وأما الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره، …
فمما أدب الله به نبيه، فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقد سأل عليه الصلاة والسلام جبريل عن تأويلها. فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك، وقال له: {وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] وقال: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
وقد تضافرت الأخبار على اتّصافه عليه الصلاة والسلام بنهاية هذه الأوصاف، فما من حليم إلّا عرفت منه زلّة، وحفظت عنه هفوة، ونبيّنا لا يزيد مع كثرة الإيذاء إلّا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلّا حلما. قالت عائشة رضي الله عنها: ما خيّر عليه الصلاة والسلام في أمرين قطّ إلّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها، ولما فعل به المشركون ما فعلوا في أحد، وطلب منه أن يدعو عليهم قال: “للهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون“. وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين اذوه واستهزؤوا به، وأخرجوه من دياره، هو وأصحابه، ثم قاتلوه، وحرّضوا عليه غيرهم من مشركي العرب، حتى تمالأ عليه جمعهم، ثم لمّا فتح الله عليه مكّة ما زاد على أن عفا وصفح، وقال: “ما تقولون: إني فاعل بكم؟” قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم فقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” وعن أنس: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام وعليه برد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال: يا محمّد احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النّبيّ ثم قال: “المال مال الله، وأنا عبده“، ثم قال: “ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي“، قال: لا، قال: “لم؟” قال: لأنك لا تكافىء بالسيئة السيئة فضحك عليه الصلاة والسلام، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الاخر تمر. قالت عائشة: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ، ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى، وما ضرب بيده شيئا قطّ إلّا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادما ولا امرأة، فصلى الله تعالى عليه، وأقر عينه باتّباع المسلمين سنّته.
وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة، ولا يبارى بهذا وصفه كل من عرفه. قال جابر رضي الله عنه: ما سئل عليه الصلاة والسلام عن شيء فقال: لا وقال ابن عباس: كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير، وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة. وقالت خديجة في صفته عليه الصلاة والسلام مخاطبة له: إنك تحمل الكلّ، وتكسب المعدوم . وحسبك شاهدا في هذا الباب ما فعله مع هوازن من ردّ السبي إليها، وما فعله يوم تقسيم السبي من إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم الأعطية. وقد استوفينا ذلك في موضعه.
وحمل إليه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفا فوضعها على حصير، وأخذ يقسمها، فما قام حتى فرغ منها. وجاءه رجل فسأله فقال: “ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه“. فقال له عمر: ما كلّفك الله ما لا تقدر عليه، فكره ذلك عليه الصلاة والسلام، فقال له رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسّم عليه الصلاة والسلام وعرف البشر في وجهه وقال: “بهذا أمرت” والأخبار بجوده وكرمه عليه الصلاة والسلام كثيرة يكفي منها لتعليمك ما ذكرناه.