ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل الكعبة وكبّر في نواحيها، ثم خرج إلى مقام إبراهيم، …
وصلّى فيه، ثم شرب من زمزم، وجلس في المسجد والناس حوله والعيون شاخصة إليه ينتظرون ما هو فاعل بمشركي قريش الذين اذوه، وأخرجوه من بلاده وقاتلوه، ولكن هنا تظهر مكارم الأخلاق التي يلزم أن يتعلّم منها المسلم، أن يكون رضاه وغضبه لله لا لهوى النفس، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم» ؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، ويرحم الله الإمام البوصيري حيث قال:
وإذا كان القطع والوصل لله ** تساوى التّقريب والإقصاء
وسواء عليه فيما أتاه ** من سواه الملام والإطراء
ولو أن انتقامه لهوى النف ** س لدامت قطيعة وجفاء
قام لله في الأمور فأرضى الله ** منه تباين ووفاء
فعله كله جميل وهل ينض ** ح إلّا بما حواه الإناء؟
ثم خطب عليه الصلاة والسلام خطبة أبان فيها كثيرا من الأحكام الإسلامية منها ألّا يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملّتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، والبيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام إلّا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد الصبح والعصر، ولا يصام يوم الأضحى ويوم الفطر، ثم قال: «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالاباء، والناس من ادم وادم من تراب، ثم تلا هذه الاية {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }» [الحجرات: 13] ثم شرع الناس يبايعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام، وممن أسلم في هذا اليوم معاوية بن أبي سفيان وأبو قحافة والد الصديق، وقد فرح الرسول كثيرا بإسلامه. وجاء رجل يرتعد خوفا فقال له عليه الصلاة والسلام: «هوّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امراة من قريش كانت تأكل القديد».
أما الذين أهدر رسول الله دمهم فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فمنهم من حقّت عليه كلمة العذاب فقتل، ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم: فعبد الله بن سعد بن أبي سرح لجأ إلى أخيه من الرضاع عثمان بن عفّان، وطلب منه أن يستأمن له رسول الله، فغيّبه عثمان حتى هدأ الناس، ثم أتى به النبي وقال: يا رسول الله قد أمنّته فبايعه، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام مرارا ثم بايعه، فلمّا خرج عثمان وعبد الله قال عليه الصلاة والسلام، «أعرضت عنه ليقوم إليه أحدكم فيضرب عنقه»، فقالوا: هلّا أشرت إلينا؟ فقال: «لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» .
وأما عكرمة بن أبي جهل فهرب فخرجت وراءه زوجته وبنت عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت قد أسلمت قبل الفتح، وقد أخذت له أمانا من رسول الله فلحقته، وقد أراد أن يركب البحر فقالت: جئتك من عند أبرّ الناس وخيرهم، لا تهلك نفسك، وإني قد استأمنته لك فرجع، ولما راه عليه الصلاة والسلام وثب قائما فرحا به، وقال: «مرحبا بمن جاءنا مهاجرا مسلما»، ثم أسلم رضي الله عنه، وطلب من رسول الله أن يستغفر له كل عداوة عاداه إياها فاستغفر له، وكان رضى الله عنه بعد ذلك من خيرة المسلمين وأغيرهم على الإسلام.
وأما هبار بن الأسود فهرب واختفى حتى إذا كان رسول الله بالجعرانة جاءه مسلما، وقال: يا رسول الله هربت منك وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمّن جهل عليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل، فقال عليه الصلاة والسلام: «قد عفوت عنك».
وأما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزومي، فأجارتهما أم هانىء بنت أبي طالب، فأجاز عليه الصلاة والسلام جوارها، ولما قابل رسول الله الحارث بن هشام مسلما قال له «الحمد الله الذي هداك ما كان مثلك يجهل الإسلام»، وقد كان بعد ذلك من فضلاء الصحابة.
وأما صفوان بن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبيّ الله إن صفوان سيد قومه، هرب ليقذف نفسه في البحر، فأمّنه فإنك قد أمّنت الأحمر والأسود، فقال عليه الصلاة والسلام: «أدرك ابن عمك فهو امن»، فقال: أعطني علامة فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له: فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس وأحلم الناس وخير الناس، وهو ابن عمك، وعزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه العمامة علامة الأمان، فرجع إلى رسول الله وقال له: إن هذا يزعم أنك أمّنتني؟ قال: «صدق»، قال: أمهلني بالخيار فيه شهرين، قال: «أنت بالخيار فيه أربعة أشهر»، ثم أسلم رضي الله عنه وحسن إسلامه.
وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم أسلمت، وجاءت إلى رسول الله فرحب بها، وقالت له: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم أهل خباء أحبّ إلي أن يعزوا من أهل خبائك.