ثم الحديبية- بتخفيف الياء وتشديدها- وهى بئر سمى المكان بها، وقيل شجرة وقال المحب الطبرى قريبة من مكة أكثرها فى الحرم، وهى …
على تسعة أميال من مكة.
خرج- صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين هلال ذى القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، فى ألف وأربعمائة. ويقال ألف وخمسمائة وقيل ألف وثلاثمائة.
واجمع بين هذا الاختلاف: أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر.
واعتمد على هذا الجمع النووى. وأما رواية ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة.
وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافقه أحد عليه، لأنه قاله استنباطا من قول جابر: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا.
وجزم موسى بن عقبة: بأنهم كانوا ألفا وستمائة.
وعند ابن أبى شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة.
وحكى ابن سعد: ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف فى القرب.
وفى البخارى- فى المغازى- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية فى بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذى الحليفة قلد الهدى، وأشعر وأحرم منها- وفى رواية: أحرم منها بعمرة- وبعث عينا له من خزاعة. وسار النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك.
فقال: «أشيروا علىّ أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم وذرارى هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت..».
وفيه: قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: «امضوا على اسم الله».
وزاد أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .
وفى رواية للبخارى: (حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن خالد بن الوليد بالغميم فى خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين»، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش) .
(وسار النبى- صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت- يعنى تمادت على عدم القيام- فقالوا:
خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل».
أى حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضى إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق فى علم الله أنه سيدخل فى الإسلام منهم خلق، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون.
ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «والذى نفسى بيده، لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها».
(ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء- يعنى حفرة فيها ماء قليل- يتبرضه الناس تبرضا- أى يأخذونه قليلا قليلا- فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالرى حتى صدروا عنه) .
(فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعى فى نفر من قومه من خزاعة- وكانوا عيبة نصح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أهل تهامة- فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر بن لؤى نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت) .
والعوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ- وهى الناقة ذات اللبن.
والمطافيل: الأمهات اللاتى معها أطفالها.
يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال. والمراد، أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى عدم الفرار.
(فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤا ماددتهم مدة ويخلوا بينى وبين الناس إن شاؤا، فإن أظهر فإن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا». يعنى استراحوا- «وإن هم أبوا، فو الذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى» – أى صفحة العنق، كنى بذلك عن القتل- «ولينفذن الله أمره»
فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه شىء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبى- صلى الله عليه وسلم-.
فقام عروة بن مسعود، فقال: أى قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونى؟ قالوا: لا، قال:
ألستم تعلمون أنى استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا على- وهو بالحاء المهملة، أى تمنعوا عن الإجابة- جئتكم بأهلى وولدى ومن أطاعنى؟ قالوا بلى قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد- أى خصلة خير وصلاح- اقبلوها، ودعونى آته، قالوا ائته.
فأتاه، فجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أى محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الآخرى، فإنى والله لا أرى وجوها، وإنى لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ .
قال العلماء: وهذا مبالغة من أبى بكر فى سب عروة، فإنه أقام معبود عروة، وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار.
والبظر: – بالباء الموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة- قطعة تبقى بعد الختان فى فرج المرأة. واللات: اسم صنم. والعرب تطلق هذا اللفظ فى معرض الذم.
فقال- أى عروة-: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذى نفسى بيده لولا يد كانت لك عندى لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة ابن شعبة قائم على رأس النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبى- صلى الله عليه وسلم- ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قال العلماء: وقد كانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لا سيما عند الملاطفة، وفى الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان صلى الله عليه وسلم- يغضى لعروة استمالة له وتأليفا. والمغيرة يمنعه إجلالا للنبى- صلى الله عليه وسلم- وتعظيما.
قال (فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى فى غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما فى الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه فى شىء».
(ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- بعينيه، قال: فو الله ما تنخم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له).
قال فى فتح البارى: فيه إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطا به وبدينه ونصره من هذه القبائل التى تراعى بعضها بمجرد الرحم والله أعلم. انتهى.
قال: (فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشى، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) .
فقال رجل من بنى كنانة: دعونى آته، فقالوا ائته، فلما أشرف على النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له»، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغى لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
(فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال دعونى آته.. فلما أشرف عليهم قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: هذا مكرز، وهو رجل فاجر. فجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم-) .
فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر فأخبر أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد سهل لكم من أمركم».
وفى رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: قد أرادت قريش الصلح حيث بعثت هذا، فلما انتهى إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين وأن يأمن بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا.
(وقال معمر قال الزهرى فى حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النبى- صلى الله عليه وسلم- الكاتب. فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم- اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم فو الله ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اكتب باسمك اللهم». ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله- وفى حديث عبد الله بن مغافل عند الحاكم:
هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة. الحديث- فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «والله إنى لرسول الله وإن كذبتمونى».
وفى رواية له- يعنى البخارى- ولمسلم: فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- لعلى:
«امحه»، فقال ما أنا بالذى أمحاه، وهى لغة فى أمحوه.
قال العلماء: وهذا الذى فعله على من باب الأدب المستحب، لأنه لم يفهم من النبى- صلى الله عليه وسلم- تحتم محو علىّ نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولو حتم محوه لنفسه لم يجز لعلى تركه انتهى.
ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «أرنى مكانها» فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله.
وفى رواية البخارى- فى المغازى- فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
وكذا أخرجه النسائى وأحمد ولفظه: فأخذ الكتاب- وليس يحسن أن يكتب- فكتب مكان رسول الله: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
قال فى فتح البارى: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجى.
فادعى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب.
فشنع عليه علماء الأندلس فى زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذى قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا باخرة *** وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير فاستظهر الباجى عليهم بما لديه من المعرفة وقال الأمير:
فهذا لا ينافى القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفى بما قبل ورود القرآن، قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب فى ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فيكون معجزة أخرى.
وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجى على ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروى وأبو الفتح النيسابورى وآخرون من علماء إفريقية.
واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبى شيبة وعمر بن شبة من طريق مجالد عن عون بن عبد الله قال: ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ.
قال مجالد: فذكرته للشعبى فقال صدق، قد سمعت من يذكر ذلك.
وقال القاضى عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه: ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك، وقوله لمعاوية:
ألق الدواة وحرف القلم وفرق السين ولا تعور الميم إلى غير ذلك. قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، إنه أوتى علم كل شىء.
وأجاب الجمهور. بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبية: بأن القصة واحدة، والكتاب فيها على بن أبى طالب، وقد صرح فى حديث المسور بن مخرمة بأن عليّا هو الذى كتب فيحمل على أن النكتة فى قوله «فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب» لبيان أن قوله «أرنى إياها» أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التى امتنع على من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة.
وعلى أن قوله بعد ذلك «فكتب» فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلى فكتب: أو أطلق «كتب» بمعنى: أمر بالكتابة، وهو كثير، كقوله: كتب إلى كسرى وقيصر.
وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف فى ذلك اليوم- وهو لا يحسن الكتابة- أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج عن كونه أميّا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا ككثير من الملوك.
ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى فى ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا. وبهذا أجاب أبو جعفر السمنانى أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزى.
وتعقب ذلك السهيلى وغيره:
بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميّا لا يكتب، وهى الآية التى قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك.
قال السهيلى: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، والحق: أن معنى قوله «فكتب» أمر عليّا أن يكتب انتهى.
قال: وفى دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمى نظر كبير، والله أعلم، انتهى.
وأما قول: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» وقوله: أما الرحمن فو الله ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم. إلخ.
فقال العلماء: وافقهم- صلى الله عليه وسلم- فى ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم فى محمد بن عبد الله، وترك كتابة رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح.
مع أنه لا مفسدة فى هذه الأمور: أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد الله، هو أيضا رسوله، وليس فى ترك وصف الله تعالى فى هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفى ذلك، ولا فى ترك وصفه- صلى الله عليه وسلم- عنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.
(قال فى رواية البخارى: فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به».
فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. ولكن ذلك فى العام المقبل، فكتب.
فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا.
قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟).
والضغطة: بالضم، قال فى القاموس: الضيق والإكراه والشدة.
انتهى.
فإن قلت: ما الحكمة فى كونه- صلى الله عليه وسلم- وافق سهيلا على أنه لا يأتيه منهم رجل وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين.
فالجواب: أن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التى كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس فى دين الله أفواجا.
وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبى- صلى الله عليه وسلم- كما هى، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاؤا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام، قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام.
فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل.
وكانت العرب من غير قريش فى البوادى ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب فى البوادى. قال الله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1-2]. فالله ورسوله أعلم.
قال فى رواية البخارى: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف فى قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين.
فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلىّ.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لم نقض الكتاب بعد».
قال: فو الله إذا لا أصالحك على شىء أبدا.
قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «فأجزه لى»، قال ما أنا بمجيز ذلك.
قال: «بلى فافعل». قال: ما أنا بفاعل.
قال مكرز: قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أى معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب فى الله عذابا شديدا).
