كان في رمضان سنة ثمان وكان السبب في ذلك أنه لما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيه أن: …
من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وكان قبل ذلك بينهما دماء، أي فحجز الإسلام بينهما لتشاغل الناس به، وهم على ما هم عليه من العداوة، وكانت خزاعة حلفاء عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، أي يناصرونه على عمه نوفل بن عبد مناف.
فإن المطلب لما مات وثب نوفل على ساحات وأفنية كانت لعبد المطلب واغتصبه إياها، فاضطرب عبد المطلب لذلك واستنهض قومه، فلم ينهض معه أحد منهم، وقالوا له لا ندخل بينك وبين عمك، وكتب إلى أخواله بني النجار، فجاءه منهم سبعون راكبا فأتوا نوفلا وقالوا له: ورب البينة لتردنّ على ابن أختنا ما أخذت وإلا ملأنا منك السيف، فرده ثم حالف خزاعة بعد أن حالف نوفل بني أخيه عبد شمس، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم بذلك الحلف فإنهم أوقفوه على كتاب عبد المطلب وقرأه عليه أبي بن كعب رضي الله عنه: أي بالحديبية، وهو باسمك اللهم، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذا قدم عليه سرواتهم وأهل الرأي منهم، غائبهم يقرّ بما قاضى عليه شاهدهم أن بيننا وبينكم عهود الله وميثاقه وما لا ينسى أبدا، اليد واحدة والنصر واحد، ما أشرق ثبير وثبت حرا مكانه، وما بلّ بحر صوفة.
وفي الإمتاع أن نسخة كتابهم: باسمك اللهم، هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة، تحالفوا على التناصر والمواساة ما بلّ بحر صوفة، حلفا جامعا غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأصاغر، والشاهد على الغائب، وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد لا ينقض ولا ينكث، ما أشرقت شمس على ثبير، وحنّ بفلاة بعير، وما أقام الأخشبان، وعمر بمكة إنسان، حلف أبد لطول أمد، يزيده طلوع الشمس شدّا، وظلام الليل مدا، وأن عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون متظاهرون متعاونون، فعلى عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه على كل طالب، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم على جميع العرب في شرق أو غرب أو حزن أو سهل، وجعلوا الله على ذلك كفيلا، وكفى بالله جميلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعرفني بحقكم وأنتم على ما أسلفتم عليه من الحلف».
فلما كانت الهدنة، وهي ترك القتال التي وقعت في صلح الحديبية اغتنمها بنو بكر: أي طائفة منهم يقال لهم بنو نفاثة.
أي وفي الإمتاع: وسببها أن شخصا من بني بكر هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار يتغنى به، فسمعه غلام من خزاعة فضربه فشجه، فثار الشرّ بين الحيين مما كان بينهم من العداوة، فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة، فأمدوهم بذلك، فبيتوا خزاعة: أي جاؤوهم ليلا بغتة وهم آمنون على ماء لهم يقال له الوتير، فأصابوا منهم. أي قتلوا منهم عشرين أو ثلاثة وعشرين، وقاتل معهم جمع من قريش مستخفيا، منهم صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى، أي وعكرمة بن أبي جهل وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو رضي الله عنهم، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ولا زالوا بهم إلى أن أدخلوهم دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة، أي ولم يشاوروا في ذلك أبا سفيان. قيل شاوروه فأبى عليهم ذلك، وظنوا أنهم لم يعرفوا، وأن هذا لا يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما ناصرت قريش بني بكر على خزاعة، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق ندموا، وجاء الحارث بن هاشم إلى أبي سفيان وأخبره بما فعل القوم، فقال: هذا أمر لم أشهده ولم أغب عنه، وأنه لشر، والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة يعني زوجته أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة فكره القوم ذلك.
وعند ذلك خرج عمرو، وقيل عمر بضم العين وصححه الذهبي ابن سالم الخزاعي: أي سيد خزاعة في أربعين راكبا: أي من خزاعة فيهم بديل بن ورقاء الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ودخل المسجد ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين الناس وقال من أبيات:
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم»، أي ودمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال: لا ينصرني الله. وفي لفظ: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب: يعني خزاعة مما أنصر به نفسي. وفي رواية: لأمنعهم مما أمنع منه نفسي. زاد في رواية:
وأهل بيتي ثم مرّت سحابة في السماء وأرعدت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا السحاب ليستهلّ»، أي وفي لفظ: لينصب بنصر بني كعب يعني خزاعة.
أي وعن بشر بن عصمة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خزاعة مني وأنا منهم» وقبل قدوم عمرو بن سالم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامه بذلك حدّثت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الوقعة قال لها: لقد حدث في خزاعة حدث، قالت: فقلت: يا رسول الله أترى قريشا يجترئون على نقض العهد الذي بينك وبينهم؟ فقال: «ينقضون العهد لأمر يريده الله»، فقلت: خير، قال «خير»، وفي لفظ قالت: لخير أو لشر؟ قال لخير.
وعن ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات عندها ليلة، فقام ليتوضأ للصلاة، قالت: فسمعته يقول لبيك لبيك ثلاثا. نصرت نصرت نصرت ثلاثا، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول لبيك لبيك لبيك ثلاثا نصرت نصرت نصرت ثلاثا كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ قال: «هذا راجز بني كعب يعني خزاعة يزعم أن قريشا أعانت عليهم بكر بن وائل: أي بطنا منهم وهم بنو نفاثة»، قالت ميمونة: فأقمنا ثلاثا، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فسمعت الراجز يقول:
يا رب إني ناشد محمدا
إلى آخر ما تقدم.
وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم وأصحابه: «فيمن تهمتكم؟» قالوا: بنو بكر، قال: «كلها؟» قالوا: لا ولكن بنو نفاثة، قال: «هذا بطن من بكر»
ولما ندمت قريش على نقضهم العهد أرسلوا أبا سفيان ليشد العقد ويزيد في المدة، فقالوا له: ما لها سواك، اخرج إلى محمد فكلمه في تجديد العهد وزيادة المدة، فخرج أبو سفيان ومولى له على راحلتين فأسرع السير، لأنه يرى أنه أوّل من خرج من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس قبل قدوم أبي سفيان: «كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة، وهو راجع بسخطه، ثم رجع أولئك الركب من خزاعة، فلما كانوا بعسفان لقوا أبا سفيان، أي ومولى له كلّ على راحلة وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد خافوا مما صنعوا، فسألهم: هل ذهبتم إلى المدينة؟» قالوا: لا، وتركوه وذهبوا، فجاء إلى مبركهم بعد أن فارقوه، فأخذ بعرا وفته فوجد فيه النوى، فعلم أنهم ذهبوا إلى المدينة الشريفة.
قال: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سالم وأصحابه: «ارجعوا وتفرقوا في الأودية، أي ليخفي مجيئهم للنبي صلى الله عليه وسلم». فرجعوا وتفرقّوا، فذهبت فرقة إلى الساحل، أي وفيهم عمرو بن سالم. وفرقة فيهم بديل بن ورقاء لزمت الطريق، وأن أبا سفيان لقي بديل بن ورقاء بعسفان، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال للقوم: أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها، فقالوا: لا علم لنا بها، أي وقالوا: إنما كنا في الساحل نصلح بين الناس في قتل. ثم صبر أبو سفيان حتى ذهب أولئك القوم. وفي لفظ قال: من أين أقبلت يا بديل؟ قال: سرت إلى خزاعة في هذا الساحل، قال: ما أتيت محمدا؟ قال لا، فلما راح بديل إلى مكة. أي توجه إليها، قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فجاء منزلهم ففتت أبعار أباعرهم فوجد فيها النوى، قال أبو سفيان: أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا.
فالما قدم أبو سفيان المدينة دخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، ولما أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، قال: والله لقد أصابك بعدي شر، فقالت: بل هداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر، واعجبا منك يا أبت وأنت سيد قريش وكبيرها، فقال: أترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟ ثم خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إني كنت غائبا في صلح الحديبية فامدد العهد وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك جئت يا أبا سفيان؟» قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل كان فيكم من حدث؟» قال: معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا لا نغير ولا نبدّل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فنحن على مدتنا وصلحنا»، فأعاد أبو سفيان القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يردّ عليه شيئا هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمهما الله أن مجيئه لأم حبيبة رضي الله عنها بعد مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما أنا بفاعل. وفي رواية قال لأبي بكر: جدّد العقد وزدنا في المدة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم: أي بها. وفي رواية أنه قال له: ما كان من حلفنا جديدا أخلفه الله، وما كان مقطوعا فلا وصلة الله، فعند ذلك قال له أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرا. وفي لفظ سوآ، ثم جاء إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: إنه ليس في القوم أقرب بي رحما منك فزد في المدة وجدد العقد، فإن صاحبك لا يرده عليك أبدا، فقال عثمان: جواري في جواره صلى الله عليه وسلم. ثم جاء فدخل على عليّ بي أبي طالب كرّم الله وجهه وعنده فاطمة وحسن رضي الله عنه غلام يدب بين يديها، فقال: يا عليّ إنك أمسّ القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه، فالتفت إلى فاطمة رضي الله عنها، فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما يبلغ ببنيّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وفي رواية أنه قال لفاطمة: أجيري بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة، قال: قد أجارت أختك يعني زينب أبا العاص بن الربيع يعني زوجها وأجاز ذلك محمد، قالت: إنما ذاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأمري أحد ابنيك، قالت: إنما هما صبيان ليس مثلهما يجير. قال: فكلمي عليا، فقالت: أنت تكلمه، فكلم عليا، فقال: يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار، وقول فاطمة رضي الله عنها في حق ابنيها إنهما صبيان ليس مثلهما يجير هو الموافق لما عليه أئمتنا من أن شرط من يؤمن أن يكون مكلفا، وأما قولها وإنما أنا امرأة فلا يوافق ما عليه أئمتنا من أن للمرأة والعبد أن يؤّمنا لأن شرط المؤمن عند أئمتنا أن يكون مسلما مكلفا مختارا. وقد أمنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجها أبا العاص بن الربيع، وقال صلى الله عليه وسلم «قد أجرنا من أجرت» وقال: «المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم» كما سيأتي في السرايا، وقد تقدم ذلك قريبا عن أبي سفيان. وسيأتي قريبا أن أم هانىء أجارت، وأنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «أجرنا من أجرت يا أم هانىء» لكن سيأتي أن هذا كان تأكيدا للأمان الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لا أمان مبتدأ.
ثم إن أبا سفيان أتى أشراف قريش والأنصار وكل يقول جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم جاء إلى علي كرم الله وجهه وقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد انسدت عليّ فانصحني، قال: والله لا أعلم لك شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة، فقم وأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟
قال: والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس. زاد في رواية: ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يردّ جواري، قال: وفي رواية أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني أجريت بين الناس، أي وقال: لا والله ما أظن أحدا يخفرني ويردّ جواري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة» ؟ وفي لفظ: يا أبا سفيان.
ثم ركب بعيره فانطلق حتى قدم على قريش وقد طالت غيبته واتهمته قريش أنه صبأ واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه وقالت له زوجته: إن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح فأنت الرجل، فلما أخبرها: أي وقد دنا منها وجلس منها مجلس الرجل من امرأته فضربت برجلها في صدره وقالت: قبحت من رسول قوم، فما جئت بخير، فلما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند أساف ونائلة، وذبح عندهما البدن، ومسح رؤوسهما بالدم ليدفع عنه التهمة، فلما رأته قريش قالوا: ما وراءك؟ هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟ قال: لا والله، لقد أبى عليّ، وقد تتبعت أصحابه، فما رأيت قوما لملك أطوع منهم له. وفي رواية قال: جئت محمدا فكلمته، فو الله ما رد عليّ شيئا، ثم جئت إلى ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو. أي وفي رواية: أعدى العدوّ، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيء صنعته، فو الله لا أدري أيغني عني شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس: أي قال لي لم تلتمس جوار الناس على محمد ولا تجير أنت عليه وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن لا يخفر جواره، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال لا، أي وإنما قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة، والله لم يزدني، قالوا: رضيت بغير رضا، وجئت بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا، ولعمر الله ما جوارك بجائز، وإن إخفارك: أي إزالة خفارتك عليهم لهين، والله أراد الرجل: يعنون عليا كرم الله وجهه أن يلعب بك. قال: والله ما وجدت غير ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، أي قال لعائشة جهزينا وأخفي أمرك، فدخل أبو بكر رضي الله عنه على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي تجعل قمحا سويقا ودقيقا. وفي لفظ: وجد عندها حنطة تنسف وتنقى، فقال: أي بنية أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه؟
قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري، وإن ذلك قبل أن يستشير صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في السير إلى مكة كما سيأتي. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتجهيز.
أي وفي الإمتاع أن أبا بكر رضي الله عنه لما سأل عائشة رضي الله عنها دخل عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أردت سفرا؟ قال «نعم»؟ قال: أفأتجهز، قال «نعم»، قال: فأين تريد يا رسول الله؟ قال: «قريشا»، وأخف ذلك يا أبا بكر، وأمر صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وطوى عنهم الوجه الذي يريده، وقد قال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ قال «إنهم غدروا ونقضوا العهد، واطو ما ذكرت لك»، وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجا، قال: «نعم»، قال: لعلك تريد بني الأصفر، قال: «لا»، قال: أفتريد أهل نجد. قال: «لا»، قال: فلعلك تريد قريشا، قال: «نعم»، قال: يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة، قال: «أو لم يبلغك ما صنعوا ببني كعب: يعني خزاعة»، قال: وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أهل البادية ومن حوله من المسلمين في كل ناحية يقول لهم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة، أي وذلك بعد أن تشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في السير إلى مكة، فذكر له أبو بكر رضي الله عنه ما يشير به إلى عدم السير حيث قال له: هم قومك، وحضه عمر رضي الله عنه حيث قال: نعم هم رأس الكفر، زعموا أنك ساحر، وأنك كذاب وذكر له سوء كانوا يقولون، وايم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة، فعند ذلك ذكر صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر كإبراهيم، وكان في الله ألين من اللين، وأن عمر كنوح وكان في الله أشد من الحجر، وأن الأمر أمر عمر، وتقدم نحو هذا لما استشارهما صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، أي ثم قدمت المدينة من قبائل العرب: أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها»، أي وفي رواية قال: «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعون بنا إلا فجأة»، وأخذ بالأنقاب: أي الطرق، أي أوقف بكل طريق جماعة ليعرف من يمر بها، أي وقال لهم: «لا تدعوا أحدا يمرّ بكم تنكرونه إلا رددتموه».
ولما أجمع صلى الله عليه وسلم المسير إلى قريش وعلم بذلك الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش: أي إلى ثلاثة منهم من كبرائهم، وهم: سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بي أبي جهل رضي الله عنهم- فإنهم أسلموا بعد ذلك كما تقدم- كتابا يخبرهم بذلك ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، ويقال أعطاها عشرة دنانير وكساها بردا، أي وقال لها: اخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق، فإن عليه حرسا فسلكت غير الطريق، قال: وتلك المرأة هي سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب بن عبد مناف، وكانت مغنية بمكة، وكانت قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلمت، وطلبت منه الميرة، وشكت الحاجة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان في غنائك ما يغنيك؟» فقالت: إن قريشا منذ قتل منهم من قتل ببدر تركوا الغناء، فوصلها صلى الله عليه وسلم، وأوقر لها بعيرا طعاما، فرجعت إلى قريش وارتدت عن الإسلام، وكان ابن خطل يلقي عليها هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغني به، فجعلت الكتاب في قرون رأسها: أي ضفائر رأسها خوفا أن يطلع عليها أحد، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والزبير وطلحة والمقداد، أي وقيل عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد، أي ولا مانع أن يكون أرسل الكل، وبعض الرواة اقتصر على بعضهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أدركا امرأة بمحل كذا، قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم، فخذوه منها وخلوا سبيلها، فإن أبت فاضربوا عنقها»، فخرجا حتى أدركاها في ذلك المحل الذي ذكره صلى الله عليه وسلم فقالا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فاستنزلاها وفتشاها والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي كرم الله وجهه: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ولا كذبنا، ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك، أو أضرب عنقك، فلما رأت الجد منه قالت أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه. وفي البخاري أخرجته من عقاصها، ولا منافاة، وفيه في محل آخر أخرجته من حجزتها، والحجزة معقد الإزار والسراويل. قال بعضهم: ولا مانع أن يكون في ضفائرها وأنها جعلت الضفائر في حجزتها فدفعته إليه، وسيأتي أنها ممن أباح صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، ثم أسلمت وعفا عنها. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الكتاب، أي وصورة الكتاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لينصرنه الله تعالى عليكم، فإنه منجز له ما وعده فيكم، فإن الله تعالى ناصره ووليه. وقيل فيه: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر، وقيل فيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آذن بالغزو ولا أراه إلا يريدكم، وقد أحببت أن تكون لي يد بكتابي إليكم.
أقول: لا مانع أن يكون جميع ما ذكر في الكتاب، بأن يكون فيه: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد آذن، أي أعلم بالغزو وقد نفر: أي عزم على أن ينفر، فإما إليكم وإما إلى غيركم، ولا أراه إلا يريدكم، وهذا كان قبل أن يعلم بسيره إلى مكة، فلما علم ألحق بالكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه، أي يريد التوجه إليكم بجيش إلى آخره. وبعض الرواة اقتصر على ما في بعض الكتاب والله أعلم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال له: «أتعرف هذا الكتاب؟» قال: نعم، فقال: «ما حملك على هذا؟» فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت. وفي لفظ: ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششت منذ نصحت، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني ليس لي في القوم أهل ولا عشيرة، ولي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. أي وفي لفظ قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا: أي حليفا من قريش. وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الملصق هو الذي لا نسب له ولا دخل في حلف. قال: ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم وأهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة، فأحببت أن أتخذ فيهم يدا أحمي بها أهلي، أي وهي أمه.
ففي بعض الروايات: كنت غريبا في قريش، وأمي بين أظهرهم، فأردت أن يحفظوني فيها، وما فعلت ذلك كفرا بعد إسلام، وقد علمت أن الله تعالى منزل بهم بأسه لا يغني عنهم كتابي شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد صدقكم»، فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله دعني لأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، وفي لفظ قال له: قاتلك الله ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم. وفي رواية: دعني أضرب عنقه، لأنه يعلم أنك يا رسول الله أخذت على الطريق، وأمرت أن لا ندع أحدا يمر ممن تنكره إلا رددناه.
وأقول: مراد سيدنا عمر بقوله قد نافق، أي خالف الأمر، لا أنه أخفى الكفر لقوله صلى الله عليه وسلم: «قد صدقكم» ورأي أن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم مقتضية للقتل، ولكن رواية البخاري: «إنه قد صدقكم، ولا تقولوا له إلا خيرا» وعليها يشكل قول عمر المذكور ودعاؤه عليه بقوله: قاتلك الله. إلا أن يقال: يجوز أن يكون قول عمر لذلك كان قبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر. وعند قول عمر رضي الله عنه: دعني لأضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وفي رواية «فقد وجبت لكم الجنة» وفي رواية: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا» فعند ذلك فاضت عينا عمر رضي الله عنه بالبكاء، أي وأنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّة} [الممتحنة: 1] الآيات.
وفي قوله: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} [الممتحنة:1] منقبة عظيمة لحاطب رضي الله عنه بأن في ذلك الشهادة له بالإيمان، وقوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّة} [الممتحنة:1] أي تبدونها لهم، وذكر بعضهم أن البلتعة في اللغة: التظرف بالظاء المشالة، يقال تبلتع في كلامه: إذا تظرف فيه.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وقيل ابن أم مكتوم وبه جزم الحافظ الدمياطي في سيرته. وخرج لعشر، وقيل لليلتين، وقيل لثنتي عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل سبع عشرة، وقيل ثمان عشرة، وهو في مسند الإمام أحمد بسند صحيح. قال ابن القيم: إنه أصح من قول من قال إنه خرج لعشر خلون من رمضان، أي وصدّر به في الإمتاع، وقيل خرج لتسع عشرة مضين من شهر رمضان في سنة ثمان. قال في النور لا أعلم خلافا في الشهر والسنة.
وما في البخاري أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمة المدينة، أي فيكون في السنة التاسعة فيه نظر، وكان صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، أي باعتبار من لحقه في الطريق من القبائل كبني أسد وسليم، ولم يتخلف عند أحد من المهاجرين والأنصار، وكان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس، وكانت مزينة ألفا وفيها مائة فرس، وكانت أسلم أربعمائة ومعها ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة ومعها خمسون فرسا، وقيل كان صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا.
ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى الأبواء أو قريبا منها لقيه أبو سفيان ابن عمه الحارث وكان الحارث أكبر أولاد عبد المطلب، وكان يكنى به كما تقدم، وكان أبو سفيان أخاه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة على حليمة كما تقدم، ولقيه عبد الله بن أمية بن المغيرة ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب أخو أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها لأبيها، لأن والدة أم سلمة عاتكة بنت جندل الطعان، وكان عند أبيها أمية بن المغيرة زوجتان أيضا كل منهما تسمى عاتكة، فكان عنده أربع عواتك. وكان مجيء الحارث وعبد الله له صلى الله عليه وسلم يريدان الإسلام، وكانا رضي الله تعالى عنهما من أكبر القائمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشد الناس إذاية له صلى الله عليه وسلم، أي بعد أن كان الحارث قبل النبوة آلف الناس له صلى الله عليه وسلم لا يفارقه كما تقدم، وقد تقدم بعض ذكر أذيتهما له صلى الله عليه وسلم، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما فكلمته أم سلمة رضي الله عنها فيهما: أي قالت له: لا يكون ابن عمك وابن عمتك أي وصهرك أشقى الناس بك، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لي بهما»، أما ابن عمي: يعني أبا سفيان فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري يعني عبد الله أخا أم سلمة فهو الذي قال لي بمكة ما قال: أي قال له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر إليك، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون لك أن الله أرسلك إلى آخر ما تقدم. فلما خرج الخبر إليهما، قال أبو سفيان ومعه ابن له: والله ليأذننّ لي أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت جوعا وعطشا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه وأسلما وقبل صلى الله عليه وسلم إسلامهما.
وقيل إن عليا كرم الله وجهه قال لأبي سفيان: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف {قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] ، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92] عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. وكان أبو سفيان رضي الله عنه بعد ذلك لا يرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه لأنه عاداه صلى الله عليه وسلم نحو عشرين سنة يهجوه ولم يتخلف عن قتاله. وكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يحبه ويشهد له بالجنة، ويقول: أرجو أن يكون خلفا من حمزة رضي الله عنهما، أي وقال له صلى الله عليه وسلم يوما: «الصيد كل الصيد في جوف الفرا» وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم: «أنت يا أبا سفيان كما قيل: كل الصيد في جوف الفرا» .
وفي سفره صلى الله عليه وسلم صام وصام الناس، حتى إذا كانوا بالكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى: أي وهو محل بين عسفان وقديد أفطر، أي وقيل أفطر بعسفان، وقيل أفطر بقديد، وقيل أفطر بكراع الغميم. ولا منافاة لتقارب الأمكنة.
وقال بعضهم: لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم كرر الفطر في تلك الأماكن لتتساوى الناس في رؤية ذلك، فأخبر كل منهم عن محل رؤيته.
قال: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج ووصل إلى محل يقال له الصلصال قدم أمامه الزبير بن العوام رضي الله عنه في مائتين، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر.
أي وفي الإمتاع: لما خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة نادى مناديه: من أحب أن يصوم فليصم، وفي بعض الأيام صب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه الماء ووجهه من شدة العطش، وفي لفظ: من شدة الحر وهو صائم.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ الكديد بلغه أن الناس شق عليهم الصيام، أي وأنهم ينظرون فيما فعلت، فاستوى صلى الله عليه وسلم على راحلته بعد العصر ودعا بإناء فيه ماء، وقيل لبن فشرب، ثم ناوله لرجل بجنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام، فقال: أولئك العصاة، أي لأنهم خالفوه أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالفطر ليقووا على مقاتلة العدو، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم»، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يفطر حتى انسلخ الشهر.
أي وفي قديد عقد صلى الله عليه وسلم الألوية والرايات، ودفعها للقبائل، ثم سار حتى نزل بمر الظهران: أي وهو الذي يقال له الآن بطن مرو عشاء، أي وقد أعمى الله الأخبار عن قريش إجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم، فلم يعلموا بوصوله إليهم، أي ولم يبلغهم حرف واحد من مسيره إليهم، فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان العباس رضي الله عنه قد خرج قبل ذلك بعياله مسلما، أي مظهرا للإسلام مهاجرا، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وقيل بذي الحليفة، فرجع معه إلى مكة، أي وأرسل أهله وثقله إلى المدينة، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة» قال العباس رضي الله عنه: ورقت نفسي لأهل مكة، أي وقال: يا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال العباس رضي الله عنه: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء أي زاد بعضهم التي أهداها له دحية الكلبي، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة يخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة فو الله إني لأسير إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، أي وقد خرجا وحكيم بن حزام: أي بعد أن خرج أبو سفيان وحكيم بن حزام، فلقيا بديلا فاستصحباه وخرجوا يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به؟ أي لأنهم علموا بمسيره صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا إلى أي جهة.
وفي سيرة الدمياطي: ولم يبلغ قريشا مسيره إليهم فلا ينافي ما قبله. وهم مغتمون يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب يتجسس الأخبار وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، أي فلما سمعوا صهيل الخيل راعهم ذلك وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، هذه كنيران عرفة، وبديل يقول له: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، وحمشتها بالحاء المهملة والشين المعجمة: أي أحرقتها وقيل بالسين المهملة: أي اشتدت عليها من الحماسة وهي الشدة، وأبو سفيان يقول: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. أي وفي رواية أن القائل هذه خزاعة غير بديل، وأن بديلا هو القائل هؤلاء أكثر من خزاعة وهو المناسب، لأن بديلا من خزاعة. قال العباس رضي الله عنه: فعرفت صوت أبي سفيان، أي وكان أبو سفيان صديقا للعباس ونديمه، قال العباس، فقلت: يا أبا حنظلة فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ فقلت نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي؟ قلت: والله هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس قد جاءكم بما لا قبل لكم به، أي وفي رواية: قد جاءكم بعشرة آلاف، فقال: واصباح قريش والله فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، أي ورجع صاحباه، فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا من هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال أبو سفيان عدوّ الله، الحمد لله الذي قد أمكن منك من غير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركضت البغلة فسبقته فاقتحمته عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر في أثري، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان، أي عدوّ الله قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد، فدعني لأضرب عنقه، قال: قلت يا رسول الله إني قد أجرته. ولعل العباس وعمر رضي الله عنهما لم يبلغهما قوله صلى الله عليه وسلم إنكم لاقون بعضهم. فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه إن صح.
قال العباس رضي الله عنه: ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكد عمر في شأنه، قلت: مهلا يا عمر، فو الله لو كان من رجال بني عدّي بن كعب ما قلت مثل هذا، أي ولكنك قد عرفت أنه من رجال عبد مناف، قال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به» .
وفي البخاري أن الحرس ظفروا بأبي سفيان ومن معه وجاؤوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا.
وجمع بعضهم بأنه يجوز أن يكون العباس أخذهم من الحرس، أي ويؤيده قول ابن عقبة رحمه الله لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه لقيهم العباس بن عبد المطلب فأجارهم، أي وأتي بأبي سفيان وتأخر صاحباه، قال وفي لفظ: أخذهم نفر من الأنصار بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عيونا فأخذوا بخطم أبعرتهم، فقالوا: من أنتم؟
قالوا: نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وها هو، فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم، فجاؤوا بهم إلى عمر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه كان في تلك الليلة على الحرس كما تقدم، فقالوا: جئناك بنفر من أهل مكة، فقال عمر وهو يضحك إليهم: والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم، فقالوا: والله أتيناك بأبي سفيان، فقال: احبسوه، فحبسوه حتى أصبح، فغدوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه ما لا يخفى، فإن الجمع بينه وبين ما قبله بعيد.
قال العباس: ولما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «اذهب به يا عباس إلى رحلك» فذهبت به، فلما أصبح غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد أن نودي بالصلاة وثار الناس، ففزع أبو سفيان وقال للعباس يا أبا الفضل ما يريدون؟ قال الصلاة.
وفي رواية: ما للناس؟ أأمروا فيّ بشيء؟ قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة ورأى المسلمين يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رآهم يركعون إذا ركع ويسجدون إذا سجد، فقال للعباس: يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه، فقال له العباس: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه، فقال: ما رأيت ملكا مثل هذا لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الأصفر، ثم قال للعباس: كلمه في قومك هل عنده من عفو عنهم؟ فانطلق العباس بأبي سفيان حتى أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟» قال: بأبي وأمي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عني شيئا بعد، قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي، أما والله هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا.
