مضت كل هذه المدة والنبي عليه الصلاة والسلام لا يُظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية، ولم يكن المسلمون يتمكّنون من إظهار عبادتهم حذراً من تعصب قريش، …
فكان كلُّ من أراد العبادة ذهب إلى شِعاب مكة يصلّي مستخفياً، ولمّا دخل في الدين ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول بهم ليرشدهم ويعلّمهم، اختار لذلك دار الأرقم بن أبي الأرقم ــــ وهو ممّن ذكرنا إسلامهم ــــ ومكث عليه الصلاة والسلام يدعو سرّاً حتى نزل عليه قوله تعالى في سورة الحِجر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، فبدَّل الدعوة سرّاً بالدعوة جهراً، ممتثلاً أمر ربه واثقاً بوعده ونصره، فصعد على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي – لبطون قريش – فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر الخبر، فجاءَ أبو لهب بن عبد المطلب قريشاً، فقال عليه الصلاة والسلام: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً، قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد“. فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله في شأنه: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5] والقصد من حمل الحطب المشي بالنميمة لأنها كانت تقول على رسول الله الأكاذيب في نوادي النساء.
ثم نزل عليه في سورة الشعراء: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو نوفل وبنو عبد شمس أولاد عبد مناف. {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ} [الشعراء: 215 – 216] أي: العشيرة والأقربون {فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] فجمعهم عليه الصلاة والسلام وقال لهم: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبتُ الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررتُ الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتُحَاسبنّ بما تعملون، ولتجزوُنّ بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وإنّها لجنّة أبداً أو لنار أبداً». فتكلم القوم كلاماً ليّناً غير عمه أبي لهب الذي كان خصماً لدوداً فإنه قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن أسلمتموه إذاً ذللتم، وإن منعتموه قُتلتم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا، ثم انصرف الجمع.
ولما جهر رسول الله عليه الصلاة والسلام بالدعوة سَخِرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم فكان إذا مرَّ عليهم يقولون: هذا ابن أبي كبشة يُكلَّم من السماء، وهذا غلام عبد المطلب يُكلم من السماء لا يزيدون على ذلك، فلما عاب آلهتهم، وسَفّهَ عقولهم وقال لهم: «والله يا قوم لقد خالفتم دين أبيكم إبراهيم»، ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية غَيْرَةً على تلك الآلهة التي كان يعبدها آباؤهم، فذهبوا إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه، فطلبوا منه أن يُخلي بينهم وبينه أو يكفّه عمّا يقول، فردّهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما يريده لا يصده عن مراده شيء، فتزايد الأمر، وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحث بعضهم بعضاً على ذلك. ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له: إن لك سناً وشرفاً ومنزلة منّا، وإنّا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تَنْهَهُ عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه عقولنا، وعيب آلهتنا. فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم اتّباع الحق ذمّهم لعدم استعمال عقولهم فيما خُلقت له. قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَآءنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] وقال في سورة المائدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] وقال في سورة لقمان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} [لقمان: 21]. وقال في سورة الزخرف: {قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءابَآءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. ولما شبّههم بمن قبلهم من الأمم في هذه المقالة الدّالة على التعصب والعناد قال: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَآءكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24] فلما تمسكو بحجة التقليد لآبائهم جر ذلك إلى وصف آبائهم بعدم العقل وعدم الهداية، فهاج ذلك أضغانهم، وقالوا لأبي طالب: إما أن تكفه أو نُنازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا، فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفساً بخذلان ابن أخيه، فقال له: يا ابن أخي! إن القوم جاؤوني فقالوا لي كذا، فأبق على نفسك، ولا تحملني من الأمرما لا أطيق فظن الرسول أن عمه خاذله فقال: «والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن هذه الأمر ما فعلت، حتى يُظهره الله أو أهلك دونه». ثم بكى وولَّى. فقال أبو طالب: أقبل يا بن أخي! فأقبل عليه، فقال: اذهب، فقل ما أحببت والله لا أسلمك.