وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بن عمرو للمكالمة في الصلح، فلمّا جاء قال: …
يا محمّد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا من عندكم. وعندئذ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي:
1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات.
2- من جاء المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده.
3- أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش، فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلّا السيف في القراب والقوس.
4- من أراد أن يدخل في عهد محمّد من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط. أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم، وقالوا: سبحان الله! كيف نرد إليهم من جاءنا مسلما، ولا يردون من جاءهم مرتدا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم، فسيجعل الله له فرجا ومخرجا».
أما الأمر الثالث وهو صدّ المسلمين عن الطواف بالبيت فكان أشدّ تأثيرا في قلوبهم لأنّ الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه أنهم دخلوا البيت امنين وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال رضي الله عنه: وهل ذكر أنّه في هذا العام ؟ ثم كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب علي بن أبي طالب، فأملاه عليه الصلاة والسلام: «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: اكتب باسمك اللهمّ فأمره الرسول بذلك، ثم قال: «هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله»، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك اكتب محمّد بن عبد الله فأمر عليه الصلاة والسلام عليا بمحو ذلك وكتابة محمد بن عبد الله، فامتنع فمحاها النبي بيده، وكتبت نسختان نسخة لقريش، ونسخة للمسلمين.
وبعد كتابة الشروط جاءهم أبو جندل بن سهيل يحجل في قيوده، وكاد من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فهرب للمسلمين هذه المرة ليحموه، فقال عليه الصلاة والسلام: «اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنّا قد عقدنا بين القوم صلحا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا فلا نغدر بهم».
هذا وقد دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله ودخل بنو بكر في عهد قريش.
ولما انتهى الأمر أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، وينحروا الهدي، ليتحللوا من عمرتهم، فاحتمل المسلمون من ذلك هما عظيما، حتى إنهم لم يبادروا بالامتثال، فدخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين أم سلمة، وقال لها: «هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا»، فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فقد حمّلت نفسك أمرا عظيما في الصلح، ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مكروبون، ولكن اخرج يا رسول، وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك فعلت تبعوك، فتقدّم عليه الصلاة والسلام إلى هديه فنحره ودعا بالحلاق فحلق رأسه، فلما راه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة، وقد أمن كل فريق الاخر. ولما قرّ قرارهم جاءتهم مهاجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت عثمان لأمه، فطلبها المشركون فقالت يا رسول الله:
إني امرأة وإن رجعت إليهم فتنوني في ديني فأنزل الله في سورة الممتحنة {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10]. فكانت المرأة المهاجرة تستحلف أنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ولا من بغض زوج، ولا لالتماس دنيا ولا لرجل من المسلمين، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، ومتى حلفت لا ترد بل يعطى لزوجها المشرك ما أنفقه عليها، ويجوز للمسلم تزوجها. وفي الاية تحريم امساك الزوجة الكافرة بل ترد إلى أهليها بعد أن يعطوا ما أنفقوا عليها.
وقد تمكن أبو بصير عتبة بن أسيد الثقفي رضي الله عنه من الفرار إلى رسول الله، فأرسلت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فأمره عليه الصلاة والسلام بالرجوع معهما، فقال يا رسول الله: أتردّني إلى الكفّار يفتنونني في ديني بعد أن خلصني الله منهم؟! فقال: «إن الله جاعل لك ولإخوانك فرجا»، فلم يجد بدّا من اتّباعه، فرجع مع صاحبيه، ولمّا قارب ذا الحليفة عدا على أحدهما فقتله، وهرب منه الاخر، فرجع إلى المدينة وقال: يا رسول الله وفت ذمتك أما أنا فنجوت، فقال له: «اذهب حيث شئت ولا تقم بالمدينة»، فذهب إلى محل بطريق الشام تمرّ به تجارة قريش، فأقام به، واجتمع معه جمع ممن كانوا مسلمين بمكّة ونجوا، وسار إليه أبو جندل بن سهيل، واجتمع إليه جمع من الأعراب، وقطعوا الطريق على تجارة قريش حتى قطعوا عنهم الأمداد، فأرسل رجال قريش لرسول الله يستغيثون به في إبطال هذا الشرط ويعطونه الحقّ في امساك من جاءه مسلما، فقبل منهم ذلك، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي لم يتمكّنوا من تحمّلها في الحديبية حينما أمرهم عليه الصلاة والسلام بردّ أبي جندل، وعلموا أن رأي رسول الله أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه أمن، تسبب عنه اختلاط الكفّار بالمسلمين، فخالطت بشاشة الإسلام قلوبهم، حتى قال أبو بكر رضى الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية. ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربّه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وفي رجوعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح وقال سبحانه في أولها: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح: 1] وفي تسميه هذه الغزوة بالفتح المبين تصديق لما قدّمنا لك عن الصديق.