فلم يلتفت إلى ذلك المطَّلببن أبي وَدَاعة السهمي، وكان أبوه من الأسرى، فخرج خفية حتى أتى المدينة وفدى أباه بأربعة آلاف درهم، …
وعند ذلك بعثت قريش في فداء أسراها، وكان أربعة آلاف إلى ألف درهم، ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن القراءة والكتابة أعطوه عشرة من غلمان المدينة يُعلِّمهم، وكان ذلك فداءَه.
ومن الأسرى عمرو بن أبي سفيان، ولما طُلب من أبيه فداؤه أبى، وقال: والله لا يجمع محمد بين ابني ومالي، دعوه يمسكوه في أيديهم ما بدا لهم. فبينما أبو سفيان بمكة إذ وجد سعد بن النعمان الأنصاري معتمراً، فعدا عليه فحبسه بابنه عمرو، فمضى قوم سعد إلى رسول الله وأخبروه فأعطاهم عَمْراً ففكّوا به سعداً.
ومن الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول، وكان عليه الصلاة والسلام قد أثنى عليه خيراً في مصاهرته، فإنه لما استحكمت العداوة بين قريش ورسول الله بمكة، طلبوا من أبي العاص أن يطلِّق زينب كما فعل ابنا أبي لهب بابنتي الرسول، فامتنع وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بها امرأة من قريش، ولما أُسر أرسلت زينب في فدائه قِلادة لها كانت حلَّتها بها أمها خديجة ليلة عرسها. فلما رأى عليه الصلاة والسلام تلك القلادة رَقَّ لها رقّة شديدة، وقال لأصحابه: «إنْ رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا لها قلادتها فافعلوا» فرضي الأصحابُ بذلك، فأطلقه عليه الصلاة والسلام بشرط أن يترك زينب تهاجر إلى المدينة. فلما وصل إلى مكة أمرها باللحاق بأبيها، وكان الرسول أرسل لها من يأتي بها فاحتملوها. هذا، ولما أسلم أبو العاص بن الربيع قبيل الفتح ردّ عليه امرأته بالنكاح الأول.
ومن الأسرى: سُهيل بن عمرو، وكان من خطباء قريش وفصحائها وطالما آذى المسلمين بلسانه، فقال عمر بن الخطاب: دَعْني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل، يَدْلع لسانُهُ، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا أُمثِّل فيُمَثِّل الله بي وإن كنت نبيّاً، وعسى أن يقوم مقاماً لا تذمّه» وقدم بفدائه مكرزبن حفص، ولما ارتضى معهم على مقدارٍ حبس نفسه بدله حتى جاء بالفداء. هذا، وقد حقّق الله خبر الرسول في سهيل، فإنه لما مات عليه الصلاة والسلام أراد أهل مكة الارتداد كما فعل غيرهم من الأعراب، فقام سهيل هذا خطيباً وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله: أيها الناس مَنْ كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت ألم تعلموا أن الله قال: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر: 30] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] ثم قال: والله إني أعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها فلا يغرّنكم هذا ــــ يريد أبا سفيان ــــ من أنفسكم، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربّكم، فإن دين الله قائم، وكلمته تامّة، وإن الله ناصِر من نصره ومقوَ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم ــــ يريد أبا بكر ــــ وإن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه. فتراجع الناس عمّا كانوا عزموا عليه، وكان هذا الخبر من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومن الأسرى: الوليد بن الوليد افتكَّه أخواه خالد وهشام، فلما افْتُدِيَ ورجع إلى مكة أسلم فقيل له: هلاّ أسلمت قبل الفِداء؟ فقال خفت أن يعدّوا إسلامي خوفاً. ولما أراد الهجرة منعه أخواه ففرّ إلى النبي في عمرة القضاء.
ومن الأسرى: السائب بن يزيد، وكان صاحب الراية في تلك الحرب، فدى نفسه. وهو الجد الخامس للإمام محمد بن إدريس الشافعي.
ومنهم: وهب بن عُمَيْرٍ الجُمَحِيّ كان أبوه عمير شيطاناً من شياطين قريش كثير الإيذاء لرسول الله، جلس يوماً بعد انتهاء هذه الحرب مع صفوان بن أمية يتذاكران مُصاب بدر، فقال عمير: والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس عندي قضاؤه وعِيال أخشى عليهم الفقر بعدي، كنت آتي محمداً فأقتله، فإن ابني أسير في أيديهم، فقال صفوان: دَينك عليّ وعيالك مع عيالي، فأخذ عُمير سيفه وشحذه وسمّه، وانطلق حتى قَدِم المدينة، فبينا عمر مع نفر من المسلمين إذ نظر إلى عمير متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو لله ما جاء إلا بشرَ، ثم قال للنبي عليه الصلاة والسلام: هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، فقال: «أدخله عليّ». فأخذ عمر بحمائل سيفه وأدخله. فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: «أطلقه يا عمر ادن يا عمير» فدنا، وقال: أنعِموا صباحاً، فقال عليه الصلاة والسلام: «قد أبدلنا الله تحية خيراً من تحيتك وهي: السلام»، ثم قال: «ما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، فقال: «فما بالُ السيف؟» قال: قبَّحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال عليه الصلاة والسلام: «اصدُقني ما الذي جئتَ له؟» قال: ما جئت إلا لذلك. قال عليه الصلاة والسلام: «كلا بل قعدتَ أنت وصفوان في الحِجْرِ وقلتما كيت وكيت»، فأسلم عُمير وقال: كنّا نكذّبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فقال عليه الصلاة والسلام: «فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا أسيره»، فعاد عمير إلى مكة وأظهر إسلامه.
ومن الأسرى: أبو عزيز بن عمير، أخو مصعب بن عمير. مرّ به أخوه فقال للذي أسره: شُدَّ يدك به، فإن أمه ذات متاع لعلّها تفديه منك. فقال له: يا أخي هذه وصايتك بي؟ ثم بعثت أمه بفدائه أربعة آلاف درهم.
ومن الأسرى: العباس بن عبد المطلب عَمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قد خرج لهذه الحرب مكرهاً، ولما وقع في الأسر طُلب منه فداء نفسه وابن أخيه عقيلبن أبي طالب، فقال: علامَ ندفع وقد استكرهنا على الخروج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد كنت في الظاهر علينا»، فأُخذت منه فديه نفسه وابن أخيه، ثم قال للرسول: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت، قال: «كيف وقد تركت لأُم الفضل أموالاً؟ وقلتَ لها: إن متُّ فقد تركتك غنية» فقال العباس: والله ما اطلّع على ذلك أحد. وهذا العمل غاية ما يفعل من العدل والمساواة فإنه عليه الصلاة والسلام لم يُعفِ عمَّه مع علمه بأنه إنما خرج مُكرهاً، وقد أعفى غيره جماعة تحقق له فقرهم فهكذا العدل، ولا غرابة، فذلك أدب قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ} [النساء: 135].
ومن الأسرى: أبو عَزَّة الجُمَحي الشاعر، كان شديد الإيذاء لرسول الله بمكة فلما أُسر قال: يا محمد إني فقير، وذو عيال، وذو حاجة قد عرفتها فامْنُنْ، فمنَّ عليه فضلاً منه.