وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، …
وفيه جمعٌ كبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بعضًا،من قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي خلاب، وكان أروع كلام سمعوه قط، أخذ مشاعرهم، ونسوا ما كانوا فيه، فما من أحد إلا وهو مصغ إليه، لا يخطر بباله شيء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدًا. وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين.
وسَقَطَ في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لَوَّى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائماً من قولهم: (تلك الغرانيـق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى)، جاءوا بهذا الإفك المبـين؛ ليعـتذروا عـن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغـــرب هـذا مـن قـوم كانوا يألفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء.
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تمامًا عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر، رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش.
ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى.