ذكر توجيه الامين الجيوش لحرب طاهر بن الحسين، فمما كان من ذلك حبس محمد بْن هارون أسد بْن يزيد بْن مزيد، وتوجيهه أحمد بْن مزيد …
وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن سبب حبسه وتوجيهه من ذكرت:
ذكر عن عبد الرحمن بْن وثاب أن أسد بْن يزيد بْن مزيد حدثه، أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي قَالَ: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها، واحمرت عيناه، واشتد غضبه، وهو يقول: ينام نوم الظربان، وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاء والكلاب ترصده.
لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه، قد شمر عبد الله له عن ساقه، وفوق له اصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف ثم استرجع، وتمثل بشعر البعيث:
ومجدولة جدل العنان خريدة *** لها شعر جعد ووجه مقسم
وثغر نقي اللون عذب مذاقه *** تضيء لها الظلماء ساعة تبسم
وثديان كالحقين، والبطن ضامر *** خميص، وجهم ناره تتضرم
لهوت بها ليل التمام ابن خالد *** وأنت بمرو الروذ غيظا تجرم
أظل أناغيها وتحت ابن خالد *** أمية نهد المركلين عثمثم
طواها طراد الخيل في كل غارة *** لها عارض فيه الأسنة ترزم
يقارع أتراك ابن خاقان ليلة *** إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد، وجسمه *** نحيل واضحى في النعيم اصمصم
أباكرها صهباء كالمسك ريحها *** لها ارج في دنها حين ترشم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد *** أمية في الرزق الذي الله قاسم
ثم التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، إنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل، إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا، إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، وقد امكن مسامعه من أهل اللهو والجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه، وأنت فارس العرب وابن فارسها، قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل واطمعه فيما قبلك أمران، أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك، وقد أمرني إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك، فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين- أعزه الله- وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص، غير أن المحارب لا يعمل بالغرور، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل، وإنما ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال، وقد ملأ أمير المؤمنين أعزه الله أيدي من شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاق الدارة والصلات والفوائد الجزيلة، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء من امامى، وقد فضل اهل السلم على اهل الحرب، وجاز باهل الدعة منازل أهل النصب والمشقة، والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الزمنى والضعفاء، وأحمل ألف رجل ممن معى على الخيل، ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور.
فقال: قد اشتططت، ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركب وركبت معه، فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.
وذكر عن بعض خاصة محمد أن أسدا قَالَ لمحمد: ادفع إلي ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي، فإن أعطاني الطاعة، وألقى إلي بيده، وإلا عملت فيهما بحكمي، وأنفذت فيهما أمري فقال: أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعونني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط وكان ببغداد ابنان لعبد الله المأمون، وهما مع أمهما أم عيسى ابنة موسى الهادي، نزولا في قصر المأمون بغداد، فلما ظفر المأمون ببغداد خرجا إليه مع أمهما إلى خراسان، فلم يزالا بها حتى قدموا بغداد، وهما أكبر ولده.
وذكر زياد بْن علي، قَالَ: لما غضب محمد على أسد بْن يزيد، وأمر بحبسه، قَالَ: هل في أهل بيت هذا من يقوم مقامه، فانى اكره ان استفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم؟ قالوا: نعم، فيهم أحمد بْن مزيد، وهو أحسنهم طريقة، وأصحهم نية في الطاعة، وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب، فأنفذ إليه محمد بريدا يأمره بالقدوم عليه، فذكر بكر بْن أحمد، قَالَ: كان أحمد متوجها إلى قرية تدعى إسحاقية، ومعه نفر من أهل بيته ومواليه وحشمه، فلما جاوز نهر أبان سمع صوت بريد في جوف الليل، فقال: ان هذا لعجيب، بريد في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الموضع! إن هذا الأمر لعجيب ثم لم يلبث البريد أن وقف، ونادى الملاح: هل معك احمد ابن مزيد؟ قَالَ: نعم، فنزل فدفع إليه كتاب محمد، فقراه ثم قال: انى قد بلغت ضيعتي، وإنما بيني وبينها ميل، فدعني أقعها وقعة فآمر فيها بما أريد ثم أغدو معك، فقال: لا، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أنظرك ولا أرفهك، وأن أشخصك أي ساعة صادفتك فيها، من ليل أو نهار.
