أي والإقامة ومشروعيتها، وكل منهما من خصائص هذه الأمة، كما أن خصائصها الركوع والجماعة وافتتاح الصلاة بالتكبير، فإن صلاة الأمم …
السابقة كانت لا ركوع فيها ولا جماعة، وكانت الأنبياء كأممهم يستفتحون الصلاة بالتوحيد والتسبيح والتهليل، أي وكان دأبه صلى الله عليه وسلم في إحرامه لفظة الله أكبر، ولم ينقل عنه سواها أي كالنية.
ولا يشكل على الركوع قوله تعالى لمريم: {وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] لأن المراد به في ذلك الخضوع أو الصلاة، لا الركوع المعهود كما قيل، لكن في البغوي قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليست الواو للترتيب بل للجمع هذا كلامه فليتأمل، وكان وجود ذلك: أي الأذان والإقامة في السنة الأولى، وقيل في الثانية.
ذكر أن الناس إنما كانوا يجتمعون للصلاة لتحين مواقيتها، أي لدخول أوقاتها من غير دعوة، أي وقد قال ابن المنذر: هو صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرض الصلاة بمكة، إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور.
قال: ووردت أحاديث تدلّ على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة من تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى إليه بالأذان، فنزل به وعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: هو حديث موضوع.
ومنها ما رواه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه» أي جبريل «يصلي بهم، فقدمني فصليت» قال فيه الذهبي: حديث منكر، بل موضوع هذا كلامه. على أنه يدل على أن المراد بالأذان الإقامة كما تقدم أنها المرادة بالأذان انتهى.
أقول: ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل «إن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة» وقد سئل الحافظ السيوطي: هل ورد أن بلالا أو غيره أذن بمكة قبل الهجرة؟ فأجاب بقوله: ورد ذلك بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها. والمشهور الذي صححه أكثر العلماء ودلت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، وأنه لم يؤذن قبلها لا بلال ولا غيره. وذكر في الدرّ في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ} [فصّلت:33] أنها نزلت بمكة في شأن المؤذنين، والأذان إنما شرع في المدينة، فهي مما تأخر حكمه عن نزوله هذا كلامه.
وفي كلام الحافظ ابن حجر ما يوافقه، حيث ذكر أن الحق أنه لا يصح شيء من الأحاديث الدالة على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، وذكر ما تقدم عن ابن المنذر، من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من غير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة، إلى أن هاجر، صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك: أي فقد ائتمر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كيف يجمع الناس للصلاة؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رآها الناس أذن» أي أعلم «بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك، فذكر له بوق «يهود» أي يقال له الشبور بفتح الشين المعجمة ثم موحدة مشددة مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء، ويقال له القبع بضم القاف وإسكان الموحدة وقيل بفتحها، وقيل باسكان النون وبالعين المهملة.
قال السهيلي: وهو أولى بالصواب، وقيل بالمثناة فوق، وقيل بالمثلثة، وهو القرن الذي يدعون به لصلاتهم: أي يجتمعون لها عند سماع صوته «فكرهه صلى الله عليه وسلم وقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس الذي يدعون به النصارى لصلاتهم، فقال: هو من أمر النصارى، أي فقالوا لو رفعنا نارا أي فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة، فقال ذلك للمجوس، وقيل كما في حديث الشيخين عن ابن عمر «أن عمر رضي الله عنهما قال: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة» أي بحضورها «أي ففعلوا ذلك وكان المنادي هو بلال رضي الله تعالى عنه» .
قال الحافظ ابن حجر: وكان اللفظ الذي ينادي به بلال: أي قبل رؤيا عبد الله «الصلاة جامعة» كما رواه ابن سعد وسعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد هممت أن أبث رجالا ينادون الناس بحين الصلاة» أي في حينها: أي وقتها «وقد هممت أن آمر رجالا تقوم على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة» أي ولعل هذا كان منه صلى الله عليه وسلم قبل وقوع ما تقدم بلال، ثم أمر بلال بما تقدم.
وقيل ائتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالناقوس: أي اتفقوا عليه فنحت ليضرب به المسلمون أي وهو خشبة طويلة يضرب عليها بخشبة صغيرة، فنام عبد الله بن زيد، فأري الأذان أي والإقامة في منامه.
فعنه رضي الله تعالى عنه، قال «لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس فطاف بي وأنا نائم رجل» وفي لفظ «إني لبين نائم ويقظان طاف بي رجل» والمراد أنه نام نوما خفيفا قريبا من اليقظة فروحه كالمتوسطة بين النوم واليقظة.
قال الحافظ السيوطي: أظهر من هذا أن يحمل على الحالة التي تعتري أرباب الأحوال ويشاهدون فيها ما يشاهدون، ويسمعون ما يسمعون، والصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين هم رؤوس أرباب الأحوال، أي وهذه الحالة هي التي عناها الشيخ عبد الله الدلاصي بقوله: كنت بالمسجد الحرام في صلاة الصبح، فلما أحرم الإمام وأحرمت أخذتني أخذة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إماما وخلفه العشرة فصليت معهم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى سورة المدثر، وفي الثانية {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النّبإ:1] ثم سلم الإمام فعقلت تسليمه فسلمت.
أي ويدل لذلك قول عبد الله بن زيد كما جاء في رواية: ولولا أن يقول الناس: أي يستبعد الناس ذلك لقلت إني كنت يقظان غير نائم وذلك الرجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده؛ فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت بلى: أي وفي رواية فقلت أتبيع الناقوس؛ فقال: ماذا تريد به؟ فقلت: أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس، قال: فأنا أحدثك بخير لك من ذلك، فقلت بلى، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال عبد الله: ثم استأخر عني: أي ذلك الرجل غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله: أي ففي هذه الرواية افراد ألفاظ الإقامة إلا لفظها ولفظ التكبير أولا وآخرا. وفي رواية «رأى رجلا عليه ثياب خضر وهو قائم على سقف المسجد. وفي رواية: على جذم حائط، بكسر الجيم وسكون المعجمة: أي أصل الحائط، ولا مخالفة لما سيعلم فأذن ثم قعد قعدة، ثم قام فقال مثلها، أي مثل الكلمات، أي كلمات الأذان، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، أي زيادة على تلك الكلمات التي هي الأذان. ففي هذه الرواية تثنية ألفاظ الإقامة والإتيان بالتكبير في أولها أربعا كالأذان، أي وهذا: أي كونه على سقف المسجد، وكونه على جذم حائط لا مخالفة بينهما، لأنه يجوز أن يكون لما قال له تقول الله أكبر، إلى آخر الأذان والإقامة كانا قائما على سقف المسجد قريبا من جذم الحائط، فنسب قيامه إلى كل منهما، ويكون قوله ثم استأخر عني غير بعيد: أي سكت غير طويل. قال عبد الله: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت. أي وفي رواية: أنه أتاه ليلا وأخبره، وهي المذكورة في سيرة الحافظ الدمياطي.
ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون قول عبد الله: فلما أصبحت: أي قاربت الصباح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به فإنه أندى» وفي رواية «أمدّ صوتا منك» أي أعلى وأرفع. وقيل أحسن وأعذب. ولا مانع من إرادة ذلك كله هنا «فقمت مع بلال» وفي رواية «فقال لبلال: قم فانظر ما أمرك به عبد الله بن زيد فافعله، فجعلت ألقيه عيه ويؤذن به» أي فبلال أول مؤذنيه صلى الله عليه وسلم، أي وقيل أول مؤذنيه عبد الله بن زيد ذكره الإمام الغزالي، وأنكره ابن الصلاح، أي حيث قال لم أجد هذا بعد البحث عنه، هذا كلامه.
وقد يقال: لا منافاة لأن عبد الله أول من نطق بالأذان، وبلال أول من أعلن به، وحينئذ يكون أوّل مشروعيته كان في أذان الصبح، فلما سمع بذلك: أي بأذان بلال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في بيته خرج يجر رداءه. وفي رواية: إزاره أي عجلا، أي وقد أعلم بالقصة لقوله «والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه» . وفي رواية «مثل ما يقول» أي بلال رضي الله تعالى عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «فلله الحمد» قال الترمذي:
عبد الله بن زيد بن عبد ربه لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان.
وقيل رأى مثل ما رأى عبد الله أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وقيل سبعة من الأنصار وقيل أربعة عشر.
قال ابن الصلاح: لم أجد هذا بعد إمعان النظر، وتبعه النووي، فقال: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجرّ رداءه، وقيل رآه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء «أسمع ملكا يؤذن» أي فقد جاء في حديث بعض رواته متروك.
بل قيل إنه من وضعه «أنه لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل عليه الصلاة والسلام بدابة يقال لها البراق، فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك خرج من الحجاب ملك فقال: الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر» وذكر بقية الأذان.
فرؤيا عبد الله دلت على أن هذا الذي رآه في السماء يكون سنة في الأرض عند الصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، أي فلذلك قال «إنها لرؤيا حق إن شاء الله» .
وفيه أن الذي تقدم عن الخصائص أن المراد بهذا الأذان الذي أتى به الملك الإقامة لا حقيقة الأذان، أي ويدل لذلك أن الملك قال فيه «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فقال الله: صدق عبدي، أنا أقمت فريضتها، ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم، فأمّ أهل السماء فيهم آدم ونوح» .
قال بعضهم: والأذان ثبت بحديث عبد الله بن زيد بإجماع الأمة لا يعرف بينهم خلاف في ذلك، إلا ما روي عن محمد ابن الحنفية. وعن أبي العلاء قال: قلت لمحمد ابن الحنفية: إنا لنتحدث أن بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمد ابن الحنفية فزعا شديدا، وقال: عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنه إنما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب، وقد تكون أضغاث أحلام؛ قال: فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال: هذا والله هو الباطل، ثم قال: «وإنما أخبرني أبي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أذن في بيت المقدس ليلة الإسراء، وأقام، ثم أعاد جبريل الأذان لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء فسمعه عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب».
وفي رواية عنه أنه لما انتهى إلى مكان من السماء وقف به وبعث الله ملكا، فقيل له علمه الأذان، فقال الملك: الله أكبر، فقال الله: صدق عبدي، أنا الله أكبر، إلى أن قال: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. وفيه ما علمت أن هذه الإقامة لا الأذان، وقد ردّ عليه بأنه لو ثبت بقول جبريل لما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى المشورة، والمعراج كان بمكة قبل الهجرة.
والأولى أن يتمسك ابن الحنفية بما يأتي عن بعض الروايات، من قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله «قد سبقك بذلك الوحي» وكونه أتى بالبراق إلى الحجاب هو بناء على أن العروج كان على البراق وتقدم ما فيه. ويحتمل أن يكون هذا عروجا آخر غير ذلك، وحينئذ لا يخالف هذا ما تقدم أنه لما أسري به أذن جبريل وتقدم ما فيه، ولا ما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه «مؤذن أهل السماء جبريل» لجواز حمل ذلك على الغالب، وحينئذ لا يخالف أيضا ما جاء «إسرافيل مؤذن أهل السماء، وامامهم ميكائيل عند البيت المعمور» وفي لفظ «يؤم بالملائكة في البيت المعمور» ولعلّ كون ميكائيل إمام أهل السماء لا يخالف ما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إمام أهل السماء جبريل» لما علم، وجاء «إن مؤذن أهل السماء يؤذن لاثنتي عشرة ساعة من النهار، ولاثنتي عشرة ساعة من الليل» .
أقول: وفي النور لو رآه أي الأذان ليلة الإسراء لم يحتج إلا إلى ما يجمع به المسلمين إلى الصلاة. ويردّ بأنه لم يكن يعلم قبل هذه الرؤيا أن ما رآه في السماء يكون سنة للصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، فبتلك الرؤيا علم أن ذلك سنة في الأرض كما تقدم.
وعبارة بعضهم: ولا يشكل على أذان جبريل ببيت المقدس أن الأذان إنما كان بعد الهجرة، لأنه لا مانع من وقوعه ليلة الإسراء قبل مشروعيته للصلوات الخمس، وهذا كله على تسليم أن المرئي له الأذان حقيقة لا الإقامة، وقد علمت ما فيه.
ثم رأيت بعضهم قال: وأما قول القرطبي. لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان، أي لأن المتبادر تعليمه الأذان الذي يأتي به في الأرض للصلوات.
وقد يقال: على تسليم ذلك قد علمت أن المراد بالأذان الذي سمعه ليلة الإسراء الإقامة وقد قال الحافظ ابن حجر: الحق أنه لم يصح شيء من هذه الأحاديث الواردة بأنه سمعه ليلة الإسراء، ومن ثم قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة بأنه سمع هذا الأذان في السماء ليلة المعراج: هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي أنه صحيح، بل هو منكر، تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين، وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى:
خص صلى الله عليه وسلم بذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى، والله أعلم.
أي وروي بسند واه: إن أول من أذن بالصلاة جبريل عليه الصلاة والسلام في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال رضي الله تعالى عنهما، فسبق عمر بلالا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم جاء بلال، فقال له: سبقك بها عمر، وهذا لا دلالة فيه، لأنه يجوز أن يكون ذلك بعد رؤيا عبد الله.
وذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه رآه من عشرين يوما وكتمه، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، قال له: ما منعك أن تخبرني؟ قال سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت منه.
أقول: في هذا الكلام ما لا يخفى فليتأمل، إنما قال له «إنها رؤيا حق» لأنه يجوز أن يكون جاءه صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك قبل أن يجيء إليه عبد الله بن زيد به، ومن ثم قال له حين أخبره بذلك على ما في بعض الروايات «قد سبقك بذلك الوحي» فالأذان إنما ثبت بالوحي لا بمجرد رؤيا عبد الله.
قال بعضهم في قوله {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلٰوةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً} [المائدة:58] ، كان اليهود إذا نودي إلى الصلاة وقام المسلمون إليها يقولون: قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا، على طريق الاستهزاء والسخرية.
وفيها دليل على مشروعية الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده هذا كلامه.
ورده أبو حيان بأن هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها أي وذلك على تسليم أن يكون المدعوّ به للصلاة خصوص اللفظ الذي وجد في المنام، وصار بلال يؤذن بذلك للصلوات الخمس، وينادي في الناس لغير الصلوات الخمس، لأمر يحدث يطلب له حضور الناس كالكسوف والخسوف والاستسقاء «الصلاة جامعة» .
قيل وكان بلال إذا أذن، قال: أشهد أن لا إله إلا الله حيّ على الصلاة، فقال له عمر على أثرها: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: «قل كما قال عمر» وهذا روي عن ابن عمر في حديث فيه راو ضعيف، ولولا التعبير بكان لأمكن حمل ذلك على أن بلالا أتى بذلك ناسيا في ذلك الوقت لما لقنه عبد الله بن زيد. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي، قال: والحديث الصحيح الثابت في أول مشروعية الأذان يرد هذا كله، هذا كلامه.
قيل وزاد بلال في أذان الصبح بعد الحيعلات «الصلاة خير من النوم مرتين» فأقرها صلى الله عليه وسلم أي لأن بلالا كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فيقول له الصلاة فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فصرخ بأعلى صوته: «الصلاة خير من النوم مرتين» أي اليقظة الحاصلة للصلاة خير من الراحة الحاصلة بالنوم.
أقول: وهذا يقال له التثويب، وذكر فقهاؤنا أنه صح أنه صلى الله عليه وسلم لقن ذلك لأبي محذورة أي قال له «فإن كانت صلاة الصبح، قلت الصلاة خير من النوم» ولا منافاة لأن تعليم أبي محذورة للأذان كان عند منصرفه. صلى الله عليه وسلم من حنين على ما سيأتي، وكذا ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم قال إن ذلك من السنة، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر منه بعد أن أقرّ بلالا عليه، نعم ذكر أنه لم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يقوله، أي لقول بلال له في الأذان الأول، وهو يدل لمن قال إنه إذا قيل في الأذان الأول لا يقال في الثاني، لأن أذانه للصبح كان متأخرا عن أذان بلال في أكثر الأحوال، وهو محمل ما جاء في كثير من الأحاديث «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ومن غير الأكثر محمل ما جاء «إن ابن أم مكتوم ينادي بليل وكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، إن ابن أم مكتوم أعمى، فإذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا، وإذا أذن بلال فأمسكوا ولا تأكلوا» والراجح أنه يقوله فيهما: لكن ربما يخالف ذلك ما في الموطأ أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر رضي الله عنه أن يجعلها في نداء الصبح» وفي الترمذي أن بلالا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تثويب في شيء من الصلاة» أي من أذان الصلاة «إلا في صلاة الفجر» أي يقول الصلاة خير من النوم.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع الأذان في مسجد، فأراد أن يصلي فيه، فسمع المؤذن يثوب في غير الصبح، فقال لرفيق له: اخرج بنا من عند هذا المبتدع، فإن هذه بدعة: أي سمع المؤذن يقول بين الأذان والإقامة على باب المسجد الصلاة، الصلاة وهذا هو المراد بالتثويب الذي سمعه ابن عمر كما قاله بعضهم.
وفي كلام بعضهم: من المحدثات أن المؤذن يجيء بين الأذان والإقامة إلى باب المسجد فيقول: حي على الصلاة. قيل وأول من أحدثه مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه فكان يأتيه بعد الأذان وقبل الإقامة يقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، وحي على الفلاح، حي على الفلاح يرحمك الله.
أما قول المؤذن بين الأذان والإقامة: الصلاة الصلاة فليس بدعة، لأن بلالا كان يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله «حي على الصلاة» فهذا لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم.
ثم رأيت في «درر المباحث في أحكام البدع والحوادث» : اختلف الفقهاء في جواز دعاء الأمير إلى الصلاة بعد الأذان وقبل الإقامة؛ بأن يأتي المؤذن باب الأمير، فيقول: حي على الصلاة حي على الفلاح أيها الأمير، وفسر به التثويب. فاحتج من قال بجوازه: أي بسنتيه «أن بلالا كان إذا أذن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله» أي كما كان يفعل مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه، فليس من المحدثات.
وفي الحديث المشهور أنه في مرضه صلى الله عليه وسلم أتاه بلال، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم له: «مر أبا بكر فليصلّ بالناس» . واحتج من قال بالمنع، بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما قدم مكة أتاه أبو محذورة فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فقال:
ويحك أمجنون أنت؟ أما كان في دعائك الذي دعوته ما يكفيك حتى تأتينا؟ ولو كان هذا سنة لم ينكر عليه، أي وكون عمر رضي الله تعالى عنه لم يبلغه فعل بلال من البعيد.
وعن أبي يوسف: لا أرى بأسا أن يقول المؤذن: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله، لاشتغال الأمراء بمصالح المسلمين، أي ولهذا كان مؤذن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يفعله.
وذكر بعضهم أن في دولة بني بويه كانت الرافضة تقول بعد الحيعلتين: حيّ على خير العمل، فلما كانت دولة السلجوقية منعوا المؤذّنين من ذلك، وأمروا أن يقولوا في أذان الصبح بدل ذلك: الصلاة خير من النوم مرتين، وذلك في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
ونقل عن ابن عمرو عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي على الفلاح: حي على خير العمل.
ورد الترجيع في خبر أذان أبي محذورة أيضا، وهو أن يخفض صوته بالشهادتين قبل رفعه بهما. ففي مسلم عن أبي محذورة أنه قال قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: «فمسح مقدّم رأسي وقال: تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله» وكان أبو محذورة يشفع الإقامة كالأذان: أي يكرر ألفاظها فيقول «الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله» لقنه صلى الله عليه وسلم ذلك وهي الرواية الثانية التي تقدمت عن عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه.
وذكر الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن النقل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان فيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان، وأن بلالا كان يشفع الأذان ويوتر الإقامة، أي ولا يرجع الأذان.
ففي الصحيحين «أمر بلال أن يشفع الأذان» أي ومن شفع الأذان التكبير أوله أربعا، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم الاقتصار فيه على مرتين وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، نعم يرد على شفع الأذان التهليل آخره فإنه مفرد، فالأولى أن يقال يشفع معظم الأذان، ويوتر الإقامة إلا الإقامة: أي لفظها، أي وهي «قد قامت الصلاة» فإنه يكررها مرتين يقول «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة» ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم إفرادها البتة أي وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، وصح عنه تكرير لفظ التكبير مرتين أولا وآخرا؛ وحينئذ يكون المراد بإفراد الإقامة إفراد معظمها، فكان يقول في الإقامة «الله أكبر، الله أكبر؛ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» ولم يكن في أذانه ترجيع: أي وهو الإتيان بالشهادتين مرتين سرا، ثم يأتي بهما جهرا: أي كما تقدم، قال: فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب، وتثنيتها صحيح بلا ريب.
أي وكل روى عن عبد الله بن زيد كما علمت، قال: أي ابن تيمية وأحمد وغيره: أخذوا بأذان بلال وإقامته، أي فلم يستحبوا الترجيع في الأذان، واستحبوا إفراد الإقامة إلا لفظها.
والشافعي رضي الله تعالى عنه أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، فاستحب الترجيع في الأذان والإفراد في الإقامة إلا لفظها.
وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، أي فلم يستحب الترجيع، واستحب تثنية ألفاظ الإقامة.
