإن قريشا وكنانة كان لهم الظفر على هوازن يقتلونهم قتلا ذريعا: أي وذلك لا ينافي انهزامهم في بعض الأيام، قالوا: وكيف؟ قال: ندفع لكم رهنا منا إلى أن نوفي لكم ذلك، قالوا: ومن لنا بهذا؟ قال أنا، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فرضيت به هوازن وكنانة وقريش، ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام، وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فلما رأت هوازن الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم، وانقضت حرب الفجار. وفي رواية: وودت قريش قتلى هوازن، ووضعت الحرب أوزارها.
وقد يقال: على تقدير صحة هذه الرواية دماء بردت التزمت أن تديها فكان انقضاؤها على يد عتبة بن ربيعة وهو ممن قتل كافرا ببدر، وهو أبو هند زوج أبي سفيان أم معاوية رضي الله عنها وعن زوجها وولدها المذكور.
وكان يقال لم يسد مملق: أي فقير إلا عتبة بن ربيعة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال: أي وفي كلام بعضهم: ساد عتبة بن ربيعة، وأبو طالب وكانا أفلس من أبي المزلق وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد مؤنة ليلته وكذا أبوه وجده وأبو جده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس.
هذا والذي في الوفاء الاقتصار على أن حرب الفجار كان مرتين: المرة الأولى كانت المحاربة فيه ثلاث مرات. المرة الأولى سببها قضية بدر بن معشر الغفاري.
والمرة الثانية كان سببها قضية المرأة، والثالثة سببها قضية الدين ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرات، وأما المرأة الثانية فكانت بين هوازن وكنانة، وقد حضرها صلى الله عليه وسلم، وقد يقال لا خلاف في المعنى.