فانصرف معه حتى أتى الكوفة، فأقام بها يوما حتى تجمل وأخذ أهبة السفر، ثم مضى إلى محمد.
فذكر عن أحمد، قَالَ: لما دخلت بغداد، بدأت بالفضل بْن الربيع، فقلت: أسلم عليه، وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد، فلما أذن لي دخلت عليه، وإذا عنده عبد الله بْن حميد بْن قحطبة، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر، وعبد الله يشتط عليه في طلب المال والإكثار من الرجال، فلما رآني رحب بي وأخذ بيدي، ورفعنى حتى صيرني معه على صدر المجلس، وأقبل على عبد الله يداعبه ويمازحه، فتبسم في وجهه، ثم قَالَ:
إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم *** من آل شيبان أما دونكم وأبا
الأكثرون إذا عد الحصى عددا *** والأقربون إلينا منكم نسبا
فقال عبد الله: إنهم لكذلك، وإن منهم لسد الخلل ونكاء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة ثم أقبل علي الفضل، فقال: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدة على أهل المعصية، والتقدم بالرأي، فأحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك والتفت إلى خادمه، فقال: يا سراج، مر دوابي، فلم ألبث أن أسرج له، فمضى ومضيت معه، حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره، له ساج، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت ألاصقه، فقال: إنه قد كثر علي تخليط ابن أخيك وتنكره، وطال خلافه علي حتى أوحشني ذلك منه، وولد في قلبي التهمة له، وصيرني لسوء المذهب وخبث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله به، وقد وصفت لي بخير، ونسبت إلي جميل، فأحببت أن أرفع قدرك، وأعلي منزلتك، وأقدمك على أهل بيتك، وإن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية الناكثة، وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحح نيتك، وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك، وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين أعزه الله مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي، ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله فقال: يا فضل، قَالَ: لبيك يا أمير المؤمنين! قَالَ: ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، وقال: أكمش على أمرك، وعجل المسير إليه فخرجت فانتخبت الرجال واعترضت الدفاتر، فبلغت عدة من صححت اسمه عشرين ألف رجل ثم توجهت بهم إلى حلوان.
وذكر أن أحمد بْن مزيد لما أراد الشخوص دخل على محمد، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين! فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا الا بعد اعذار، ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفه عندي، ولا تستقها فيما تتخوف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخا مصافيا، وقرينا برا، وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة، وكلمتكما متفقة ثم قَالَ: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، ولا تنقض على ما استجمع من راى، ومن على بالصفح عن ابن أخي، قال: ذلك لك ثم بعث إلى أسد فحل قيوده وخلي سبيله، فقال أبو الأسد الشيباني في ذلك يمدح احمد ويذكر حاله ومنزلته.
ليهن أبا العباس رأي إمامه *** وما عنده منه القضا بمزيد
دعاه أمير المؤمنين إلى التي *** يقصر عنها ظل كل عميد
فبادرها بالرأي والحزم والحجى *** ورأي أبي العباس رأي سديد
نهضت بما أعيا الرجال بحمله *** وأنت بسعد حاضر وسعيد
رددت بها للرائدين أعزهم *** ومثلك والى طارفا بتليد
كفى أسدا ضيق الكبول وكربها *** وكان عليه عاطفا كيزيد
وحصله فيها كليث غضنفر *** أبي أشبل عبل الذراع مديد
وذكر يزيد بْن الحارث أن محمدا وجه أحمد بْن مزيد في عشرين ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة في عشرين ألف رجل من الأبناء، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهرا وأصحابه عنها، وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة، فتوجها حتى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له خانقين، وأقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى عسكريهما، فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن محمدا قد وضع العطاء لأصحابه، وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا، ويكون بينهم وبينه قتال وتقدم طاهر حتى نزل حلوان، فلما دخل طاهر حلوان لم يلبث إلا يسيرا حتى أتاه هرثمة ابن اعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، وتوجه طاهر الى الاهواز.
ذكر رفع منزله الفضل بن سهل عند المأمون
وفي هذه السنة رفع المأمون منزلة الفضل بْن سهل وقدره.
ذكر الخبر عما كان من المأمون إليه في ذلك: ذكر أن المأمون لما انتهى إليه الخبر عن قتل طاهر علي بْن عيسى واستيلائه على عسكره وتسميته إياه أمير المؤمنين، وسلم الفضل بْن سهل عليه بذلك، وصح عنده الخبر عن قتل طاهر عبد الرحمن بْن جبلة الأبناوي وغلبته على عسكره، دعا الفضل بْن سهل، فعقد له في رجب من هذه السنة على المشرق، من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولا، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضا، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين، وأعطاه علما، وسماه ذا الرياستين، فذكر بعضهم أنه رأى سيفه عند الحسن بْن سهل مكتوبا عليه بالفضة من جانب: رياسه الحرب، ومن الجانب الآخر: رياسه التدبير فحمل اللواء علي بْن هشام، وحمل العلم نعيم بْن حازم، وولى الحسن بْن سهل ديوان الخراج.
ذكر خبر ولايه عبد الملك بن صالح على الشام
وفي هذه السنة ولى محمد بْن هارون عبد الملك بْن صالح بْن علي على الشام وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنودا يقاتل بها طاهرا وهرثمة.
ذكر الخبر عن سبب توليته ذلك:
ذكر داود بْن سليمان أن طاهرا لما قوي واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بْن صالح على محمد- وكان عبد الملك محبوسا في حبس الرشيد، فلما توفي الرشيد، وأفضى الأمر إلى محمد امر بتخلية سبيله، وذلك في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ومائة، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته- فقال: يا أمير المؤمنين، إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك، فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتهم الحرب والوقائع، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولا عن لقائهم ومناهضتهم، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك، فاعمل عملا يظهر أثره، ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله فولاه الشام والجزيرة، واستحثه بالخروج استحثاثا شديدا، ووجه معه كنفا من الجند والأبناء وفي هذه السنة سار عبد الملك بْن صالح إلى الشام، فلما بلغ الرقة اقام بها.
وانفذ رسله وكتبه الى رؤساء اجناد اهل الشام بجمع الرجال بها، وامداد محمد بهم لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن ذلك:
قد تقدم ذكري سبب توجيه محمد إياه لذلك، فذكر داود بْن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرقة، أنفذ رسله، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه وخلع عليه وحمله، فأتاه أهل الشام: الزواقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا ثم ان بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بْن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا، واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن ابى خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا، وقد ركب الزواقيل منا ما قد بلغك، فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كل يوم فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة فاستعد الأبناء وتهيئوا، وأتوا الزواقيل وهم غارون، فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم وبلغ ذلك عبد الملك بْن صالح، فوجه إليهم رسولا يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالا شديدا، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل، فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل- وكان مريضا مدنفا- فضرب بيده على يد، ثم قال: وا ذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، وأصبح الزواقيل، فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة، وقام رجل من أهل حمص، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل، إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! وقام رجل من كلب في غرز ناقته، ثم قَالَ:
شؤبوب حرب خاب من يصلاها *** قد شرعت فرسانها قناها
فأورد الله لظى لظاها *** إن غمرت كلب بها لحاها
ثم قَالَ: يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضطرم شامكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي.
ثم سار وسار معه عامة أهل الشام، وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان التجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان مع جماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوفا لطوق بْن مالك.
فأتى طوقا رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره، وإني لأشد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الاعتزال وأقبل نصر بْن شبث في الزواقيل على فرس كميت أغر، عليه دراعة سوداء قد ربطها خلف ظهره، وفي يده رمح وترس، وهو يقول:
فرسان قيس اصمدن للموت *** لا ترهبنى عن لقاء الفوت
دعى التمنى بعسى وليت.
ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالا شديدا، فصبر لهم الجند، وكثر القتل في الزواقيل، وحملت الأبناء حملات، في كلها يقتلون ويجرحون، وكان أكثر القتل والبلاء في تلك الدفعة لكثير بْن قادرة وأبي الفيل وداود بن موسى ابن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر ابن شبث وعمرو السلمي والعباس بْن زفر وتوفي في هذه السنة عبد الملك بْن صالح.
ذكر خلع الامين والمبايعة للمأمون
وفي هذه السنة خلع محمد بْن هارون، وأخذت عليه البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد.