قال في الهدى: وأخذ مالك بما عليه عمل أهل المدينة من الاقتصار في التكبير على مرتين في الأذان وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة؛ أي ولعل هذا بحسب ما كان في المدينة، وإلا ففي أبي داود «ولم يزل ولد أبي محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الإقامة» أي معظم ألفاظها «ويحكونه عن جدهم» غير أن التثنية عنه أكثر؛ فيحتمل أن إتيان أبي محذورة بالإقامة فرادى، واستمراره وولده بعده على ذلك كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم له بذلك بعد أمره أولا له بتثنيتها، أي فيكون آخر أمره الإفراد. وقد قيل لأحمد رضي الله تعالى عنه- وقد كان يأخذ بأذان بلال أي كما تقدم: أليس أذان أبي محذورة بعد أذان بلال، أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه له عند منصرفه من حنين على ما سيأتي، وهو الذي رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن أبي محذورة أنه قال «خرجت في نفر وكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون» أي عن الطريق فصرنا نحكيه ونستهزىء به، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟» فأشار القوم كلهم إليّ فحبسني أي أبقاني عنده «وأرسلهم وقال: «قم فأذن»، فقمت ولا شيء أكره إليّ من النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ التأذين هو بنفسه صلى الله عليه وسلم الحديث ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصيتي ومر بها على وجهي، ثم بين يدي، ثم على كبدي حتى بلغت يده سرتي، ثم قال: «بارك الله فيك، وبارك عليك»، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أمرتك به» وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهته وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فأذنت بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل علمه صلى الله عليه وسلم ذلك يوم فتح مكة لما أذن بلال رضي الله تعالى عنه للظهر على ظهر الكعبة، وصار فتية من قريش يستهزئون ببلال ويحكون صوته، وكان من جملتهم أبو محذورة، فأعجبه صلى الله عليه وسلم صوته فدعاه وعلمه الأذان، وأمره أن يؤذن لأهل مكة فليتأمل الجمع، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بالمتأخر عنه، لأن المتأخر ينسخ المتقدم، فقال: أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه؟.
قال أبو داود: وتثنية الأذان وإفراد الإقامة مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب، أي إلا مصر في المساجد التي تغلب صلاة الأروام بها فإن الإقامة تثنى كالأذان فيها.
وقد ذكر أن أبا يوسف رحمه الله ناظر إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في المدينة بين يدي مالك رضي الله تعالى عنه والرشيد، فأمر الشافعي بإحضار أولاد بلال وأولاد سائر مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: كيف تلقيتم الأذان والإقامة عن آبائكم؟ فقالوا: الأذان مثنى مثنى والإقامة فرادى، هكذا تلقيناه من آبائنا، وآباؤنا عن أسلافنا إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم «أقامها الله وأدامها» وفي البخاري «من قال حين يسمع النداء: أي الأذان، اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وجبت له شفاعتي يوم القيامة» .
قال بعضهم: كان المؤذنون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنين بلالا وابن أم مكتوم، فلما كان زمن عثمان رضي الله تعالى عنه جعلهم أربعا وزاد الناس بعده.
ولما مات صلى الله عليه وسلم ترك بلالا الأذان ولحق بالشام، فمكث زمانا، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا بلال جفوتنا وخرجت من جوارنا فاقصد إلى زيارتنا. وفي لفظ أنه قال له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا فانتبه بلال رضي الله تعالى عنه فقصد المدينة، فلما انتهى إلى المدينة تلقاه الناس، أي وأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، وأقبل على الحسن والحسين يقبلهما ويضمهما، وألحوا عليه أن يؤذن، فلما صعد ليؤذن اجتمع أهل المدينة رجالهم ونساؤهم، وخرجت العذارى من خدورهن ليستمعوا أذانه رضي الله تعالى عنه، فلما قال: الله أكبر ارتجت المدينة وصاحوا وبكوا؛ فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله ضجوا جميعا، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله لم يبق ذو روح إلا بكى وصاح، وكان ذلك اليوم كيوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف إلى الشام وكان يرجع إلى المدينة في كل سنة مرة فينادي بالأذان إلى أن مات رضي الله تعالى عنه.
أقول: في كلام بعضهم كان سعد القرظ رضي الله تعالى عنه مؤذنه صلى الله عليه وسلم بقباء، فلما لحق بلال بالشام أيام عمر رضي الله تعالى عنه أمر سعد القرظ أن يؤذن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي فإن بلالا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أفضل أعمال المؤمن الجهاد في سبيل الله» وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي عليك أن لا تفارقني، فأقام بلال حتى توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو يؤذن. ثم جاء إلى عمر فقال له كما قال لأبي بكر وردّ عليه رضي الله عنه كما رد عليه أبو بكر، فأبى وخرج إلى الشام مجاهدا.
وفي «أنس الجليل» : لما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه بيت المقدس حضرت الصلاة، فقال: يا بلال أذن لنا يرحمك الله، قال بلال: يا أمير المؤمنين والله ما أردت أن أؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ولكن سأطيعك إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها، فلما أذن بلال وسمعت الصحابة رضي الله تعالى عنهم صوته ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن من الصحابة يومئذ أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر رضي الله تعالى عنه:
حسبكما رحمكما الله تعالى، فلم يؤذن بلال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة لما أمره عمر بالأذان؛ هذا ما في أنس الجليل، أي فالمراد بالمرة هذه المرة التي كانت ببيت المقدس.
وفيه أن هذا يخالف ما تقدم مما ظاهره أنه استمر يؤذن مدة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وما تقدم من إلحاح الحسن والحسين عليه في أن يؤذن عند مجيئه للمدينة.
إلا أن يقال: المراد لم يؤذن خارج المدينة فلا يخالف ما سبق من أذانه بعد إلحاح الحسن والحسين، ولعل ما سبق كان بعد فتح بيت المقدس، بل وبعد موت الخلفاء الأربعة.
ثم رأيت الزين العراقي قال: لم يؤذن بلال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلفاء، إلا أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال، هذا كلامه فليتأمل مع ما سبق.
وفي الكتاب المذكور: روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة، قال: «الأنبياء»، قال: ثم من؟ قال «الشهداء»، قال: ثم من؟ قال «مؤذنو بيت المقدس»، قال: ثم من؟ قال «مؤذنو بيت الحرام» قال: ثم من؟ قال «مؤذنو مسجدي»، قال: ثم من؟ قال «سائر المؤذنين» .
ثم رأيت في نسخة من شرح المنهاج للدميري عن جابر تقديم مؤذني المسجد الحرام على مؤذني بيت المقدس. ورأيت في بعض الروايات ما يوافقه، وهي «أول من يدخل الجنة بعدي أبو بكر ثم الفقراء، ثم مؤذنو المسجد الحرام، ثم مؤذنو بيت المقدس، ثم مؤذنو مسجدي، ثم سائرهم على قدر أعمالهم» .
وفي «البدور السافرة» عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة يوم القيامة؟ قال: «الأنبياء»، قال: ثم من؟ قال «الشهداء»، قال ثم من؟ قال: «مؤذنو الكعبة»، قال: ثم من؟ قال: «مؤذنو بيت المقدس»، قال: ثم من؟ قال: «مؤذنو مسجدي هذا»، قال: ثم من؟ قال: «سائر المؤذنين على قدر أعمالهم» .
وفيها عن جابر أيضا «أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم، ثم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم النبيون والرسل، ثم يكسى المؤذنون» .
وجاء إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك، فقال: «إما إنه يكون قوم بعدكم سفلتهم مؤذنوهم» قيل وهذه الزيادة منكرة وقال الدارقطني: ليست محفوظة.
وجاء «إذا أخذ المؤذن في أذانه وضع الرب جل وعز يده فوق رأسه، ولا يزال كذلك حتى يفرغ من أذانه، وإنه ليغفر له مدّ صوته، فإذا فرغ قال الرب: «صدقت عبدي؛ وشهدت شهادة الحق، فأبشر» والله أعلم.
قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رجل من اليهود أي من التجار وعن السدي: من النصارى بالمدينة سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: خزى الله الكاذب. وفي رواية: أحرق الله الكاذب، فدخلت خادمه بنار وهو نائم وأوله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت واحترق هو وأهله.
أي وفي بعض الأسفار «حضر وقت الصلاة: أي صلاة الصبح فطلبوا بلالا يؤذن فلم يوجد أي لتأخره في السير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن زياد بن الحارث الصدائي أي بأمره صلى الله عليه وسلم، فقال له «أذن يا أخا صداء» وصداء حي من اليمن.
وعنه رضي الله تعالى عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمرني على قومي، فقال: «لا خير في الإمرة لرجل مؤمن»، فقلت: حسبي، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم مسيرا فسرت معه، فانقطع عنه أصحابه وأضاء الفجر، فقال لي: «أذن يا أخا صداء»، فأذنت، ثم لما حضرت الصلاة أراد بلالا أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا، إنما يقيم من أذن» واختلف هل أذن صلى الله عليه وسلم بنفسه؟ فقيل نعم أذن مرة، واستدل على ذلك بأنه جاء في بعض الأحاديث، أي وقد صح «أنه صلى الله عليه وسلم أذن في السفر وصلى وهم على رواحلهم، فتقدم على راحلته صلى الله عليه وسلم فصلى بهم يومىء إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع» وقيل ما أذن، وإنما أمر بلالا بالأذان كما في بعض طرق ذلك الحديث.
ففي الهدى «وصلى بهم الفرض على الرواحل لأجل المطر والطين» وقد روى أحمد والترمذي «أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه، والسماء من فوقهم، والمسيل من أسفل منهم فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم» الحديث والمفصل يقضي على المجمل.
وفي رواية «أذن اختصارا» : أي أمر بالأذان، أي وهذا المجمل الذي تشير إليه هو «فأذن صلى الله عليه وسلم على راحلته وأقام» : أي ويروى أن بلالا كان يبدل الشين في أشهد سينا، فقال صلى الله عليه وسلم: «سين بلال عند الله شين» قال ابن كثير: لا أصل لرواية سين بلال شين في الجنة، ولا يلزم من كون هذه الرواية لا أصل لها أن تكون تلك الرواية كذلك.
وكان بلال وابن أم مكتوم يتناوبان في أذاني الصبح، فكان أحدهما يؤذن بعد مضي نصف الليل الأول والليل باق، والثاني يؤذن بعد طلوع الفجر وروى الشيخان «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» أي وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال أو قال نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن، أو قال ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم، إنما يؤذن بليل بعد نصفه الأول، فيرجع القائم المتهجد إلى راحلته لينام غفوة ليصبح نشيطا ويستيقظ النائم ليتأهب للصبح» .
قال في الهدى: وانقلب على بعض الرواة، فقال إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال. أي وقد علمت أنه لا قلب وأنهما كانا يناديان، فكان بلال تارة يؤذن بليل وابن أم مكتوم عند الفجر الثاني، وتارة يكون ابن أم مكتوم بالعكس، فوقع كل من الأحاديث باعتبار ما هو موجود عند النطق، ولم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا: أي أن ينزل المؤذن الأول من أذانه ويرقى المؤذن الثاني كما ذكر، فمن كان يؤذن أولا يتربص بعد أذانه لنحو الدعاء ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر صاحبه فيرقى ويؤذن مع الفجر أو عقبه من غير فاصل، وهذا هو المراد مما قيل «إن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت» .
وعن ابن عمر كان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه. وفي أبي داود عن ابن عمر «أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام» أي غفل عن الوقت، أو رجع لينام لبقاء الليل، ولعل هذا كان قبل أن يتخذ ابن أم مكتوم مؤذنا ثانيا أو كان أذان بلال في هذه المرة بعد أذان ابن أم مكتوم على ما تقدم، فلا مخالفة.
