واختلف فيها متى كانت: فعند ابن إسحاق: بعد بنى النضير سنة أربع، فى شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى وعند ابن سعد وابن حبان: فى …
المحرم سنة خمس.
وجزم أبو معشر: بأنها بعد بنى قريظة فى ذى القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع فى آخر السنة الخامسة وأول التى تليها.
قال فى فتح البارى: قد جنح البخارى إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدرى: هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازى أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار إليها البيهقى. على أن أصحاب المغازى مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون فى زمانها.
والذى جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردد فى وقتها: لا ندرى كانت قبل بدر أو بعدها؟ أو قبل أحد أو بعدها؟
قال الحافظ ابن حجر: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذى ينبغى الجزم به أنها بعد غزوة بنى قريظة، لأن صلاة الخوف فى غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع. فدل على تأخرها بعد الخندق.
ثم قال عند قول البخارى: «وهى بعد خيبر» لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذا كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع لزم أنها كانت بعد خيبر.
قال: وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخارى حديث أبى موسى هذا حجة فى أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر. قال: وليس فى خبر أبى موسى ما يدل على شىء من ذلك، انتهى كلام ابن سيد الناس.
قال: وهذا النفى مردود، والدلالة على ذلك واضحة كما قررته.
قال: وأما الدمياطى: فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه. وقد تقدم أنهم مختلفون فى زمانها. فالأولى الاعتماد على ما ثبت فى الصحيح.
وأما قول الغزالى: إنها آخر الغزوات. فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح فى إنكاره.
وقال بعض من انتصر للغزالى: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف.
وهو انتصار مردود، بما أخرجه أبو داود والنسائى وصححه ابن حبان من حديث أبى بكرة: أنه صلى مع النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف. وإنما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى.
وأما تسميتها بذات الرقاع:
فلأنهم رقعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام.
وقيل: لشجرة فى ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع.
وقيل: الأرض التى نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك.
وقيل: إن خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبان.
وقال الواقدى: سميت بجبل هناك فيه بقع. قال الحافظ ابن حجر:
وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه بخيل.
قال: وأغرب الداودى فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. انتهى.
قال السهيلى: وأصح من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخارى عن أبى موسى الأشعرى قال: (خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماى، وسقطت أظفارى، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا).
وكان من خبر هذه الغزوة، كما قاله ابن إسحاق: أنه- صلى الله عليه وسلم- غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة- بالمثلاثة- من غطفان- بفتح الغين المعجمة والمهملة- لأنه- صلى الله عليه وسلم- بلغه أنهم جمعوا الجموع: فخرج فى أربعمائة من أصحابه- وقيل: سبعمائة- واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل أبا ذر. حتى نزل نخلا- بالخاء المعجمة- موضعا من نجد من أراضى غطفان.
قال ابن سعد: فلم يجد فى محالهم إلا نسوة فأخذهن.
وقال ابن إسحاق: فلقى جمعا منهم فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.
قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها.
وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة وسيأتى إن شاء الله تعالى الكلام على ما تيسر منها فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-.
وكانت غيبته- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الغزوة خمس عشرة ليلة.
وفى البخارى عن جابر قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين وسيف النبى- صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة فاخترطه- يعنى سلة من غمده- فقال تخافنى قال: «لا»، قال: فمن يمنعك منى؟ قال: «الله».
وعند أبى عوانة: فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من يمنعك منى؟» قال: كن خير آخذ. قال: «تشهد ألاإله إلا الله وأنى رسول الله؟»، قال الأعرابى: أعاهدك أنى لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
وفى رواية عند البخارى: ولم يعاقبه.
وإنما لم يؤاخذه- صلى الله عليه وسلم- بما صنع، وعفا عنه، لشدة رغبته- عليه الصلاة والسلام- فى استئلاف الكفار ليدخلوا فى الإسلام.
وفى رواية أبى اليمان عند البخارى- فى الجهاد- قال: من يمنعك منى ثلاث مرات. وهو استفهام إنكارى، أى لا يمنعك منى أحد.
وقد كان الأعرابى قائما على رأسه والسيف فى يده والنبى- صلى الله عليه وسلم- جالس لا سيف معه.
ويؤخذ من مراجعة الأعرابى له فى الكلام أن الله سبحانه منع نبيه، وإلا فما الذى أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الخطوة عند قومه بقتله.
وفى قوله- صلى الله عليه وسلم- فى جوابه: «الله»، أى يمنعنى منك، إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابى فلم يزده على ذلك الجواب، وفى ذلك غاية التهكم وعدم المبالاة به.
وذكر الواقدى فى نحو هذه القصة أنه أسلم، ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمى بالزلخة حين هم بقتله- صلى الله عليه وسلم-، فندر السيف من يده وسقط إلى الأرض. والزلخة- بضم الزاى وتشديد اللام- وجع يأخذ فى الصلب.
وقال البخارى: قال مسدد عن أبى عوانة عن أبى بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، أى على وزن جعفر.
وحكى الخطابى فيه: غويرث، بالتصغير. وقد تقدم فى غزوة غطفان وهى غزوة ذى أمر بناحية نجد مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه- صلى الله عليه وسلم-، بالسيف فقال: من يمنعك منى؟ فقال: – صلى الله عليه وسلم-: «الله»، ودفع جبريل فى صدره فوقع السيف من يده وأنه أسلم.
قال فى عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد.
وقال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان فى غزوتين.
وفى هذه القصة: فرط شجاعته، وقوة يقينه وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال- صلى الله عليه وسلم-.
وفى انصرافه- صلى الله عليه وسلم- من هذه الغزوة، أبطأ جمل جابر بن عبد الله فنخسه- صلى الله عليه وسلم- فانطلق متقدما بين يدى الركاب، ثم قال: «أتبيعينيه؟» فابتاعه منه وقال: «لك ظهره إلى المدينة»، فلما وصلها أعطاه الثمن وأرجح، ووهب له الجمل. والحديث أصله فى البخارى.
ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط، لما وقع فيه من الاضطراب. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره والله أعلم.