أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بمَسِّ الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة الأنصار له على الذَّود عنه حتى الموت، …
فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار الندوة وهي دار قصيّبن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه، فقال قائل منهم: نخرجه من أرضنا كي نستريح منه، فرُفِض هذا الرأي لأنهم قالوا: إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال آخر: نُوْثقه ونحبسه حتى يدركه ما أدرك الشعراء قبله من الموت، فرُفِض هذا الرأي كسابقه، لأنهم قالوا: إن الخبر لا يلبث أن يبلغ أنصاره، ونحن أدرى الناس بمن دخل في دينه حيث يُفَضِّلونه على الآباء والأبناء، فإذا سمعوا ذلك جاؤوا لتخليصه وربما جرّ هذا من الحرب علينا ما نحن في غِنى عنه. وقال لهم طاغيتهم: بل نقتله، ولنمنع بني أبيه من الأخذ بثأره، نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً يجتمعون أمام داره، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل يرضون بالدية، فأقرّوا هذا الرأي. هذا مكرهم، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] فأعلم نبيه بما دبره الأعداء في سرّهم، وأمره باللحاق بدار هجرته، بدار فيها ينشر الإسلام، ويكون فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم العزة والمنعة. وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر الإسلام بمكة لقال المبغضون: إن قريشاً أرادوا مُلْكَ العرب، فعمَدوا إلى شخص منهم، وأوعزوا إليه أنْ يدَّعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم، ولكنهم كانوا له أعداء ألدَّاء، آذوه شديد الأذى حتى اختار الله له مفارقة بلادهم والبعد عنهم.