وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة، …
والاداب الشريفة، وهي المسماة بحسن الخلق، فجميعها قد كانت خلق نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم على الإنتهاء في كمالها، والإعتدال إلى غايتها، حتى أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] قالت عائشة: كان خلقه القران، يرضى برضاه ويسخط بسخطه.
وقال عليه الصلاة والسلام: “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وقال أنس: كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقا. وكانت له هذه الاداب الكريمة كما كانت لإخوانه من الأنبياء جبلّة خلقوا عليها. ثم يتمكن الأمر لهم، وتترادف نفحات الله عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم، حتى يصلوا الغاية، ويبلغوا باصطفاء الله لهم بالنبوة في تحصيل هذه الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة، وهذه الأخلاق المحمودة، والخصال الجميلة كثيرة، ولكنا نذكر أصولها. ونشير إلى جميعها، ونحقّق وصفه عليه الصلاة والسلام بها إن شاء الله.
فأصل فروعها، وعنصر ينابيعها، ونقطة دائرتها: فالعقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة، ويتفرّع عن هذا ثقوب الرأي، وجودة الفطنة، والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحسن السياسة والتدبير، واقتناء الفضائل، وتجنّب الرذائل. وقد بلغ عليه الصلاة والسلام منه ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه. ويعلم ذلك من تتبّع مجاري أحواله، واطّراد سيره، وطالع جوامع كلمه، وحسن شمائله، وبدائع سيره، وحكم حديثه، وعلمه بما في التوارة والإنجيل والكتب المنزلة، وحكم الحكماء، وسير الأمم الخالية، وأيامها، وضرب الأمثال، وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع وتأصيل الاداب النفسية، والشيم الحميدة، إلى فنون العلوم التي اتّخذ أهلها كلامه فيها قدوة، وإشارته حجة: كالطب والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك دون تعليم، ولا مدارسة، ولا مطالعة كتب من تقدّم، ولا الجلوس إلى علمائهم، بل نبي أميّ لم يعرف شيء من ذلك، حتى شرح الله صدره، وأبان أمره، وعلّمه.
وبحسب عقله كانت معارفه عليه الصلاة والسلام إلى سائر ما علّمه الله، وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان، وعجائب قدرته، وعظيم ملكوته قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113].