زاد ابن إسحاق: فقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا». ووثب عمر يمشى إلى جنبه ويقول: اصبر إنما هم المشركون، وإن دم أحدهم كدم كلب.
قال الخطابى: تأول العلماء ما وقع فى قصة أبى جندل على وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم يمكنه التوراة، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبى جندل إلى الهلاك، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.
والوجه الثانى: إنما رده لأبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك.
وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا.
وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله تعالى يبتلى به صبر عبادة المؤمنين.
واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا؟.
فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصة أبى جندل وأبى بصير.
وقيل: لا، وإن الذى وقع فى القصة منسوخ. وإن ناسخه حديث «أنا برىء من مسلم بين مشركين» وهو قول الحنفية.
وعند الشافعية: تفصيل بين العاقل والمجنون والصبى، فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. والله أعلم. قاله فى فتح البارى.
قال فى رواية البخارى: (فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألست نبى الله حقّا؟ قال: «بلى»، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى»، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: «إنى رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصرى». قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: «بلى»، «أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به».
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبى الله حقّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصى ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟
قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به).
قال العلماء: لم يكن سؤال عمر- رضى الله عنه- وكلامه المذكور شكّا، بل طلبا لكشف ما خفى عليه، وحثّا على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما عرف فى خلقه وقوته فى نصرة الدين، وإذلال المبطلين.
وأما جواب أبى بكر لعمر- رضى الله عنهما- بمثل جواب النبى- صلى الله عليه وسلم- فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته فى ذلك على غيره.
وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما فى السير، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر.
ولأبى نعيم فى مسند عبيد الله بن دينار كانت أربع سنين. وكذا أخرجه الحاكم فى البيوع من المستدرك. والأول أشهر.
وكان الصلح على وضع الحرب، بحيث يأمن الناس فيها، ويكف بعضهم عن بعض، وألايدخل البيت إلا العام القابل ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو القراب بما فيه. والجلبان- بضم الجيم وسكون اللام- شبه الجراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغمودا. ورواه القتيبى: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وقال: هو أوعية السلاح بما فيها.
وفى بعض الروايات: لا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف والقوس.
وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم، إذ كان دخولهم صلحا.
وقال مكى بن أبى طالب القيروانى فى تفسيره: وبعث- عليه الصلاة والسلام- بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان.
وأمسك سهيل بن عمرو عنده، فأمسك المشركون عثمان فغضب المسلمون.
وقال مغلطاى فاحتبسته قريش عندها. فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وقيل على أن لا يفروا، انتهى.
ووضع النبى- صلى الله عليه وسلم- شماله فى يمينه وقال: هذه عن عثمان. وفى البخارى: فقال- صلى الله عليه وسلم- بيده اليمنى: «هذه بيعة عثمان، فضرب بها على يده اليسرى».
ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين.
وفى هذه البيعة نزل قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10].
وحلق الناس مع النبى- صلى الله عليه وسلم-، ونحروا هداياهم بالحديبية، قال مغلطاى: وأرسل الله ريحا حملت شعورهم فألقتها فى الحرم.
وأقام- صلى الله عليه وسلم- بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل عشرين يوما، ثم قفل وفى نفوس بعضهم شىء، فأنزل الله سورة الفتح يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح:1] .
قال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لم ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، أى حسبوا أنهم لا يرجعون بل يقتلون كلهم.
وأما قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18] . فالمراد فتح خيبر على الصحيح، لأنها وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين.
وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية قال:
(شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا وجدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقفا عند كراع الغميم، وقد جمع الناس فقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. فقال رجل: يا رسول الله، أو فتح هو؟ فقال: «إى والذى نفسى بيده إنه لفتح».
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح:1] الحديبية، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله.
وأما قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ} [النصر:1] . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا هجرة بعد الفتح» فالمراد فتح مكة باتفاق.
قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال والله أعلم.
ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
وفى هذه السنة كسفت الشمس.
وظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة.
وفى هذه السنة أيضا استسقى فى رمضان ومطر الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «أصبح الناس مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب».
قال مغلطاى: وجزم الدمياطى فى سيرته: بأن تحريم الخمر كان فى سنة الحديبية.
وذكر ابن إسحاق: أنه كان فى وقعة بنى النضير، وهى بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح.
وفيه نظر: لأن أنسا كان الساقى يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادى بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك.