قال: وفي رواية أن بديلا وحكيم بن حزام لم يرجعا بل جاء بهم العباس، وأن العباس قال: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخلهم»، فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم، أي عن أهل مكة، ودعاهم إلى الإسلام، فقالوا نشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا أني رسول الله» ، فشهد بذلك بديل وحكيم بن حزام، فقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك، والله إن في النفس من هذا شيئا فأرجئها: أي أخرها إلى وقت آخر.
وفي أسد الغابة أنه صلى الله عليه وسلم، قال ليلة قرب من مكة في غزوة الفتح: إن بمكة أربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك وأرغب بهم في الإسلام: عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، أي وهذا يدل على القول بأن جبيرا أسلم يوم الفتح كمن ذكر معه. وذكر بعضهم أنه أسلم بعد الحديبية وقبل الفتح.
فقال العباس رضي الله عنه لأبي سفيان: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحق فأسلم.
وذكر عبد بن حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرض الإسلام على أبي سفيان، قال له: كيف أصنع بالعزى، فسمعه عمر رضي الله تعالى عنه من وراء القبة، فقال له: تخرأ عليها، فقال له أبو سفيان: ويحك يا عمر، إنك رجل فاحش، دعني مع ابن عمي فإياه أكلم، وكان في هذا تصديق أمية بن أبي الصلت، فإنه كان يقول: كنت أرى في كتبي أن نبيا يبعث في حرتنا فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذ هو في بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر إلا عتبة بن ربيعة فلما جاوز الأربعين سنة ولم يوح إليه علمت أنه غيره. قال أبو سفيان: فخرجت في ركب أريد اليمن في تجارة فمررت بأمية بن أبي الصلت فقلت له كالمستهزىء به: يا أمية قد خرج النبي الذي قد كنت تنعته، قال إنه حق فاتبعه، قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني من اتباعه إلا الاستحياء من بنيات ثقيف، إني كنت أحدّثهم أني هو يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف، ثم قال لأبي سفيان: كأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي حتى يأتي بك إليه فيحكم فيك بما يريد، رواه الطبراني في معجمه.
وذكر بعضهم أن أمية هذا كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوان، فمر يوما على بعير عليه امرأة راكبة وهو يرفع رأسه إليها ويرغو، فقال: هذا البعير يقول إن في رحله مسلة تصيب ظهره، فأنزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل، فوجدوا المسلة كما قال.
وذكر أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله أجئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم أظلم وأفجر»، قد غدرتم بعقد الحديبية، وتجارتهم على بني كعب يعني خزاعة بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه، فقال بديل: صدقت والله يا رسول الله، فقد غدروا بنا، والله لو أن قريشا خلوا بيننا وبين عدوّنا ما نالوا منا الذي نالوا، فقال حكيم: قد كنت يا رسول الله حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك لهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن يجمعها لي ربي: فتح مكة، وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن وأخذ أموالهم وذراريهم»، وقال له أبو سفيان: يا رسول الله ادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها آمنون هم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، من كف يده وأغلق داره فهو آمن»، قال العباس: فقلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن».
أي فحكيم بن حزام من مسلمة الفتح، وكان عمره ستين سنة، وبقي في الإسلام مثل ذلك، كان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، وأعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مثل ذلك، فإنه حج في الإسلام، وأوقف بعرفة مائة وصيف في أعناقهم أطواق الفضة منقوش عليها «عتقاء الله عن حكيم بن حزام» وأهدى مائة بدنة قد جللها بالحبرة، وأهدى ألف شاة. وعقد صلى الله عليه وسلم لأبي رويحة الذي آخى صلى الله عليه وسلم بينه وبين بلال لواء، وأمره أن ينادي: من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، أي وإنما قال ذلك لما قال له أبو سفيان: وما تسع داري، وما يسع المسجد؟ ولما قال له صلى الله عليه وسلم ذلك قال أبو سفيان: هذه واسعة، ثم أمر صلى الله عليه وسلم العباس أن يحبس أبا سفيان وبديلا وحكيم بن حزام أي وعليه إنما خص أبو سفيان بالذكر في بعض الروايات لشرفه قال له: احبسه بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها. قال العباس: ففعلت، فمرت القبائل كلها، كلما مرت قبيلة كبرت ثلاثا عند محاذاته. قال: يا عباس من هذه؟ فأقول سليم، فيقول: ما لي ولسليم، أي فإن أوّل القبائل مرّ سليم، وفيها خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، ثم تمر القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت بالفاء والدال المهملة القبائل كلها، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا قلت له بنو فلان، قال: ما لي ولبني فلان.
أي وقد ذكرها بعضهم مرتبة، فقال: أوّل من مر خالد بن الوليد في بني سليم بضم السين. فقال أبو سفيان: يا عباس من هؤلاء؟ قال: هذا خالد بن الوليد، قال: الغلام؟ قال: نعم، قال: ومن معه؟ قال: بنو سليم، قال: ما لي ولبني سليم.
ثم مر على أثره الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه في خمسمائة من المهاجرين وفتيان العرب؟ فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال الزبير، قال: ابن أخيك؟ قال: نعم.
ثم مرت بنو غفار بكسر الغين المعجمة، ثم أسلم، ثم بنو كعب، ثم مزينة، ثم جهينة ثم كنانة، ثم أشجع.
ولما مرت أشجع قال أبو سفيان للعباس: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد، قال العباس: أدخل الله الإسلام قلوبهم، فهذا فضل الله حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء للبسهم الحديد. والعرب تطلق الخضرة على السواد كما تطلق السواد على الخضرة، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد: أي فيها ألفا دارع وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: رويدا حتى يلحق أوّلكم آخركم. قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، فقال أبو سفيان: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، فقلت: يا أبا سفيان إنها النبوّة، فقال: نعم إذن، ثم قلت له: النجاء بالفتح والمد إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة أم معاوية رضي الله تعالى عنهم، فأخذت بشاربه وقالت كلاما: معناه اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه، قبح من طليعة قوم.
أي وفي رواية أنها أخذت بلحيته ونادت: يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق، هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم؟ فقال لها: ويحك اسكتي وادخلي بيتك.
وقال: ويحكم، لا تغرّنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا قبحك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، أي وبهذا استدل على أن مكة فتحت صالحا لا عنوة. وبه قال إمامنا الشافعي رحمه الله. وقال غيره: فتحت عنوة.
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه حكيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلى مكة، وقال: من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن وكانت بأسفل مكة، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وكانت بأعلى مكة، واستثنى صلى الله عليه وسلم جماعة أمر بقتلهم، وهم أحد عشر رجلا، أي وفي الإمتاع: ستة نفر، وأربع نسوة وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة: منهم عبد الله بن أبي سرح، وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، وكان فارس بني عامر، وكان أحد النجباء الكرام من قريش رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، وعبد الله بن خطل وقينتاه، وعكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، والحويرث بن نفيل، ومقبس بن حبابة، وهبار بن الأسود رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وكعب بن زهير رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهو صاحب بانت سعاد، والحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وزهير بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وسارّة مولاة لبعض بني عبد المطلب رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك وعاشت إلى خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وتقدم أنها كانت حاملة لكتاب حاطب بن أبي بلتعة، وصفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وزهير بن أبي سلمى: أي وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، ووحشي بن حرب رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك.
وفي رواية أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه كان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي على الأنصار. ولما مر على أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي، قال أبو سفيان: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فلما حاذاه سعد قال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة: أي الحرب والقتال: اليوم تستحل الحرمة. وفي لفظ: الكعبة، اليوم أذلّ الله قريشا، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: ورأيته مع الزبير رضي الله تعالى عنه، فلما مر بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان ناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك، فإنه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا، فإنه قال: «اليوم يوم الملحمة»، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما: يا رسول الله فإنا لا نأمن من سعد أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا سفيان كذب سعد، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشا». أي وفي رواية: اليوم يعظم الله فيه الكعبة، اليوم تكسى فيه الكعبة، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة: أي أرسل عليا كرم الله وجهه أن ينزع اللواء منه ويدفعه لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما. وقيل أعطاه للزبير، وقيل لعليّ كرم الله وجهه خشية أن يقع من ابنه قيس ما لا يرضاه صلى الله عليه وسلم، أي لأن قيسا رضي الله تعالى عنه كان من دهاة العرب وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبسالة والشجاعة. من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لما ولاه سيدنا عليّ كرّم الله وجهه بعد قتل عثمان رضي الله تعالى عنه مصر لرأي العجب من وفور عقله، ومع ذلك كان له من الكرم ما لا مزيد عليه. وقفت له رضي الله تعالى عنه عجوز: وقالت له: أشكو إليك قلة الجرذان ببيتي. والجرذان بالذال المعجمة: نوع من الفئران، فقال: ما أحسن هذا السؤال وقال لها: لأكثرنّ الجرذان ببيتك، فملأ بيتها طعاما وأدما. وقيل قالت له: مشت جرذان بيتي على العصيّ، فقال لها: لأدعهن يثبن وثبة الأسود، ثم ملأ بيتها طعاما، ولا مانع من تعدد الواقعة.
ومن هذا الوادي ما كتب به بعضهم إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين أشكو إليك الشرف. فقال له: ما أحسن ما استمنحت، وأعطاه عشرة آلاف درهم، فقيل له في ذلك؟ فقال: يسأل ما لا يقدر عليه، ويعتذر فلا يعذر.
ولما أشرف أبوه سعد رضي الله تعالى عنهما على الموت قسم ماله في أولاده، وكان له حمل لم يشعر به، فلما مات سعد وولد له ذلك الحمل كلمه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في أن ينقض ما صنع أبوه من تلك القسمة، فقال: نصيبي للمولود، ولا أغير ما صنع أبي، ولم يكن في وجه قيس رضي الله تعالى عنه شعر، وكان مع ذلك جميلا، وكانت الأنصار رضي الله تعالى عنهم تقول: وددنا أن نشتري لقيس بن سعد لحية بأموالنا. وكان له ديون على الناس كثيرة فلما مرض رضي الله تعالى عنه استبطأ عواده، فقيل له إنهم مستحيون من أجل دينك، فأمر مناديا ينادي:
كل من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو له، فأتاه الناس حتى هدموا درجة كان يصعد عليها إليه.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما. قال: وروي أن سعدا أبى أن يسلم اللواء إلا بأمارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه بعمامته. فدفع اللواء لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما انتهى.
وفي صحيح البخاري أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه ومعه الراية ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة وهي أقل. وفي رواية الحميدي وهي أجلّ الكتائب بالجيم. قال في الأصل: وهي أظهر من رواية أقل، لأنها كانت خاصة المهاجرين، فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والراية مع الزبير رضي الله تعالى عنه.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل مع جملة من قبائل العرب من أسفل مكة، أي وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت. وقال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، وكان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو رضي الله عنهم، فإنهم أسلموا بعد ذلك قد جمعوا ناسا بالخندمة: وهو جبل بمكة ليقاتلوا، وكان من جملتهم رجل كان يعدّ سلاحا، ويصلح من شأنه، فتقول له زوجته، أي وقد كانت أسلمت سرا لماذا تعدّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، فتقول له: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم.
وفي تاريخ مكة للأزرقي قال رجل من قريش لامرأته وهي تبري نبالا له، وكانت أسلمت سرا، فقالت له: لم تبري هذا النبل؟ قال: بلغني أن محمدا يريد أن يفتح مكة ويغزوها، فلئن كان لأخدمنك خادما من بعض من أستأسره، فقالت له: والله لكأني بك وقد رجعت تطلب مخبأ أخبئك فيه لو رأيت خيل محمد، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أقبل ذلك الرجل إليها، فقال: ويحك هل من مخبأة، فقالت له: فأين الخادم؟ فقال لها: دعي عنك، وأنشد الأبيات الآتية، هذا كلامه.
وسبب ذلك أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما لقيهم بالمحل المذكور منعوه الدخول ورموه بالنبل، وقالوا له: لا تدخلها عنوة، فصاح خالد في أصحابه، فقتل من قتل وانهزم من لم يقتل، وكان من جملة من انهزم ذلك الرجل.
وفي رواية أنه لما دخل بيته قال لامرأته: أغلقي عليّ بابي، قالت: وأين ما كنت تقول؟ أين الخادم الذي كنت وعدتني، تسخر به؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمه عبارة الأزرقي:
وأنت لو أبصرتنا بالخندمه *** إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه
واستقبلتنا بالسيوف المسلمه *** يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه *** لهم نهيت حولنا وهمهمه
لا تنطقي في اللوم أدنى كلمه
والغمغة: الصوت الذي لا يفهم. والنهيت بالمثناة تحت وفوق: الزحير.
والهمهمة: صوت في الصدر.
أي واستمر خالد رضي الله تعالى عنه يدفعهم إلى أن وصل الحزورة إلى باب المسجد أي وصعدت طائفة منهم الجبل فتبعهم المسلمون، فرأى صلى الله عليه وسلم وهو على العقبة بارقة السيوف، فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقيل له: لعل خالدا قوتل وبدىء بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتل من يقاتله، وما كان يا رسول الله ليخالف أمرك، فقتل من المشركين أربعة وعشرون من قريش، وأربعة من هذيل.
وفي رواية جعل صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله تعالى عنه على إحدى المجنبتين: أي وهما الكتيبتان، تأخذ أحداهما اليمين والأخرى اليسار والقلب بينهما، وخالدا على الأخرى، وأبا عبيدة على الرجالة.
وفي لفظ: على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة: أي الذين لا دروع لهم. قال في شرح مسلم: فهم رجالة لا دروع عليهم، وقد أخذوا بطن الوادي، ولعل ذلك كان قبل الدخول إلى مكة، فلا ينافي ما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير رضي الله تعالى عنه راية، وأمره أن يغرزها بالحجون، لا يبرح حتى يأتيه في ذلك المحل وفي ذلك المحل بني مسجد يقال له مسجد الراية.
