فقام عليه الصلاة والسلام بالأمر ودعا لعبادة الله أقواماً جُفاة لا دين لهم، إلا أن يسجدوا لأصنام لا تنفع ولا تضر، …
ولا حجة لهم ألا أنهم متّبِعون لما كان يعبد آباؤهم، وليس عندهم من مكارم الأخلاق إلا ما كان مرتبطاً بالعزّة والأَنَفة، وهو الذي كثيراً ما كان سبباً في الغارات والحروب وإهراق الدماء، فجاءهم رسول الله بما لا يعرفونه. فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع الأوثان، ومن أعْمَته الرياسة أدبر واستكبر كيلا تُسلَب منه عظمته. وكان أول من سَطَع عليه نور الإسلام خديجة بنت خويلد زَوجه، وعليبن أبي طالب ابن عمه، وكان مُقيماً عنده يُطعمه ويسقيه ويقوم بأمره، لأن قريشاً كانوا قد أصابتهم مجاعة، وكان أبو طالب مُقِلاًّ كثير الأولاد، فقال عليه الصلاة والسلام لعمّه العباسبن عبد المطلب «إن أخاك أبا طالب كثير العيال، والناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا إليه لنخفِّف من عياله، تأخذ واحداً، وأنا واحداً»، فانطلقا وعرضا عليه الأمر، فأخذ العباس جعفر بن أبي طالب، وأخذ عليه الصلاة والسلام عليّاً، فكان في كفالته كأحد أولاده إلى أن جاءت النبوّة وقد ناهز الاحتلام، فكان تابعاً للنبي في كل أعماله، ولم يتدنس بدَنَس الجاهلية من عبادة الأوثان، واتّباع الهوى، وأجاب أيضاً زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي، مولاه عليه الصلاة والسلام، وكان يُقال له زيد بن محمد، لأنه لما اشتراه أعتقه وتبنَّاه، وكان المتبنَّى معتبراً كابن حقيقي يرث ويورث، وأجابت أيضاً أُمُّ أيمن حاضنته التي زوّجها لمولاه زيد. وأول مَنْ أجابه من غير أهل بيته أبو بكربن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرّة التيمي القرشي، كان صديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوّة يعلم ما اتّصف به من مكارم الأخلاق ولم يَعْهد عليه كذباً منذ اصطحبا، فأوّل ما أخبره برسالة الله أسرع بالتصديق، وقال: بأبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله. وكان رضي الله عنه صدراً معظّماً في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق، وكان من أعفّ الناس، سخياً، يبذل المال، محبباً في قومه، حسن المجالسة، ولذلك كله كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوزير، فكان يستشيره في أموره كلها، وقال في حقه: «ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر». وكانت الدعوة إلى الإسلام سرّاً حذراً من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا، فيصعب استسلامهم، فكان عليه الصلاة والسلام لا يدعو إلا مَنْ يثق به. ودعا أبو بكر إلى الإسلام مَنْ يثق به من رجال قريش، فأجابه جمع:
منهم: عثمانبن عفانبن أبي العاصبن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف الأموي القرشي، ولما علم عمه الحَكَمُ بإسلامه، أوثقه كتافاً وقال: ترغب عن دين آبائك إلى دين مستحدث؟ والله لا أحلّك حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه ولا أُفارقه. فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه، وكان كهلاً يناهز الثلاثين من عمره.
ومنهم: الزبير بن العوّام بن خويلد بن أسدبن عبد العزى بن قصي القرشي، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وكان عمّ الزبير يرسل الدخان عليه وهو مقيد ليرجع إلى دين آبائه، فقوّاه الله بالثبات، وكان شاباً لا يتجاوز سن الاحتلام.
ومنهم: عبد الرحمان بن عوف بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الهاشمي، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسمّاه عليه الصلاة والسلام عبد الرحمان.
ومنهم: سعد بن أبي وقاص مالك بن أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري القرشي. ولما علمت أمه حَمْنَةُ بنت أبي سفيان بن أمية بإسلامه قالت له: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فوالله لا يظلُّني سقف من الحر والبرد، وإنَّ الطعام والشراب عليَّ حرام حتى تكفر بمحمد. وبقيت كذلك ثلاثة أيام فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه أمر أمه فنزل في ذلك تعليماً قول الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]. وصّاه جلّ ذكره بوالديه وأمره بالإحسان غليهما مؤمنين كانا أو كافرين، اما إذا دَعَواه للإشراك فالمعصية متحتمة، لأن كل حق – وإن عظم – ساقط هنا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ثم قال: {إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ} من آمن منكم ومَنْ أشرك، فأُجازيكم حقّ جزائكم. وفي ختام هذه الآية فائدتان: التنبيه على أن الجزاء إلى الله فلا تحدّث نفسك بجفوتهما لإشراكهما، والحضّ على الثبات في الدين لئلا ينال شرّ الجزاء في الأخرى.
