ولما بلغ فتح مكة هوزان جمعهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه ثقيف وقومه بنو نصر بن معاوية، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، وبشر من بني هلال بن عامر، وقد استصحبوا معهم أنعامهم ونساءهم لئلا يفروا، …
فلما تحقق ذلك دريد بن الصمة شيخ بني جشم ـ وكانوا قد حملوه في هودج لكبره تيمناً برأيه ـ أنكر ذلك على مالك بن عوف النصري وهجنه، وقال: إنها إن كانت لك لم ينفعك ذلك، وإن كانت عليك فإن المنهزم لا يرده شيء.
وحرضهم على ألا يقاتلوا إلا في بلادهم، فأبوا عليه ذلك واتبعوا رأي مالك بن عوف، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني.
وبعث صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي فاستعلم له خبر القوم وقصدهم، فتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقائهم، واستعار من صفوان بن أمية أدراعاً، قيل: مائة.
وقيل: أربعمائة.
واقترض منه جملة من المال، وسار إليهم في العشرة آلاف الذين كانوا معه في الفتح، وألفين من طلقاء مكة، وشهد معه صفوان بن أمية حنيناً وهو مشرك، وذلك في شوال من هذه السنة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص أمية بن عبد شمس، وله نحو عشرين سنة.
ومر صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك على شجرة يعظمها المشركون يقال لها ذات أنواط، فقال بعض جهال العرب: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال: «قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم ألهة، لتركبن سنن من كان قبلكم» .
ثم نهض صلى الله عليه وسلم فوافى حنيناً، وهو واد حدور من أودية تهامة.
وقد كمنت لهم هوازن فيه، وذلك في عماية الصبح، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، فذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:25] وذلك أن بعضهم قال: لن نغلب اليوم من قلة.
وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفر، ومعه من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعمه العباس، وابناه: الفضل، وقثم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابنه جعفر، وآخرون.
وهو صلى الله عليه وسلم يومئذ راكب بغلته التي أهداها له فروة بن نوفاسة الجذامي، وهو يركضها إلى وجه العدو، والعباس آخذ بحكمتها يكفها عن التقدم، وهو صلى الله عليه وسلم ينوه باسمه يقول: «أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب».
ثم أمر العباس، وكان جهير الصوت، أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب الشجرة، يا معشر أصحاب السمرة، فلما سمعه المسلمون وهم فارون كروا وأجابوه: لبيك لبيك، وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يثني بعيره لكثرة المنهزمين، نزل عن بعيره وأخذ درعه فلبسها، وأخذ سيفه وترسه، ويرجع راجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع حوله عصابة منهم نحو المائة، استقبلوا هوزان فا جتلدوا هم وإياهم، واشتدت الحرب، وألقى الله في قلوب هوازن الرعب حين رجعوا، فلم يملكوا أنفسهم، ورماهم صلى الله عليه وسلم بقبضة حصى بيده، فلم يبقى منهم أحد إلا ناله منها، وفسر قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال:17] بذلك.
وعندي في ذلك نظر، لأن الآية نزلت في قصة بدر كما تقدم.
وتفر هوازن بين يدي المسلمين، ويتبعونهم يقتلون ويأسرون، فلم يرجع آخر الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والآسارى بين يده، وحاز صلى الله عليه وسلم أموالهم وعيالهم.
وانحازت طوائف من هوازن إلى أوطاس، فبعث صلى الله عليه وسلم إليهم أبا عامر الأشعري واسمه عبيد ومعه ابن أخيه أبو موسى الأشعري حاملا راية المسلمين في جماعة من المسلمين، فقتلوا منهم خلقاً.
وقتل أمير المسلمين أبو عامر، رماه رجل فأصاب ركبته، وكان منها حتفه، فقتل أبو موسى قاتله، وقيل: بل أسلم قاتله بعد ذلك، وكان أحد إخوة عشرة قتل أبو عامر التسعة قبله، فالله أعلم.
ولما أخبر أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استغفر صلى الله عليه وسلم لأبي عامر.
وكان أبو عامر رابع أربعة استشهدوا يوم حنين، والثاني أيمن بن أم أيمن، والثالث يزيد بن زمعة بن الأسود، والرابع سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان من الأنصار رضي الله عنهم.
وأما المشركون فقتل منهم خلق كثير نحو الأربعين
وفي هذه الغزوة قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» في قصة أبي قتادة رضي الله عنه.