فَفِي هذه السنه تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِيُّ …
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَكَانَ زَيْدٌ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، رُبَّمَا فَقَدَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّاعَةَ، فَيَقُولُ: «أَيْنَ زَيْدٌ؟» فَجَاءَ مَنْزِلَهُ يَطْلُبُهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَامَتْ إِلَيْهِ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ زوجته فضلا، فاعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ليس هو هاهنا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَادْخُلْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْخُلَ، وَإِنَّمَا عَجِلَتْ زَيْنَبُ أَنْ تَلْبَسَ إذ قيل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَابِ، فَوَثَبَتْ عَجِلَةً، فَأَعْجَبَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَلَّى وَهُوَ يُهَمْهِمُ بِشَيْءٍ لا يَكَادُ يُفْهَمُ، إِلا أَنَّهُ أَعْلَنَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ! سُبْحَانَ اللَّهِ مُصَرِّفِ الْقُلُوبِ! قَالَ: فَجَاءَ زَيْدٌ إِلَى منزله، فاخبرته امراته ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَتَى مَنْزِلَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَلا قُلْتِ لَهُ: ادْخُلْ! فَقَالَتْ: قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَبَى، قَالَ: فَسَمِعْتِهِ يَقُولُ شَيْئًا؟ قَالَتْ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ حِينَ وَلَّى: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مُصَرِّفِ الْقُلُوبِ! فَخَرَجَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ جِئْتَ مَنْزِلِي، فَهَلا دَخَلْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَعَلَّ زَيْنَبَ أَعْجَبَتْكَ فَأُفَارِقُهَا! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امسك عَلَيْكَ زَوْجَكَ،» فَمَا اسْتَطَاعَ زَيْدٌ إِلَيْهَا سَبِيلا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيخبره، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَفَارَقَهَا زَيْدٌ وَاعْتَزَلَهَا وَحَلَّتْ» .
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَحَدَّثُ مَعَ عَائِشَةَ، إِذْ أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَشْيَةٌ، فَسُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَتْبَسِمُ وَيَقُولُ:
مَنْ يَذْهَبُ إِلَى زَيْنَبَ يُبَشِّرُهَا، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ زوجنيها؟ وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] الْقِصَّةَ كُلَّهَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ لِمَا يَبْلُغُنَا مِنْ جَمَالِهَا، وَأُخْرَى هِيَ أَعْظَمُ الأُمُورِ وَأَشْرَفُهَا، مَا صَنَعَ اللَّهُ لَهَا، زَوَّجَهَا، فَقُلْتُ: تَفْخَرُ عَلَيْنَا بِهَذَا.
قَالَتْ عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم تُخْبِرُهَا بِذَلِكَ، فَأَعْطَتْهَا أَوْضَاحًا عَلَيْهَا.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم قَدْ زَوَّجَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ زَيْنَبَ بِنْتَ جحش ابنه عمته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا يُرِيدُهُ، وَعَلَى الْبَابِ سِتْرٌ مِنْ شَعْرٍ، فَرَفَعَتِ الرِّيحُ السِّتْرَ فَانْكَشَفَ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا حاسره، فوقع إعجابها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ كُرِّهَتْ إِلَى الآخَرِ، قَالَ: فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ ان افارق صاحبتي، فقال: «مالك! أَرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ!» فَقَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَابَنِي مِنْهَا شَيْءٌ، وَلا رَأَيْتُ إِلا خَيْرًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «امسك عليك زوجك واتق الله»، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] ، تخفى في نفسك ان فارقها تزوجتها.
غزوه دومه الجندل
قَالَ الواقدي: وفيها غزا دومة الجندل فِي شهر ربيع الأول، وكان سببها أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن جمعا تجمعوا بها ودنوا من اطرافه فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى بلغ دومة الجندل، ولم يلق كيدا، وخلف على المدينة سباع بْن عرفطة الغفاري.
قَالَ أبو جعفر: وفيها وادع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عيينه ابن حصن أن يرعى بتغلمين وما والاها.
قَالَ محمد بْن عمر- فيما حدثني إبراهيم بْن جعفر، عن أبيه- وذلك أن بلاد عيينة اجدبت، فوادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرعى بتغلمين إلى المراض، وكان ما هنالك قد أخصب بسحابة وقعت، فوادعه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يرعى فيما هنالك.
قَالَ الواقدي: وفيها توفيت أم سعد بْن عبادة وسعد غائب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دومة الجندل
ذكر الخبر عن غزوة الخندق
وفيها: كانت غزوه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق فِي شوال، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق: وكان الذى جر غزوه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق- فيما قيل- ما كان من إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير عن ديارهم.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الْخَنْدَقِ، وَبَعْضُهُمْ يُحَدِّثُ مَا لا يُحَدِّثُ بَعْضٌ، أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ سَلامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ النَّضْرِيُّ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضْرِيُّ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ النَّضْرِيُّ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيُّ، وَأَبُو عَمَّارٍ الْوَائِلِيُّ، فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَنَفَرٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ، هُمُ الَّذِينَ حَزَّبُوا الأَحْزَابَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، فَدَعَوْهُمْ الى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: إِنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأَوَّلِ، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟ قَالُوا:
بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُ قَالَ: فَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] – إِلَى قَوْلِهِ- {وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} [النساء: 55] .
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ، سَرَّهُمْ مَا قَالُوا وَنَشَطُوا لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَجْمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا لَهُ ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ يَهُودَ حَتَّى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم الى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا تَابَعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا فِيهِ، فَأَجَابُوهُمْ.
فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ غَطَفَانُ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فِي بَنِي فَزَارَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ فِي بَنِي مره، ومسعود بن رخيله بن نويره ابن طَرِيفِ بْنِ سَحْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلالِ بْنِ خَلاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، فِيمَنْ تَابَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ اشجع.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وَبِمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنَ الأَمْرِ، ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ فحدثت عن محمد بْن عمر، قَالَ: كان الذي أشار على رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حر، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين فِي الأجر، وعمل فيه المسلمون: فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فِي عملهم رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف من العمل، ويتسللون إلى أهاليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه فِي اللحوق بحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة فِي الخير، واحتسابا له، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] إلى قوله: {وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 62] فنزلت هذه الآية فِي كل من كان من أهل الحسبة من المؤمنين والرغبة فِي الخير، والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] إلى قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64]، أي قد علم ما أنتم عليه من صدق أو كذب، وعمل المسلمون فيه حَتَّى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا، فقالوا: سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا فإذا مروا بعمرو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عمرا»، وإذا قالوا: ظهرا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ظهرا».
فَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الْخَنْدَقَ عَامَ الأَحْزَابِ مِنْ أَجَمِ الشَّيْخَيْنِ طَرَفَ بَنِي حَارِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَذَادَ ثُمَّ قَطَعَهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا بَيْنَ كُلِّ عَشَرَةٍ، فَاحْتَقَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ- وَكَانَ رَجُلا قَوِيًّا- فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ،» قَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ: فَكُنْتُ أَنَا وَسَلْمَانُ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ، وَسِتَّةٌ مِنَ الأَنْصَارِ في اربعين ذراعا، فحفرنا تحت ذو باب حَتَّى بَلَغْنَا النَّدَى، فَأَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَطْنِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةً بَيْضَاءَ مَرْوَةً فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا، وَشَقَّتْ عَلَيْنَا فَقُلْنَا:
يَا سَلْمَانُ، ارْقَ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ خَبَرَ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَإِمَّا أَنْ نَعْدِلَ عَنْهَا فَإِنَّ الْمَعْدَلَ قَرِيبٌ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا فِيهَا بِأَمْرِهِ، فَإِنَّا لا نُحِبُّ أَنْ نُجَاوِزَ خَطَّهُ.
فَرَقِيَ سَلْمَانُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ضَارِبٌ عَلَيْهِ قُبَّةً تُرْكِيَّةً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا! خَرَجَتْ صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ مِنَ الْخَنْدَقِ مَرْوَةٌ، فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا، وَشَقَّتْ عَلَيْنَا حَتَّى مَا نَحِيكُ فِيهَا قَلِيلا وَلا كَثِيرًا، فَمُرْنَا فِيهَا بِأَمْرِكَ، فَإِنَّا لا نُحِبُّ ان نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ سَلْمَانَ فِي الْخَنْدَقِ، وَرَقِينَا نَحْنُ التِّسْعَةَ على شقه الخندق، فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمِعْوَلَ مِنْ سَلْمَانَ، فَضَرَبَ الصَّخْرَةَ ضَرْبَةً صَدَعَهَا، وَبَرَقَتْ مِنْهَا بَرْقَةٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا- يَعْنِي لابَتَيِ الْمَدِينَةِ- حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تَكْبِيرَ فَتْحٍ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الثَّانِيَةَ، فَصَدَعَهَا وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقَةٌ أَضَاءَ مِنْهَا مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تَكْبِيرَ فَتْحٍ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ.
ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الثَّالِثَةَ فَكَسَرَهَا، وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقَةً أَضَاءَ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جَوْفِ بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم أخذ بيد سَلْمَانُ فَرَقِيَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ رَأَيْتُ شَيْئًا مَا رايته قط! [فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ: «هَلْ رَأَيْتُمْ مَا يَقُولُ سَلْمَانُ»؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا قَدْ رَأَيْنَاكَ تَضْرِبُ فَيَخْرُجُ بَرْقٌ كَالْمَوْجِ، فَرَأَيْنَاكَ تُكَبِّرُ فَنُكَبِّرُ، وَلا نَرَى شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ: «صَدَقْتُمْ، ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الأُولَى، فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسْرَى، كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثَّانِيَةَ، فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ الْحُمُرِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثَّالِثَةُ، فَبَرَقَ مِنْهَا الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ صَنْعَاءَ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، فَأَبْشِرُوا يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرَ، وَأَبْشِرُوا يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرَ، وَأَبْشِرُوا يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرُ!» فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُوعِدَ صَادِقٍ بَارٍّ، وَعَدَنَا النَّصْرَ بَعْدَ الْحَصْرَ فَطَلَعَتِ الأَحْزَابُ، فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: {هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]
وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلا تَعْجَبُونَ! يُحَدِّثُكُمْ وَيُمَنِّيكُمْ وَيَعِدُكُمُ الْبَاطِلَ! يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يُبْصِرُ مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَحْفُرُونَ الْخَنْدَقَ وَلا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَبْرُزُوا! وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ:
{وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لا يُتَّهَمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حِينَ فُتِحَتْ هَذِهِ الأَمْصَارُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم! فو الذى نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، مَا افْتَتَحْتُمْ مِنْ مَدِينَةٍ وَلا تَفْتَتِحُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا وَقَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ مَفَاتِيحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ ثَلاثَةَ آلافٍ قال: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَنْدَقِ، أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الاسيال من رومه بَيْنَ الْجُرْفِ وَالْغَابَةِ، فِي عَشَرَةِ آلافٍ مِنْ أَحَابِيشِهِمْ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، حَتَّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نُقْمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْعٍ، فِي ثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ، وَأَمَرَ بِالذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ فَرُفِعُوا فِي الآطَامِ وَخَرَجَ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ صَاحِبَ عقد بنى قريظة وعهدهم، كان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمِهِ، وَعَاهَدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَاقَدَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، أَغْلَقَ دُونَهُ حِصْنَهُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، فَنَادَاهُ حُيَيٌّ: يَا كَعْبُ، افْتَحْ لِي، قَالَ: وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ! إِنَّكَ امْرُؤٌ مَشْئُومٌ، إِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلا وَفَاءً وَصِدْقًا قَالَ: وَيْحَكَ! افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إِلا عَلَى جَشِيشَتِكَ أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا، فَأَحْفَظَ الرَّجُلُ، فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامٍ، جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الاسيال من رومه، وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِذَنَبِ نُقْمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، قَدْ عَاهَدُونِي وَعَاقَدُونِي أَلا يَبْرَحُوا حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: جِئْتَنِي وَاللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ! بِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ يُرْعِدُ وَيُبْرِقُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ! وَيْحَكَ فَدَعْنِي وَمُحَمَّدًا وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلا صِدْقًا وَوَفَاءً! فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبٍ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا مِنَ اللَّهِ وَمِيثَاقًا: لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وبريء مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر والى المسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَحَدَ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الأَوْسِ- وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ، أَحَدَ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ- وَمَعْهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عن هَؤُلاءِ الْقَوْمِ أَمْ لا؟ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحِنُوا لِي لَحْنًا نَعْرِفُهُ، وَلا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ.
فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْهُمْ فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: لا عَقْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلا عَهْدَ.
فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَشَاتَمُوهُ، وَكَانَ رجلا فيه حد، فقال له سعد ابن مُعَاذٍ: دَعْ عَنْكَ مُشَاتَمَتَهُمْ، فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنَ الْمُشَاتَمَةِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْدٌ وَسَعْدٌ ومن معهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: عَضَلٌ وَالْقَارَّةُ أَيْ كَغَدْرِ عَضَلٍ وَالْقَارَّةِ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابِ الرَّجِيعِ، خُبَيْبِ بْنِ عدى واصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُ أَكْبَرُ! أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ،» وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلاءُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأَتَاهُمْ عَدُّوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ مِنْ بَعْضِ المنافقين، حتى قال معتب ابن قُشَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لا يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ! وَحَتَّى قَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ بُيُوتَنَا لَعَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ- وَذَلِكَ عَنْ مَلإٍ مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ- فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى دَارِنَا، فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ.
فَأَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَقَامَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ حَرْبٌ إِلا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ وَالْحِصَارُ.
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلاءُ على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ- إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ- وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ- فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الصُّلْحَ، حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ، وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ وَلا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ إِلا الْمُرَاوَضَةُ فِي ذَلِكَ، فَفَعَلا، فَلَمَّا أَرَادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلَ، بَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ فَقَالا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْرٌ تُحِبُّهُ فَنَصْنَعَهُ، أَمْ شَيْءٌ أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، لا بُدَّ لَنَا مِنْ عَمَلٍ بِهِ، أَمْ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: «لا، بَلْ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلا أَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ لأَمْرٍ مَا سَاعَةً» فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلاءِ الْقَوْمُ عَلَى شِرْكٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَلا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَّا تَمْرَةً إِلا قِرًى أَوْ بَيْعًا، أَفَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالإِسْلامِ، وَهَدَانَا لَهُ، وَأَعَزَّنَا بِكَ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ لا نُعْطِيهِمْ إِلا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ الله بيننا وبينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَأَنْتَ وَذَاكَ!» فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ، فَمَحَا مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَجْهَدُوا عَلَيْنَا.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم، لم يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ إِلا أَنَّ فَوَارِسَ مِنْ قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أَبِي قَيْسٍ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، قَدْ تَلَبَّسُوا لِلْقِتَالِ، وَخَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ، وَمَرُّوا عَلَى بَنِي كِنَانَةِ، فَقَالُوا: تَهَيَّئُوا يَا بَنِي كِنَانَةَ لِلْحَرْبِ، فَسَتَعْلَمُونَ الْيَوْمَ مَنِ الْفِرْسَانُ! ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَ الْخَنْدَقِ، حَتَّى وَقَفُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا، ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا مِنَ الْخَنْدَقِ ضَيِّقًا، فَضَرَبُوا خُيُولَهُمْ، فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السَّبَخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمُ الثَّغْرَةَ الَّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الْفِرْسَانُ تعنق نحوهم وقد كان عمرو بن عبد ود قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلِمًا لِيَرَى مَكَانَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ، [قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ كُنْتَ تعاهد الله الا يَدْعُوَكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى خُلَّتَيْنِ إِلا أَخَذْتَ مِنْهُ إِحْدَاهُمَا! قَالَ: أَجَلْ! قَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الإِسْلامِ، قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، قَالَ: فَإِنِّي ادعوك الى النزال، قال: ولم يا بن أخي، فو الله مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ! قَالَ: عَلِيٌّ: وَلَكِنِّي وَاللَّهِ أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ قَالَ: فَحُمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ- أَوْ ضَرَبَ وَجْهَهُ- ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَتَنَازَلا وتجاولا، فقتله على ع وَخَرَجَتْ خَيْلُهُ مُنْهَزِمَةً،] حَتَّى اقْتَحَمَتْ مِنَ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً، وَقُتِلَ مَعَ عَمْرٍو رَجُلانِ: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكَّةَ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ فِيهِ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، قِتْلَةً أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ! فَنَزَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، فَغَلَبَ المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يبيعهم جسده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حَاجَةَ لَنَا بِجَسَدِهِ وَلا ثَمَنِهِ، فَشَأْنُكُمْ بِهِ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ» .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عَنْ أَبِي لَيْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ الأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ مِنْ أَحْرَزِ حُصُونِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَهَا فِي الْحِصْنِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ قَالَتْ: فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مُقَلَّصَةٌ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعُهُ كُلُّهَا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يَرْقُدُ بِهَا وَيَقُولُ:
لَبِّثْ قَلِيلا يُشْهِدُ الْهَيْجَا حَمَلْ لا بَاسَ بِالْمَوْتِ إِذَا حَانَ الأَجَلْ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: الْحَقْ يَا بُنَيَّ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَخَّرْتَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَوَدَدْتُ أَنَّ دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمَّا هِيَ! قَالَتْ: وَخِفْتُ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ السَّهْمُ مِنْهُ.