وقد بوّشت قريش أبواشا: أي جمعوها من قبائل شتى، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله تعالى عنه وقال له. «اهتف»: أي صح لي بالأنصار، فهتف بهم، فجاؤوا وطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: «ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟» ثم قال صلى الله عليه وسلم بيديه إحداهما على الأخرى: «احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا»: أي ودخلوا من أعلى مكة. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء وما أحد يوجه إلينا منهم شيئا. وفي لفظ: فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه: أي لا يقدر أن يدفع عن نفسه، فجاء أبو سفيان رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش: أي لا جماعة لقريش بعد اليوم، لأن الجماعة المجتمعة يعبر عنها بالسواد الأعظم، فيقال السواد الأعظم، ويعبر عنها بالخضرة كما هنا، فالمراد جماعة قريش، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من أغلق بابه فهو آمن» .
قال: ووجه صلى الله عليه وسلم اللوم على خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. وقال له: «لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ »قال: هم يا رسول الله بدؤونا بالقتال ورمونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام فأبوا، حتى إذا لم أجد بدا من أن أقاتلهم فظفرنا الله بهم فهربوا من كل وجه.
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار عنده: «يا فلان، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ائت خالد بن الوليد وقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل بمكة أحدا»، فجاء الأنصاري فقال: يا خالد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل من لقيت من الناس، فاندفع خالد فقتل سبعين رجلا بمكة. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش فقال: يا رسول الله هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم. قال: ولم؟ قال: هذا خالد بن الوليد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله، قال: «ادع لي خالدا»، فدعاه له، فقال: «يا خالد ألم أرسل إليك أن لا تقتل أحدا؟» قال: بل أرسلت إن اقتل من قدرت عليه. قال صلى الله عليه وسلم: «ادع لي الأنصاري»، فدعاه له، فقال: «أما أمرتك أن تأمر خالدا أن لا يقتل أحدا»، قال: بلى ولكنك أردت أمرا وأراد الله غيره، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل للأنصاري شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كف عن الطلب»، قال: قد فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قضى الله أمرا، ثم قال: كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم».
أي وهذه المقاتلة التي وقعت لخالد رضي الله تعالى عنه لا تنافي كون مكة فتحت صالحا كما تقدم، أي لأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن» فهو من زيادة الاحتياط لهم في الأمان.
وقوله احصدوهم حصدا محمول على من أظهر من الكفار القتال ولم يقع قتال، ومن ثم قتل خالد رضي الله تعالى عنه من قاتل من الكفار، وإرادة علي كرم وجهه قتل الرجلين اللذين أمنتهما أخته أم هانىء كما سيأتي لعله تأول فيهما شيئا أو جرى منهما قتال له وتأمين أم هانىء لهما من تأكيد الأمان الذي وقع للعموم، فلا حجة في كل ما ذكر على أن مكة فتحت عنوة كما قاله الجمهور.
وقيل أعلاها فتح صالحا: أي الذي سلكه أبو هريرة والأنصار لعدم وجود المقاتلة فيه، وأسلفها الذي سلكه خالد رضي الله عنه فتح عنوة لوجود المقاتلة فيه كما تقدم.
ودخل صلى الله عليه وسلم مكة وهو راكب على ناقته القصواء: أي مردفا أسامة بن زيد بكرة يوم الجمعة معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، واضعا رأسه الشريف على رحله تواضعا لله تعالى، حين رأى ما رأى من فتح الله تعالى مكة وكثرة المسلمين، ثم قال: «اللهم إن العيش عيش الآخرة» .
وقيل دخل صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر، وقيل وعليه عمامة سوداء حرقانية قد أرخى طرفيها بين كتفيه بغير إحرام، ورايته سوداء ولواؤه أسود.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «كان لواؤه يوم الفتح أبيض. ورايته سوداء تسمى العقاب» أ ي وهي التي كانت بخيبر، وتقدم أنها كانت من برد عائشة.
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من كداء» بفتح الكاف والمد والتنوين «من أعلى مكة» وهذا هو المعروف خلافا لمن قال إنه دخل من أسفل مكة، وهي ثنية كدى بضم الكاف والقصر والتنوين، وسيأتي أنه عند الخروج خرج صلى الله عليه وسلم من هذه، وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب دخول مكة من الأولى، والخروج منها من الثانية، أي واغتسل صلى الله عليه وسلم لدخول مكة كما حكاه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم، وبه استدل على استحباب الغسل لداخل مكة ولو حلالا أي وسيأتي ذلك عن أم هانىء رضي الله تعالى عنها، أي وكان شعار المهاجرين «يا بني عبد الرحمن» وشعار الخزرج «يا بني عبد الله» وشعار الأوس «يا بني عبيد الله» أي شعارهم الذي يعرف به بعضهم بعضا في ظلمة الليل، وعند اختلاط الحرب لو وجد.
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس، قال وذلك بالحجون: موضع ما غرز الزبير رضي الله تعالى عنه رايته صلى الله عليه وسلم عند شعب أبي طالب الذي حصرت فيه بنو هاشم، أي وبنو المطلب قبل الهجرة، بقبة من أدم نصبت له هناك ومعه صلى الله عليه وسلم فيها أم سلمة وميمونة زوجتاه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما.
فعن جابر رضي الله تعالى عنه: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوت مكة وقف، فحمد الله وأثنى عليه ونظر إلى موضع قبته، وقال: هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت قريش علينا، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فذكرت حديثا كنت سمعته منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالمدينة: «منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» : أي لأنّ قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم في قصة الصحيفة، وفيه أنه سيأتي في حجة الوداع أنهم تحالفوا بالمحصب.
ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم، قال يوم النحر وهو بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» يعني بالمحصب. وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما. قال: يا رسول الله أين تنزل غدا؟ أتنزل في دارك؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من دار؟» وتقدم ما يغني عن إعادته هنا، فكان صلى الله عليه وسلم يأتي المسجد من الحجون لكل صلاة، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الاثنين.
فقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، ووضع الحجر يوم الاثنين، وخرج من مكة: أي مهاجرا يوم الاثنين، أي ودخل المدينة يوم الاثنين، ونزلت عليه سورة المائدة يوم الاثنين.
ثم سار صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه يحادثه ويقرأ سورة الفتح حتى جاء البيت وطاف به سبعا على راحلته، أي ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه آخذ بزمامها ليستلم الحجر بمحجن في يده.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم قد شد إبليس أقدامها بالرصاص، فجاء صلى الله عليه وسلم ومعه قضيب، فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه» وفي لفظ «لقفاه» وفي لفظ فما أشار لصنم من ناحية وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع على وجهه من غير أن يمسه بما في يده، يقول: {جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] حتى مر عليها كلها» .
وفي رواية: «فأقبل صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس أخذ بسيته» والسية: ما انعطف من طرف القوس «فأتى صلى الله عليه وسلم في طوافه على صنم إلى جنب البيت: أي من جهة بابه يعبدونه وهو هبل وكان أعظم الأصنام فجعل يطعن بها في عينيه، ويقول: {جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] أي فأمر به صلى الله عليه وسلم فكسر، فقال الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه لأبي سفيان: قد كسر هبل، أما إنك قد كنت في يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم، فقال أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد صلى الله عليه وسلم غيره لكان غير ما كان، أي وانتهى صلى الله عليه وسلم إلى المقام وهو يؤمئذ لاصق بالكعبة» .
قال: وعن علي كرم الله وجهه، قال: انطلق بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا حتى أتى الكعبة، فقال: «اجلس»، فجلست إلى جنب الكعبة، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكبي، ثم قال: «انهض» فنهضت، فلما رأى ضعفي تحته، قال اجلس. فجلست، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا علي اصعد على منكبي، ففعلت» أي وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه «اصعد على منكبي واهدم الصنم»، فقال، يا رسول الله، بل اصعد أنت فإني أكرمك أن أعلوك، فقال: «إنك لا تستطيع حمل ثقل النبوة فاصعد أنت»، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فصعد علي كرم الله وجهه على كاهله ثم نهض به قال علي: فلما نهض بي، فصعدت فوق ظهر الكعبة، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وخيل لي حين نهض بي أني لو شئت لنلت أفق السماء أي وفي رواية: قيل لعلي كرم الله وجهه: كيف كان حالك، وكيف وجدت نفسك حين كنت على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان من حالي أني لو شئت أن أتناول الثريا لفعلت، وعند صعوده كرم الله وجهه، قال له صلى الله عليه وسلم: «ألق صنمهم الأكبر» وكان من نحاس، أي وقيل من قوارير أي زجاج.
وفي رواية: لما ألقى الأصنام لم يبق إلا صنم خزاعة موتدا بأوتاد من الحديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عالجه» فعالجته وهو يقول: إيه إيه {جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه فقذفته فتكسر.
أقول: وهذا السياق يدل على أن الصنم غير هبل وأن هبل ليس أكبر أصنامهم، بل هذا أكبر منه ولم أقف على اسمه.
ومما يدل على أن الذي كسر هو هبل قول الزبير رضي الله تعالى عنه كما تقدم لأبي سفيان أن هبل الذي كنت تفتخر به يوم أحد قد كسر، قال: دعني ولا توبخني، لو كان مع إله محمد إله آخر لكان الأمر غير ذلك.
وفي الكشاف: ألقاها جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من قوارير صفر، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي ارم به»، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا أسحر من محمد .
وفي خصائص العشرة لصاحب الكشاف زيادة، وهي: ونزلت من فوق الكعبة وانطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نسعى، وخشينا أن يرانا أحد من قريش هذا كلامه، وهذا يدل على أن ذلك لم يكن يوم فتح مكة فليتأمل.
وفي الكشاف أيضا: كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، لكل قوم صنم بحيالهم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «كانت لقبائل العرب أصنام يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى ربه عز وجل، فقال: يا رب إلى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى الله تعالى إلى البيت: إني سأحدث لك نوبة جديدة، فلأملؤك خدودا سجدا يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالبيت» هذا كلامه.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، أي بعد أن أرسل بلالا رضي الله تعالى عنه إلى عثمان بن أبي طلحة يأتي بمفتاح الكعبة إلى آخر ما سيأتي، وبعد أن محيت منها الصور، أي فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله تعالى عنه وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، وكان عمر رضي الله تعالى عنه قد ترك صورة إبراهيم، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ألم آمرك أن لا تترك فيها صورة؟ قاتلهم الله حيث جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي، قال الواقدي رحمه الله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما أن يقدما إلى البيت، وقال لعمر: لا تدع صورة حتى تمحوها إلا صورة إبراهيم هذا كلامه، فليتأمل.
وفي رواية، عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، قال: «دخلت على صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمحوها» أي وتلك الصور هي صور الملائكة وصور إبراهيم وإسمعيل في أيديهما الأزلام يستقسمان بها، أي وإسحاق وبقية الأنبياء كما تقدم في بنيان قريش الكعبة وصورة مريم، فقال: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون، قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بالأزلام قط» أي ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون عمر رضي الله تعالى عنه ترك مع صورة إبراهيم إسمعيل ومريم وصور الملائكة، ووجد صورة حمامة من عيدان بفتح العين المهملة وكسرها بيده ثم طرحها، ودعا بزعفران فلطخه بتلك التماثيل: أي بموضعها، وصلى بها ركعتين بين اسطوانتين، وفي لفظ: بين العمودين اليمانيين، وفي لفظ: المقدمين، وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع انتهى.
أي وفي الترمذي: «دخل صلى الله عليه وسلم البيت وكبر في نواحيه ولم يصل» وفي رواية لمسلم: «دخل صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن أبي طلحة» زاد في رواية «والفضل بن العباس» قال الحافط ابن حجر: وفي رواية شاذة: «فأغلقوا عليهم الباب» وفي لفظ آخر «فأغلقا» أي عثمان وبلال فأجاف: «أي أغلق عليهم عثمان الباب» وجمع بأن عثمان هو المباشر لذلك، لأنه من وظيفته، وبلال رضي الله تعالى عنه كان مساعدا له في الغلق.
أي ولما دخلوا كان خالد بن الوليد يدب الناس وهو واقف على باب الكعبة.
قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وذهب عني أن أسأله كم صلى؟
وهذا يدل على أن قول بلال رضي الله تعالى عنه إنه صلى الله عليه وسلم صلى أتى بالصلاة المعهودة لا الدعاء كما ادعاه بعضهم.
وفي كلام السهيلي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى فيها ركعتين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أخبرني أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين» أي بين الباب والحجر الذي هو الملتزم، وقال: هذه القبلة، فبلال رضي الله تعالى عنه مثبت للصلاة في الكعبة، وأسامة رضي الله تعالى عنه ناف، والمثبت مقدم على النافي، على أنه جاء أن أسامة رضي الله تعالى عنه أخبر أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم في الكعبة.
وأجيب بأن أسامة حيث أثبت اعتمد قول بلال، وحيث نفى اعتمد ما عنده، أي وفي مجمع الزوائد للحافظ الهيتمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين، ثم قال: «هذه القبلة، ثم دخل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقام يدعو ولم يصلّ» فالنقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اختلف. وسبب الاختلاف تعدد دخوله صلى الله عليه وسلم، ففي المرة الأولى دخل وصلى، وفي المرة الثانية دخل ولم يصلّ، وهذا السياق يدل على أن ذلك كان يوم الفتح.
وفي كلام بعضهم: رواية ابن عباس ورواية بلال رضي الله تعالى صحيحتان، لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها يوم النحر فلم يصلّ، ودخلها من الغد فصلى، وذلك في حجة الوداع هذا كلامه فليتأمل. أي ثم إنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى مقام إبراهيم وكان لاصقا بالكعبة فصلى ركعتين، ثم أخره على ما تقدم ودعا صلى الله عليه وسلم بماء فشرب منه وتوضأ.
وفي لفظ: ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فاطلع فيها وقال: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب» أي يغلبهم الناس على وظيفتهم وهي النزع من زمزم «لنزعت منها دلوا» أي فإن الناس يقتدون به صلى الله عليه وسلم في ذلك مع أن النزع من وظيفته بني عبد المطلب، وانتزع له العباس رضي الله تعالى عنه دلوا فشرب منه وتوضأ، فابتدر المسلمون يصبون على وجوههم.
وفي لفظ لا تسقط قطرة إلا في يد إنسان إن كان قدر ما يشربها شربها وإلا مسح بها جلده، والمشركون يقولون: ما رأينا ولا سمعنا ملكا قط بلغ هذا.