ومنهم: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيمي القرشي وقد كان عَرَف من الرهبان ذكرَ الرسول وصفته، فلما دعاه أبو بكر وسمع من رسول الله ما نفعه الله به، ورأى الدين متيناً بعيداً عمّا العرب من المثالب، بادر إلى الإسلام.
وممن سبقوا إلى الإسلام: صهيب الرومي وكان من الموالي، وعمّار بن ياسر العنسي وقد قال رضي الله عنه: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر وكذلك أسلم أبوه ياسر وأمه سميّة.
ومن السابقين الأولين: عبد الله بن مسعود، كان يرعى الغنم لبعض مُشرِكي قريش، فلما رأى الآيات الباهرة وما يدعو إليه عليه السلام من مكارم الأخلاق، ترك عبادة الأوثان ولزم رسول الله، وكان رضي الله عنه كثير الدخول على الرسول لا يُحجب، ويمشي أمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويُلبسهُ نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه.
ومن السابقين الأوّلين: أبو ذر الغِفاري وكان من أعراب البادية فصيحاً حلو الحديث، ولما بلغه مَبْعَث رسول الله قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدم مكة وسمع من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزوّدَ وحمل قِربة له فيها ماء، حتى قَدِمَ مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكَرِه أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل مَنْ يخاطب رسول الله، حتى إذا أدركه الليل رآه عليّ فعرف أنه غريب فأضافه عنده، ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء (على قاعدة الضيافة عند العرب لا يُسأل الضيف عن سبب قدومه إلا بعد ثلاث) فلما أصبَحَ احتمل قِربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه الرسول حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرّ به عليّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله الذي أُضيف به بالأمس؟ فأقامه، فذهب معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث عاد عليّ مثل ذلك، ثم قال له علي: ألا تحدّثني ما الذي أقدمَكَ؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتبعني حتى ندخل مدخَلي ففعل. فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»، قال: والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظَهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبَّ عليه وقال: ويلكم أوَلَستمُ تعلمون أنه من غِفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبَّ العباس عليه. رواه البخاري. وكان رضي الله عنه من أصدق الناس قولاً، وأزهدهم في الدنيا.
ومن السابقين: سعيدبن زيد العدوي القرشي، وزَوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، وأُم الفضل لُبابة بنت الحارث الهلالية، زوج العباس بن عبد المطلب، وعُبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي القرشي ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجه أم سلمة، وعثمان بن مظعون الجمحي القرشي، وأخواه قُدامة، وعبد الله، والأرقمبن أبي الأرقم المخزومي القرشي.
ومن السابقين الأوّلين: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي، كان أبوه سيد قريش إذا اعتمَّ لم يعتمّ قرشي إجلالاً له، وكان خالدبن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية، فأدركه رسول الله وخلّصه منها فجاء إليه وقال: إلامَ تدعو يا محمد؟ قال: «أدعوك إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع، والإحسان إلى والديك، وأن لا تقتل ولدك خشية الفقر، وأن لا تقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وأن لا تقتل نفساً حرّم الله إلا بالحق، وأن لا تقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه، وأن توفي الكيل والميزان بالقسط، وأن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك، وأن توفي لمن عاهدت» فأسلم رضي الله عنه، وحينئذٍ غضب عليه أبوه وآذاه حتى منعه القوت، فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة، وأسلم بعده أخوه عمروبن سعيد.
وهكذا دخل هؤلاء الأشراف في دين الإسلام، ولم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه صاغرين، وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤلاء العظماء آباءهم، وذوي الثروة منهم، ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله، بل كان الكثير منهم واسع الثروة أكثر منه عليه الصلاة والسلام كأبي بكر وعثمان وخالد بن سعيد وغيرهم، والذين اتّبعوه من الموالي اختاروا الأذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول، بحيث لو اتبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ بالاً وأنعم عيشة، اللهمّ ليس ذلك إلا من هداية الله وسطوع أنوار الدين عليهم، حتى أدركوا ما هم عليه من الضلالة وما عليه رسول الله من الهدى.