وفيها حبس محمد بْن هارون في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر.
ابن أبي جعفر.
ذكر الخبر عن سبب خلعه:
ذكر عن داود بْن سليمان أن عبد الملك بْن صالح لما توفي بالرقة، نادى الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على الظهر ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة، وذلك في سنة ست وتسعين ومائة.
وذكر أحمد بْن عبد الله، أنه كان فيمن شهد مع عبد الملك الجزيرة لما انصرف بهم الحسين بْن علي، وذلك في رجب من سنة ست وتسعين ومائة وذكر أنه تلقاه الأبناء وأهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة، فلما كان في جوف الليل بعث اليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك، ولا وليت له عملا، ولا جرى له على يدي مال، فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف، فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.
فانصرف الرسول، وأصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذى يخرج منه الى قصر عبد الله بْن علي وباب سوق يحيى، وقال: يا معشر الأبناء، إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبر والتكبر، وأن محمدا يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم، وينقل عزكم إلى غيركم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم، وليعرفن ضرره ومكروهه في دولتكم ودعوتكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع أثاركم، وضعوا عزه قبل ان يضع عزكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل، وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا، حتى صاروا إلى سكة باب خراسان، واجتمعت الحربية وأهل الأرباض مما يلي باب الشام، وباب الأنبار وشط الصراة مما يلى باب الكوفه.
وتسرعت خيول من خيول محمد من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بْن علي، فاقتتلوا قتالا شديدا مليا من النهار، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب الخلد.
قَالَ: فخلع الحسين بْن علي محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل، وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء، فوثب بعد الوقعة التي كانت بين الحسين وبين أصحاب محمد العباس بْن موسى بْن عيسى الهاشمي على محمد، ودخل عليه فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك إلى صلاة الظهر، ثم وثب العباس بْن موسى بْن عيسى على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فأبت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس فيه، فقنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست فيه، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها وولدها فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بْن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بْن أبي خالد بباب الشام، فقال: أيها الناس، والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بْن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة، وانى أولكم نقض عهده، واظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي.
وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.
فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قَالَ: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟
قالوا: ما علمنا، قَالَ: فهل عزل أحدا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قَالَ: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف، انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.
ونهضت الحربية، ونهض معهم عامه اهل الارباض في المشهرات والعدة الحسنة فقاتلوا الحسين بْن علي وأصحابه قتالا شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بْن علي، ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة، فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح، فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا من خز وغير ذلك، وأتى بالحسين بْن على، فلامه محمد على خلافه وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال، وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قَالَ: بلى، قَالَ: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قَالَ: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله قَالَ: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب، وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه.
وذكر عن عثمان بْن سعيد الطائي، قَالَ: كانت لي من الحسين بْن علي ناحية خاصة، فلما رضي عنه محمد، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفا بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له:
إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، ثم أنشأت أقول:
هم قتلوه حين تم تمامه *** وصار معزا بالندى والتمجد
أغر كأن البدر سنة وجهه *** إذا جاء يمشي في الحديد المسرد
إذا جشأت نفس الجبان وهللت *** مضى قدما بالمشرفي المهند
حليم لدى النادي جهول لدى الوغى *** عكور على الأعداء قليل التزيد
فثأرك أدركه من القوم إنهم *** رموك على عمد بشنعا مزند
فضحك، ثم قَالَ: ما أحرصني على ذاك إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في محلها يهزمهم ويقتل فيهم ثم أن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعنا وضربا وأخذوا راسه، وفي ذلك يقول علي بْن جبلة- وقيل الخريمى:
الا قاتل الله الالى كفروا به *** وفازوا برأس الهرثمى حسين
لقد أوردوا منه قناه صليبه *** بشطب يماني ورمح رديني
رجا في خلاف الحق عزا وإمرة *** فألبسه التأميل خف حنين
وقيل: إن محمدا لما صفح عن الحسين استوزره ودفع إليه خاتمه.
وقتل الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان للنصف من رجب من هذه السنة في مسجد كوثر، وهو على فرسخ من بغداد في طريق النهرين.
وجدد البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة خلت من رجب من هذه السنة، وكان حبس الحسين محمدا في قصر أبي جعفر يومين.
