ولما كان ذو القعدة من السنة السادسة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في ألف ونيف قيل: وخمسمائة، وقيل: وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل: غير ذلك …
فأما من زعم أنه إنما خرج في سبعمائة فقط غلط.
فلما علم المشركون بذلك جمعوا أحابيشهم وخرجوا من مكة صادين له عن الاعتمار هذا العام، وقدموا على خيل لهم خالد بن الوليد إلى كراع الغميم.
وخالفه صلى الله عليه وسلم في الطريق فانتهى صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وتراسل هو والمشركون حتى جاء سهيل بن عمرو فصالحه على:
أن يرجع عنهم عامهم هذا وأن يعتمر من العام المقبل، فأجابه صلى الله عليه وسلم إلى ما سأل، لما جعل الله عز وجل في ذلك من المصلحة والبركة، وكره ذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وراجع أبا بكر الصديق في ذلك، ثم راجع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم، كما أجابه الصديق رضي الله عنه، وهو أنه عبد الله ورسوله وليس يضيعه، وهو ناصره.
وقد استقصى البخاري هذا الحديث في صحيحه.
فقاضاه سهيل بن عمرو على:
أن يرجع عنهم عامه هذا، وأن يعتمر من العام المقبل على أن لا يدخل مكة ألا في جلبان السلاح، وأن لا يقيم عندهم أكثر من ثلاثة أيام.
وعلى أن يأمن الناس بينهم وبينه عشر سنين.
فكانت هذه الهدنة من أكبر الفتوحات للمسلمين كما قال عبد الله مسعود رضي الله عنه.
وعلى أنه من شاء دخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شاء دخل في عقد قريش.
وعلى أنه لا يأتيه أحد منهم وإن كان مسلماً إلا رده إليهم، وإن ذهب أحد من المسلمين إليهم لا يردونه إليه.
فأقر الله سبحانه ذلك كله إلا ما استثنى من المهاجرات المؤمنات من النساء: فإنه نهاهم عن ردهن إلى الكفار، وحرمهن على الكفار يومئذ، وهذا أمر عزيز ما يقع في الأصول، وهو تخصيص السنة بالقرآن، ومنهم من عده نسخاً، كمذهب أبي حنيفة وبعض الأصوليين، وليس هو الذي عليه أكثر المتأخرين، والنزاع في ذلك قريب، إذ يرجع حاصله إلى مناقشة في اللفظ.
وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل وقوع هذا الصلح بعث عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة يعلمهم أنه لم يجيء لقتال أحد وإنما جاء معتمراً، فكان من سيادة عثمان رضي الله عنه أنه عرض عليه المشركون الطواف بالبيت، فأبى عليهم وقال: لا أطوف بها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يرجع عثمان رضي الله عنه، حتى بلغه صلى الله عليه وسلم أنه قد قتل عثمان، فحمي لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا أصحابه إلى البيعة على القتال، فبايعوه تحت شجرة هناك، وكانت سمرة، وكان عدة من بايعه هناك جملة من قدمنا أنه خرج معه إلى الحديبية إلا الجد بن قيس فإنه كان قد استتر ببعير له نفاقاً منه وخذلانا، وإلا أبا سريحة حذيفة بن أسيد، فإنه شهد الحديبية، وقيل: إنه لم يبايع، وقيل: بل بايع. إن أول من بايع يومئذ أبو سنان: وهب بن محصن، أخو عكاشة بن محصن، وقيل: ابنه سنان بن أبي سنان، وبايع سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يومئذ ثلاث مرات بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، كما رواه مسلم عنه، ووضع صلى الله عليه وسلم إحدى يديه عن نفسه الكريمة ثم قال: وهذه عن عثمان رضي الله عنه فكان ذلك أجل من شهوده تلك البيعة.
وأنزل الله عز وجل في ذلك: {لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح:18] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار»
فهذه هي بيعة الرضوان.
ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من مقاضاة المشركين كما قدمنا شرع في التحلل من عمرته وأمر الناس بذلك، فشق عليهم وتوقفوا رجاء نسخه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فدخل على أم سلمة فقال لها ذلك، فقالت: اخرج أنت يا رسول الله فاذبح هديك واحلق رأسك، والناس يتبعونك يا رسول الله، فخرج ففعل ذلك، فبادر الناس إلى موافقته، فحلقوا كلهم إلا عثمان بن عفان وأبا قتادة الحارث بن ربعي، فإنهما قصراً، ذكره السهيلي في الروض الأنف. وكاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، لأنهم يرون المشركين قد ألزموهم بشروط كما أحبوا، وأجابهم صلى الله عليه وسلم إليها وهذا من فرط شجاعتهم رضي الله عنهم وحرصهم على نصر الإسلام، ولكن الله عز وجل أعلم بحقائق الأمور ومصالحها منهم، ولهذا لما انصرف صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة أنزل الله عز وجل عليه سورة الفتح بكمالها في ذلك، وقال عبد الله بن مسعود: إنكم تعدون الفتح فتح مكة وإنما كنا نعده فتح الحديبية، وصدق رضي الله عنه، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه هي السبب في فتح مكة كما سنذكره بعد أن شاء الله تعالى.
وعوض من هذه خيبر سلفاً وتعجيلاً.