وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على عرب المدينة برسول منتظر، …
فقد حدَّث عاصمبن عمربن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إنما دعانا للإسلام ــــ مع رحمة الله تعالى لنا ــــ ما كنا نسمع من أحْبار يَهود، كنا أهل شِرك وأصحابَ أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يُبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكثيراً ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله محمداً أجَبْنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنّا وكفروا. وإنما قال لهم اليهود نقتلكم معه قتل عاد وإرم لأن من صفته عليه الصلاة والسلام في كتبهم أن هذا النبيَّ يستأصل المشركين بالقوة، ولم يكونوا يظنون أَنَّ الحسد والبغي سيتمكنان من أفئدتهم فينبذون الدين القيّم فيحقّ عليهم العذاب في الدنيا والآخرة. وكان أميّةبن أبي الصلت المتنصّر العربي كثيراً ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا. وحدَّث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن نفسه أنه صحب قسيساً فكان يقول له: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد، يخرج من جبال تهامة، علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وهذا الحديث كان من أسباب إسلام سلمان. ولما راسل عليه الصلاة والسلام ملوك الأرض لم يُهِنْ كتابه إلا كسرى الذي ليس عنده علم من الكتاب، وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وقيصر ملك الروم، فأكرموا وِفَادَةَ رسله. ومنهم من آمن كالنجاشي، ومنهم من ردّ ردّاً لطيفاً وكاد يسلم لولا غلبة الملك كقيصر، ومنهم من هادى كالمقوقس، ولم يكن عليه الصلاة والسلام في قوّة يُرهِبُ بها هؤلاء الملوك اللهمَّ ما ذاك إلا لأنهم يعلمون أن المسيح عليه السلام بشّر برسول يأتي من بعده، ووافقت صفات رسولنا ما عندهم فأجابوا بالتي هي أحسن، وأما ما سُمع من الهواتف والكُهان قبيل زمنه فهو ما لا يدخل تحت حصر. وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر. ومع ذلك كله فالأعمال التي جاد الله بها على يديه والأقوال التي أتانا بها أعظم مقوَ لحجته ومؤيدٍ لدعوته. وسيأتي عليك بيان ذلك كله بأجلى بيان فتأمَّلْه ترشد هداك الله إلى الصراط السويّ.