وفي الليلة التي قتل فيها حسين بْن علي هرب الفضل بْن الربيع.
وفي هذه السنة توجه طاهر بْن الحسين حين قدم عليه هرثمة من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله عليها محمد بْن يزيد المهلبي بعد تقديم طاهر جيوشا أمامه إليها قبل انفصاله إليه لحربه.
ذكر الخبر عن مقتل محمد بْن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز
ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين ابن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيرا مقتصدا، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه فلما توجه أتت طاهرا عيونه، فأخبروه أن محمد بْن يزيد المهلبي- وكان عاملا لمحمد على الأهواز- قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور- وهو حد ما بين الأهواز والجبل- ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر، وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه، منهم محمد بْن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخار اخذاه والحارث بْن هشام وداود بْن موسى وهادي بْن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بْن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهرا له.
فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز.
وبلغ محمد بْن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بْن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريبا منهم، ووجه الحسن بْن علي المأموني، وأمره بمضامة قريش بْن شبل والحسين بْن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بْن يزيد بعسكر مكرم، فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟ أطاول القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فو الله ما ارى ان ارجع الى امير المؤمنين ابدا، ولا انصرف عن الاهواز، فقالوا له: الرأي ان ترجع الى الاهواز، فتتحصن بها وتغادى طاهرا القتال وتبعث الى البصره فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز وأمر طاهر قريش بْن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بْن علي المأموني والحسين بْن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه، فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه ومضى قريش بْن شبل يقفو محمد بْن يزيد، كلما ارتحل محمد بْن يزيد من قرية نزلها قريش، حتى صاروا إلى سوق الأهواز.
وسبق محمد بْن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم، ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره وأقبل قريش بْن شبل حتى صار قريبا منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة، فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر عليه من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بْن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحات كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بْن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض.
والتفت محمد بْن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه، فقال: ما رأيكم؟ قالوا:
فيما ذا؟ قَالَ: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف، فو الله لأن تبقوا أحب إلي من أن تعطبوا وتهلكوا فقالوا: والله ما أنصفناك، إذا تكون أعتقتنا من الرق ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال، بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك، فلعن الله الدنيا والعيش بعدك ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك، وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بْن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه، وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه، فقال بعض اهل البصره يرثيه، ويذكر مقتله:
من ذاق طعم الرقاد من فرح *** فإنني قد أضر بي سهري
ولى فتى الرشد فافتقدت به *** قلبي وسمعي وغرني بصري
كان غياثا لدى المحول فقد *** ولى غمام الربيع والمطر
وفي العييني للإمام ولم *** يرهبه وقع المشطب الذكر
ساور ريب المنون داهية *** لولا خضوع العباد للقدر
فامض حميدا فكل ذي أجل *** يسعى إلى ما سعيت بالأثر
وقال بعض المهالبة، وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده:
فما لمت نفسي غير انى لم أطق *** حراكا وأني كنت بالضرب مثخنا
ولو سلمت كفاي قاتلت دونه *** وضاربت عنه الطاهرى الملعنا
فتى لا يرى أن يخذل السيف في الوغى *** إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى
وذكر عن الهيثم بْن عدي، قَالَ: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم *** منها ومن أوحشته لم يقم
حتى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظني إلا لواحدة *** في الصدر محصورة عن الكلم
فتبسم طاهر، ثم قَالَ: أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك، وآلمني ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازله، ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة، فظننا أنه يريد محمد بْن يزيد بْن حاتم.
وذكر عمر بْن أسد، قَالَ: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بْن يزيد ابن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجها إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بْن خازم، فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملا عاملا، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا عنها، حتى قرب من واسط، فنادى السندي بْن يحيى والهيثم بْن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما، وهما بالقتال، وأمر الهيثم بْن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرسا، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها، فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر فضحك ثم قَالَ: قرب فرس الهرب، فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطا، وهربا عنها ودخل طاهر واسطا، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها فوجه محمد بْن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائدا من قواده يقال له أحمد بْن المهلب نحو الكوفة، وعليها يومئذ العباس بْن موسى الهادي، فلما بلغ العباس خبر أحمد بْن المهلب خلع محمدا، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون، ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة، وكتب المنصور بْن المهدي- وكان عاملا لمحمد على البصرة- إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا، فأقام بها يومين فلم يرها موضعا للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال.