وأخرج النسائى والبيهقى بسند صحيح عن ابن عباس: إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى فى وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخى فلان- وكانوا أخوة ليس فى قلوبهم ضغائن- فيقول: والله لو كان بى رحيما ما صنع بى هذا حتى وقعت فى قلوبهم الضغائن، فأنزل الله تعالى هذه الآية {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ} [المائدة:90] إلى {مُّنتَهُونَ} [المائدة:91] فقال ناس من المتكلفين: هى رجس، وهى فى بطن فلان وفلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ} [المائدة:93] إلى {ٱلْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] .
وآية تحريم الخمر نزلت فى عام الفتح قبل الفتح.
والخمر فى الأصل مصدر خمره: إذا ستره، سمى به عصير العنب إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل، كما يسمى مسكرا لأنه يسكره، أى يحجره.
وهى حرام مطلقا، وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر.
وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندى والحيدرية والقلندرية فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف، لأنها لم تكن فى زمنهم، وإنما ظهرت فى أواخر المائة السادسة وأول السابعة.
واختلف هل هى مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير، والذى أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء وصرح به الشيخ أبو إسحاق الشيرازى فى كتاب التذكرة فى الخلاف، والنووى فى شرح المهذب، ولا نعرف فيه خلافا عندنا.
ونقل عن ابن تيمية أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها ولذلك يتناولونها بخلاف البنج وغيره فإنه لا ينشى ولا يشتهى.
قال الزركشى: ولم أر من خالف فى هذا إلا القرافى فى قواعده فقال:
نص العلماء بالنبات فى كتبهم أنها مسكرة، والذى يظهر لى أنها مفسدة. فى كلام تعقبه الزركشى يطول ذكره.
وقد تضافرت الأدلة على حرمتها: ففى صحيح مسلم «كل مسكر حرام» وقد قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ} [الأعراف:157] . وأى خبيث أعظم مما يفسد العقول التى اتفقت الملل والشرائع على إيجاب حفظها. ولا ريب أن متناول الحشيشة يظهر به أثر التغير فى انتظام الفعل والقول المستمد كماله من نور العقل. وقد روى أبو داود- بإسناد حسن- عن ديلم الحميرى قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: «فهل يسكر؟» قلت: نعم، قال: «فاجتنبوه»، قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: «فإن لم يتركوه فقاتلوهم» .
وهذا منه- صلى الله عليه وسلم- تنبيه على العلة التى لأجلها حرم المزر. فوجب أن كل شىء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه.
وروى أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر .
قال العلماء: المفتر كل ما يورق الفتور والخدر فى الأطراف. وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن، مسكرة كانت مفترة، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رؤسهم بواسطة تبخيرها فى الدماغ.
وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد، منهم القرافى وابن تيمية وقال: إن من استحلها فقد كفر.
وتعقبه الزركشى: بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة، سلمنا ذلك، لكن لا بد أن يكون دليل الإجماع قطعيّا على أحد الوجهين، وقد ذكر أصحابنا أن المسكر من غير عصير العنب، كعصير العنب فى وجوب الحد، لكن لا يكفر مستحله لاختلاف العلماء فيه.
واختلف: هل يحرم تعاطى اليسير الذى لا يسكر؟
فقال النووى فى شرح المهذب إنه لا يحرم أكل القليل الذى لا يسكر من الحشيش، بخلاف الخمر، حيث حرم قليلها الذى لا يسكر. والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة.
وتعقبه الزركشى بأنه صح فى الحديث: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، قال: والمتجه أنه لا يجوز من الحشيش لا قليل ولا كثير.
وأما قول النووى: إنها طاهرة وليست بنجسه، فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه. قال: والأفيون وهو لبن الخشخاش، أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدّا، وكذلك السيكران وجوز الطيب مع أنه طاهر بالإجماع.
وقد جمع بعضهم فى الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية، حتى قال بعضهم كل ما فى الخمر من المذمومات موجود فى الحشيش وزيادة. فإن أكثر ضرر الخمر فى الدين لا فى البدن. وضررها فيهما.
فمن ذلك: فساد العقل، وعدم المروءة، وكشف العورة، وترك الصلوات، والوقوع فى المحرمات، وقطع النسل، والبرص والجذام والأسقام والرعشة والأبنة، ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان، وحفر الأسنان وتسويدها، وتضييق النفس وتصفير الألوان، وتنقيب الكبد، وتجعل الأسد كالجعل، وتورث الكسل والفشل، وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما، والصحيح أبلما، وتذهب السعادة وتنسى الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود من الله باللعنة إلا أن يقرع من الندم سنه ويحسن بالله ظنه. ولقد أحسن القائل:
قل لمن يأكل الحشيشة جهلا *** يا خسيسا قد عشت شر معيشة
دية العقل بدرة فلماذا *** ياسفيها قد بعتها بحشيشة