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد أي والناس حوله خرج أبو بكر وجاء بأبيه رضي الله تعالى عنهما يقوده، وقد كان كف بصره، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه؟» وفي لفظ: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه تكرمة لأبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «أسلم تسلم»، فأسلم رضي الله تعالى عنه، وهنأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإسلام أبيه رضي الله تعالى عنهما، أي وعند ذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه، يعني أباه أبا قحافة، وذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك كذا في الشفاء، وكان رأس أبي قحافة ولحيته بيضاء كالثغامة، فقال: غيروهما، وجنبوهما السواد. أي وفي رواية:
«واجتنبوا السواد» وجاء: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى» وفي رواية: «اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» وجاء: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم» وعن أنس رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب بالحناء والكتم» قال ابن عبد البر رحمه الله: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يخضب، ولم يبلغ من الشيب ما يخضب له. وقد اختصب أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالحناء والكتم.
واختضب عمر رضي الله تعالى عنه بالحناء. وجاء: «يا معشر الأنصار حمروا أو صفروا وخالفوا أهل الكتاب» وكان عثمان رضي الله تعالى عنه يصفر. وعن أنس رضي الله تعالى عنه دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبيض الرأس واللحية، فقال «ألست مؤمنا؟» قال بلى، قال: «فاختضب» لكن قيل إنه حديث منكر. وجاء «من اختضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة» قيل إنه حديث منكر. وجاء «يكون آخر الزمان رجال من أمتي يغيرون بالسواد لا ينظر الله إليهم يوم القيامة» قيل هو غريب جدا.
قال بعضهم: ولعل من خضب بالسواد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كسعد بن أبي وقاص والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، أي وعقبة بن عامر المدفون بمصر قال بعضهم: ليس بمصر قبر صحابي متفق عليه إلا قبر عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، فإنه كان يخضب بالسواد وهو القائل في ذلك:
تسوّد أعلاها وتأبى أصولها *** ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
وكان واليا على مصر من جهة معاوية رضي الله تعالى عنه، فعزله بمسلمة بن مخلد وأمره بالغزو في البحر.
وكان عقبة رضي الله تعالى عنه يقول: ما أنصفنا معاوية، عزلنا وغرّبنا لم يبلغهم النهي أو فهموا أن النهي للكراهة.
وقد جاء: أول من جزع من الشيب إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين رآه فى عارضه، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا رب ما هذه الشوهة التى شوهت بخليلك؟» فأوحى الله إليه: هذا سربال الوقار، ونور الإسلام، وعزتي وجلالي ما ألبسته أحدا من خلقي يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي إلا استحيت منه يوم القيامة، أن أنصب له ميزانا، وأنشر له ديوانا أو أعذبه بالنار، فقال: «يا رب زدني، فأصبح رأسه مثل الثغامة البيضاء» وفي المشكاة قال صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بهذا السواد لا يجدون رائحة الجنة» رواه أبو داود والنسائي، أي وفي الكلام ابن الجوزي رحمه الله: أول من خضب بالسواد فرعون، ومن أهل مكة أي من العرب عبد المطلب بن هاشم. وعن عمر رضي الله تعالى عنه: «اخضبوا بالسواد، فإنه أنكى للعدوّ وأحب للنساء» فليتأمل.
وكان لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أخت صغيرة في عنقها طوق من فضة اقتلعه إنسان من عنقها، فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه بيد أخته وقال: أنشدتكم بالله وبالإسلام طوق أختي، فما أجابه أحد، ثم قال الثانية والثالثة، فما أجابه أحد، فقال رضي الله تعالى عنه: يا أختاه احتسبي طوقك، فو الله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل. قال بعضهم: ولم يعش لأبي قحافة رضي الله تعالى عنه ولد ذكر إلا أبو بكر، ولا يعرف له بنت إلا أم فروة التي أنكحها أبو بكر من الأشعث بن قيس، وكانت قبله تحت تميم الداري، وهي هذه المذكورة هنا.
وقيل كانت له بنت أخرى تسمى عريبة. وعليه فيحتمل أن تكون هي المذكورة هنا وتقدم إسلام أبي بكر رضي الله تعالى عنهما لما كان المسلمون في دار الأرقم، وأمه بنت عم أبيه. قال بعضهم: لم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالده وجميع أبنائه وبناته غير أبي بكر. وبنوه ثلاثة: عبد الله وهو أكبرهم، مات أول خلافة والده. وعبد الرحمن ومحمد رضي الله تعالى عنهم. ولد محمد في حجة الوداع وهو المقتول بمصر، وبناته ثلاثة أيضا: أسماء، وهي أكبرهن، وهي شقيقة عبد الله وعائشة، وهي شقيقة عبد الرحمن. وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم وعنهن.
مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهي ببطن أمها، وقد أنزل الله تعالى في حقه {رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] الآيات. قال بعضهم: لا يعرف في الصحابة أربعة أسلموا وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد أبو الذي بعده إلا في بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه: أبو قحافة وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن محمد، ويكنى بأبي عتيق.
أي وقد قيل: إن قيل: هل تعرفون أربعة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في نسق: أي من الذكور كلّ ابن الذي قبله؟ أجيب بأنهم هؤلاء الأربعة: أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن محمد، وبقولنا من الذكور لا يردّ ما أورد على ذلك أن هذا يصدق على أبي قحافة وابنه أبي بكر وبنته أسماء وابنها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم، نعم يرد على ذلك حارثة أبو زيد فإنه أسلم على ما ذكره الحافظ المنذري، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه وابنه زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد، وجاء أسامة بولد في حياته صلى الله عليه وسلم، أي ويحتاج إلى إثبات كونه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك المولود إلا أن يقال كان من شأنهم إذا ولد لأحدهم مولود جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحنكه ويسميه، خصوصا وهذا المولود ابن حب الحب، ولم أقف على اسم هذا المولود، فليراجع في أسماء الصحابة.
وحينئذ يقال لأجل عدم ورود من ذكر ليس لنا أربعة ذكور معروفة أسماؤهم، وبعد الوقوف على اسم ذلك المولود يقال لأجل عدم الورود: ليس لنا أربعة ليسوا من الموالي إلا أبو قحافة وابنه أبو بكر وابن أبي بكر عبد الرحمن وابن عبد الرحمن محمد أبو عتيق فليتأمل.
لا يقال: هذا موجود في غير بيت الصديق، فقد ذكروا في الصحابة أربعة كذلك: أي ذكور، كل واحد أبو الذي بعده، عرفت أسماؤهم وليس فيهم مولى، وهم إياس بن سلمة بن عمرو بن لال.
لأنا نقول: المراد المتفق على صحبتهم، وهؤلاء لم يقع الاتفاق على صحبتهم.
ومن الفوائد المستحسنة أنه ليس في الصحابة، قال بعضهم: بل ولا في التابعين من اسمه عبد الرحيم، وثلاثة ذكور أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم على نسق، وهم السائب والد إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، وأبوه عبيد، وجده عبد يزيد.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه، والأنصار تحته. قال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، فنزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم بما ذكر القوم، فلما قضي الوحي رفع صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: «يا معشر الأنصار قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته»، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: «فما اسمي إذن، أي إن فعلت ذلك كيف اسمي؟ وأوصف بأني عبد الله ورسوله، كلا لا أفعل ذلك إني عبد الله ورسوله»، أي ومن كان هذا وصفه لا يفعل ذلك، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا إليه صلى الله عليه وسلم يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضنّ: أي البخل بالله وبرسوله: أي لا نسمح أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير بلدتنا، يعنون المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم».
وفي رواية أن الأنصار رضي الله تعالى عنهم قالوا فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله أرضه وبلده يقيم بهما، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من دعائه قال: «ماذا قلتم؟» قالوا لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم» .
أي وتقدم له صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة نظير ذلك، وهو أن الأنصار قالوا: يا رسول الله هل عسيت إن نحن نصرناك وأظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم والهدم».
وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن أبي سرح، لأنه كان أسلم قبل الفتح، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما، وإذا أملى عليه حكيما كتب غفورا رحيما، وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال: إن محمدا لا يعلم ما يقول، فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتدّ وهرب إلى مكة. وقيل إنه لما كتب: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون:14] تعجب من تفصيل خلق الإنسان فنطق بقوله: {فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] قبل إملائه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب ذلك»، هكذا أنزلت، فقال عبد الله: إن محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ، فارتد ولحق بمكة، فقال لقريش: إني كنت أصرف محمدا كيف شئت كان يملي عليّ عزيز حكيم. فأقول أو عليم حكيم، فيقول نعم كل صواب، وكل ما أقوله يقول اكتب، هكذا نزلت، فلما كان يوم الفتح وعلم بإهدار النبي صلى الله عليه وسلم دمه لجأ إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة، فقال له: يا أخي استأمن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب عنقي، فغيبه عثمان رضي الله عنه حتى هدأ الناس واطمأنوا، فاستأمن له، ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار عثمان رضي الله عنه يقول: يا رسول الله أمنته والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ثم قال: نعم، فبسط يده فبايعه، فلما خرج عثمان وعبد الله قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «أعرضت عنه مرارا، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه»، وقال صلى الله عليه وسلم لعباد بن بشر وكان نذر إن رأى عبد الله قتله، أي وقد أخذ بقائم السيف ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن يقتله، فقال له صلى الله عليه وسلم: «انتظرتك أن تفي بنذرك» ، قال: يا رسول الله خفتك، أفلا أومضت إليّ، فقال «إنه ليس لنبي أن يومض» . وفي رواية: «الإيماء خيانة ليس لنبي أن يومي» . وفي رواية: «لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» أي وهذا يدل على أن خائنة الأعين الإيماء بالعيون: أي أن يومي بطرفه خلاف ما يظهره بكلامه وهو اللمز هذا.
وقيل إنه أسلم وبايع والنبي صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران، وصار يستحي من مقابلته صلى الله عليه وسلم فقال لعثمان: أما بايعته وأمنته؟ قال بلى، ولكن يذكر جرمه القديم فيستحي منك، قال: «الإسلام يجبّ ما قبله» وأخبره عثمان رضي الله عنه بذلك، ومع ذلك فصار إذا جاء جماعة للنبي صلى الله عليه وسلم يجيء معهم ولا يجيء إليه منفردا.
وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل لأنه كان ممن أسلم: أي قدم المدينة قبل فتح مكة وأسلم، وكان اسمه عبد العزى، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ الصدقة، وأرسل معه رجلا من الأنصار يخدمه. وفي لفظ: كان معه مولى يخدمه، وكان مسلما فنزل منزلا وأمره أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما ونام ثم استيقظ فلم يجده صنع له شيئا وهو نائم فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان شاعرا يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره، وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يصنعه.
وقد قيل إنه ركب فرسه لابسا للحديد، وأخذ بيده قناة وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة، فلما رأى خيل الله دخله الرعب، فانطلق إلى الكعبة فنزل عن فرسه وألقى سلاحه ودخل تحت أستارها فأخذ رجل سلاحه، وركب فرسه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون، وأخبره خبره، فأمر بقتله.
وقيل لما طاف صلى الله عليه وسلم بالكعبة قيل هذا ابن خطل معلقا بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه فإن الكعبة لا تعيذ عاصيا، ولا تمنع من إقامة حد واجب» أي فقتله سعد بن حريث وأبو برزة.
وقيل قتلة الزبير رضي الله عنه، وقيل سعد بن ذؤيب، وقيل سعد بن زيد. قال في النور: والظاهر اشتراكهم فيه جميعا جمعا بين الأقوال.
وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل قينتيه، فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى فأمنها وأسلمت.
والحويرث بن نقيذ، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ويعظم القول في أذيته، وينشد الهجاء، وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه حمل فاطمة وأم كلثوم بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة فنخس الحويرث البعير الحامل لهما فرمى به الأرض، قتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في ذلك اليوم وقد خرج يريد أن يهرب.
ومقيس بن ضبابة إنما أمر بقتله، لأنه كان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما طالبا لديه أخيه هشام بن ضبابة رضي الله عنه، قتله رجل من الأنصار في غزوة ذي قرد خطأ يظنه من العدو، ودفع له النبي صلى الله عليه وسلم دية أخيه، ثم إنه عدا على الأنصاري قاتل أخيه فقتله بعد أن أخذ دية أخيه ثم لحق بمكة مرتدا كما تقدم، قتله ابن عمه ثميلة بن عبد الله الليثي، أي بعد أن أخبر ثميلة بأن مقيسا مع جماعة من كبار قريش يشربون الخمر، فذهب إليه فقتله، وذلك بردم بني جمح، وقيل قتل وهو معلق بأستار الكعبة.
وأما هبار بن الأسود رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفهاء من قريش حين بعث بها زوجها أبو العاص إلى المدينة، فأهوى إليها هبار ونخس بعيرها.
وفي رواية: ضربها بالرمح فسقطت من على الجمل على صخرة، أي وكانت حاملا فألقت ما في بطنها وأهراقت الدماء، ولم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت كما تقدم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن لقيتم هبارا فأحرقوه» ، ثم قال: «إنما يعذب بالنار رب النار» . إن ظفرتم به فاقطعوا يده ورجله ثم اقتلوه فلم يوجد يوم الفتح ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. ويذكر أنه لما أسلم وقدم المدينة مهاجرا جعلوا يسبونه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سب من سبك فانتهوا عنه» وهذا السياق يدل على إنه أسلم قبل أن يذهب إلى المدينة.
وفي لفظ: ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء هبار رافعا صوته وقال: «يا محمدا أنا جئت مقرا بالإسلام وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» واعتذر إليه أي قال له صلى الله عليه وسلم بعد أن وقف عليه وقال: السلام عليك يا نبي الله لقد هربت منك في البلاد فأدرت اللحوق بالأعجام، ثم ذكرت عائدتك وفضلك في صفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان مني فأني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا هبار عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله» .
وقوله مهاجرا، فيه أنه لا هجرة بعد فتح مكة، إلا أن يقال هي مجاز عن مجرد الانتقال عن محل إلى آخر أخذا مما يأتي إن شاء الله في عكرمة.
وأما عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتله لأنه كان أشد الناس هو وأبوه أذية للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس على المسلمين، ولما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه فرّ إلى اليمن فاتبعته امرأته بنت عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد أن أسلمت فوجدته في ساحل البحر يريد أن يركب السفينة، وقيل وجدته في السفينة فردته، أي بعد أن قالت له: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فقد استأمنت لك، فجاء معها فأسلم وحسن إسلامه أي بعد أن قال: يا محمد هذه يعني زوجتي أخبرتني أنك أمنتني، قال: صدقت إنك آمن، فقال عكرمة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وطأطأ رأسه من الحياء، فقال له صلى الله عليه وسلم: «يا عكرمة ما تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتكه» قال: استغفر لي كل عداوة عاديتكها، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها أو منطق تكلم به»، أي ولما قدم عليه صلى الله عليه وسلم وثب صلى الله عليه وسلم إليه قائما فرحا به، أي ورمى صلى الله عليه وسلم رداءه وقال: «مرحبا بمن جاء مؤمنا مهاجرا»، وكان بعد ذلك من فضلاء الصحابة.