وكانت بيعة المنصور بْن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بْن موسى الهادي بالكوفه، وبيعة المطلب بْن عبد الله بْن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمدا في رجب من سنة ست وتسعين ومائة.
وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بْن العباس بْن موسى بْن عيسى.
ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعهم محمدا، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بْن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بْن هشام وداود ابن موسى الى قصر ابن هبيرة.
ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر
وفي هذه السنة أخذ طاهر بْن الحسين من اصحاب محمد المدائن، ثم صار منها إلى صرصر، فعقد جسرا، ومضى إلى صرصر.
ذكر الخبر عن سبب دخوله المدائن ومصيره إلى صرصر:
ذكر أن طاهرا لما وجه إلى قصر ابن هبيرة الحارث بن هشام وداود بن موسى، وبلغ محمدا خبر عامله بالكوفة وخلعه إياه وبيعته للمأمون، وجه محمد ابن سليمان القائد ومحمد بْن حماد البربري، وأمرهما أن يبيتا الحارث وداود بالقصر، فقيل لهما: إن سلكتما الطريق الأعظم لم يخف ذلك عليهما، ولكن اختصر الطريق إلى فم الجامع، فإنه موضع سوق ومعسكر، فانزلاه وبيتاهما إن أردتما ذلك، وقد قربتما منهما، فوجها الرجال من الياسرية إلى فم الجامع.
وبلغ الحارث وداود الخبر، فركبا في خيل مجرد، وتهيأ للرجالة، فعبرا من مخاضة في سوراء إليهم، وقد نزلوا إلى جنبها، فأوقعا بهم وقعة شديدة.
ووجه طاهر محمد بْن زياد ونصير بْن الخطاب مددا للحارث وداود، فاجتمعت العساكر بالجامع، وساروا حتى لقوا محمد بْن سليمان ومحمد بن حماد فيما ما بين نهر درقيط والجامع، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم أهل بغداد، وهرب محمد بْن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي، وعبر الفرات، وأخذ على طريق البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بْن حماد إلى بغداد، وقال ابو يعقوب الخريمى في ذلك:
هما عدوا بالنكث كي يصدعا به *** صفا الحق فانفضا بجمع مبدد
وأفلتنا ابن البربري مضمر *** من الخيل يسمو للجياد ويهتدى
وذكر يزيد بن الحارث، ان محمد بْن حماد البربري لما دخل بغداد، وجه محمد المخلوع الفضل بْن موسى بْن عيسى الهاشمي إلى الكوفة، وولاه عليها، وضم إليه أبا السلاسل وإياس الحرابي وجمهورا النجاري، وأمره بسرعة السير، فتوجه الفضل، فلما عبر نهر عيسى عثر به فرسه، فتحول منه إلى غيره وتطير، وقال: اللهم إني أسألك بركة هذا الوجه وبلغ طاهرا الخبر، فوجه محمد بْن العلاء، وكتب إلى الحارث بْن هشام وداود بْن موسى بالطاعة له، فلقي محمد بْن العلاء الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع لطاهر، وإنما كان مخرجي بالكيد مني لمحمد، فخل لي الطريق حتى أصير إليه، فقال له محمد: لست أعرف ما تقول ولا أقبله ولا أنكره، فإن أردت الأمير طاهرا فارجع وراءك، فخذ أسهل الطريق وأقصدها، فرجع وقال محمد لأصحابه: كونوا على حذر، فإني لست آمن مكر هذا، فلم يلبث أن كبر وهو يرى أن محمد بْن العلاء قد آمنه، فوجده على عدة وأهبة، واقتتلوا كأشد ما يكون من القتال، وكبا بالفضل فرسه، فقاتل عنه أبو السلاسل حتى ركب، وقال: أذكر هذا الموقف لأمير المؤمنين وحمل اصحاب محمد ابن العلاء على اصحاب الفضل فهزموه، ولم يزالوا يقتلونهم إلى كوثى، وأسر في تلك الوقعة إسماعيل بْن محمد القرشي وجمهور النجارى، وتوجه طاهر إلى المدائن، وفيها جند كثير من خيول محمد، عليهم البرمكي قد تحصن بها، والمدد يأتيه في كل يوم، والصلات والخلع من قبل محمد فلما قرب طاهر من المدائن- وكان منها على رأس فرسخين- نزل فصلى ركعتين، وسبح فأكثر التسبيح، فقال: اللهم إنا نسألك نصرا كنصرك المسلمين يوم المدائن ووجه الحسن بْن علي المأموني وقريش بْن شبل، ووجه الهادي بْن حفص على مقدمته وسار فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبوله، أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وجعل من في أوائل الناس ينضم إلى أواخرهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف، فكلما سوى صفا انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان، ثم التفت إلى صاحب ساقته، فقال: خل سبيل الناس، فإني أرى جندا لا خير عندهم، فركب بعضهم بعضا نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وقدم منها قريش بن شبل والعباس بن بخار اخذاه إلى الدرزيجان، وأحمد بْن سعيد الحرشي ونصر بْن منصور بْن نصر بْن مالك معسكران بنهر ديائى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداد، وتقدم طاهر حتى صار إلى الدرزيجان حيال أحمد ونصر بْن منصور، فسير إليهما الرجال، فلم يجر بينهما كثير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر ذات اليسار إلى نهر صرصر، فعقد بها جسرا ونزلها.
