وفيه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جيش المسلمين محاصرًا ثقيف وفلول هوازن، وقد تحصّنوا بحصن #~~~الطائف~~~#، …
وكان أبو محجن -بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي- يقف على الحصن يقول: “يا عبيد محمد، إنكم والله ما لاقيتم أحدًا يُحسن قتالكم غيرنا؛ تُقيمون ما أقمتم بشر مَحبِس، ثم تنصرفون لم تُدركوا شيئًا مما تُريدون، نحن قَسِيَ وأبونا قَسَا، والله لا نُسْلِم ما حيينا وقد بنينا طائفًا حصينًا”، فناداه عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: “يا ابن حبيب، والله لنقطعن عليك معاشك حتى تخرج من جُحْرِك هذا، إنما أنت ثعلب في جُحر يوشك أن يخرج”، فقال أبو محجن: “إن قطعتم يا ابن الخطاب حبلات عنب فإن في الماء والتراب ما يُعيد ذلك!”، فقال عُمَر: “لا تقدر أن تخرج إلى ماء ولا تُراب، لن نبرح عن باب جُحرك حتى تموت!”، فسمعه أبو بكر رضي الله عنه فقال: “يا عُمَر، لا تقل هذا!، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤذن له في فتح الطائف!”، فقال عُمَر: “وهل قال لك هذا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟”، قال أبو بكر: “نعم”.
وجاءت خولة بنت حكيم بن أُميّة بن الأوقص الأسلميّة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهي زوجة عثمان بن مظعون رضي الله عنه-، فقالت: “يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك حُلِيّ الفارعة بنت الخُزاعيّ أو بادية بنت غيلان -وكانتا من أجمل نساء ثقيف-“، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة؟»، فخرجت خولة فوجدت عُمَر رضي الله عنه قادمًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدما سمع ما قاله أبو بكر رضي الله عنه ليسأل عنه، فذكرت له خولة ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: “يا رسول الله حدّثَت خولة ما حدَّثتني أنك قُلته؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قد قُلتُه»، قال: “يا رسول الله أولم يؤذن لك فيهم؟”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا»، قال عُمَر: “أفلا أؤَذِّن في الناس بالرحيل؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بلى».
فنادى عُمَر رضي الله عنه في الناس بالرحيل، وأخذ المسلمون يتكلمون يمشي بعضهم إلى بعض يقولون: «ننصرف ولا نفتح الطائف؟، لا نبرح حتى يفتح الله علينا!، والله إنهم لأذل وأقل من لاقينا؛ قد لقينا جمع مكة وجمع هوازن، ففرق الله تلك الجموع وإنما هؤلاء ثعلب في جُحر، لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا»، وكثر الكلام بين المسلمين والاختلاف.
ومشى بعضهم إلى أبي بكر فتكلموا معه، فقال رضي الله عنه: “الله ورسوله أعلم والأمر ينزل عليه من السماء!”، وكلّموا عُمَر فقال: “قد رأينا الحُديبية، ودخلني في الحديبية من الشك ما لا يعلمه إلا الله، وراجعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام ليت أنّي لم أفعل، وأنّ أهلي ومالي ذَهَبا، ثم كانت الخيرة لنا من الله فيما صنع، فلم يكن فتح خيرًا للناس من صُلح الحديبية -بلا سيف دخل فيه أهل الإسلام مثل من كان دخل- من يوم بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم كتب الكتاب، فاتَّهِموا الرأي والخيرة فيما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولن أراجعه في شيء من ذلك الأمر أبدا، والأمر أمر الله وهو يوحي إلى نبيّه ما شاء!”.
ولمّا ضجّ الناس وكثر الكلام ووصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: «فاغدوا إلى القتال»، فخرجوا للقتال هذا النهار فأصيبوا بجراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنا قافلون إن شاء الله»، فسُرّ الناس بذلك وأذعنوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلوا يتهيؤون للرحيل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يضحك، ثم قال لهم: «قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» [^1].
ورأى سعد بن عُبيد بن أسيد بن عمرو بن علاج الثقفي رحيل المسلمين من فوق الحصن فقال: “ألا إن الحيّ مُقيم” -يعني أنّهم لم يبرحوا مكانهم، يغيظ المسلمين-، فقال عُيينة بن حصن الفزاري: “أجل والله مَجَدَة كِرام”، فسمعه عمرو بن العاص فقال: “قاتلك الله!، تمدح قومًا مشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد جئت تنصره؟”، قال عُيينة: “إني والله ما جئت معكم أقاتل ثقيفًا، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب جارية من ثقيف فأطأها لعلها تلد لي رجلًا، فإن ثقيفًا قوم مباركون!”.
فأخبر عُمرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلام عيينة لعمرو بن العاص، فتبسَّم صلى الله عليه وآله وسلَّم ثم قال: «هذا الحُمقُ المُطاع».
[^1]: وفي ذلك عدّة معاني وفوائد جليلة، منها أن الخير كل الخير في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وإن اعتقد الإنسان الخير في غيره، فهو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، فأمره وحي من الله عز وجل، واتباع أمره بإخلاص ومحبّة يورث هذا المعنى الدقيق الحاصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأبو بكر هو أبو بكر، ما زال فضله وسبقه ظاهرًا أسلم من أسلم وأعرض من أعرض، وذلك ببركة رضاه التام عن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتسليمه بغير مُعارضة، وفي دُعائه صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمهم إياه في هذا الموطن تمام التسليم والرضا للمولى عز وجل وخروج من حول الإنسان وقوّته حتى يعرف أن القتال والحرب بأمر الله وليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود هو الله، وتعريف الناس بربهم والدين الذي ارتضاه لهم، وستأتي دعوته صلى الله عليه وآله وسلم لثقيف وهو في الطريق لمّا قالوا: “يا رسول الله ادع على ثقيف”، فقال: «اللهم اهد ثقيف وائت بهم»، فاستجاب الله لحضرته وأسلمت ثقيف بعد ذلك بغير حرب.