وفي ليلته أمسى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ومعه أبا بكر الصديق في غار ثور بعد أن خرجا في رحلة الهجرة الشريفة، وهي الليلة الرابعة من خروجهم من مكّة.
وصنع آل أبي بكر الطعام وجهزوه لتذهب به أسماء بنت أبي بكر لهما في الغار ليتزودوا به في السفر، فوضعوه في جِرَاب -حقيبة من الجلد لحمل الطعام-، ثم أرادت أسماء أن تعُلَقِّ الحقيبة وتربط فتحتها حتى لا يقع الطعام، وكانت ترتدي نطِاقاً -حِزامًا تلفُُه على وسطها- فشَقَّته نصفين، فلبست نصفه وربطت بنصفه الآخر فتَحة الجرِاَب، وعلَقَّتهْ فسُمِّيتَ لذلك بذات النطاقين، وأوصلت لهما الطعام في الغار ليلاً، ثم عادت إلى مكَّة، والظاهر أن هذا كان آخر يوم في الغار أو أوّل يوم أو كليهما واللهّٰ أعلم.
وفي حوالي الساعة الثانية ليلاً تقريباً، جاءهم الدليل عبد اللهّٰ ابن أر يقط -وكان مشُركًا، ولم يعُرف له إسلام- بالراحلتين -الناقتين- وهو يركب راحلة ثالثة، وكانا استأجراه واتفقا معه على أن يأتيهم عند الغار بالراحلتين بعد ثلاث ليال، فخرج النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وأبو بكر من الغار ليركبا، وكان مما قاله سيدنا رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم لأبي بكر وهما خارجان وذكره أبابكر فيما بعد: “كَفِّي وكَفُّ علَيّ في العدل سواء“، ثم عرض أبو بكر على الرسول صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم أفضلهما وهي القصواء وقيل الجدعاء؛
قال أبو بكر: “اركب فداك أبي وأمي!”
قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “إني لا أركب بعيراً ليس لي”
قال أبوبكر: “فهي لك يا رسول اللهّٰ!، بأبي أنت وأمي”
قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “لا، ولكن بالثمن الذي ابتعتها به…”
قال أبو بكر: “ابتعتهُا بأربعمائة درهم — 1.2 كجم فضة- من نعَمَ بني قشُير-قبيلة ٺتاجر بالجمال-“.
قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “قد أخذتُها به“.
قال أبو بكر: “هي لك يا رسول اللهّٰ”.
ثم ركب صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وركب أبو بكر الراحلة الأخرى مردفاً خلفه عامر بن فهيرة ليخدمهما في الطر يق، وكان الدليل عبد اللهّٰ بن أريقط يركب راحلة ثالثة، وتحركوا تقريباً من عند غار ثور في حدود الساعة الثانية ليلاً، فساروا مجدِّين في السير على غير المعتاد من سير القوافل خارجين من أسفل مكّة قاطعين حوالي 4 كم من الغار في ساعة تقريباً.
ثم من أسفل مكَّة إلى أوّل طر يق الساحل غرباً وكان يعُرف قديماً بطر يق الجبَلَ -أو يدََ بَحر- وهو يخرج على ساحل جدَُّة في آخره، فسلكوا فيه حوالي 14 كم في ثلاث ساعات تقريباً فأدركتهم صلاة الصبح فصلوّها -حوالي ثلُثُ الساعة-، ثم انعطفوا يميناً مصُعدين شمالًا لما وصلوا بطن مرّ الظهران قاطعين حوالي 18 كم في أربع ساعات تقريباً، مبتعدين بحوالي 7 كم تقريبا عن مرمى طر يق القوافل المار من الوادي، وكان ذلك وقت الظهر تقريباً فوقفوا لاستراحة خفيفة قبل إكمال المسير جهة الشمال الغربي، سائرين إلى يسار طر يق القوافل المعتاد -طر يق الجادة العظمى-.
فذهب أبو بكر رضي اللهّٰ عنه يبحث عن مكان به ظل ليستريح تحته رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فوجد مكان به ظل تحت صخرة طو يلة، فذهب ونظّف المكان وفرش تحته فروة كي يستريح النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم عليها، ولمح أبو بكر راعياً قادمًا نحوهما لعله كان يريد أن يستظل تحت الصخرة أيضًا من حر الظهيرة، فذهب إليه أبو بكر وسأله عن مالك العنزات التي معه، وقال له : “أتحلب لي؟”، قال الراعي : “نعم!”، فأمره أبو بكر أن ينظف ضرع العنزة من الشعر والتراب وينفض يده قبل أن يحلب له، فحلب له قليلاً من اللبن في إناء، ولأن الحليب الطازج يكون دافئاً قليلاً، فقد صبّ أبو بكر عليه من ماء كان معه في وعاء حتى يبرد، ثم ذهب به إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم.
فلما وصل أبو بكر بالحليب إلى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وجده قد نام، فلم يمكث قليلاً حتى استيقظ الرسول صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم فقال أبو بكر: “اشرب يا رسول اللهّٰ“، فشرب صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من اللبن؛ قال أبو بكر: “فشرب حتى رضيتُ”، وفي رواية: “فشرب حتى روُيت!”، ثم قال له النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “أما آن الرحيل؟“، قال أبو بكر: . “نعم يا رسول اللهّٰ!”، ثم ركبا وانطلق الركب مرة أخرى بعد تلك الراحة القصيرة وساروا حوالي 31 كم أخرى قطعوها في ست ساعات تقريباً مسرعين في السير ليبتعدوا قدر الإمكان عن مكة فلا ستطيع راكب فرس أن يلحق بهم، فوصلوا إلى كرُاع الغميم عند الغروب تقريباً.