وفي «بهحة المجالس في أنس الجالس» لابن عبد البر رحمه الله: أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل الجنة، ورأى فيها عذقا فأعجبه وقال: لمن هذا؟ فقيل لأبي جهل فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وقال: «لا يدخلها إلا نفس مؤمنة»، فلما جاءه عكرمة بن جهل مسلما فرح به، وأول ذلك العذق لعكرمة. والعكرمة: الأنثى من الحمير واستدل بذلك على تأخر الرؤيا، وأنها تكون لعير من ترى له. قال: وصار عكرمة قبل إسلامه يطلب امرأته أم حكيم يجامعها فتأبى وتقول: أنت كافر وأنا مسلمة، والإسلام حائل بيني وبينك فقال: إن أمرا منعك عني لأمر كبير، أي ولما قتل عكرمة رضي الله عنه في اليرموك في قتال الروم وانقضت عدتها تزوجها خالد بن سعيد، وأراد أن يدخل بها، فجعلت تقول له: لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع يعني الروم، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أن أصاب في جموعهم، قالت: فدونك، فدخل بها في خيمته، فما أصبح الصبح إلا والروم قد اصطفت، فخرج خالد رضي الله عنه، فقاتل حتى قتل، فشدت أم حكيم عليها ثيابها، وأخذت عمود الخيمة التي دخل بها خالد فيها، فقتلت بها سبعة من الروم، وقال صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم عليه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه: «يأتيكم عكرمة مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سبّ الميت يؤذي الحي ولا يلحق الميت». أي وفي رواية: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» وفي أخرى: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» وفي أخرى: «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم» .
وجاء أنه شكا إليه صلى الله عليه وسلم قولهم عكرمة بن أبي جهل، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» وقد كان قبل إسلامه بارز رجلا من المسلمين فقتله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الأنصار: ما أضحكك يا رسول الله وقد فجعنا بصاحبنا؟ فقال: أضحكني أنهما في درجة واحدة في الجنة، ومن ثم قتل عكرمة شهيدا في قتال الروم في وقعة اليرموك كما مر.
وسارة رضي الله عنها، فإنها أسلمت، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتلها، لأنها كانت مغنية بمكة، وكانت تغني بهجائه صلى الله عليه وسلم، وهي التي وجد معها كتاب حاطب، وقد استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها وأسلمت كما تقدم.
والحارث بن هشام وزهير بن أمية، استجارا بأم هانىء بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه شقيقته ولم تكن أسلمت إذ ذاك فأراد عليّ قتلهما.
فعنها رضي الله عنها أنها قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليّ رجلان من أحمائي: أي من أقارب زوجها هبيرة بن أبي وهب مستجيران بي فأجرتهما. وذكر الأزرقي بدل زهير بن أمية عبد الله بن أبي ربيعة، فدخل عليّ أخي علي بن أبي طالب فقال: والله لأقتلنهما، أي وقال: تجيري المشركين، فحلت بينه وبينهما. فخرج فأغلقت عليهما بيتي ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: «مرحبا بأم هانىء»، وفي الرواية الأولى: فلما اغتسل أخذ ثوبه وتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم أقبل عليّ، فقال: «مرحبا وأهلا بأم هانىء، ما جاء بك؟» فأخبرته الحديث، فقال: «أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت فلا نقتلهما» وفي البخاري أيضا «أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل في بيتها ثم صلى الضحى ثمان ركعات» أي ولما ذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنهما قال:
إني كنت أمر على هذه الآية {يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ} [ص: 18] فأقول أيّ صلاة صلاة الإشراق؟ فهذه صلاة الإشراق. وفي لفظ: ما عرفت صلاة الإشراق إلا الساعة، وهذا يدل لما أفتى به والد شيخنا الرملي رحمهما الله تعالى أن صلاة الضحى صلاة الإشراق، خلافا لما في العباب من أنها غيرها. ويحتاج للجمع بين هذه الرواية والتي قبلها على ثبوت صحتهما، وبهذه الواقعة قال المحاملي من أئمتنا في كتابه اللباب الذي هو أصل التنقيح الذي هو أصل التحرير: ومن دخل مكة وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعله عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة. وبه ألغز فقيل: شخص يستحب له الاغتسال لصلاة الضحى في مكان خاص.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها: أي أصليها.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانىء، وهذا ينازع فيه ما يأتي أن صلاة الضحى مما اختص بوجوبها صلى الله عليه وسلم.
وأسلمت أم هانىء ذلك اليوم الذي هو يوم الفتح. أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «هل عندك من طعام نأكله؟» قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة وأنا أستحي أن أقدمها إليك، فقال: «هلمي بهن»، فكسرهن في ماء، وجاءت بملح فقال: «هل من أدم»، فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال: «هلميه»، فصبه على الكسر وأكل منه، ثم حمد الله، ثم قال: «نعم الأدم الخل. يا أم هانىء لا يقفر بيت فيه خل» .
أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل أهله الإدام فقالوا: ما عندنا إلا الخل فدعا به، فجعل يأكل به ويقول: «نعم الأدم الخل» وفي الحديث عن جابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: «إن الله يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران له حتى يفرغ» وجاء «نعم الأدم الخل، اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يقفر بيت فيه خل» .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: أخذني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ذات يوم إلى بعض حجر نسائه فدخل، ثم أذن لي فدخلت، فقال: «هل من غداء؟» فقالوا نعم، فأتي بثلاثة أقرصة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصا فوضعه بين يديه، وأخذ قرصا فوضعه بين يديّ، ثم أخذ الثالث فكسره، فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «هل من أدم؟» فقالوا: لا إلا شيء من خل، قال: «هاتوه، فنعم الأدم الخل» وفي رواية: «فإن الخل نعم الإدام» قال جابر رضي الله تعالى عنه: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر.
وصفوان بن أمية استأمن له عمير بن وهب، أي قال له: يا نبي الله إن صفوان سيد قومي قد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمنه، فإنك أمنت الأحمر والأسود، فقال صلى الله عليه وسلم: أدرك ابن عمك فهو آمن، فقال: أعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطى صلى الله عليه وسلم لعمير عمامته التي دخل بها مكة. أي وفي لفظ: أعطاه برده، أي بعد أن طلب منه العود، فقال: لا أعود معك إلا أن تأتيني بعلامة أعرفها، فقال: امكث مكانك حتى آتيك به. فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده: أي بعد أن قال له: اعزب عني لا تكلمني، فقال: أي صفوان، فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، وابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك، وأكرم، فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، قال: صدق فقال: يا رسول الله أمهلني بالخيار شهرين، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنت بالخيار أربعة أشهر»، أي ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ولما فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمها: أي بالجعرانة رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمق شعبا ملآنا نعما وشاء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعجبك هذا؟» قال: نعم، قال «هو لك وما فيه»، فقبض صفوان ما في الشعب، وقال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نبي، فأسلم كما سيأتي.
وهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فإنها أسلمت بعد، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتلها لأنها مثلت بعمه حمزة رضي الله تعالى عنه يوم أحد ولاكت قلبه كما تقدم.
وكعب بن زهير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان ممن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووحشي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه قتل عمه حمزة رضي الله تعالى عنه يوم أحد، وكانت الصحابة أحرص شيء على قتله، ففر إلى الطائف، وقد قدمنا إسلامه استطرادا.
قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي يوم الفتح على الصفا يبايع الناس فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء يبايعهم على الإسلام، أي على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فدخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا.
أي وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل فأخذته الرعدة فقال له صلى الله عليه وسلم: «هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .
أي وكان من جملة من بايعه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما. فعن معاوية رضي الله تعالى عنه لما كان عام الحديبية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي، فقالت: إياك أن تخالف إياك فيقطع عنك القوت، فأسلمت وأخفيت إسلامي، فقال لي يوما أبو سفيان وكأنه شعر بإسلامي: أخوك خير منك، هو على ديني، فلما كان عام الفتح أظهرت إسلامي، ولقيته صلى الله عليه وسلم فرحت بي وكتبت له: أي بعد أن استشار فيه جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال، استكتبه فإنه أمين، وأردفه النبي صلى الله عليه وسلم يوما خلفه، فقال: «ما يليني منك؟» قلت بطني، قال: «اللهم املأه حلما وعلما».
وعن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: «اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب» زاد في رواية: «ومكن له في البلاد» .
وعن بعض الصحابة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمعاوية يقول: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به ولا تعذبه».
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما لمعاوية: «يا معاوية أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تليها» ويذكر أنه كان عنده قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وإزاره ورداؤه وشيء من شعره، فقال عند موته: كفنوني في القميص، وأدرجوني في الرداء، وأزروني بالإزار، واحشوا منخري وشدقي من الشعر، وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين.
وقد بشر بمعاوية رضي الله تعالى عنه بعض كهان اليمن. وسبب ذلك أن أمه هند كانت قبل أبيه أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما من الضيفان، فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة، ثم خرج الفاكه لبعض حاجته، وأقبل رجل كان يغشاه فولج البيت، فلما رأى المرأة التي هي هند ولى هاربا، وأبصره الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند فضربها برجله. وقال لها: من هذا الذي كان عندك؟ قالت: ما رأيت رجلا ولا انتبهت حتى أيقظتني، فقال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها عتبة: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني نبأك، فإن كان الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فنقطع عنك المقالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فحلفت له أنه لكاذب عليها، فقال عتبة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا معهم بهند ونسوة معها، فلما شارفوا البلاد وقالوا: غدا نرد على الكاهن الفلاني، تنكرت حالة هند وتغير وجهها، فقال لها أبوها: إني أرى ما بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك، كان هذا قبل أن يشهد الناس مسيرنا، قالت: لا والله يا أبتاه ما ذاك لمكروه عندي، ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطىء ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون عليّ سبة في العرب، قال: إني سوف أختبره من قبل أن ينظر في أمرك، فصفر بفرس حتى أدلى، ثم أخذ حبة من حنطة فأدخلها في إحليله وأوكأ عليها بسير، فلما وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم، فلما تغدّوا قال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر وإني قد خبأت لك خباء أختبرك به، فانظر ما هو؟ قال: سمرة في كمرة، قال: أريد أبين من هذا قال: حبة برّ في إحليل مهر، قال: صدقت انظر في أمر هذه النسوة، فجعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها، ويقول انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها. وقال: انهضي غير وسخاء ولا زانية، ولتلدنّ ملكا يقال له معاوية فوثب إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنثرت يدها من يده وقالت: إليك عني، فو الله لأحرصن على أن يكون من غيرك فتزوجها أبو سفيان، فجاءت منه بمعاوية رضي الله تعالى عنهم، وقد قال له صلى الله عليه وسلم: «يا معاوية إذا ملكت فأحسن» وفي رواية: «إذا ملكت من أمر أمتي شيئا فاتق الله واعدل» .
ويؤثر عنه رضي الله تعالى عنه أنه لما حضرته الوفاة قال: اللهم ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي. اللهم أقل عثرتي، واغفر زلتي، وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك ولم يثق بأحد سواك، ثم بكى رضي الله تعالى عنه حتى علا نحيبه.
كتب إلى عائشة رضي الله تعالى عنها: اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري، فكتبت إليه: من عائشة إلى معاوية، سلام عليك أما بعد، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس والسلام» وكتبت إليه رضي الله تعالى عنها مرة أخرى: أما بعد فاتق الله، فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس، وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا، والسلام.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، متنقبة متنكرة خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهن: «بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن أي وذلك إسقاط الأجنة». زاد في لفظ: ولا تلحقن بأزواجكن غير أولادهم: أي ولا تقعدن مع الرجال في خلاء: أي لا تجتمع امرأة مع رجل في خلوة، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: البهتان أن تلحق بزوجها ولدا ليس منه أي ولا يغني عنه الزنا، كما أن ذلك لا يغني عن الزنا، وقد تحبل ولا يلحقه بأحد، ولا تعصين في معروف.
وجاء أن بعض النسوة قالت: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال لا تصحن، أي وفي لفظ: لا تنحن، ولا تخمشن وجها، ولا تنشرن شعرا. وفي لفظ: ولا تحلقن شعرا، ولا تحرقن قرنا، ولا تشققن جيبا ولا تدعين بالويل.
وجاء: «هذه النوائح تجعلن يوم القيامة صفين: صفا عن اليمين، وصفا عن اليسار، ينبحن كما ينبح الكلب» وجاء: «تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء، عليها جلباب من لعنة ودرع من جرب، واضعة يدها على رأسها تقول:
ويلاه» وجاء «النائحة إذا لم تتب تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» . وجاء: «لا تقبل الملائكة على نائحة» . وجاء: «ليس للنساء في اتباع الجنائز من أجر» .
وجاء: «أن هندا قالت له صلى الله عليه وسلم: إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال» أي لأن الرجال كان صلى الله عليه وسلم يبايعهم على الإسلام وعلى الجهاد فقط «وأنها قالت لما قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تسرقن»، والله إني كنت أصيب من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟ فقال أبو سفيان وكان حاضرا: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حلّ عفا الله عنك، أي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة؟» قالت نعم، فاعف عما سلف، عفا الله عنك يا نبي الله، وأنها قالت لما قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تزنين»، أو تزني الحرة يا رسول الله؟ ولما قال: «ولا تقتلن أولادكن»، قالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كباراوفي لفظ: «هل تركت لنا ولدا إلا قتلته يوم بدر» وفي لفظ: «أنت قتلت آباءهم يوم بدر وتوصينا بأولادهم» وفي لفظ: «ربيناهم صغارا، وقتلتهم كبارا فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى، وتبسم صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ: «فضحك صلى الله عليه وسلم، ولما قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تأتين ببهتان تفترينه؟» قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح زاد في لفظ: «وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولما قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تعصينني في معروف»، قالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف» وفي لفظ: «أنها أتته منتقبة بالأبطح وقالت:
إني امرأة مؤمنة، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مرحبا بك» .