قَالَتْ: فَرُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ، فَقَطَعَ مِنْهُ الأَكْحَلَ، رَمَاهُ- فبما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ- حِبَّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرِقَةِ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ! اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا فَإِنَّهُ لا قَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ، وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً وَلا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنَيَّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خرجت يوم الخندق اقفو آثار الناس، فو الله إِنِّي لأَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ وَئِيدَ.
الأَرْضِ خَلْفِي- تَعْنِي حِسَّ الأَرْضِ- فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدٍ، فَجَلَسْتُ إِلَى الأَرْضِ، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ- شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو- يَحْمِلُ مِجَنَّهُ، وَعَلَى سَعْدٍ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ أَطْرَافُهُ مِنْهَا قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمْ.
قَالَتْ: فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ، فَمَرَّ بِي يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
لَبِّثْ قَلِيلا يُدْرِكُ الْهَيْجَا حَمَلْ مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الأَجَلْ! قَالَتْ: فَلَمَّا جَاوَزَنِي قُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً فِيهَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ تَسْبِغَةٌ لَهُ- قَالَ مُحَمَّدُ: وَالتَّسْبِغَةُ الْمِغْفَرُ- لا تُرَى إِلا عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ، مَا جَاءَ بِكِ؟
مَا يُدْرِيكِ لَعَلَّهُ يَكُونُ تَحَوُّزٌ أَوْ بَلاءٌ! فو الله مَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى وَدَدْتُ أَنَّ الأَرْضَ تَنْشَقُّ لِي فَأَدْخُلَ فِيهَا، فَكَشَفَ الرَّجُلُ التَّسْبِغَةَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ طَلْحَةُ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ، أَيْنَ الْفِرَارُ، وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ إِلا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ! قَالَتْ: فَرُمِيَ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، رَمَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرَقَةِ، فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرَقَةِ، فَقَالَ: سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ! فَأَصَابَ الأَكْحَلَ مِنْهُ فَقَطَعَهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ إِلا لَمْ يَزَلْ يَبِضُّ دَمًا حَتَّى يَمُوتَ فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْنِي حَتَّى تَقَرَّ عَيْنِي فِي بَنِي قُرَيْظَةَ! وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لا يتهم، عن عبيد الله بن كعب بْن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب سعدا يومئذ بالسهم إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، فالله أعلم أي ذَلِكَ كان! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: كانت صفيه بنت عبد المطلب في فارع حِصْنِ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَتْ:
وَكَانَ حَسَّانٌ مَعَنَا فِيهِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ قَالَتْ صَفِيَّةُ: فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَقَدْ حَارَبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَقَطَعَتْ مَا بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنَّا، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ فِي نُحُورِ عَدُوِّهِمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصَرِفُوا إِلَيْنَا عَنْهُمْ إِنْ أَتَانَا آتٍ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ كَمَا تَرَى، يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُهُ ان يدل على عوراتنا مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ يَهُودَ، وَقَدْ شُغِلَ عَنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَانْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَا بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتِ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا! قَالَتْ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ لِي، وَلَمْ أَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا احْتَجَزْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ عَمُودًا، ثُمَّ نَزَلْتُ مِنَ الْحِصْنِ إِلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ بِالْعَمُودِ حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهُ رَجَعْتُ إِلَى الْحِصْنِ، فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، انْزِلْ إِلَيْهِ فَاسْلُبْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ سَلَبِهِ إِلا أَنَّهُ رَجُلٌ، قَالَ: مَا لِي بِسَلَبِهِ مِنْ حَاجَةٍ يَا بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم واصحابه، فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ، لِتَظَاهُرِ عَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِتْيَانِهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بن قنفذ بن هلال ابن خلافه بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلامِي، فَمُرْنِي بِمَا شئت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ.
فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ- وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا: صَدَقْتَ، لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَهَيْئَتِكُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، بِهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَحَوَّلُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ أَمْوَالُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَبَلَدُهُمْ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسُوا كَهَيْئَتِكُمْ، إِنْ رَأَوْا نُهْزَةً وَغَنِيمَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ، وَلا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلا بِكُمْ، فَلا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ، ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَكُمْ مُحَمَّدًا، حَتَّى تُنَاجِزُوهُ، فَقَالُوا: لَقَدْ أَشَرْتَ بِرَأْيٍ وَنُصْحٍ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ لأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ رَأَيْتُ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهَ نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ قَالُوا: نَفْعَلُ، قَالَ: فَاعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَنْ قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ عَنَّا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَنُعْطِيكَهُمْ، فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونُ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ، فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، فَلا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلا وَاحِدًا ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، أَنْتُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي، وَأَحَبُّ الناس الى، ولا أراكم تتهموننى! قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَاكْتُمُوا عَلَيَّ، قَالُوا: نَفْعَلُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةَ السَّبْتِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ أَنْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، فَاغْدُوا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِمْ أَنَّ الْيَوْمَ السَّبْتُ، وَهُوَ يَوْمٌ لا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْضُنَا حَدَثًا فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ، وَلَسْنَا مَعَ ذَلِكَ بِالَّذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا، حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ ضَرَسَتْكُمُ الْحَرْبُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، أَنْ تُشَمِّرُوا إِلَى بِلادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا وَالرَّجُلُ فِي بَلَدِنَا، وَلا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِالَّذِي قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ فَأَرْسِلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلا وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ حِينَ انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِمْ بِهَذَا: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ، مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ إِلا أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِنْ وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ تُشَمِّرُوا إِلَى بِلادِهمْ، وَخَلُّوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بِلادِكُمْ فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ، وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا اخْتَلَف مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قال فتى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ وَصَحِبْتُمُوهُ! قال: نعم يا بن أَخِي، قَالَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ، فَقَالَ الْفَتَى: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، وَلَحَمَلْنَاه على أعناقنا فقال حذيفة: يا بن أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: «مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ» – يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ- «أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ؟» فَمَا قَامَ رَجُلٌ ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ مِثْلَهُ، فَمَا قَامَ مِنَّا رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: «مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ» – يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ الرُّجْعَةَ- أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ فَلَمَّا لم يقم احد دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي فَقَالَ: «يَا حُذَيْفَةُ، اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلا تُحَدِّثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا،» قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لا تُقِرٌّ لَهُمْ قِدْرًا وَلا نَارًا وَلا بِنَاءً فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ جَلِيسَهُ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلانُ بْنُ فُلانٍ ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ.
ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ بِهِ عَلَى ثَلاثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلا عَهْدُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الى الا أُحَدِّثُ شَيْئًا حَتَّى آتِيَهُ، ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ قَالَ حُذَيْفَةُ: فرجعت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، فَأَذْلَقْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلادِهِمْ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ عَنِ الْخَنْدَقِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْمُسْلِمُونَ وَوَضَعُوا السِّلاحَ.
غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ
فَلَمَّا كَانَتِ الظهر، اتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ- مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «نَعَمْ»، قَالَ جِبْرِيلُ: مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ السلاح وما رجعت الان الا من طَلَبِ الْقَوْمِ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ يَا مُحَمَّدُ بِالسَّيْرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَنَا عَامِدٌ إِلَى بنى قريظة.
فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: إِنَّ مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلا فِي بنى قريظة] وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِرَايَتِهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَابْتَدَرَهَا النَّاسُ، فَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب ع، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْحُصُونِ، سَمِعَ مِنْهَا مقاله قبيحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا عَلَيْكَ أَلا تَدْنُوَ مِنْ هَؤُلاءِ الأَخَابِثِ! قَالَ: «لِمَ؟ أَظُنُّكُ سَمِعْتَ لِي مِنْهُمْ أَذًى!» قَالَ: نَعَمْ يا رسول الله لَوْ قَدْ رَأَوْنِي لَمْ يَقُولُوا مِنْ ذَلِكَ شيئا فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ حُصُونِهِمْ، قَالَ: «يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ، هَلْ أَخْزَاكُمُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ!» قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا كُنْتَ جَهُولا وَمَرَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ بِالصُّورَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: «هَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، عَلَيْهَا رِحَالُهُ عَلَيْهَا قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ، بُعِثَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ» فَلَمَّا اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بَنِي قُرَيْظَةَ، نَزَلَ عَلَى بِئْرٍ مِنْ آبَارِهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، يُقَالُ لَهَا بِئْرُ أَنَّا، فَلاحَقَ بِهِ النَّاسُ، فَأَتَاهُ رِجَالٌ مِنْ بَعْدِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، وَلَمْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ، [لِقَوْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ» إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْهُ بُدٌّ مِنْ حَرْبِهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُصَلُّوا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
حتى تأتوا بَنِي قُرَيْظَةَ، فَصَلَّوُا الْعَصْرَ بِهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ فَمَا عَابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بشر، قال: حدثنا محمد ابن عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عائشة، قالت: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى سَعْدٍ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، وَوَضَعَ السِّلاحَ– يعنى عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَنْدَقِ- وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ السِّلاحَ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ ع، فقال: اوضعتم السلاح! فو الله مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ بَعْدُ السِّلاحَ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فقاتلهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلَأْمَتِهِ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ، فَمَرَّ بِبَنِي غَنْمٍ، فَقَالَ: «مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟» قَالُوا: مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ– وَكَانَ يُشَبِّهُ سُنَّتَهُ ولحيته ووجهه بجبريل ع- حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَسَعْدٌ فِي قُبَّتِهِ الَّتِي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَحَاصَرَهُمْ شَهْرًا- أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً- فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ قِيلَ لَهُمُ: انزلوا على حكم رسول الله، فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِنَّهُ الذَّبْحُ، فَقَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِ»، فَنَزَلُوا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِحِمَارٍ بِإِكَافٍ مِنْ لِيفٍ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ عائشة: لقد كان برا كَلْمُهُ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ إِلا مِثْلُ الْخَرْصِ.
رَجْعُ الْحَدِيثِ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قال: وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ} [الأحزاب:26] – وقد كان حيي بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فِي حِصْنِهِمْ حِينَ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ، وَفَاءً لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ- فلما أيقنوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرَ مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُنَاجِزَهُمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ لَهُمْ:
يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وانى عارض عَلَيْكُمْ خِلالا ثَلاثًا فَخُذُوا أَيَّهَا شِئْتُمْ! قَالُوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لَقَدْ كَانَ تَبَيَّنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّهُ لَلَّذِي كُنْتُمْ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ، فَتَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكِمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، قَالُوا: لا نُفَارِقُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ أَبَدًا، وَلا نَسْتَبْدِلُ بِهِ غيره قال: فإذ أَبَيْتُمْ هَذِهِ عَلَيَّ فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، ثُمَّ نَخْرُجْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ رِجَالا مُصَلِّتِينَ السيوف، وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا ثِقَلا يُهِمُّنَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ نَهْلِكْ نَهْلِكْ وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا شَيْئًا نَخْشَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَظْهَرْ فَلَعَمْرِي لَنَجِدَنَّ النِّسَاءَ وَالأَبْنَاءَ قَالُوا: نَقْتُلُ هَؤُلاءِ الْمَسَاكِينَ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ! قَالَ: فإذ أَبَيْتُمْ هَذِهِ عَلَيَّ فَإِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَمِنُوا فِيهَا، فَانْزِلُوا لَعَلَّنَا نُصِيبُ مِنْ مُحَمَّدٍ واصحابه غره قالوا: نفسد سبتنا، وَنُحْدِثُ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَحْدَثَ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِلا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ فَأَصَابَهُ مِنَ الْمَسْخِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ.
قَالَ: مَا بَاتَ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنَ الدَّهْرِ حَازِمًا.
قَالَ: ثم انهم بعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لَبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- وَكَانُوا حُلَفَاءَ الأَوْسِ- نَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِنَا، فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَبَهَشَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ وَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ! قَالَ: نَعَمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ: إِنَّهُ الذَّبْحُ، قَالَ ابو لبابه: فو الله مَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ عَلَى وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِهِ، وَقَالَ: لا أَبْرَحُ مَكَانِي هَذَا حَتَّى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله الا يَطَأَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا.
وَقَالَ: لا يَرَانِي اللَّهُ فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيهِ ابدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَبَرُهُ، وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ- وَكَانَ قَدِ اسْتَبْطَأَهُ- قَالَ:
«اما لو جاءني لاستغفرت له، فاما إذ فَعَلَ مَا فَعَلَ، فَمَا أَنَا بِالَّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، أَنَّ تَوْبَةَ ابى لبابه انزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ.
قَالَتْ أُمُّ سلمه: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّحَرِ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ! قَالَ: «تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ،» فَقُلْتُ: أَلا أُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «بَلَى إِنْ شِئْتِ،» قَالَ: فَقَامَتْ عَلَى بَابِ حُجْرَتِهَا- وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ- فَقَالَتْ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ قَالَ: فَثَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ، فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ خَارِجًا إِلَى الصُّبْحِ أَطْلَقَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ وَأُسَيْدَ بْنَ سعيه، واسد ابن عُبَيْدٍ- وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدَلٍ، لَيْسُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلا النَّضِيرِ، نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ- هُمْ بَنُو عَمِّ الْقَوْمِ أَسْلَمُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا قُرَيْظَةُ عَلَى حُكْمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم- وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سعدى القرظى، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيُّ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ:
عَمْرُو بْنُ سُعْدَى- وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: لا أَغْدِرُ بِمُحَمَّدٍ أَبَدًا- فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِينَ عَرَفَهُ: اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنِي عَثَرَاتِ الْكِرَامِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى بَاتَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدْيِنَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَلا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِهِ هذا! فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شَأْنُهُ، فَقَالَ: «ذَاكَ رَجُلٌ نَجَّاهُ اللَّهُ بِوَفَائِهِ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أَوْثَقَ بِرِمَّةٍ فِيمَنْ أَوْثَقَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَصْبَحَتْ رِمَّتُهُ مُلْقَاةً لا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَتَوَاثَبَتِ الأَوْسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي الْخَزْرَجِ بِالأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْتَ- وَقَدْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُ إِيَّاهُمْ عبد الله بن ابى بن سَلُولَ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ الأَوْسُ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ!» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:
«فَذَاكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» – وَكَانَ سَعْدُ بْنُ معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمه امراه من اسلم يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ فِي مَسْجِدِهِ، كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ مَنْ كَانَتْ بِهِ ضَيْعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ أَصَابَهُ السَّهْمُ بِالْخَنْدَقِ: اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ، حَتَّى أَعُودَهُ مِنْ قريب- فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، أَتَاهُ قَوْمُهُ، فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّئُوا لَهُ بِوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ- وَكَانَ رَجُلا جَسِيمًا- ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُمَ يَقُولُونَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مواليك، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا وَلاكَ ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ» فَلَمَّا أَكْثَرُوا عليه قال: «قد انى لِسَعْدٍ أَلا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ» فَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَنَعَى لَهُمْ رِجَالُ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ كَلِمَتِهِ الَّتِي سَمِعَ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ: فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: فَلَمَّا طلع- يعنى سعدا- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» – أَوْ قَالَ: «إِلَى خَيْرِكُمْ»- فانزلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«احْكُمْ فِيهِمْ»، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَأَنْ تُسْبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ فَقَالَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ» .
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا أبا عمرو، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ وَلاكَ أَمْرَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ فِيهِمْ فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مَا حَكَمْتُ! قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وعلى من هاهنا؟ – في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلالا له- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ»، قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ بِأَنْ تُقْتَلَ الرِّجَالُ، وَتُقْسَمَ الأَمْوَالُ، وَتُسْبَى الذَّرَارِيُّ وَالنِّسَاءُ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي دَارِ ابْنَةِ الْحَارِثِ، امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النجار ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ سُوقُهَا الْيَوْمَ، فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، يَخْرُجُ بِهِمْ إِلَيْهِ أَرْسَالا، وَفِيهِمْ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وكعب بن اسد، راس القوم، وهم ستمائه او سبعمائة، المكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة الى التسعمائة وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ- وَهُمْ يَذْهَبُ بهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرْسَالا-: يَا كَعْبُ، مَا تَرَى مَا يُصْنَعُ بِنَا! فَقَالَ كَعْبٌ: فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لا تَعْقِلُونَ: أَلا تَرَوْنَ الدَّاعِي لا يَنْزِعُ، وَأَنَّهُ مَنْ ذَهَبَ بِهِ مِنْكُمْ لا يَرْجِعُ، هُوَ وَاللَّهِ الْقَتْلُ! فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الدَّأْبُ حَتَّى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأُتِيَ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَهُ فُقَاحِيَةٌ قَدْ شَقَّقَهَا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ كَمَوْضِعِ الأَنْمُلَةِ، أَنْمُلَةً أَنْمُلَةً، لِئَلا يُسْلَبَهَا، مَجْمُوعَةُ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ فَلَمَّا نظر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهَ يُخْذَلْ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، انه لا باس بأمر الله، كتاب اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَمَلْحَمَةٍ قَدْ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ جَبَلُ بْنُ جَوَّالٍ الثَّعْلَبِيُّ:
لَعَمْرُكَ مَا لامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ *** وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهُ يُخْذَلِ
لَجَاهَدَ حَتَّى أَبْلَغَ النَّفْسَ عُذْرَهَا *** وَقَلْقَلَ يَبْغِي الْعِزَّ كُلُّ مُقَلْقَلِ
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إِلا امْرَأَةً وَاحِدَةً قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَعِنْدِي تُحَدِّثُ مَعِي، وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ رِجَالَهُمْ بِالسُّوقِ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلانَةُ؟ قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ قَالَتْ:
قُلْتُ: وَيْلَكِ مَا لَكِ! قَالَتْ: أُقْتَلُ! قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ.
قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بِهَا فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: مَا أَنْسَى عَجَبَنَا مِنْهَا، طِيبُ نَفْسٍ وَكَثْرَةُ ضَحِكٍ، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تُقْتَلُ! وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ- كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ- أَتَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا الْقُرَظِيُّ- وَكَانَ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ- وَكَانَ الزُّبَيْرُ قَدْ مَنَّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ مُحَمَّدٌ:
مِمَّا ذَكَرَ لِي بَعْضُ وَلَدِ الزَّبِيرِ، أَنَّهُ كَانَ مَنَّ عَلَيْهِ يَوْمَ بُعَاثٍ، أَخَذَهُ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ- فَجَاءَهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَكَ! قَالَ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَجْزِيَكَ بِيَدِكَ عِنْدِي، قَالَ: إِنَّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ ثُمَّ اتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كَانَتْ لِلزَّبِيرِ عِنْدِي يَدٌ، وَلَهُ عَلَيَّ مِنَّةٌ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا، فَهَبْ لِي دَمَهُ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك»، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ وَهَبَ لِي دَمَكَ فَهُوَ لَكَ، قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ لا أَهْلَ لَهُ وَلا وَلَدَ، فَمَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ! فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، قَالَ: «هُمْ لَكَ»، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْطَانِي امْرَأَتَكَ وَوَلَدَكَ فَهُمْ لَكَ.
قَالَ: أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَاز لا مَالَ لَهُمْ، فَمَا بقاؤهم! فاتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالُهُ! قَالَ: «هُوَ لك»، فأتاه فقال: ان رسول الله قَدْ أَعْطَانِي مَالَكَ فَهُوَ لَكَ، قَالَ: أَيْ ثَابِتُ! مَا فَعَلَ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ تَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيِّ، كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟
قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي، حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ:
قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدِّمَتُنَا إِذَا شَدَدْنَا، وَحَامِيتُنَا إِذَا كَرَرْنَا، عَزَّالُ بْنُ شمويلَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ- يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ- قَالَ: ذَهَبُوا، قُتِلُوا قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِيَدِي عِنْدَكَ يا ثابت، الا ألحقتني بالقوم، فو الله مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلاءِ مِنْ خَيْرٍ، فما انا بصابر الله قِبْلَةَ دَلْوٍ نُضِحَ حَتَّى أَلْقَى الأَحِبَّةَ! فَقَدَّمَهُ ثَابِتٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ قَوْلُهُ: أَلْقَى الأَحِبَّةَ قَالَ: يَلْقَاهُمْ وَاللَّهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا أَبَدًا فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشِّمَاسِ فِي ذَلِكَ، يَذْكُرُ الزَّبِيرَ بْنَ بَاطَا:
وَفَتْ ذِمَّتِي أَنِّي كَرِيمٌ وَأَنَّنِي *** صَبُورٌ إِذَا مَا الْقَوْمُ حَادُوا عَنِ الصَّبْرِ
وَكَانَ زَبِيرٌ أَعْظَمَ النَّاسِ مِنَّةً *** عَلَيَّ فَلَمَّا شُدَّ كُوعَاهُ بِالأَسْرِ
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ كَيْمَا أَفُكَّهُ ***وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ بَحْرًا لَنَا يَجْرِي
قَالَ: وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ أُنْبِتَ مِنْهُمْ .
فَحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، أَخِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، أَنَّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ أُمَّ الْمُنْذِرِ أُخْتَ سُلَيْطِ بْنِ قيس- وكانت احدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَدْ صَلَّتْ مَعَهُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَبَايَعَتْهُ بَيْعَةَ النِّسَاءِ- سَأَلَتْهُ رِفَاعَةَ بْنَ شمويلَ الْقُرَظِيَّ- وَكَانَ رَجُلا قَدْ بَلَغَ وَلاذَ بِهَا، وَكَانَ يَعْرِفُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! هَبْ لِي رِفَاعَةَ بْنَ شمويلَ، فَإِنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّهُ سَيُصَلِّي، وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ، فَوَهَبَهُ لَهَا، فَاسْتَحَيْتُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسَمَ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلَمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَهْمَانِ الْخَيْلِ وَسَهْمَانِ الرِّجَالِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْخُمُسَ، فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ، وَلِلرَّاجِلِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ سَهْمٌ، وَكَانَتِ الْخَيْلُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ سِتَّةً وَثَلاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ أول فيء وقع فيه السهمان واخرج منه الْخُمُسِ، فَعَلَى سُنَّتِهَا وَمَا مَضَى مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمَغَازِي، وَلَمْ يَكُنْ يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ إِذَا كَانَتْ مَعَ الرَّجُلِ إِلا لِفَرَسَيْنِ.
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ بِسَبَايَا مِنْ سَبَايَا بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى نَجْدٍ، فَابْتَاعَ لَهُ بِهِمْ خيلا وسلاحا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِ اصْطَفَى لِنَفْسِهِ مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عمرو بن خنافه إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، فَكَانَتْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ تَتْرُكَنِي فِي مِلْكِكَ فَهُوَ أَخَفُّ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ فَتَرَكَهَا، وَقَدْ كانت حين سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ تَعَصَّتْ بِالإِسْلامِ، وَأَبَتْ إِلا الْيَهُودِيَّةَ، فَعَزَلَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ لِذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، فَبَيْنَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ خَلْفَهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ يُبَشِّرُنِي بِإِسْلامِ رَيْحَانَةَ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ.
فَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قُرَيْظَةَ انْفَجَرَ جُرْحُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا- كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ عَائِشَةَ: ثُمَّ دَعَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ- يَعْنِي بَعْدَ أَنْ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ مَا حَكَمَ- فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَوْمٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُقَاتِلَ أَوْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِكَ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ، فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْمَتِهِ الَّتِي ضُرِبَتْ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابو بكر، وعمر، فو الذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ وَإِنِّي لَفِي حُجْرَتِي قَالَتْ: وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] قَالَ عَلْقَمَةُ: أَيُّ أُمَّهْ! كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنُهُ لا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَدَّ وَجْدُهُ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ إِذَا وَجَدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إِلا سِتَّةُ نَفَرٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، وَقُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ خَلادُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عمرو ابن بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا.
وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ، أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قريظة.
ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: «الآنَ نَغْزُوهُمْ»- يَعْنِي قُرَيْشًا- «وَلا يَغْزُونَنَا،» فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ.
وَكَانَ فَتْحُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي صَدْرِ ذِي الْحَجَّةِ، فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ، لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْه، وَزَعَمَ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُشَقَّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فِي الأَرْضِ أَخَادِيدَ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَضْرِبَانِ أَعْنَاقَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ كَانَتْ تُسَمَّى بُنَانَةَ، امْرَأَةُ الْحَكَمِ الْقُرَظِيِّ، كَانَتْ قَتَلَتْ خَلادَ بْنَ سُوَيْدٍ، رَمَتْ عَلَيْهِ رحى، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَضُرِبَ عُنُقُهَا بِخَلادِ بْنِ سُوَيْدٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي وقت غزوه النبي صلى الله عليه وسلم بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهِيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ- وَالْمُرَيْسِيعُ اسْمُ مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ خُزَاعَةَ بِنَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إِلَى السَّاحِلِ- فقال: ابن إسحاق- فيما حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق من خزاعة، فِي شعبان سنة ست من الهجرة.
وقال الواقدي: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم المريسيع فِي شعبان سنة خمس من الهجرة وزعم أن غزوة الخندق وغزوة بني قريظة كانتا بعد المريسيع لحرب بني المصطلق من خزاعة.
وزعم ابن إسحاق- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف بعد فراغه من بني قريظة، وذلك فِي آخر ذي القعدة أو فِي صدر ذي الحجة- فأقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وولي الحجة فِي سنة خمس المشركون.