بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بلاده، …
وكان ذلك في زمن عسرة الناس، وجدب البلاد، وشدّة الحرّ، حين طابت الثمار، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز، وكان قلّما يخرج في غزوة إلّا ورّى بغيرها ليعمّي الأخبار على العدو إلّا في هذه الغزوة، فإنه أخبر بمقصده لبعد الشقة، ولشدّة العدو، ليأخذ الناس عدّتهم لذلك، وبعث إلى مكّة وقبائل الأعراب يستنفرهم لذلك، وحثّ الموسرين على تجهيز المعسرين، فأنفق عثمان بن عفّان عشرة الاف دينار، وأعطى ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وخمسين فرسا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه». وجاء أبو بكر بكل ماله: وهو أربعة الاف درهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس وطلحة بمال كثير.
وتصدق عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر، وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهنّ، وجاءه صلّى الله عليه وسلّم سبعة أنفس من فقهاء الصحابة يطلبون إليه أن يحملهم. فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه»، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون. فجهز عثمان ثلاثة منهم، وجهز العباس إثنين، وجهز يامين ابن عمرو اثنين.
ولمّا اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله وهم ثلاثون ألفا، وولّى على المدينة محمّد بن مسلمة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، وتخلّف كثير من المنافقين يرأسهم عبد الله بن أبيّ، وقال: يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد!! أيحسب محمّد أن قتال بني الأصفر معه اللعب؟ والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرّنين في الحبال، واجتمع جماعة منهم، فقالوا في حق رسول الله وأصحابه ما يريدون من الإرجاف، فبلغه ذلك، فأرسل إليهم عمار بن ياسر يسألهم عما قالوا، فقالوا: إنما كنّا نخوض ونلعب.
وجاء إليه جماعة، منهم الجد ابن قيس، يعتذرون عن الخروج، فقالوا: يا رسول الله ائذن لنا ولا تفتنا، لأنّا لا نأمن من نساء بني الأصفر، وجاء إليه المعذّرون من الأعراب – وهم أصحاب الأعذار من ضعف أو قلة- ليؤذن لهم، فأذن لهم، وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم، وقد عتب الله عليه في ذلك الإذن بقوله في سورة براءة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} [التوبة: 43] ثم قال في حقهم: {إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] ثم كذبهم الله في عذرهم فقال: {وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} [التوبة: 46] ثم لكيلا ياسى المسلمون على قعود المنافقين عنهم قال جلّ ذكره: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47]. وتخلّف جماعة من المسلمين لا يتّهمون في إسلامهم منهم كعب ابن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع وأبو خيثمة. ولما خلّف صلّى الله عليه وسلّم عليا، قال المنافقون: قد استثقله فتركه، فأسرع إلى رسول الله وشكا له ما سمع، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» . ثم سار صلّى الله عليه وسلّم بالجيش، وأعطى لواءه الأعظم أبا بكر الصّدّيق، وفي إعطاء اللواء لأبي بكر اخر غزوة للرسول وتخليف عليّ على أهل البيت حكمة لطيفة يفهمها القارىء. وفرّق عليه الصلاة والسلام الرايات، فأعطى الزبير راية المهاجرين، وأسيد بن حضير راية الأوس، والحباب بن المنذر راية الخزرج، ولمّا مرّ الجيش بالحجر وهي ديار ثمود قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لا تدخلوا ديار الذين ظلموا إلّا وأنتم باكون» ليشعر قلوبهم رهبة الله، وكان مستعملا على حرس الجيش عبّاد بن بشر، وكان أبو بكر يصلي بالجيش، ولما وصلوا إلى تبوك، وكانت أرضا لا عمارية فيها، قال الرسول لمعاذ بن جبل: «يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هنا مليء بساتين»، وقد كان.
ولمّا استراح الجيش لحقه أبو خيثمة، وكان من خبر مجيئه أن دخل على أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشتين لهما في بستان قد رشت كلّ منهما عريشتها، وبرّدت فيها ماء، وهيأت طعاما، وكان يوما شديد الحر، فلما نظر ذلك قال: يكون رسول الله في الحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وماء مهيأ وامرأة حسناء! ما هذا بالنّصف. ثم قال: والله لا أدخل عريشة واحدة منكما حتى ألحق برسول الله فهيئا لي زادا ففعلتا، ثم ركب بعيره، وأخذ سيفه ورمحه، وخرج يريد رسول الله فصادفه حين نزل بتبوك.