قال بعضهم: وفي إسلام أبي سفيان قبل هند وإسلامها قبل انقضاء عدتها، أي لأنها أسلمت بعده بليلة واحدة، وإقرارها على نكاحهما حجة للشافعي رضي الله تعالى عنه. ثم أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم بهدية وهي جديان مشويان مع مولاة لها فاستأذنت، فأذن لها، فدخلت عليه وهو صلى الله عليه وسلم بين نسائه أم سلمة وميمونة ونساء من بني عبد المطلب وقالت له: إن مولاتي تعتذر إليك وتقول: إن غنمها اليوم لقليل الوالدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لكم في غنمكم وأكثر ووالدتها فكثر الله ذلك»، تقول تلك المولاة: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتها ما لم نكن نرى قبل. وجاءت إليه وقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل ممسك فهل عليّ من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ فقال لها: «لا عليك أن تطعميهم بالمعروف» وفي لفظ: «إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أي وجاء: «أن بعض النساء قالت: هلم نبايعك يا رسول الله، قال: «لا أصافح النساء، وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» وفي لفظ: «قولي لألف امرأة كقولي لامرأة واحدة» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: لم يصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة قط، وإنما كان يبايعهن بالكلام.
وعن الشعبي «بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وعلى يده ثوب، وقيل إنه غمس يده في إناء وأمرهن فغمسن أيديهن فيه، فكانت هذه البيعة» قال ابن الجوزي: والقول الأول أثبت.
وقد ذكر المبايعات له صلى الله عليه وسلم لا في خصوص يوم الفتح على حروف المعجم في كتاب التلقيح، وتقدم عن أم عطية رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام، فقال «أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن يبايعكن عَلى {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة:12] ، وقرأ إلى قوله تعالى: {فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] فقلن نعم، فمدّ يده من خارج ومددن أيديهن من داخل البيت، ثم قال: «اللهم اشهد، ولعل ذلك كان بحائل والفتنة مأمونة».
وقال صلى الله عليه وسلم لعمه العباس «أين ابنا أخيك؟» يعني أبا لهب عتبة ومعتب؟ لا أراهما، قال العباس رضي الله تعالى عنه: قد تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش، قال ائتني بهما، فركبت إليهما فأتيت بهما، فدعاهما للإسلام فأسلما، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهما ودعا لهما، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بأيديهما وانطلق بهما حتى أتى الملتزم فدعا ساعة، ثم انصرف والسرور يرى في وجهه صلى الله عليه وسلم، فقلت له: سرك الله يا رسول الله، إني أرى السرور في وجهك. قال: «إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي وشهدا معه حنينا والطائف. ولم يخرجا من مكة، ولم يأتيا المدينة، وقلعت عين معتب في حنين».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «هذا ما وعدني ربي، ثم قرأ {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ} [النّصر:1]. وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية رضي الله تعالى عنه بقوله:
واستجابت له بنصر وفتح *** بعد ذلك الخضراء والغبراء
وتوالت للمصطفى الآية الكب *** رى عليهم والغارة الشعواء
فإذا ما تلا كتابا من الله *** تلته كتيبة خضراء
أي أجاب دعوته صلى الله عليه وسلم الرفيع والوضيع، وعن الأول كنى بالخضراء التي هي السماء. فقد جاء حديث سنده واه «السماء الدنيا زمردة خضراء، وذكر أنها أشد بياضا من اللبن وخضرتها من صخرة خضراء تحت الأرض» وكنى عن الثاني بالغبراء التي هي الأرض، وإنما كانت غبراء لأن جميع طبقاتها من طين، مع حصول نصر له صلى الله عليه وسلم على أعاديه، وفتح لبلادهم بعد ذلك الضعف الذي كان به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، وقلتهم وكثرة عدوهم مع التصميم على أذيتهم. وتتابعت العلامات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وتوالت له عليهم الإغارة المحيطة بهم من سائر الجوانب.
وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه دعا عثمان بن طلحة رضي الله تعالى عنه، فإنه كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل الفتح وأسلموا كما تقدم، واستمر في المدينة إلى أن جاء معه صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة، وبه يردّ ما روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليّا كرم الله وجهه إلى عثمان بن طلحة لأخذ المفتاح فأبى أن يدفعه له وقال: لو علمت إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه منه، ولوى عليّ كرم الله وجهه يده وأخذ المفتاح منه قهرا وفتح الباب وأنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا} [النّساء: 58] أمره صلى الله عليه وسلم أن يدفع له المفتاح متلطفا به، فجاءه علي كرم الله وجهه بالمفتاح متلطفا به، فقال له: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال علي كرّم الله وجهه: لأن الله أمرنا برده عليك فأسلم.
ثم لما دعا صلى الله عليه وسلم عثمان وجاء إليه أخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها، ثم وقف صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة، فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده».
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم خطبة بين فيها جملة من الأحكام. منها «أن لا يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث ليال إلا مع ذي محرم. ولا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح، ولا يصام يوم الأضحى ولا يوم الفطر، ثم قال: يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، والناس من آدم وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ} [الحجرات:13] الآية. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون؟» وفي لفظ: «ماذا تقولون؟ ماذا تظنون أني فاعل فيكم؟» قالوا: خير أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت أي وفي لفظ: لما خرج صلى الله عليه وسلم من الكعبة يوم الفتح وضع يده على عضادتي الباب ثم قال: «ماذا تقولون؟ ماذا تظنون أني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرا، فقال سهيل بن عمرو: نقول خيرا ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، فقال: «أقول كما قال أخي يوسف {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ} [يوسف: 92] وفي لفظ «فإني أقول كما قال أخي يوسف {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ}[يوسف:92] اذهبوا فأنتم الطلقاء» أي الذين أطلقوا فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق في الأصل، الأسير إذا أطلق؟ فخرجوا فكأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام.
قال: وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أرسل بلالا رضي الله تعالى عنه إلى عثمان بن طلحة يأتي بمفتاح الكعبة، فجاء إلى عثمان فأخبره، فقال إنه عند أمي، فرجع بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن المفتاح عند أمه، فبعث إليها رسولا، فقالت: لا واللات والعزى لا أدفعه أبدا، فقال عثمان: يا رسول الله أرسلني أخلصه لك منها، فأرسله، فجاء إليها فطلبه منها، فقالت: لا واللات والعزى لا أوصله إليك أبدا، فقال: يا أمه ادفعيه إليّ فإنه قد جاء أمر غير ما كنا عليه، إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي ويأخذه منك غيري، فأدخلته حجرتها وقالت: أي رجل يدخل يده ههنا، أي وقالت له: أنشدك الله أن لا يكون ذهاب مأثرة قومك على يديك، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم ينتظر حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، فبينما هو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الدار، وعمر رضي الله عنه رافعا صوته وهو يقول: يا عثمان اخرج، فقالت: يا بني خذ المفتاح، فإن تأخذه أحب إليّ من أن تأخذه تيم وعدي: أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأخذه عثمان، فخرج يمشي حتى إذا كان قريبا من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عثر عثمان فسقط منه المفتاح، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المفتاح فحنى عليه وتناوله، أي وفي رواية:
فاستقبلته ببشر، واستقبلني ببشر فأخذه مني وفتح الكعبة. وفي رواية أنه قال له: هاك المفتاح بأمانة الله. وفي لفظ: لما أبت أمه أن تعطيه المفتاح، قال: والله لتعطينه أو لأخرجن هذا السيف من منكبي، فلما رأت ذلك أعطته إياه، فجاء به ففتح عثمان له الباب.
ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، وقد أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى بعض هذه القصة بقوله:
صرعت قومه حبائل بغي *** مدها المكر منهم والدهاء
فأتتهم خيل إلى الحرب تختا *** ل وللخيل في الوغى خيلاء قصدت منهم القنا فقوافي الطع *** ن منها ما شأنها الايطاء
وأثارت بأرض مكة نقعا *** ظن أن الغدو منها عشاء
أحجمت عنده الحجون وأكدى *** دون إعطائه القليل كداء
ودهت أوجها بها وبيوتا *** ملّ منها الإقواء والإكفاء
فدعوا أحلم البرية والعف *** وجواب الحليم والإغضاء
ناشدوه القربى التي من قريش *** قطعتها الترات والشحناء
فعفا عفو قادر لم ينغص *** هـ عليهم بما مضى إغراء
وإذا كان القطع والوصل *** لله تساوى التقريب والإقصاء
وسواء عليه فيما أتاه *** من سواه الملام والإطراء
ولو إن انتقامه لهوى النف *** س لدامت قطيعة وجفاء
قام لله في الأمور فأرضى *** الله عنه تباين ووفاء
فعله كله جميل وهل ين *** ضح إلا بما حواه الإناء
أي ألقت قومه الذين لم يؤمنوا به بين يديه حبائل بغيهم التي مدها المكر والدهاء حالة كون ذلك منهم، فبسبب مكرهم أتتهم من قبله خيل تتبختر بها راكبوها إلى الحرب والخيل عليها الشجعان كبر وترفع في الحرب، قصدت في أبدانهم الرماح، فبسبب قصدها بهم كانت الطعنات المشبهة بالقوافي في تتابعها حالة كون ذلك الطعن من تلك الرماح، ما عابها الإيطاء: أي لم يعدم وجوده فيها. والإيطاء في القافية: تكريرها متحدة اللفظ والمعنى وهو معيب على الشاعر، لأنه يدل على قصوره. والطعنات المتوالية في محل واحد تدل على قصر ساعد الشجاع. ورفعت تلك الخيل غبارا أظلم الجو حتى ظن أن وقت الغدو من تلك الغبرة وقت العشاء، وذلك بأرض مكة عند فتحها، أمسكت عند ذلك الغبار لكثرته الحجون، وهو كداء بالفتح والمد: أعلى مكة لكثرة ما أعطاه صلى الله عليه وسلم الناس، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم القليل من الناس كداء بالضم والمد: وهو أسفل مكة، وهذه لغة فيه قليلة، وعند ذلك قلّ غباره، وأهلكت تلك الخيول أوجها من الناس بمكة ممن أباح دمه ومن قاتل، وأهلكت بيوتا كان أهل مكة يرجعون إليها. ملّ من تلك البيوت: خلوّها عن أنس بها والرجوع إليها، وعند ذلك طلبوا منه العفو عما مضى منهم، وجواب الحليم لمن سأله العفو عنه العفو. وإرخاء الجفون من الحياء، وحلفوه بالقربى التي وصلت إليه من بطون قريش، وهم ولد النضر بن كنانة التي قطعتها المقاتلة والتباغض والتحاسد، فبسبب ذلك عفا صلى الله عليه وسلم عفو قادر، لم يكدر ذلك العفو عنهم إغراء سفهائهم به حالة كون ذلك الإغراء منهم فيما مضى، وإذا كان القطع والوصل لله تساوى عند فاعل ذلك التقريب للأقارب والبعداء والإبعاد للأقارب والبعداء، والذي تقريبه وإبعاده لله لا لغيره يستوي عنده سبه والمبالغة في مدحه إذا أتاه ذلك من غيره، ومن ثم لو كان انتقامه لهوى النفس الأمارة بالسوء لاستمرت قطيعه الرحم ودام إبعاده لها. كيف وقد قام لله في أموره كلها، فبسبب ذلك أرضى الله تباين منه صلى الله عليه وسلم لأعدائه ووفاء لأوليائه، فعله صلى الله عليه وسلم كله جميل. ولا بدع في ذلك، إذ ما يسيل مما في الإناء على ظاهره إلا ما كان في تلك الإناء ممن امتلأ قلبه خيرا كانت أفعاله كلها خيرا ومن امتلأ قلبه شرا كانت أفعاله كلها شرا.
ثم جلس صلى الله عليه وسلم في المسجد ومفتاح الكعبة في يده في كمه، فقام إليه علي كرم الله وجهه، فقال: يا رسول الله اجمع لنا. وفي لفظ: اجمع لي الحجابة مع السقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أعطيكم ما تبذلون فيه أموالكم للناس: أي وهو السقاية، لا ما تأخذون فيه من الناس أموالهم، وهي الحجابة لشرفكم وعلو مقامكم»
وفي رواية: أن العباس رضي الله عنه تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم أي منهم علي كرم الله وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة فدعى له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء» .
وقيل نزلت هذه الآية: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا} [النّساء: 58] في شأن عثمان بن طلحة رضي الله عنه، ودفع المفتاح له: أي لما أخذه عليّ كرم الله وجهه، وقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: «أكرهت وآذيت» ، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، فقد أنزل الله في شأنك: أي أنزل الله عليه ذلك في جوف الكعبة، وقرأ عليه الآية، ففعل عليّ كرم الله وجهه ذلك.
وسياق هذه الرواية يدل على أن عليا كرم الله وجهه أخذ المفتاح على أن لا يرده لعثمان، فلما نزلت الآية أمره صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح لعثمان.
والسقاية كما تقدم كانت أحواضا من أدم يوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، ويطرح فيها التمر والزبيب في بعض الأوقات.
وفي كلام الأزرقي: كان لزمزم حوضان: حوض بينها وبين الركن يشرب منه، وحوض من ورائه للوضوء، أي ولعل هذا كان بعد الفتح.
والسقاية قام بها العباس رضي الله عنه بعد موت أبيه عبد المطلب، وقام بها بعده ولده عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقد تكلم فيها محمد ابن الحنفية مع ابن عباس، فقال له ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها في الجاهلية والإسلام، قام بها العباس بعد موت أبيه عبد المطلب، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس يوم الفتح، واستمر المفتاح مع عثمان رضي الله عنه إلى أن أشرف على الموت ولم يعقب، دفعه إلى أخيه شيبة، ومن ثم عرفت ذريته بالشيبيين، أي وفي رواية: دفع صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان وإلى شيبة ابن عمه، وقال: «خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم» .
أي وكون شيبة ابن عم عثمان هو الموافق لقول الحافظ ابن حجر: الشيبيون نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة.
فأبو طلحة له ولدان عثمان وطلحة، أتى عثمان بشيبة، وأتى طلحة بعثمان.
وفي كلام ابن الجوزي ما يوافقه، وهو أن عثمان لما هاجر إلى المدينة وأسلم سنة ثمان لم يزل مقيما بالمدينة حتى خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة. أي وقد تقدم ثم رجع إلى المدينة، ولم يزل مقيما بها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى مكة واستمر مقيما بها حتى مات بها في أول خلافة معاوية رضي الله عنه، فلم يزل عثمان رضي الله عنه يلي فتح البيت إلى أن أشرف على الموت دفع المفتاح إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عمه، فبقيت الحجابة في ولد شيبة، وكان عثمان بن طلحة هذا خياطا وهي صناعة نبي الله إدريس عليه الصلاة والسلام.
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا عثمان بن طلحة، وقال له: «أرني المفتاح»، فأتاه به: فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده، فقال صلى الله عليه وسلم: «أرني المفتاح»، فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح»، فقال: هاك بأمانة الله ولعل هذا كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة، فيكون طلب العباس رضي الله عنه أن يكون المفتاح له تكرر قبل دخوله الكعبة وبعده. وفي رواية: أنه قال «ائتني بالمفتاح»، قال: فأتيته به، فأخذه ثم دفعه إليّ وقال: «خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» .
وفي لفظ غيره: «أن الله رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام، إني لم أدفعها إليكم ولكن الله دفعها إليكم لا ينزعها منكم إلا ظالم» وفي رواية: «لا يظلمكموها إلا كافر» ولا مانع أن يكون ذلك بعد أن دفعه علي كرم الله وجهه له بأمره صلى الله عليه وسلم، وكأنه صلى الله عليه وسلم أحب أن يؤدي الأمانة بيده الشريفة من غير واسطة. وقال له: «يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف»، فقال عثمان رضي الله عنه: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال: «ألم يكن الذي قلت لك؟» قال رضي الله عنه: فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم لي بمكة قبل الهجرة .
وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة مع الناس وكنا نفتحها في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فلما أقبل ليدخلها أغلقت عليه ونلت منه وحلم عليّ. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت»، فقلت: قد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: «بل عمرت وعزت يومئذ»، فوقعت كلمته صلى الله عليه وسلم مني موقعا وظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال صلى الله عليه وسلم. قال: فلما قال لي يوم الفتح ذلك، قلت: بلى أشهد أنك رسول الله.
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم دخل يومئذ الكعبة ومعه بلال، فأمره أن يؤذن: أي للظهر على ظهر الكعبة وأبو سفيان وعتاب بن أسيد. وفي لفظ: خالد بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد أي أو خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون يسمع هذا العبد فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لا تبعته. أي وفي رواية أنه قال ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، ولا مانع من وجود الأمرين منه، أي وتقدم في عمرة القضاء وقوع مثل ذلك من جماعة لما أذن بلال رضي الله عنه على ظهر الكعبة أيضا، أي وقال غير هؤلاء من كفار قريش لقد أكرم الله فلانا يعني أباه إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وفي لفظ: والله، الحدث العظيم أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بيته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «لقد علمت الذي قلتم»، ثم ذكر ذلك لهم، فقال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا، فقال أبو سفيان؟ أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا، فضحك رسول الله فقالوا نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد معنا فنقول أخبرك.
وجاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أبي سفيان وهو في المسجد، فلما نظر إليه أبو سفيان قال في نفسه ليت شعري بأيّ شيء غلبني؟ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حتى ضرب يده بين كتفيه، فقال: «بالله غلبتك يا أبا سفيان»: فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله، وصار بعض قريش يستهزئون ويحكون صوت بطلال غيظا، وكان من جملتهم أبو محذورة رضي الله عنه، وكان من أحسنهم صوتا، فلما رفع صوته بالأذامن مستهزئا سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته وصدره بيده الشريفة، قال: فامتلأ قلبي والله إيمانا ويقينا، فعلمت أنه رسول الله، فألقى عليه صلى الله عليه وسلم الأذان وعلمه إياه، وأمره أن يؤذن لأهل مكة، وكان سنة ست عشرة سنة وعقبة بعده يتوارثون الأذان بمكة، وتقدم أن أذان أبي محذورة وتعليمه صلى الله عليه وسلم الأذان كان مرجعه من حنين، وتقدم طلب تأمل الجمع بينهما.
وفي تاريخ الأزرقي: أن جويرية بنت أبي جهل قالت عند أذان بلال على ظهر الكعبة: والله لا نحب من قتل الأحبة، ولقد جاء لأبي الذي جاء لمحمد من النبوة فردها، ولم يرد خلاف قومه.
وعن الحارث بن هشام قال: «لما أجارتني أم هانىء، وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم جوارها فصار لا أحد يتعرض لي، وكنت أخشى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمر عليّ وأنا جالس، فلم يتعرض لي، وكنت أستحي أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أذكر برؤيته إياي في كل موطن مع المشركين، فلقيته وهو داخل المسجد، فلقيني بالبشر، فوقف حتى جئته فسلمت عليه وشهدت شهادة الحق، فقال: «الحمد لله الذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإسلام» .
وجاءه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح السائب بن عبد الله المخزومي، أي وقيل عبد الله بن السائب بن أبي السائب، وقيل السائب بن عويمر، وقيل قيس بن السائب بن عويمر.
قال في الاستيعاب: وهذا أصح ما قيل في ذلك إن شاء الله تعالى، وكان شريكا له صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فقال: فأخذ عثمان وغيره يثنون عليّ، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: «لا تعلموني به، كان صاحبي». وفي لفظ: لما أقبلت عليه قال: «مرحبا بأخي وشريكي». كان لا يداري، ولا يماري، قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تتقبل منك: أي لتوقف صحتها على الإسلام، وهي الأعمال المتوقفة على النية التي شرطها الإسلام وهي اليوم تتقبل منك، أي لوجود الإسلام.
وأرسل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه ولده عبد الله ليأخذ له أمانا منه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أبي تؤمنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم هو آمن بالله فليظهر»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «من لقي سهيل بن عمرو فلا يحد إليه النظر، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الإسلام» فخرج ابنه عبد الله إليه فأخبره بقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال سهيل: كان والله برا صغيرا برا كبيرا، فكان سهيل رضي الله تعالى عنه يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرّانة.
وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح حدّث نفسه بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح. قال: فلما دنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال «يا فضالة»، قال فضالة: نعم يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «استغفر الله»، ثم وضع يده الشريفة على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة رضي الله تعالى عنه يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إليّ منه.
قال: ولما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بعد الظهر مسندا ظهره الشريف إلى الكعبة.
وقيل كان على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس إن الله تعالى قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرة، ولم تحل لأحد كان قبلي، ولم تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة» أي من صبيحة يوم الفتح إلى العصر غضبا على أهلها «ألا قد رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحلها لكم» .
وقد جاء في صحيح مسلم: «لا يحل أن يحمل السلاح بمكة، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله، ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة» وهو ابن الأقرع الهذلي من بني بكر فإنه دخل مكة وهو على شركه فعرفته خزاعة فأحاطوا به، فطعنه منهم خراش بمشقص في بطنه حتى قتله، فلامه صلى الله عليه وسلم وقال «لو كنت قاتلا مسلما بكافر لقتلت خراشا» أي والمشقص ما طال من النصال وعرض. قال ابن هشام: وبلغني أنه أول قتيل وداه النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه تقدم في خيبر أنه ودى قتيلا. وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «لا نغزي مكة بعد اليوم إلى يوم القيامة» قال العلماء: أي على الكفر: أي لا يقاتلوا على أن يسلموا، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره» .
ولما أسلمت هند رضي الله تعالى عنها عمدت إلى صنم كان في بيتها وجعلت تضربه بالقدوم وتقول: كنا منك في غرور.
ثم بعث صلى الله عليه وسلم السرايا إلى كسر الأصنام التي حول مكة، أي لأنهم كانوا اتخذوا مع الكعبة أصناما جعلوا لها بيوتا يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانوا يهدون لها كما يهدون للكعبة، ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة، فكان في كل حي صنم، من ذلك كما تقدم: العزى، وسواع، ومناة، وسيأتي الكلام على ذلك في السرايا إن شاء الله تعالى.
أي وفي هذا العام الذي هو عام الفتح كانت غزوة أوطاس، وأوطاس: هي هوازن. وحلل صلى الله عليه وسلم المتعة ثم بعد ثلاثة أيام حرمها. ففي صحيح مسلم عن بعض الصحابة «لما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة خرجت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة غيطاء» وفي لفظ «مثل البكرة الغطنطية، فعرضنا عليها أنفسنا. فقلنا لها:
هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ فقالت: ما تدفعان؟ قلنا بردينا» وفي لفظ: «رداءينا، فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي وترى برد صاحبي أحسن من بردي، فإذا نظرت إليّ أعجبتها، وإذا نظرت إلى برد صاحبي أعجبها، فقالت: أنت وبردك تكفيني فكنت معها ثلاثا» .
والحاصل أن نكاح المتعة كان مباحا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم الفتح، ثم نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وكان فيه خلاف في الصدر الأول ثم ارتفع، وأجمعوا على تحريمه وعدم جوازه.
قال بعض الصحابة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول: «أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» أي لكن في مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي وعمر» . وفي رواية عنه: حتى نهى عنه عمر رضي الله تعالى عنه. وقد تقدم في غزاة خيبر عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة، وهو يدل على أن إباحتها عام الفتح كانت بعد تحريمها بخيبر ثم حرمت به، وهذا يعارض ما تقدم أن الصحيح أنها حرمت في حجة الوداع.
إلا أن يقال: يجوز أن تحريمها في حجة الوداع تأكيدا لتحريمها عام الفتح، فلا يلزم أن تكون أبيحت بعد تحريمها أكثر من مرة كما يدل عليه كلام إمامنا الشافعي، لكن يخالفه ما في مسلم عن بعض الصحابة «رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها» .
وقد يقال: مراد هذا القائل بعام أوطاس عام الفتح، لأن غزاة أوطاس كانت في عام الفتح كما تقدم، وما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من جوازها رجع عنه. فقد قال بعضهم: والله ما فارق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الدنيا حتى رجع إلى قول الصحابة في تحريم المتعة، ونقل عنه رضي الله تعالى عنه أنه قام خطيبا يوم عرفة فقال: أيها الناس إن المتعة حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير.
والحاصل أن المتعة من الأمور الثلاثة التي نسخت مرتين. الثاني لحوم الحمر الأهلية. الثالث القبلة كذا في «حياة الحيوان» .
قال: واستقرض صلى الله عليه وسلم من ثلاثة نفر من قريش: أخذ من صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه خمسين ألف درهم. ومن عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم. ومن حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فرقها صلى الله عليه وسلم في أصحابه من أهل الضعف ثم وفاها مما غنمه من هوازن وقال: «إنما جزاء السلف الحمد والأداء» اهـ.
أي «وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة أي بعد فتحها تسعة عشر، وقيل ثمانية عشر يوما» واعتمده البخاري «يقصر الصلاة في مدة إقامته» . وبهذا الثاني قال أئمتنا إن من أقام بمحل لحاجة يتوقعها كل وقت قصر ثمانية عشر يوما غير يومي الدخول والخروج، ولعل سبب إقامته المدة المذكورة أنه كان يترجى حصول المال الذي فرقه في أهل الضعف من أصحابه، فلما لم يتم له ذلك خرج من مكة إلى حنين لحرب هوازن.
وجاء إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، وقد أخذ بيد ابن وليدة زمعة ومعه عبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إليّ أنه ابنه: أي قال إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه مني فاقبضه إليك، فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله هذا أخي ابن وليدة أبي زمعة ولدته على فراشه: أي مع كونها فراشا له، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الولد فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص، فقال لعبد بن زمعة: هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراش أبيك زمعة «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقال لزوجته سودة بنت زمعة «احتجبي منه يا سودة لما رأى عليه من شبه عتبة»: أي فخشي أن يكون ابن خاله فأمرها بالاحتجاب ندبا واحتياطا، فلم يرها حتى لقي الله. وفي بعض الروايات «احتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ» .
وسرقت امرأة فأراد صلى الله عليه وسلم قطعها ففزع قومها إلى أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم يستشفعون به، فلما كلمه أسامة فيها تلون وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: «أتكلمني في حد من حدود الله تعالى؟» فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: «أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها» . وفي كلام بعضهم: كانت العرب في الجاهلية يقطعون يد السارق اليمنى.
وولى صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه وعمره إحدى وعشرون سنة أمر مكة، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس، وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة، وترك صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه بمكة معه معلما للناس السنن والفقه.
في الكشاف، وعنه صلى الله عليه وسلم: «أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال:
انطلق فقد استعملتك على أهل الله، أي وقال ذلك ثلاثا» فكان رضي الله عنه شديدا على المريب لينا على المؤمن، وقال: والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالا شديدا حتى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم» هذا.
وفي تاريخ الأزرقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت أسيدا في الجنة وأني أي كيف يدخل أسيد الجنة فعرض له عتاب بن أسيد، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا الذي رأيت، ادعوه لي، فدعى له. فاستعمله يومئذ على مكة، ثم قال: يا عتاب أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيرا يقولها ثلاثا» .
فإن قيل: كيف يقول صلى الله عليه وسلم عن أسيد إنه رآه في الجنة ثم يقول عن ولد أسيد إنه الذي رآه في الجنة، قلنا لعل عتابا كان شديد الشبه بأبيه أسيد، فظن صلى الله عليه وسلم عتابا أباه، فلما رآه عرف أنه عتاب لا أسيد.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: عتاب بن أسيد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لما خرج إلى حنين وعمره ثماني عشرة سنة. وفي كلام غيره ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم إنما استخلف عتاب بن أسيد وترك معه معاذ بن جبل بعد عوده من الطائف وعمرته من الجعرانة، إلا أن يقال: لا مخالفة، ومراده باستخلافه إبقاءه على ذلك، وينبغي أن يكون ما تقدم عن الكشاف من قول أهل مكة له صلى الله عليه وسلم: «لقد استخلفت على أهل الله عتاب بن أسيد» إلى آخره بعد إبقائه على استخلافه لما لا يخفى.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن أسيدا والد عتاب واليا على مكة مسلما فمات على الكفر، فكانت الرؤيا لولده، كما تقدم مثل ذلك في أبي جهل وولده عكرمة رضي الله تعالى عنه.
ولما ولاه صلى الله عليه وسلم على مكة جعل له في كل يوم درهما، فكان رضي الله تعالى عنه يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم في كل يوم.
ويروى أنه قام فخطب الناس، فقال: يا أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم: أي له درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما في كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وفرض له عمالته أربعين أوقية من فضة» ولعل الدرهم كل يوم يحرز القدر المذكور: أي أربعين أوقية في السنة فلا مخالفة.
وفي السنن الكبرى للبيهقي: وولد عتاب هذا عبد الرحمن الذي قطعت يده يوم الجمل واحتملها النسر وألقاها بمكة، وقيل بالمدينة. كان يقال له يعسوب قريش.