إعادة بناء الكعبة
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة. قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشًا على بنائها أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوا فأخرجه، فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له مُلَيْح سرق طِيبَ الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخل إلا من شاءوا، وأعدوا لذلك نفقة وعمَالًا، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذي أرادوا.
اختصام القبائل حول بناء الكعبة
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنيانها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا: لعقَة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم – وكان يومئذ أسن قريش كلها- قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم؛ ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر .
النبي الأمين يضح الحجر الأسود
قال صلى الله عليه وسلم: «هلَمُّ إليَّ ثوباً»، فأتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً»، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه.
وحكى السهيلي: أنها كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل، يعني ارتفاعها، ولم يكن لها سقف، فلما بنتها قريش قبل الإسلام زادوا فيها تسع أذرع، فكانت ثماني عشرة ذراعاً، ورفعوا بابها عن الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سُلَمّ، وأول من عمل لها غلَقًا تَبُعّ، ثم لما بناها ابن الزبير زاد فيها تسع أذرع، فكانت سبعاً وعشرين ذراعاً، وعلى هذا هي إلى الآن.
تاريخ بناء الكعبة
وكان بناؤها في الدهر خمس مرات:
الأولى: حين بناها شيث بن آدم عليهما السلام.
والثانية: حين بناها إبراهيم على القواعد الأولى.
الثالثة: حين بنتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام.
والرابعة: حين احترقت في عهد ابن الزبير بشررة طارت من أبي قبيس فوقعت في أستارها فاحترقت، وقيل: إن امرأة أرادت أن تجمرها فطارت شرارة من المجمرة فاحترقت، فشاور ابن الزبير في هدمها من حضر فهابوا هدمها وقالوا: نرى أن تصلح ما وَهَى ولا تهدم، فقال: لو أن بيت أحدكم احترق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح، ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها، فهدمها حتى انتهى إلى قواعد إبراهيم، وأمرهم أن يزيدوا في الحفر، فحركوا حجراً منها فرأوا تحته نارًا وهولًا أفزعهم، فأمرهم أن يقُرُوّا القواعد، وأن يبنوا من حيث انتهى الحفر.
وفي الخبر أنه سترها حين وصل إلى القواعد، فطاف الناس بتلك الأستار فلم تخل من طائف، حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب واشتغل الناس، فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها.
فلما استتم بنيانها ألصق بابها بالأرض، وعمل لها خلَفا أي بابا آخر من ورائها، وأدخل الحجر فيها، وذلك لحديث حدثته به خالته عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ألم تري قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم حين عجزت بهم النفقة ». ثم قال عليه السلام: « لولا حِدْثان قومك بالجاهلية لهدمتها وجعلت لها خلَفا، وألصقت بابها بالأرض، ولأدخلت الحجر فيها » أو كما قال عليه السلام.
تطور بناء الكعبة
قال ابن الزبير: فليس بنا اليوم عجز عن النفقة، فبناها على مقتضى حديث عائشة. فلما قام عبد الملك بن مروان قال: لسنا من تخليط أبي خبيب بشيء، فهدمها وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من بنائها جاءه الحارث بن أبي ربيعة المعروف: بالقباع، وهو أخو عمر بن أبي ربيعة الشاعر ومعه رجل آخر، فحدثاه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث المتقدم، فندم وجعل ينكث في الأرض بمخصرة في يده ويقول: وددت أني تركت أبا خبيب وما تحَمَلّ من ذلك. فهذه المرة الخامسة.
فلما قام أبو جعفر المنصور أراد أن يبنيها على ما بناها ابن الزبير، وشاور في ذلك، فقال له مالك بن أنس: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، وأن تجعل هذا البيت مَلعْبَة للملوك بعدك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس، فصرفه عن رأيه فيه.
مراحل بناء الكعبة
وقد قيل: إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين؛ لأن السيل كان قد صدع حائطه، ولم يكن ذلك بنياناً، وإنما كان إصلاحًا لما وَهَى منه، وجدارًا يبنى بينه وبين السيل، بناه عامر الجادر.
وكانت الكعبة قبل أن يبنيها شيث عليه السلام خيمة من ياقوتة حمراء، يطوف بها آدم و يأنس بها؛ لأنها أنزلت إليه من الجنة، وكان قد حج إلى موضعها من الهند. وقد قيل أيضًا: إن آدم هو أول من بناها. ذكره ابن إسحاق في غير رواية البكائي.
وفي الخبر أن موضعها كان غُثآءة على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، فلما بدأ الله يخلق الأشياء خلق التربة قبل السماء، فلما خلق السماء وقضاهن سبع سموات دحى الأرض، أي بسطها، وذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، وإنما دحاها من تحت مكة؛ ولذلك سميت أم القرى. وفي التفسير أن الله سبحانه حين قال للسموات والأرض: {ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] لم يجبه بهذه المقالة إلا أرض الحرم؛ فلذلك حَرَّمها. وفي الحديث: «إن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض».