وفي ليلته كان جيش المشركين قد نزل #~~~الجرف~~~# وقد سرّحوا إبلهم وخيلهم فيه، حتى أتى على ما فيه من زرع المسلمين، …
وفي ليلته كان خبر نزول المشركين قد ذاع بالمدينة المنوَّرة فخرج كبار الأنصار: سعد بن معاذ، وأُسيد بن حُضير وسعد بن عُبادة وعليهم السلاح إلى المسجد ووقفوا على باب النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم خوفًا من هجوم المشركين ليلًا على المدينة، وطافت مجموعة من المُقاتلة بالمدينة يحرسونها ليلًا، حتى طلع الفجر.
وصلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالنّاس ثم أخبرهم بالرّؤيا التي رآها هذه الليلة فقال: «أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درع حصينة ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند طرفه فكرهته، ورأيت بقرًا تذبح، ورأيت كأنّي مُردف كبشًا»، فقالوا: “يا رسول الله، فما أوّلتها؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أما الدرع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها؛ وأما انقصام سيفي من عند طرفه فقتل رجل من أهل بيتي، وأما البقر المُذبح فقتلى في أصحابي، وأما مُردفٌ كبشًا، فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله».
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أشيروا عليّ»، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أن يوافق ما أتاه في الرؤيا فلا يترك المدينة ولا يخرج منها فهي حصينة ومتشابكة كالحصن لا يستطيع جيش أن يدخلها، وستتحول المعركة داخلها لحرب عصابات في أزقّتها يسهل فيها القضاء على جيش المشركين، فقام عبد الله بن أبي بن سلول -المنافق- فقال: “يا رسول الله، كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي -الحصون والبيوت- ونجعل معهم الحجارة، والله لربما مكث الولدان شهرًا ينقلون الحجارة إعدادًا لعدوّنا، والمدينة مشبَّكة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن، وترمي المرأة والصبي من فوق البيت والحصن، ونُقاتل بأسيافنا في السِّكَك، يا رسول الله، إن مدينتنا عذراء ما فُضَّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا رسول الله فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيرًا، يا رسول الله أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم فهم كانوا أهل الحرب والتجربة”، فوافق كلام عبد الله ابن أُبَيّ مُراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مؤكدًا: «نمكث بالمدينة، واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقّة، فنحن أعلم بها منهم، وارموا من فوق الصياصي والآطام»، فكان بعض شباب الأنصار ممن لم يشهدوا بدرًا قد تحمّسوا للخروج من المدينة المنوَّرة ومُلاقاة العدو في الأرض المفتوحة، وقد رغبوا في الشهادة فقالوا: “يا رسول الله اخرج بنا إلى عدوّنا”، وقال بعض كبار الصحابة منهم حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عُبادة، والنُّعمان بن مالِك الأوسي: “إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنّا كرهنا الخروج إليهم جُبنًا عن لقائهم فيكون هذا جُرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفرك الله عليهم ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا”، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يرى إلحاحهم وقد لبسوا السلاح يتبارون بالسيوف وهم متحمّسون للخروج من المدينة، وهو صلى الله عليه وآله وسلَّم كاره لهذا موافقة لما أراه الله من حصانة المدينة المنوَّرَة.
وقال مالك بن سنان -أبو أبي سعيد الخُدري-: “يا رسول الله، نحن والله بين إحدى الحُسنيين؛ إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نُريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، والأُخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة، والله يا رسول الله ما أُبالي أيُّهما كان إن كُلّا لفيه الخير”، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم سكت لا يرُدّ.
وقال حمزة بن عبد المُطَّلِب: “والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعامًا حتى أُجالدهم بسيفي خارجًا من المدينة”، وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة: “يا رسول الله أنا أشهد أن البقر المُذبح قتلى من أصحابك وأنّي منهم فلم تحرمنا الجنّة؟ فوالذي لا إله إلا هو لأدخلنّها”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «بم؟»، قال: “إني أُحب الله ورسوله، ولا أفرّ يوم الزحف”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صدقت».
وقال إياس بن أوس بن عتيك: “يا رسول الله، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المُذبح، نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم ويُذبح فينا، فنصير إلى الجنّة ويصيرون إلى النّار مع أنّي يا رسول الله لا أحب أن ترجع قُريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمدًا في صياصي يثرب وآطامها، فيكون هذا جُرأة لقريش وقد وطئوا نخلنا، فإن لم ندافع عن عرضنا لم نزرع، وقد كنا يا رسول الله في جاهليتنا والعرب يأتوننا، ولا يطعمون بهذا منّا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنردّهم عنّا، فنحن اليوم أحق إذ أيّدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا، لا نحصر أنفسنا ببيوتنا”.
وقام خيثمة -أبو سعد بن خيثمة- فقال: “يا رسول الله إن قُريشًا مكثت حولًا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون منتصرين لم يُصابوا، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنّوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعون العيون والأرصاد علينا، مع ما قد صنعوا بزرعنا، ويجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم فنردهم عن أرضنا، وعسى الله أن ينصرنا عليهم، فتلك عادة الله عندنا، أو تكون الأخرى فهي الشهادة، لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصًا، لقد بلغ من حرصي أن أخرجت ابني إليها فخرج فرُزِق الشهادة وقد كنت حريصًا على الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنّة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا وقد والله يا رسول الله أصبحت مُشتاقًا إلى مُرافقته في الجنّة، وقد كبرت سنّي، وضعف عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومُرافقة سعد في الجنّة”، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بذلك.وقال أنس بن قتادة: “يا رسول الله، هي إحدى الحسنيين؛ إما الشهادة، وإما الغنيمة والظفر في قتلهم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّي أخاف عليكم الهزيمة».
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش في الصباح إلى قريب من #~~~العريض~~~# فوجد طليعة خيل للمشركين عشرة فرسان، فركضوا خلفه فوقف لهم على تبَّة عالية فراشقهم بالنّبال والحجارة حتى تركوه وانصرفوا. فنزل وسار إلى مزرعته في جنوب العريض، فأخرج سيفًا ودرعًا من حديد كان دفنهما في ناحية المزرعة، وخرج بهما يعدو حتى وصل إلى قومه فأخبرهم الخبر وما لاقاه من المشركين.
ولمّا حانت صلاة الجُمعة، صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالنّاس ووعظهم، وأمرهم بالجدّ والاجتهاد وبشّرهم أنّ لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقد أعلمهم بالخروج للعدو، وكره ذلك الخروج كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وأمرهم صلى الله عليه وآله وسلَّم بالتهيؤ للخروج.
لمّا صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم العصر بالنّاس، وقد قدم المقاتلة من جميع أنحاء المدينة، وقدم مُقاتلة قبيلة بني عمرو بن عوف من جنوب المدينة المنوَّرَة، وأهل منطقة العوالي واحتشدوا ولبسوا السلاح، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته ودخل معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فعمّماه ولبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عُدَّة الحرب، واصطفّ الناس من حُجرته إلى مكان منبره ينتظرون خروجه صلى الله عليه وآله وسلَّم، فجاءهم سعد بن معاذ وأُسيد بن حُضير فقالا: “قُلتم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قلتم واستكرهتموه على الخروج والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى أو رأي فأطيعوه”، فبينما هم على ذلك، وبعضهم يقول لبعض: “القول ما قال سعد”، وبعضهم كاره للخروج، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قد لبس عدَّة الحرب وأظهر الدِّرع، وتقلَّد سيفه، فلمّا رأوه صلى الله عليه وآله وسلَّم قد خرج في هيئة الحرب ندموا جميعًا على ما صنعوا، وقال الذين ألحّوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للخروج للعدو في الأرض المفتوحة: “ما كان لنا أن نُلِح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر يحب خلافه”، ووبّخهم أصحاب الرأي القائلين بالبقاء في المدينة، فقالوا: “يا رسول الله ما كان لنا أن نُخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: “قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته -عدّة الحرب- أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «انظروا ما أمرتكم به فاتّبعوه: امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم».
وكان مالك بن عمرو النجاري رضي الله عنه قد وافته المنيّة اليوم، فجهّزه أهله ووضعوه ليصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حين يخرج، فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم صفّ الناس وهم بملابس الحرب، وصلّى عليه، وحملوه ليُدفن، وجاء جُعال بن سُراقة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم واقف بعد الصلاة، وهو -جُعال بن سُراقة- يتنفس بحُرقة وكرب شديد وقد خنقته العبارة فقال: “يا رسول الله إنّه قيل لي أنّك تُقتَلُ غدًا -لعلّه سمعه من أحد المنافقين المرجفين-“، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في صدره وقال: «أليس الدهر كُلّه غدًا!».
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بعقد الألوية للجيش فأعطى لواء الأوس لأُسيد بن حُضير، ولواء الخزرج إلى الحُباب بن المُنذر بن الجموح، ولواء المُهاجرين إلى مصعب بن عُمير رضي الله عنه.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بفرسه فجاءوا بها وركب متوجهًا ناحية #~~~أُحُد~~~#، وقد حمل الرّمح والقوس معه، وخرج سعد بن عُبادة وسعد بن مُعاذ يعدوان أمامه عليهما الدروع والنّاس عن يمينه وشماله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فساروا حوالي 1.6 كم حتى #~~~ثنيّة الوداع~~~#، وعندها سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم كتيبة خلفه صوتها عالٍ، فقال: «ما هذه؟»، قالوا: “يا رسول الله هؤلاء حُلفاء ابن أُبَيّ من اليهود”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا يُستنصر بأهل الشِّرك على أهل الشِّرك»، ثم أكملوا المسير حوالي 0.5 كم إلى #~~~جبل ذُباب~~~# ثم حوالي 1.2 كم إلى أن وصلوا عند #~~~أُطُم الشيخين~~~# في ساعة إلا الربع تقريبًا من المدينة المنوَّرَة، فعسكروا هناك.
وهناك عُرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أفراد الجيش، فعُرِضَ عليه بعض صغار السنّ: عبد الله بن عُمَر، وزيد بن ثابت، وأُسامة بن زيد، والنُّعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأُسيد بن ظُهير، وعَرَبة بن أوس، وأبو سعيد الخُدري، وسُمرة بن جُندب، ورافع بن خديج، فردَّهم كلهم لصغر سنّهم، فقال ظُهير بن رافع عن رافع بن خديج: “يا رسول الله إنّه رامٍ -يعني ماهر بالرِّماية-”، ورافع يقف على أطراف أصابعه يزيد نفسه طولًا حتى يسمح له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالمُشاركة في القتال، فسمح له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال سمرة بن جُندب لزوج أمّه مُرَيّ بن سنان الحارثي -وهو الذي ربّاه-: “يا أبت أجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رافع بن خديج وردّني، وأنا أصرع رافع بن خديج -أهزمه في المُصارعة-”، فقال مُرَيّ بن سنان الحارثي: “يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج، وابني يصرعه”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تصارعا»، فصرع سَمُرة رافعًا، فسمح له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالمُشاركة في القتال.
وجاء زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ومعه حُلفاؤه من اليهود ومن معه من المُنافقين، وقد عسكروا بجوار المسلمين، وهم يقولون لزعيمهم ابن أُبَيّ: “أشرت عليه بالرّأي ونصحته وأخبرته أن هذا رأي من مضى من آبائك، وكان ذلك رأيه مع رأيك فأبى أن يقبله وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه”.
وفرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من عرض مُقاتلة الجيش وترتيبهم، وغربت الشمس وهم هناك.