والثابت في الجمعة أذان واحد كان يفعل بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر وجلس عليه، كذا قال فقهاؤنا، مستدلين على ذلك بحديث البخاري عن السائب بن يزيد قال «كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما» وليس فيه أن ذلك الأذان كان بين يديه ولما كثر المسلمون أمر عثمان رضي الله تعالى عنه، أي وقيل عمر، وقيل معاوية بأن يؤذن قبله على المنارة.
وعبارة بعضهم: وفي السنة الرابعة والعشرين زاد عثمان النداء على الزوراء يوم الجمعة ليسمع الناس فيأتوا إلى المسجد؛ وأول من أحدثه بمكة الحجاج، والتذكير قبل الأذان الأول الذي هو التسبيح أحدث بعد السبعمائة في زمن الناصر محمد بن قلاوون.
وأول ما أحدثت الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم: أي على الكيفية المعهودة الآن بعد تمام الأذان على المنارة، أي في غير المغرب في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي في أواخر القرن الثامن، واستمر ذلك إلى الآن، لكن في غير أذان الصبح الثاني وغير أذان الجمعة أول الوقت، أما أذان الصبح الثاني وأذان الجمعة المذكور، فتقدم الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم على الأذان فيهما، وكان أحدث ذلك في زمان صلاح الدين بن أيوب، ولعل الحكمة في ذلك، أما في الأول فلاستيقاظ النائم، وأما في الثاني فلأجل حصول التكبير المطلوب في الجمعة.
ولا يخفى أن من السنة مطلق الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الأذان ففي مسلم «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ» وقيس بذلك الإقامة، فالأذان والإقامة من المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشّرح: 4] فقد قيل في معناه: لا أذكر إلا وتذكر معي، لكن بعد فراغهما لا عند الابتداء بهما كما يقع لبعض الأروام أن يقول المقيم للصلاة عند ابتداء الإقامة اللهم صل على سيدنا محمد الله أكبر الله أكبر فإن ذلك بدعة.
ومن البدع التطريب في الأذان والتلحين فيه. وفي كلام إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: ويكون الأذان مرسلا بغير تمطيط ولا تغن. قيل التمطيط التفريط في المد والتغني أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار.
ومن البدع رفع المؤذنين أصواتها بتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين. قال بعضهم: ولا بأس به لما فيه من النفع، أي حيث لم يبلغهم صوت الإمام بخلاف ما إذا بلغهم.
ففي كلام بعضهم: التبليغ بدعة منكرة باتفاق الأئمة الأربعة حيث بلغ المأمومين صوت الإمام، ومعنى منكرة أنها مكروهة.
وأول ما أحدث التسبيح بالأسحار في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حين كان بالتيه، واستمر إلى أن بنى داود عليه الصلاة والسلام بيت المقدس، فرتب فيه جماعة يقومون به على الآلات إلى ثلث الليل الأخير، ثم بعد ثلث الليل الأخير يقومون به على الآلات عند الفجر.
وأول حدوثه في ملتنا كان بمصر، أمر به أميرها من قبل معاوية مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله تعالى عنهما، فإنه لما اعتكف بجامع عمرو سمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين بجامع عمرو، ففعل ذلك من نصف الليل إلى قريب الفجر. ومسلمة هذا تولى مصر من معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية رضي الله تعالى عنهما، وعتبة تولاها حين مات أميرها عمرو بن العاص، وهذا مما يدل على أن عمرو بن العاص مدفون بمصر، وكان عتبة خطيبا فصيحا.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان. خطب عتبة يوما أهل مصر فقال: يا أهل مصر خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه كالحمار يحمل أسفارا، يثقله حملها ولا ينفعه علمها، وإني لا أداوي داءكم إلا بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما صلحتم على الدرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وهذا يوم ليس فيه عتاب ولا بعده عتاب.
ومما يؤثر عنه: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. وقال لبنيه يوما: تلقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد منها بالشكر عليها.
ومسلمة أول من جعل بنيان المنابر التي هي محل التأذين في المساجد، فلما ولي أحمد بن طولون رتب جماعة يكبرون ويسبحون ويحمدون، فلما ولي صلاح الدين يوسف بن أيوب وحمل الناس على اعتقاد مذهب الأشعري والخروج عما كان يعتقد الفواطم أمر المؤذنين أن يعلنوا وقت التسبيح بذكر العقيدة المرشدة، وقد وقفت عليها فإذا هي ثلاث ورقات، ولم أقف على اسم مؤلفها، فواظبوا على ذكرها في كل ليلة.
قيل في سبب نزول قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النّساء:78] أن اليهود قالوا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، وغلت أسعارها، فرد الله تعالى عليهم بقوله {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النّساء: 78] أي يبسط الأرزاق ويقبضها، وعند ظهور الإسلام وقوته في المدينة قامت نفوس أحبار اليهود ونصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم {قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] وقال في موضع آخر {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران:120] .
وعن صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بنت حيي قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، وكانا من أكبر اليهود وأعظمهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا إليه ثم جاآ من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي؛ أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عدواته والله ما بقيت؛ قال: وفي رواية أنها قالت: إن عمي أبا ياسر حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه صلى الله عليه وسلم وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعوني، فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرونه فاتبعوه ولا تخالفوه، ثم انطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى قومه فقال لهم: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعد لا تهلك، فقال: والله لا نطيعك اهـ، أي ثم وافق أخاه حييا فكانا أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاهدين في رد الناس من الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله تعالى فيهما وفيمن كان موافقا لهما في ذلك {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ} [البقرة:109] .
وحيي بن أخطب هذا، قيل هو الذي قال لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] : يستقرضنا ربنا؛ وإنما يستقرض الفقير الغني، فأنزل الله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران:181] .
أي وقيل في سبب نزولها إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل بيت المدارس، فقال لفنحاص: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله، فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: والله لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك، فشكاه فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له أبو بكر ما كان منه، فأنكر قوله ذلك؛ فنزلت الآية.
وقيل في سبب نزولها أيضا «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فنحاص بن عازوراء بكتاب، وكان انفرد بالعلم والسيادة على يهود بني قينقاع بعد إسلام عبد الله بن سلام، يأمرهم في ذلك الكتاب بالإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فلما قرأ فنحاص الكتاب قال: أقد احتاج ربكم؟ سنمده» . وفي رواية «قال: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان حقا ما تقول، فإن الله جل وعلا إذا لفقير ونحن أغنياء، فضرب أبو بكر وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: لقد هممت أن أضربه بالسيف وما منعني أن أضربه بالسيف إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفع إليّ الكتاب قال لي: لا تفتت عليّ بشيء حتى ترجع إليّ، فجاء فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما حملك على ما صنعت؟» قال: يا رسول الله إنه قال قولا عظيما، زعم أن الله عز وجل فقير وأنهم أغنياء، فغضبت لله تعالى، وقال فنحاص: والله ما قلت هذا، فنزلت الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه .
وقد قال بعض اليهود لبعض العلماء إنما قلنا إن الله فقير ونحن أغنياء لأنه استقرض أموالنا، فقال له: إن كان استقرضها لنفسه فهو فقير، وإن كان استقرضها لفقرائكم ثم يكافىء عليها فهو الغني الحميد.
ومن شدة عداوتهم: أي اليهود أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط أي له صلى الله عليه وسلم وقيل في أسنان من مشطه صلى الله عليه وسلم ومشاطة: وهي ما يخرج من الشعر إذا مشط: أي من شعر رأسه صلى الله عليه وسلم، أعطاها لهم غلام يهودي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، وجعل مثالا من شمع. وقيل من عجين كمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرز فيه إبرا وجعل معه وترا عقد فيه إحدى عشرة عقدة.
وفي لفظ أن الإبر كانت في العقد، ودفن ذلك تحت راعونة في بئر ذي أروان. وقد مسخ الله ماءها حتى صار كنقاعة الحناء،. فكان يخيل إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الفعل ولا يفعله: أي ومكث في ذلك سنة، وقيل سنة أشهر، وقيل أربعين يوما.
قال بعضهم: ويمكن أن تكون السنة أو الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه الشريف، وأن مدة اشتداده كانت في الأربعين، وقيل اشتد عليه ثلاثة أيام. وقد يقال هي أشدّ الأربعين، فلا منافاة. وعند ذلك نزل جبريل عليه الصلاة والسلام وقال له «إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا ودفنها بمحل كذا فأرسل صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد صلى الله عليه وسلم بذلك خفة حتى قام كأنما نشط من عقال» وفي رواية: أن اليهودي دفن ذلك بقبر، فأنزل الله تعالى سورة الفلق وسورة الناس وهما إحدى عشرة آية، سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها. وفي لفظ: فإذا وتر في إحدى عشرة عقدة مغروزة بلإبر، فلم يقدروا على حل تلك العقد، فنزلت المعوذتان، فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة، ووجد صلى الله عليه وسلم بعض الخفة حتى قام عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل يقول: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء يؤذيك» أي ولعله كان يقول ذلك عند حل كل عقدة بعد قراءة الآية أي وكان ذلك بين الحديبية وخيبر.
وذكر بعضهم أنه بعد خيبر جاءت رؤساء يهود الذين بقوا في المدينة ممن يظهر الإسلام إلى لبيد بن الأعصم وكان أعلمهم بالسحر، فقالوا له: يا أبا الأعصم قد سحرنا محمدا، سحره منا الرجال فلم يصنع شيئا أي ولم يؤثر سحرهم، وأنت ترى أمره فينا وخلافه في ديننا ومن قتل وأجلى، ونجعل لك على سحره ثلاثة دنانير ففعل ذلك. ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال «جاءني رجلان» أي وهما جبريل وميكائيل كما في بعض طرق الحديث «فقعد أحدهما عند رأسي والآخر تحت رجلي فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب، أي مسحور، فقال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيم؟ قال في مشط ومشاطة» وفي لفظ «ومشاقة» أي وهي المشاطة. وقيل هي مشاقة الكتان وجف بالجيم والفاء، وقيل بالباء الموحدة طلعة ذكر: أي غشاء طلع الذكر الذي يقال له كوز الطلع، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي ذروان» على وزن مروان. وفي لفظ «بئر ذي أروان» وفي لفظ «بئر ذروان» وعليه اقتصر في الإمتاع «تحت صخرة في الماء قال: فما دواء ذلك؟ قال: تنزح البئر ثم تقلب الصخرة فتوجد الكدية فيها تمثال فيه إحدى عشرة عقدة فتحرق: فإنه يبرأ بإذن الله تعالى، ثم أحضر صلى الله عليه وسلم لبيدا فاعترف فعفا عنه لما اعتذر له بأن الحامل له على ذلك حب الدنانير. وقيل له: يا رسول الله لو قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد عافاني الله، ما وراءه من عذاب الله تعالى أشد»
ويحتاج إلى الجمع بين كون جبريل قال له سحرك إلى آخره، وكون جاءه رجلان قعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر ما وجع الرجل إلى آخره قيل وهذا: أي عدم قتل الساحر ربما يعارض القول بأن الساحر يتحتم قتله. وفيه أنه عندنا لا يتحتم قتله، ولا يقتل إلا إذا قتل بسحره واعترف بأن سحره يقتل غالبا.
ولبيد هذا قيل إنه أول من قال بنفي صفات الباري، وقال بها الجهم بن صفوان وأظهرها، فقيل لأتباعه في ذلك الجهمية.
«فعند ذلك بعث صلى الله عليه وسلم عليا وعمار بن ياسر إلى تلك البئر فاستخرجا ذلك» .
وقيل الذي استخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن محصن.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى البئر مع جماعة من أصحابه، فإذا ماؤها كأنه خضب بالحناء، فاستخرجا» أي النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته «منها ذلك» .
ويحتاج إلى الجمع بين كون صلى الله عليه وسلم أرسل لاستخراج السحر عليا كرم الله وجهه، وكونه بعث لاستخراجه عليا وعمار بن ياسر، وكونه أمر قيس بن محصن باستخراجه، وكونه صلى الله عليه وسلم ذهب هو وجماعته لاستخراجه، فإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة: أي وإذا فيها إبر مغروزة، ونزلت المعوذتان، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد، فذهب عنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجد.
أي ولا ينافي ما تقدم أن القارىء لذلك جبريل عليه الصلاة والسلام، لجواز أن يكون كلاهما صار يقرأ الآية، أو أنه صلى الله عليه وسلم صار يقرأ بعد قراء جبريل.
وفي الإمتاع عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت له «أفلا استخرجته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله؛ وكرهت أن أثير على الناس شرا» ومراد عائشة بقولها أفلا استخرجته السحر: أي هلا استخرجت السحر من الجف والمشاطة حتى تنظر إليه، فقال أكره أن أثير على الناس شرا.
قال ابن بطال: أي كره أن يخرجه فيتعلم منه بعض الناس، فذلك هو الشر الذي كرهه صلى الله عليه وسلم: وذكر السهيلي أنه يجوز أنه يكون الشر غير هذا، وهو أنه لو أظهر للناس لربما قتله طائفة من المسلمين، ويغضب آخرون من عشيرته فيثور شر.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: هلا تنشرت» ؟ أي استعملت النشرة قال «بعضهم»: وفيه دليل على عدم كراهة استعمال النشرة حيث لم ينكر عليها قولها. وكرهها جمع واستندوا لحديث في أبي داود مرفوعا «النشرة من عمل الشيطان» وحمل ذلك على النشرة التي تصحبها العزائم المشتملة على الأسماء التي لا تفهم «فأمر بها فطمت» أي تلك البئر، وحفروا بئرا أخرى، فأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها حيث طموا الأخرى التي سحر فيها، هذا كلامه، فليتأمل مع ما قبله.
وقيل إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، ودخلت إحداهنّ على عائشة فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره ثم خرجت إلى أخواتها فأخبرتهن بذلك، فقالت إحداهن: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يكن غير ذلك فسوف يذهله هذا السحر حتى يذهب عقله، فدله الله تعالى عليه.
وقد يجمع بين كون الساحر له صلى الله عليه وسلم لبيدا وكون الساحر له أخوات لبيد بأن الساحر له أخوات لبيد، ونسب السحر إلى لبيد لأنه جاء أنه الذي ذهب به فأدخله تحت راعونة البئر: أي أو في القبر كما تقدم. ولا منافاة، لجواز أن يكون وضعه في القبر مدة ثم أخرجه منه ووضعه تحت تلك الراعونة أي وهي حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقي، وقد يكون في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظف البئر، أي والثاني هو المراد بدليل ما سبق.
وفي النهر لأبي حيان: ونص القرآن والحديث أن السحر تخييل: أي لا يقلب الأعيان ولا شك في وجوده في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه من كتبه فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء، فلا يصبح منه شيء ألبتة.
وطعنت المعتزلة وطوائف من أهل البدع في كونه صلى الله عليه وسلم سحر وقالوا: لا يجوز على الأنبياء أن يسحروا، ولو جاز أن يسحروا لجاز أن يجنوا وقد عصموا من الناس.
وردّ بأن الحديث الدال على ذلك صحيح، والعصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم وأما أبدانهم فيبتلون فيها، والسحر إنما أثر في بعض جوارحه صلى الله عليه وسلم فقد تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها من ذكرها ما أنكر صلى الله عليه وسلم من بصره لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم صار يخيل له أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وهذا متعلق بالعقل.
ثم رأيت أبا بكر العربي قال: لم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه صلى الله عليه وسلم أمر، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث لا أصل له.
قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا واستجرارا إلى القول وإبطال معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقدح فيها؛ وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين فعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد هذا كلامه.
وممن كان حريصا على رد الناس عن الإسلام أيضا شاس بن قيس، كان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم. مر يوما على الأنصار الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدّثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم؛ ثم اذكر يوم بعاث: أي أيوب الحرب الذي كان بينهم، وما كان فيه، وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار ففعل، فتكلم القوم عند ذلك: أي قال أحد الحيين: قد قال شاعرنا كذا، وقال الآخر قد قال شاعرنا كذا، وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة: أي قالوا: تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت، فنادى هؤلاء يا للأوس، ونادى هؤلاء يا للخزرج، ثم خرجوا إليهم وقد أخذوا السلاح، واصطفوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال: «يا معشر المسلمين الله الله» أي اتقوا الله «أبدعوى الجاهلية» أي وهي يا للخزرج يا للأوس «وأنا بين أظهركم؟ بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وألفكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر؛ وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس {يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} [آل عمران:99] الآية .
وقد جاء في ذم هذه الكلمة التي هي دعوى الجاهلية، وهي: يا لفلان قوله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا» أي قولوا له اعضض على ذكر أبيك ولا تكنوا عنه بالهن؛ فلا تقولوا على هن أبيك، بل قولوا على ذكر أبيك، تنكيلا له وزجرا عما أتى به: أي وقد كان أنزل الله تعالى فيهم: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ} [آل عمران:100] الآية، وقد قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وهو بين الصفين رافعا بها صوته، فألقوا السلاح وفعلوا ما تقدم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن يهود كانوا يستفتحون» أي يستنصرون «على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه» أي يقولون سيبعث نبي صفته كذا وكذا نقتلكم معه قتل عاد وإرم كما تقدم عند مبايعة العقبة، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وكفر، وتخبرونا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام» أي بالتشديد «ابن مشكم من عظماء يهود بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ} [البقرة:89] .
وقيل في سبب نزول قوله تعالى: {مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}[الأنعام:91] أنه صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الصيف وكان رئيسا على اليهود: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين، فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود»، فضحك القوم، فغضب والتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقالت له اليهود: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف» أي لأن في قوله المذكور طعنا في التوراة.
وقيل «إن يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير وغيرهم كانوا إذا قاتلوا من بينهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك باعثه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم» وفي لفظ «قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة فينصرون» وفي لفظ «يقولون: اللهم ابعث النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم» وفي لفظ «أن يهود خيبر كانت تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود، فدعت يوما: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فيهزموا غطفان وصار اليهود يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أشياء ليلبسوا الحق بالباطل» أي ومن جملة ما سألوه صلى الله عليه وسلم عن الروح؛ فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة يتوكأ على عسيب» أي جريدة من جريد النخل «إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون» وفي رواية: «لئلا يستقبلكم بشيء تكرهونه» أي يجيبكم بما هو دليل عندكم على أنه النبي الأمي وأنتم تنكرون نبوّته «فقاموا إليه فقالوا: يا محمد» وفي رواية «يا أبا القاسم ما الروح؟» وفي رواية «أخبرنا عن الروح فسكت» قال ابن مسعود: فظننت أنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، فقال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ} [الإسراء:85] أي التي يكون بها الحيوان حيا {قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فقالوا: هكذا نجد في كتابنا أي التوراة» وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على فترة الوحي.
قال صاحب الإفصاح: إنه إنما سأل اليهود عن الروح تعجيزا وتغليطا؛ لأن الروح تطلق بالاشتراك على الروح للإنسان، وعلى القرآن، وعلى عيسى، وعلى جبريل، وعلى ملك آخر، وعلى صنف من الملائكة، فقصد اليهود أنه بأي شيء أجابهم به، قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا، فكان هذا الجواب لرد كيدهم، لأن كل واحد مما ذكر أمر من مأمورات الحق تعالى. ولما أنزل الله تعالى في حق اليهود {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] قالوا أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزل الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109] وفي الكشاف «أنهم قالوا: نحن مخصوصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟
فقال صلى الله عليه وسلم: نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}[البقرة:269] وساعة تقول هذا، فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ}[لقمان:27] هذا كلامه «وسألوه صلى الله عليه وسلم متى الساعة إن كنت نبيا» فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:187] الآية .
أي «وجاء يهوديان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101] ، فقال صلى الله عليه وسلم لهما «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت»، فقبلا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم وقالا: نشهد أنك نبيّ، قال: «ما يمنعكما أن تسلما؟» فقالا: نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا يهود .
أي وسألوه صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات، أي في أيّ زمن، والأرض وما بينهما، أي مدة ما بينهما؟ فقال لهم: «خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيها يوم الثلاثاء» أي، ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل «وخلق البحر والماء والمدائن والعمران والخراب يوم الأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس، وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة يوم الجمعة»، قالوا: ثم ماذا يا محمد؟ قال: «ثم استوى على العرش»، قالوا: قد أصبت لو تممت ثم استراح أي لو قلت هذا اللفظ، لأنهم يقولون إنه استراح جل وعز يوم السبت، ومن ثم يسمونه يوم الراحة، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق:38] أي تعب {فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ} [طه: 130] .
وفي رواية «خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، وفرغ من الخلق يوم السبت» .
وهذا يشكل على ما تقدم أن مبدأ الخلق يوم السبت حتى يكون آخر الأسبوع يوم الجمعة، وهو الراجح على ما تقدم.
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ}[آل عمران:18] إلى قوله: {إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران:19] أن حبرين من أراضي الشام لم يعلما ببعثته صلى الله عليه وسلم، فقدما المدينة، فقال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان، فأخبرا بمهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوده في تلك المدينة، فلما رأياه قالا له: أنت محمد؟ قال: «نعم»، قالا: نسألك مسألة إن أخبرتنا بها آمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسألاني»، فقالا: أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى، فنزلت هذه الآية، فتلاها صلى الله عليه وسلم عليهما فآمنا .
قال: وعن قتادة رضي الله تعالى عنه «أن رهطا من اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هذا الذي خلق الجن والإنس من خلقه» وفي لفظ خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك من أي شيء خلق؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال له: خفض عليك، فأنزل الله تعالى عليه {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] السورة أي متوحد في صفات الجلال والكمال، منزه عن الجسمية، واجب الوجود لذاته: أي اقتضت ذاته وجوده، مستغن عن غيره، وكل ما عداه محتاج إليه اهـ.
أقول: ونزول جبريل بذلك ربما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم توقف ولم يدر ما يقول كما وقع له لما سأله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلّام رضي الله تعالى عنه، وقال له صف ربك كما سيأتي.
ثم رأيت عن الشيخين وغيرهما أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ذكر في سبب نزول هذه السورة غير ما ذكر، ولعله ما سيأتي في قصة إسلام عبد الله بن سلام، ولا مانع من تكرر النزول لأسباب مختلفة.
ثم رأيته في الإتقان ذكر أن سورة الإخلاص تكرر نزولها، فنزلت جوابا للمشركين بمكة وجوابا لأهل الكتاب بالمدينة، وقال قبل ذلك إنها إنما نزلت بالمدينة.
وفي دعوى تكرر نزولها يقال: حيث سئل أولا ونزلت جوابا كيف يتوقف ثانيا عند السؤال الثاني حتى يحتاج إلى نزولها مع بعد نسيان ذلك له صلى الله عليه وسلم.
ثم رأيت عن البرهان: قد ينزل الشيء مرتين، تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه، وهو كما ترى لا يدفع التوقف. وكان من أعلم أحبار يهود عبد الله بن سلام بالتخفيف: وكان قبل أن يسلم اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وكان من ولد يوسف الصديق: أي وقد أثنى الله تعالى عليه في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10] وكان من يهود بني قينقاع كما تقدم. جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه، أي في أول يوم دخل فيه رسول الله دار أبي أيوب أي ولعل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، هو قوله «يا أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» .
فعنه رضي الله تعالى عنه، قال «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل إليه الناس» أي بالجيم: أسرعوا «فكنت ممن أتى إليه» أي وهذا يدل على أنه جاءه في قباء وسيأتي «قال: فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أنه وجه غير كذاب» أي لأن صورته وهيئته وسمته صلى الله عليه وسلم تدل العقلاء على صدقه، وأنه لا يقول الكذب، قال عبد الله فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس إلى آخره» .
أي ولا مانع أن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك قال: أشهد أنك رسول الله حقا، وأنك جئت بحق ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود، ثم جئته صلى الله عليه وسلم، أي في بيت أبي أيوب وقلت له لقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فأخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت، فإنهم قوم بهت» أي بضم الباء والهاء «يواجهون الإنسان بالباطل، وأعظم قوم عضيهة» أي كذبا، «وإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ، وخذ عليهم ميثاقا أني إن أتبعتك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل عليك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، أسلموا»، قالوا ما نعلم، فأعاد ذلك عليهم ثلاثا وهم يجيبونه كذلك، قال فأي رجل فيكم ابن سلّام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا» وفي رواية «خيرنا وابن خيرنا» بالخاء المعجمة والياء المثناة تحت أفعل تفضيل، وقيل بالمهملة والياء الموحدة، أي أعلمنا بكتاب الله «سيدنا وعالمنا وأفضلنا، قال: أفرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل عليّ تؤمنوا بي؟ قالوا نعم، فدعاه، فقال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج عليهم فقال: يا عبد الله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله تجدني عندكم مكتوبا في التوراة والإنجيل، أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي وأن تتبعوني من أدركني منكم؟ قال ابن سلام: بلى يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا، وأنه جاء بالحق» ، قال زاد في رواية «تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته، قالوا: كذبت، أنت أشرنا، وابن أشرنا» وهذه لغة رديئة، والفصحى شرنا وابن شرنا بغير همزة وهي رواية البخاري «قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور؟» «فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهرت إسلامي، وأنزل الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصّلت: 52] يعني الكتاب أو الرسول {وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ} [الأحقاف:10] يعني عبد الله بن سلام {عَلَىٰ مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] يعني اليهود {فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] .
أقول: هذا السياق لا يناسب ما حكاه في الخصائص الكبرى عن تاريخ الشام لابن عساكر: أن ابن سلام اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، «أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟» قال نعم، قال: «ناشدتك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد صفتي في كتاب الله يعني التوراة؟» قال: أنسب ربك يا محمد، فأرتج النبي صلى الله عليه وسلم أي توقف ولم يدر ما يقول، فقال له جبريل: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} * {ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ} * {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} * {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1- 4] ، فقال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] أنت عبدي ورسولي إلى آخر ما تقدم عن التوراة، فإنه يدل على أن ابن سلام أسلم بمكة وكتم إسلامه، ولو كان كذلك لما قال «فلما رأيت وجهه الشريف عرفت أنه غير وجه كذاب» ولما قال «وكنت عرفت صفته واسمه» ولما سأله عن الأمور الآتية، ولما احتاج إلى الإسلام ثانيا، إلا أن يقال على تسليم صحة ما قاله ابن عساكر جاز أن يكون قال ذلك، وفعل ما ذكر إقامة للحجة على اليهود.
وقد وقع لابن سلام هذا أنه لقي عليا بالربذة وقد خرج بعد قتل عثمان وبعد أن بويع بالخلافة متوجها إلى البصرة لما بلغه أن عائشة وطلحة والزبير ومن معهم خرجوا إلى البصرة في طلب دم عثمان، وكان ذلك سببا لوقعة الجمل، فأخذ بعنان فرس عليّ، وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها يعني المدينة، فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا، فسبه بعض الناس، وقال له: ما لك ولهذا؟ يابن اليهودية، فقال عليّ: دعوه، فنعم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لقد لقيت عبد الله بن سلام، فقلت له: أخبرني عن ساعة الإجابة يوم الجمعة، فقال في آخر ساعة في يوم الجمعة؟ قلت: وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا صلاة فيها؟» فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي» .
وفيه أن في الصحيحين «إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي فسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه» ثم رأيت عن سنن ابن ماجه أن جواب ابن سلام تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونص السنن المذكورة، عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، قال «قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إنا لنجد في كتابنا يعني التوراة، في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا قضى حاجته، قال عبد الله بن سلام: فأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة؟ فقلت: صدقت يا رسول الله، أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: «آخر ساعة من ساعات النهار»، قلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال: «بلى؛ إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة» أي ولعل لفظ قائم في رواية الصحيحين يراد به مريد القيام إلى الصلاة، أي صلاة العصر. وقد قيل: إن تلك الساعة رفعت بعد موته صلى الله عليه وسلم. وقيل هي باقية، وهو الصحيح. وعليه، فقيل لا زمن لها معين، وقيل هي في زمن معين وعليه ففي تعيينها أحد عشر قولا، وقيل أربعون قولا.
وقد وقع لميمون بن يامين وكان رأس اليهود مثل ما وقع لابن سلام مع اليهود «فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابعث إليهم واجعلني حكما فإنهم يرجعون إليّ، فأدخله داخلا وأرسل إليهم، فجاؤوه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم «اختاروا رجلا حكما يكون بيني وبينكم»، قالوا: قد رضينا ميمون بن يامين، فقال: أخرج إليهم، فقال: أشهد إنه لرسول الله، فأبوا أن يصدقوه والله أعلم.
وقد أشار إلى إنكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم لها صاحب الهمزية يقوله:
عرفوه وأنكروه فظلما *** كتمته الشهادة الشهداء
أو نور الإله تطفئه الأف *** واه وهو الذي به يستضاء
كيف يهدي الإله منهم قلوبا *** حشوها من حبيبه البغضاء
أي عرفوه أنه النبي المنتظر، وأنكروه بظواهرهم، ولأجل ظلمهم كتمت الشهادة به العارفون به. أو نور الإله الذي هو النبوة تذهبه الألسن؟ لا يكون ذلك، وكيف يكون ذلك وهو الذي يستضاء به في الظاهر والباطن، كيف يوصل الإله قلوبا للحق وملؤها البغضاء لحبيبه صلى الله عليه وسلم؟.
أقول: وقيل في سبب نزول سورة {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أن وفد نجران لما نطقوا بالتثليث، قال لهم المسلمون: من خلقكم؟ قالوا الله، قالوا لهم: فلم عبدتم غيره وجعلتم معه إلهين؟ فقالوا: بل هو إله واحد؛ لكنه حل في جسد المسيح، إذا كان في بطن أمه، فقالوا لهم: هل كان المسيح يأكل الطعام؟ قالوا: كان يأكل الطعام، فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} * {ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] تكذيبا لهم في أنه ثالث ثلاثة، والصمد: هو الذي لا جوف له، فهو غير محتاج إلى الطعام.
وقيل سبب نزولها أن قريشا هم الذين قالوا له انسب لنا ربك يا محمد؛ وتقدم ما فيه والله أعلم.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى: {يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ} [البقرة:40] قال الله تعالى للأحبار من اليهود {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة: 40] الذي أخذته في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءكم بتصديقه واتباعه {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ} [البقرة: 40] أنجز لكم ما وعدتم عليه؛ بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال {وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم {وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
قال بعضهم: ولم يسلم من رؤساء علماء اليهود إلا عبد الله بن سلام وضم إليه السهيلي عبد الله بن صوريا، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف لعبد الله بن صوريا على إسلام من طريق صحيح، وإنما نسب لتفسير النقاش؛ أي ويضم لعبد الله بن سلام ميمون المتقدم ذكره.
وروي في سبب إسلام عبد الله بن سلام: أي إظهار إسلامه على ما تقدم أنه لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في قباء، فعنه رضي الله تعالى عنه «جاء رجل حتى أخبر بقدومه صلى الله عليه وسلم وأنا في رأس نخلة أعمل فيها وعمتي تحتي جالسة، فلما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، فقلت لها: أي عمة، فو الله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قالت يا بن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع بعث الساعة وفي لفظ «مع نفس الساعة، فقلت لها نعم» .
أي وقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وقال بأصبعيه هكذا يعني السبابة والوسطى» أي جمع بينهما. وفي رواية «بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه» وفي رواية «سبقتها بما سبقت هذه هذه وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة» قال الطبري الوسطى تزيد على السبابة نصف سبع أصبع، كما أن نصف يوم من سبعة أيام نصف سبع، أي وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الدنيا سبعة أيام، كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها، وتقدم في حديث أخرجه أبو داود «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم» يعني خمسمائة سنة قال بعضهم: فإن قيل ما وجه الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» لدلالة الرواية الأولى على علمه بها.
أجيب بأن القرآن نطق بأن علمها عند الله لا يعلمها إلا هو. ومعنى قوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» أنه ليس بيني وبينها نبي آخر يأتي بشريعة ولا يتراخى إلى أن تندرس شريعتي، فهو صلى الله عليه وسلم أول أشراطها لأنه نبي آخر الزمان، وهذا لا يقتضي أن يكون عالما بخصوص وقتها. قال ابن سلام: وكنت عرفت صفته واسمه: أي في التوراة. زاد في رواية «فكنت مسرّا لذلك ساكتا عليه حتى قدم المدينة فجئته صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا محمد إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبرني بهن جبريل آنفا»، فقال ابن سلام: ذلك يعني جبريل عدو اليهود من الملائكة .
وقيل قائل ذلك عبد الله بن صوريا، ولا مانع من أن يكون قال ذلك كل منهما: أي وعن ابن صوريا أنه قال له صلى الله عليه وسلم: «من ينزل عليك بالوحي؟ قال «جبريل»، قال: ذلك عدّونا لو كان غيره» وفي لفظ «لو كان ميكائيل لآمنا بك لأن جبريل ينزل بالخسف والحرب والهلاك، وميكائيل، ينزل بالخصب والسلم» .
وسبب العداوة أنهم زعموا أنه أمر أن يجعل النبوة فيهم: أي يجعل النبي المنتظر في بني إسرائيل الذين هم أولاد إسحاق فجعلها في غيرهم: أي في ولد إسماعيل.
وقيل سبب عداوتهم لجبريل أنه أنزل على نبيهم أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثوا من يقتله من أعظم بني إسرائيل قوة، فأراد قتله فمنعه عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بإهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، فصدقه ورجع عنه.
أي فإن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا شعياء جاء بختنصر ملك فارس وحاصر بيت المقدس وفتحها عنوة وأحرق التوراة وخرب بيت المقدس.
وقيل في سبب العداوة كونه يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على سرهم، ولا مانع من أن يكون كل ذلك سببا للعداوة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت» أي وهي القطعة المنفردة المعلقة بالكبد. قال بعضهم: وهي في الطعم في غاية اللذة. ويقال إنها أهنأ طعام وأمرؤه.
وروي «أن الثور ينطح الحوت بقرنه فيموت فتأكل منه أهل الجنة، ثم يحيا فينحر الثور بذنبه فتأكله أهل الجنة، ثم يحيا، قال: وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها» أي لكن في فتح الباري عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله» والمراد بالعلو السبق.
وعن ثوبان «إذ علا منيّ الرجل منيّ المرأة جاء الولد ذكرا، وإن علا منيّ المرأة منيّ الرجل جاء أنثى» والعلو فيه على بابه هذا كلامه، أي وإذا استوى الماآن جاء خنثى وفي رواية «قالوا له صلى الله عليه وسلم: أين تكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ ومن أول الناس إجازة وما تحفتهم» أي الناس حين يدخلون الجنة وما غذاؤهم على أثره، وما شرابهم عليه؟ فأجابهم عليه الصلاة والسلام «بأنهم يكونون في ظلمة دون الجسر» ولعل المراد بالجسر الصراط، لكن في رواية مسلم «أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط» ثم رأيت عن البيهقي أن قوله: على الصراط مجاز لكونهم بمجاورته.
ونقل القرطبي على صاحب الإفصاح أن الأرض والسماء يتبدلان مرتين.
المرأة الأولى: تتبدل صفتها فقط، وذلك قبل نفخة الصعق فتناثر كواكبها، وتخسف الشمس والقمر وتتناثر السماء كالمهل، وتنكشط الأرض، وتسير الجبال.
والمرة الثانية: تتبدل ذاتهما، وذلك إذا وقفوا في المحشر، فتتبدل الأرض بأرض من فضة لم يقع عليها معصية وهي الساهرة: أي والسماء تكون من ذهب كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الخباز كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة، فيأكل المؤمن من تحت رجليه، ويشرب من الحوض» .
قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعذبون بالجوع في طول زمان الموقف، بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض خبزا حتى يأكلون منها من تحت أقدامهم ما شاء الله من غير علاج ولا كلفة.
قال: ويؤيد أن هذا مراد الحديث ما جاء «تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب» هذا كلامه، فليتأمل ما مع قبله من أن الأرض تبدل بأرض من فضة، وأن هذا يدل على أن تلك الأرض التي تكون خبزة تكون في موقف الحساب. وما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه يدل على أنها تكون بعد مجاوزتهم الصراط «وأول الناس إجازة فقراء المهاجرين، وتحفة أهل الجنة حين يدخلونها زيادة كبد النون» أي الحوت «وغذاؤهم ينحر لهم ثور الجنة التي يأكل من أطرافها، وشرابهم من عين تسمى سلسبيلا. وسألوه صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «تنام عيناه ولا ينام قلبه». وسألوه أي طعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا وطال سقمه، فنذر لله لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟» قالوا: اللهم نعم أي حرمهما ردعا لنفسه ومنعا لها عن شهواتها. وقيل لأنه كان به عرق النسا وكان إذا طعم ذلك هاج به.
وذكر أن سبب نزول قوله تعالى: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ} [آل عمران:93] قول اليهود له صلى الله عليه وسلم «كيف تقول إنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها وكان ذلك محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا أي علمه في التوراة، فنحن أولى الناس بإبراهيم منك ومن غيرك، فأنزل الله تعالى الآية تكذيبا لهم أي بأن هذا إنما حرمه يعقوب على نفسه، ومن ثم جاء فيها {فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] .
وكانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها أي وفي كلام الواحدي قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت كفعل المجوس هذا كلامه «فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك» أي قال له بعض الأعراب «يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلك الحيض فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» أي الوطء وما في معناه، وهو مباشرة ما بين السرة والركبة، أي فإن الآية لم تنص إلا على عدم قربانهن بالوطء في الحيض.
ومن ثم جاء في رواية «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم باخراجهن من البيوت»، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالا إن اليهود قالت كذا فهلا نجامعهن؟ أي نوافقهن، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وعند ذلك قال بعض الصحابة «فظننا أنه قد وجد أي غضب عليهما فلما خرجا استقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما» .
وذكر المفسرون أن في منع الوطء للحائض اقتصادا من إفراط اليهود وتفريط النصارى، فإنهم لا يمتنعون من وطء الحيض، أي وذكر أن ابن سلام وغيره ممن أسلم من يهود استمروا على تعظيم السبت وكراهة أكل لحم الإبل وشرب ألبانها، فأنكر ذلك عليهم المسلمون فقالوا: إن التوراة كتاب الله فنعمل به أيضا، فأنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة:208] : أي وفي رواية «قالوا له ما هذا السواد الذي في القمر؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأنهما كانا شمسين أي شمس في الليل وشمس في النهار، قال الله تعالى: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12] فالسواد الذي يرى هو المحو» أي أثره. قال بعضهم في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} [يس:37] أن الليل ذكر والنهار أنثى، فالليل كآدم والنهار كحواء.
وقد ذكر أن الليل من الجنة والنهار من النار، ومن ثم كان الأنس بالليل أكثر وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من علماء اليهود: «أتشهد أني رسول الله؟» قال لا، قال «أتقرأ التوراة؟»قال نعم، قال: «والإنجيل؟» قال نعم، «فناشده هل تجدني في التوراة والإنجيل؟» قال: نجد مثلك ومثل مخرجك ومثل هيئتك، فلما خرجت خفنا أن تكون أنت، فنظرنا فإذا أنت لست هو، قال: «ولم ذاك؟» قال: معه من أمته سبعون ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب، وإنما معك نفر يسير، قال: «والذي نفسي بيده لأنا هو وإنهم لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا» وقد سأله صلى الله عليه وسلم اليهود عن الرعد أي والبرق فقال «صوت ملك موكل بالسحاب يسوقه أي بمخراق من نار في يده يزجر به السحاب إلى حيث أمره الله تعالى» .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال «البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة يزجرون به السحاب» والمخراق المنديل يلف ليضرب به، أي وحينئذ فالمراد بالملك الجنس. وفي رواية «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك، ومنطقها الرعد، وضحكها البرق» .
وفي بعض الآثار «لله ملائكة يقال لهم الحيات، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق» أي وتحريكهم لأجنحتهم يكون غالبا عند الرعد، لأن الغالب وجود البرق عند الرعد.
وعن بعضهم قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة وجوه، وجه إنسان، ووجه ثور ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بذنبه، أي حركه فذلك البرق، أي وتحريكه غالبا يكون عند وجود الرعد.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «البرق ملك يتراءى» أي يظهر ويغيب وفي رواية «الرعد ملك يزجر السحاب، والبرق طرف ملك» أي ينظر به عند وجود الرعد غالبا. وفي رواية «إن ملكا موكل بالسحاب في يده مخراق، فإذا رفع برقت، وإذا زجر رعدت، وإذا ضربه صعقت» .
وعن مجاهد: «الرعد ملك، والبرق أجنحته يسوق بها السحاب» فيكون المسموع صوته أو صوت سوقه، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات.
وذهب الفلاسفة إلى أن الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق ما ينقدح من اصطكاكها، فقد زعموا أن عند اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود.
وقيل في سبب نزول قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] أن اليهود أنكروا النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافة، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت.
وسألوه صلى الله عليه وسلم مم يخلق الولد؟ فقال: «يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، أما نطفة الرجل فنطفة غليظة أي بيضاء منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة أي صفراء منها اللحم والدم؛» فقالوا: هكذا كان يقول من قبلك أي من الأنبياء وتقدم في ترجمة سطيح إيراد عيسى عليه الصلاة والسلام على ذلك، أي وقالوا إغاظة صلى الله عليه وسلم له ما نرى لهذا الرجل همة، إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرّعد: 38] .
فقد جاء «إنه كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وتسعمائة سرية» .
«وسألوه صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة بعد إحصانه: أي كان شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي قالوا لهم إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب، فسألوه فأجابهم بالرجم؛ فلم يفعلوا ذلك فقال لجمع من علمائهم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان الرجم؟ الرجم فأنكروا ذلك، فقال عبد الله بن سلام كذبتم، فإن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة، فوضع واحد منهم يده على تلك الآية، فقال له ابن سلام ارفع يدك عنها فرفعها فإذا آية الرجم.
أقول: هذا كان في السنة الرابعة، وهو يخالف ما في بعض الروايات «أن بعض أحبار يهود أي وهم كعب بن الأشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد زنى رجل من يهود بعد إحصانه بامرأة محصنة من اليهود وقالوا: إن أفتانا بالجلد أخذنا به واحتججنا بفتواه عند الله، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، وإن أفتانا بالرجم خالفناه، لأنا خالفنا التوراة فلا علينا من مخالفته» .
وفي رواية الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا: أي بعد إحصان، فقال لهم رسول الله: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» قالوا: نفضحهما: أي بأن نسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل إدبار الحمار وفي لفظ «يحملان على الحمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما ويجلدان، أي بحبل من ليف مطلي بقار، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك؛ فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد، فيها آية الرجم» .
وقد جاء «إن موسى عليه الصلاة والسلام خطب بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت» والله أعلم.
قال ولما جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم قالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا: أي بعد إحصان فقال لهم: «ما تجدون في التوراة؟» فقالوا: دعنا من التوراة، فقل لنا ما عندك فأفتاهم بالرجم فأنكروه، فلم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدارسهم، فقام على الباب فقال: «يا معشر يهود أخرجوا إليّ أعلمكم»، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فقال «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان» قالوا: يحم أي يعير ويجتنب، فقال عبد الله بن سلام كذبتم فإن فيها آية الرجم ، أي وفي رواية لما سألهم وأجابوه إلا شابا منهم فإنه سكت، فألح عليه صلى الله عليه وسلم في النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، ولكن رأينا أنه إن زنى الشريف جلدناه والوضيع رجمناه كان من الحيف، فاتفقنا على ما نقيمه على الشريف والوضيع وهو ما علمت فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أحكم بما في التوراة» ولعل هذا الشاب ابن صوريا، ففي الكشاف «أنه لما أمرهم عليه الصلاة والسلام بالرجم فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا حكما» أي ووصفه له جبريل فقال صلى الله عليه وسلم: «هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟» قالوا نعم؛ وهو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة ورضوا به حكما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم، وأغرق فرعون، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسلوى والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟» قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ، وفي رواية «قال نعم، والذي ذكرتني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبتك ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، فقال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها «ثم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء يعرفها من أعلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي» وهذا مما يدل على إسلامه، وتقدم إنكار صحته عن الحافظ ابن حجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتوا بالشهود»، فجاؤوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، فكان ذلك سببا لنزول قوله تعالى {إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44] ولنزول قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وفي آية أخرى {فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82] وفي أخرى {فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ} [المائدة:44] .
وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت الرجم في الجاهلية في غير نبي آدم، كنت في اليمن في غنم لأهلي، فجاء قرد ومعه قردة فتوسد يدها ونام، فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد برفق وذهبت معه، ثم جاءت فاستيقظ القرد فزعا فشمها فصاح فاجتمعت القردة، فجعل يصيح ويومي إليها بيده، فذهبت القردة يمنة ويسرة، فجاؤوا بذلك القرد، فحفروا لهما حفرة فرجموهما. وفي لفظ: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها يعني القردة ورجمتها معهم.
قال في الاستيعاب: وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر لإضافة الزنا إلى غير المكلف وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح هذا لكانوا من الجن، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما، هذا كلامه فليتأمل والله أعلم.
وقد ذكر غير واحد أن أحبار يهود غيروا صفته صلى الله عليه وسلم التي في التوراة خوفا على انقطاع نفقتهم، فإنهم كانت على عوامهم لقيامهم بالتوراة، فخافوا أن تؤمن عوامهم فتنقطع عنهم النفقة، أي وكانوا يقولون لمن أسلم: لا تنفقوا مالكم على هؤلاء، يعني المهاجرين فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النّساء:37] أي من صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي يجدونها في كتابهم، فقد كان فيه «أكحل عين؛ ربعة جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه وقالوا نجده طويلا، أزرق العين، سبط الشعر، وأخرجوا ذلك إلى اتباعهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان، وعند ذلك أنزل الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ} [البقرة: 174] الآية.
وكان اليهود إذا كلموا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا راعنا سمعك {وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء:46] ، ويضحكون فيما بينهم، أي لأن ذلك كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلسان اليهود السب القبيح، فلما سمع المسلمون منهم ذلك ظنوا أن ذلك شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فصاروا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ففطن سعد بن معاذ لليهود يوما وهم يضحكون. فقال لهم: يا أعداء الله لئن سمعنا من رجل منكم هذا بعد هذا المجلس لأضربن عنقه: فأنزل الله تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا} [البقرة:104] .
وفي رواية أن اليهود لما سمعوا الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقول له صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا: يا رسول الله راعنا: أي انتظرنا وتأن علينا حتى نفهم، وكانت هذه الكلمة عبرانية تتسابب بها اليهود، فلما سمعوا المسلمين يقولون له صلى الله عليه وسلم راعنا خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم براعنا يعنون بها تلك السبة، ومن ثم لما سمع سعد بن معاذ ذلك من اليهود قال لهم: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها فنزلت «وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود بأطفالهم، فقالوا له: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال «لا»، فقالوا: والذي يحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار وما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النّساء:49] الآية.
وجاء «أن أحبار يهود منهم ابن صوريا: أي قبل أن يسلم على ما تقدم وشاس بن قيس وكعب بن أسيد اجتمعوا وقالوا نبعث إلى محمد لعلنا نفتنه في دينه، فجاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وإن اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم فنؤمن بك، فأبى ذلك عليهم فنزل قوله تعالى: {وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ}[المائدة:49] الآية .
ومن اليهود من دخل في الإسلام تقية من القتل، لما قهرهم الإسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه، فكان هواهم مع يهود في السر، أي هم المنافقون.
وقد ذكر بعضهم «أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة منهم الجلاس بجيم مضمومة فلام مخففة فألف فسين مهملة ابن سويد بن الصامت قال يوما إن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد رضي الله تعالى عنه، وهو ابن زوجة جلاس، أي فإن الجلاس كان زوجا لأم عمير، وكان عمير يتيما في حجره ولا مال له، وكان يكفله ويحسن إليه، فجاء الجلاس ليلة فاستلقى على فراشه فقال: لئن كان ما يقوله محمد حقا فلنحن شر من الحمير. فقال له عمير: يا جلاس إنك لأحب الناس وأحسنهم عندي يدا، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن صمتّ عليها: أي سكت عنها ليهلكن عليّ ديني ولأحداهما أيسر علي من الأخرى فمشى إلى رسول صلى الله عليه وسلم فذكر له مقالة جلاس، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جلاس، فحلف بالله لقد كذب عليّ عمير وما قلت ما قال عمير، فقال عمير: بلى والله لقد قلته فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته» .
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم استحلف الجلاس عند المنبر، فحلف أنه ما قال، واستحلف الراوي عنه فحلف لقد قال وقال: اللهم أنزل على نبيك تكذيب الكاذب وتصديق الصادق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «آمين»، فنزل قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التّوبة:74] إلى قوله: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} [التّوبة: 74] فاعترف الجلاس وتاب، وقيل منه صلى الله عليه وسلم توبته، وحسنت توبته، ولم ينزع عن خير كان يصنعه مع عمير؛ فكان ذلك مما عرف به حسن توبته، فقال صلى الله عليه وسلم لعمير: «وقيت أذنك» .
ومنهم نبتل بنون مفتوحة فموحدة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فلام ابن الحارث قال النبي صلى الله عليه وسلم «من أحبّ أن فلينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث، كان يجلس إليه صلى الله عليه وسلم ثم ينقل حديثه للمنافقين، وهو الذي قال لهم: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه فأنزل الله فيه {وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ} [التّوبة:61] الآية» .
وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له «يجلس إليك رجل معك صفته كذا، تقال: أي للحديث الذي تحدث به، كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره» .
ومنهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وهو رأس المنافقين، ولاشتهاره بالنفاق لم يعدّ في الصحابة، وكان من أعظم أشراف أهل المدينة، وكانوا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم للمدينة قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، أي كما تقدم، لأن الأنصار من آل قحطان. ولم يتوج من العرب إلا قحطان، ولم يبق من الخرز إلا خرزة واحدة كانت عند شمعون اليهودي، فلما جاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم انصرف عنه قومه إلى الإسلام فضغن: أي أضمر العداوة، لأنه رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلبه ملكا عظيما، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق، أي وكان له إماء يكرههن على الزنا ليأخذ أجورهن، فأنزل الله تعالى {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ} [النّور: 33] الآية.
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا} [البقرة: 14] أي عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم. فقال عبد الله بن أبيّ: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عليّ فقال: مرحبا يا بن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم افترقوا فقال له عليّ: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شرّ خليفة الله تعالى، فقال له عبد الله: مهلا يا أبا الحسن، إليّ تقول هذا؟ والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. فقال لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا فنزلت.
وقد قال صلى الله عليه وسلم «مثل المنافق مثل الشاة العابرة بين الغنمين» أي المترددة بينهما تعبر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
وفي السنة الأولى من الهجرة أعرس صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله تعالى عنها كذا في الأصل. وفي المواهب أن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل بعد سبعة أشهر، وقيل بعد ثمانية أشهر من مقدمه صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «تزوجني رسول الله وبنى بي في شوال فأيّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أحظى عنده مني» أي فما توهمه بعض الناس من التشاؤم بذلك، لكونه بين العيدين، فتحصل المفارقة بين الزوجين لا عبرة به ولا التفات إليه.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال ونساء من الأنصار، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين» أي نخلتين «فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة» أي شعر «لأني وعكت» أي مرضت «لما قدمنا المدينة» أي أصابتها الحمى.
فعن البراء رضي الله تعالى عنه قال «دخلت مع أبي بكر الصديق على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها الحمى، فرأيت أباها يقبل خدها ويقول: كيف أنت يا بنية؟ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فتمزق شعري، ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك، بارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا» أي فقد بني بها نهارا.
وفي الصحاح: العامة تقول: بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بنى على أهله، قال الحافظ ابن حجر: ولا يغني عن الخطأ كثرة استعمال الفصحاء له: أي كاستعمال عائشة له هنا. وفي الاستيعاب وأقره، عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: «الصداق»، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا، فبعث بها إلينا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا الذي أنا فيه، وهو الذي توفي به، ودفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفيه أن سياق ما تقدم وما يأتي يدلّ على أنه إنما دخل بها في بيت أبيها بالسنح.
ثم رأيت بعضهم صرح بذلك، فقال «كان دخوله بها عليه الصلاة والسلام بالسنح نهارا» وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم هذا كلامه. وفي رواية عنها «أتتني أمي وإني لفي أرجوحة مع صواحب لي فصرخت بي، فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى وقفت بي على باب الدار وأنا أنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهنّ وأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين» قال بعضهم: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ولعبتها معها.
أي وعنها رضي الله تعالى عنها أنها كانت تلعب بالبنات أي اللعب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تأتيها جويريات يلعبن معها بذلك، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرهن إليها: أي يطلبهن لها ليلعبن معها. قالت «وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو حنين، فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي، فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع، قال: «وما هذا الذي أرى وسطهن؟» قلت: فرس. قال: «وما هذا الذي عليه؟» قلت جناحان، قال: «جناحان!» قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وفيه هلا أمرها بتغيير ذلك.
وأجيب بأن هذا مستثنى من عدم جواز تصوير ذي الروح، وقولها «أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة» وإقراره صلى الله عليه وسلم لها على ذلك يدل على صحته.
ثم رأيت بعضهم أورد أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة، وقد ذكرت ذلك عند الكلام على إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه في أوائل هذه السيرة.
وعنها رضي الله تعالى عنها أيضا أنها قالت: «وما نحرت عليّ جزور ولا ذبحت عليّ شاة، أي عند بنائه بها صلى الله عليه وسلم حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنته التي كان يرسلها» وأرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفي كلام بعضهم: وروي «أنه صلى الله عليه وسلم ما أولم على عائشة رضي الله تعالى عنها بشيء غير أن قدحا من لبن أهدي من بيت سعد بن عبادة، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم بعضه وشربته عائشة رضي الله تعالى عنها باقيه» .
أقول: يجوز أن يكون سعد رضي الله تعالى عنه أرسل بالقدح من اللبن وبالجفنة، وأن بعض الرواة اقتصر على أحدهما.
ثم لا يخفى أنه يجوز أن تكون الرواية الأولى واقعة بعد هذه الرواية الثانية، وأنها ذهبت إلى الأرجوحة ثانيا بعد أن أصلح النساء من شأنها، وفعلت بها أمها ما ذكر، وأنه وقع الاقتصار في الرواية الأولى، والله سبحانه وتعالى أعلم.