ذكر خبر خلع داود بن عيسى الامين
وفي هذه السنة خلع داود بْن عيسى عامل مكة والمدينة محمدا- وهو عامله يومئذ عليهما- وبايع للمأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس له، وكتب بذلك إلى طاهر والمأمون، ثم خرج بنفسه إلى المأمون.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف جرى الأمر فيه:
ذكر أن الأمين لما أفضت الخلافة إليه، بعث إلى مكة والمدينة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وعزل عامل الرشيد على مكة، وكان عامله عليها محمد بْن عبد الرحمن بْن محمد المخزومي، وكان إليه الصلاة بها وأحداثها والقضاء بين أهلها، فعزل محمد عن ذلك كله بداود ابن عيسى، سوى القضاء فإنه أقره على القضاء فأقام داود واليا على مكة والمدينة لمحمد، وأقام للناس أيضا الحج سنة ثلاث وأربع وخمس وتسعين ومائة، فلما دخلت سنة ست وتسعين ومائة، بلغه خلع عبد الله المأمون أخاه، وما كان فعل طاهر بقواد محمد، وقد كان محمد كتب إلى داود بْن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث محمد إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود- وكان داود أحدهم- فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل، رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا ظالما، فحرقهما بالنار وقد رأيت خلعه، وإن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيا عليه.
فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك، فوعدهم صلاة الظهيرة، وأرسل في فجاج مكة صائحا يصيح: الصلاة جامعة! فلما جاء وقت صلاة الظهر- وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة- خرج داود بْن عيسى، فصلى بالناس صلاة الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وأمر بوجوه الناس وأشرافهم فقربوا من المنبر، وكان داود خطيبا فصيحا جهير الصوت، فلما اجتمع الناس قام خطيبا، فقال:
الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين أما بعد يا أهل مكة، فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمه الله عليه وصلاته حين بايع لا بينه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغى عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر، ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بْن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام، وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به.
ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بْن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي- وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها- ثم قَالَ: قد بايعت لعبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر، رجل فرجل، فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة، وخلع محمدا، ثم نزل عن المنبر، وحانت صلاة العصر، فصلى بالناس، ثم جلس في ناحية المسجد، وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة، يقرأ عليهم كتاب البيعة، ويصافحونه على كفه، ففعل ذلك أياما.
وكتب الى ابنه سليمان بْن داود بْن عيسى وهو خليفته على المدينة، يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة، من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو على طريق البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان، حتى صار إلى المأمون بمرو، فأعلمه ببيعته وخلعه محمدا ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك، فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة، إذ كانوا أول من بايعه، وكتب إليهم كتابا لينا لطيفا يعدهم فيه الخبر، ويبسط أملهم وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها من الصلاة والمعاون والجباية، وزيد له ولاية عك، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخرج داود بْن عيسى مسرعا مغذا مبادرا لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى ابن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وقد عقد المأمون للعباس بْن موسى بْن عيسى على ولاية الموسم، فسار هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بْن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وضمن لهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم، ليخلعوا محمدا ويبايعوا عبد الله المأمون.
فساروا جميعا حتى دخلوا مكة وحضر الحج، فحج باهل الموسم العباس ابن موسى بْن عيسى، فلما صدروا عن الحج انصرف العباس حتى اتى طاهر ابن الحسين- وهو على حصار محمد- وأقام داود بْن عيسى على عمله بمكة والمدينة، ومضى يزيد بْن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع محمد وبيعة عبد الله على المأمون، وقرأ عليهم كتابا من طاهر بْن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته، فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، وخلعوا محمد، فسار فيهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بأحسن سيرة، وأظهر عدلا وإنصافا، وكتب بإجابتهم وبيعتهم الى المأمون والى طاهر ابن الحسين.
وفي هذه السنة عقد محمد في رجب وشعبان منها نحوا من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بْن أعين، فساروا فالتقوا بجللتا في رمضان على أميال من النهروان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وبعث به هرثمة إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان.
ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين
وفي هذه السنة استأمن إلى محمد من طاهر جماعة كثيرة، وشغب الجند على طاهر، ففرق محمد فيمن صار إليه من أصحاب طاهر مالا عظيما، وقود رجالا، وغلف لحاهم بالغالية، فسموا بذلك قواد الغالية.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الأمر فيه:
ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: أقام طاهر على نهر صرصر لما صار إليها، وشمر في محاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال والكسا، فخرج من عسكره نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومن التف إليهم، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، وأثبت أسماءهم في الثمانين قَالَ: فمكثوا بذلك أشهرا، وقود جماعة من الحربية وغيرهم ممن تعرض لذلك وطلبه، وعقد لهم، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، ووجه إليهم حبيب بْن جهم النمري الأعرابي في أصحابه، فلم يكن بينهم كثير قتال، وندب محمد قوادا من قواد بغداد، فوجههم الى الياسرية والكوثرية والسفينتين، وحمل إليهم الأطعمة، وقواهم بالأرزاق، وصيرهم ردءا لمن خلفهم، وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالأطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى محمد، ومع كل عشرة أنفس منهم طبل، فارعدوا وابرقوا واجلبوا، ودنوا حتى أشرفوا على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم، فيقول: لا يغرنكم كثرة من ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا واضطربوا بالسيوف مليا ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال وبلغ الخبر محمدا، فأمر بالعطاء فوضع، وأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض، واعترض الناس على عينه، فكان لا يرى أحدا وسيما حسن الرواء إلا خلع عليه وقوده، وكان لا يقود أحدا إلا غلفت لحيته بالغالية، وهم الذين يسمون قواد الغالية قَالَ: وفرق في قواده المحدثين لكل رجل منهم خمسمائة درهم وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابهم شيئا وأتت عيون طاهر وجواسيسه طاهرا بذلك، فراسلهم وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائة، فقال رجل من أبناء أهل بغداد في ذلك:
قل للأمين الله في نفسه *** ما شتت الجند سوى الغالية
وطاهر نفسي تقي طاهرا *** برسله والعدة الكافية
أضحى زمام الملك في كفه *** مقاتلا للفئة الباغية
يا ناكثا أسلمه نكثه *** عيوبه من خبثه فاشية
قد جاءك الليث بشداته *** مستكلبا في أسد ضاريه
فاهرب ولا مهرب من مثله *** إلا إلى النار أو الهاويه
قَالَ: ولما شغب الجند، وصعب الأمر على محمد شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف امرك، فان بهم قوام ملك، وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم.
فلج في أمرهم وأمر بقتالهم، فوجه إليهم التنوخي وغيره من المستأمنة والأجناد الذين كانوا معه، فعاجل القوم القتال وراسلهم طاهر وراسلوه، فأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من المستأمنة من قواد محمد وجنده في البستان وفي الأرباض، وألحقهم جميعا بالثمانين في الأرزاق، وأضعف للقواد وأبناء القواد الخواص، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال، ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعار والشطار، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس إلا من كان في عسكر طاهر لتفقده أمرهم، وأخذه على أيدي سفهائهم وفساقهم، واشتد في ذلك عليهم، وغادى القتال وراوحه، حتى تواكل الفريقان، وخربت الدار.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة بمكة والمدينة.