أي وتسمى غزوة الأعاجيب: أي لما وقع فيها من الأمور العجيبة، وغزوة محارب وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار …
عن ابن إسحاق رحمه الله: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الأول. وقال غيره: شهري ربيع وبعض جمادى. ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة، حين بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم جمعوا الجموع: أي من غطفان لمحاربته، فخرج صلى الله عليه وسلم في أربعمائة من أصحابه رضي الله عنهم، أي وقيل سبعمائة وقيل ثمانمائة.
أي واحتج البخاري رحمه الله على أن هذه الغزاة كانت بعد خيبر بما رواه عن أبي موسى رضي الله عنه مما يدل على أن أبا موسى شهد غزاة ذات الرقاع، وهو خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر بيننا بعير، فنقبت أقدامنا، نقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق: فسميت غزاة ذات الرقاع.
وإذا ثبت أن أبا موسى شهد غزاة ذات الرقاع، وثبت أنه لم يجىء إليه صلى الله عليه وسلم من الحبشة إلا بخيبر لزم أن تكون غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، إلا أن يدعي تعدد غزوة ذات الرقاع مرتين، وأنها كانت قبل خيبر وبعدها، والتي وجدت فيها صلاة الخوف هي الثانية. أي والسبب في تسميتها ذات الرقاع ما تقدم عن أبي موسى رضي الله عنه، وحيث كانت بعد خيبر يلزم أن تكون بعد الخندق، لقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، أي لأنها لو كانت شرعت لصلاها صلى الله عليه وسلم، ولم يؤخر الصلاة كما سيأتي، وسيأتي الجواب عن ذلك.
وقد ذكرها الشمس الشامي رحمه الله تعالى بعد خيبر، والأصل لم يذكر ما تقدم عن البخاري، بل رواه بالمعنى، فقال: روينا في صحيح البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنهم نقبت أقدامهم، فلفوا عليها الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع. قال: وجعله: أي البخاري حديث أبي موسى هذا حجة على أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر، لأن أبا موسى إنما قدم في خيبر لا دلالة فيه على ذلك، أي لأنه يجوز أن يكون قول أبي موسى رضي الله عنه إنهم نقبت أقدامهم: يعني الصحابة، فيكون هذا مما رواه أبو موسى عمن شاهد الوقعة من الصحابة. وفيه أن هذا لا يأتي مع قول البخاري عن أبي موسى «فنقبت قدماي وسقطت أظفاري» إذ هو صريح في أن أبا موسى رضي الله عنه حضرها، والأصل تبع في تقديمها على خيبر شيخه الدمياطي، وتابعه أيضا في رواية ما تقدم عن البخاري بالمعنى. ونظر الدمياطي في رواية أبي موسى: أي التي في البخاري التي رواها عنه بالمعنى، بأنها مخالفة لما عليه أهل المغازي من تقديمها على خيبر.
قال الحافظ ابن حجر: وادعى الدمياطي غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه، والاعتماد على ما في الصحيح أي من تأخيرها على خيبر أولى، لأن أصحاب المغازي مختلفون في زمانها. قال: والبخاري مع روايته عن أبي موسى الصريحة في تأخر غزوة ذات الرقاع عن غزوة خيبر، قدم غزوة ذات الرقاع على خيبر. قال: ولا أدري، هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي أنها كانت قبل خيبر، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين: أي واحدة قبل خيبر، والثانية بعدها كما قدمناه. أي وقدمنا أن سبب التسمية في الثانية ما ذكر عن أبي موسى رضي الله عنه، وأما في الأولى فأحد الأسباب الآتية.
قال في الإمتاع: وقد قال بعض من أرخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة، فواحدة كانت قبل الخندق، وأخرى بعدها: أي وبعد خيبر.
ولم غزا صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة أبا ذر الغفاري. وقيل عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال ابن عبد البر: وعليه الأكثر. أي وقد نظر في الأول، بأن أبا ذرّ رضي الله عنه لما أسلم بمكة رجع إلى بلاد قومه، فلم يجىء حتى مضت بدر وأحد والخندق.
أقول: وهذا النظر بناء على أنها كانت قبل الخندق، وأما على أنها كانت بعد الخندق وبعد خيبر فلا يتأتى هذا النظر، والله أعلم.
وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ نجدا فلم يجد بها أحدا ووجد نسوة فأخذهنّ وفيهن جارية وضيئة. ثم لقي جمعا فتقارب الجمعان ولم يكن بينهما حرب.
وقد خاف بعضهم بعضا: أي خاف المسلمون أن تغير المشركون عليهم وهم غارون أي غافلون حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، وكانت أول صلاة للخوف صلاها.
قال وفي رواية «حانت صلاة الظهر فصلاها صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فهمّ بهم المشركون، فقال قائلهم: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه هي أحبّ إليهم من أبنائهم، أي وهي صلاة العصر، فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصلى صلاة العصر صلاة الخوف» اهـ.
أقول: سيأتي هذا كله بعينه في غزوة الحديبية التي هي صلاة الخوف بعسفان.
ولا مانع من تعدد ذلك. ويحتمل أنه من الاشتباه على بعض الرواة، والله أعلم.
وكان العدوّ في غير جهة القبلة، ففرقهم فرقتين: فرقة وقفت في وجه العدوّ، وفرقة صلى بها ركعة، ثم عند قيامة للثانية فارقته وأتمت بقية صلاتها، ثم جاءت ووقفت في وجه العدوّ، وجاءت تلك الفرقة التي كانت في وجه العدوّ واقتدت به في ثانيته فصلى بها ركعة، ثم قامت وهو في جلوس التشهد، وأتمت بقية صلاتها ولحقته في جلوس التشهد وسلم بها. وهذه الكيفية في ذات الرقاع رواها الشيخان، ونزل بها القرآن، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ} [النساء:102] الآية.
أي وفي كلام بعضهم: فصلى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، صلى بطائفة ركعتين، وبالأخرى أخريين. وسيأتي أن هذه صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بصلاة الخوف فلم تشرع لأحد من الأمم قبلنا، وبصلاة شدة الخوف عند التحام القتال.
أي وفي هذه الغزوة نزل صلى الله عليه وسلم ليلا، وكانت تلك الليلة ذات ريح. وكان نزوله صلى الله عليه وسلم في شعب استقبله فقال: من رجل يكلؤنا: أي يحفظنا هذه الليلة، فقام عباد بن بشر رضي الله تعالى عنه وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما، فقالا: نحن يا رسول الله نكلؤكم، فجلسا على فم الشعب، فقال عباد بن بشر لعمار بن ياسر: أنا أكفيك أول الليل وتكفيني آخره، فنام عمار رضي الله عنه وقام عباد رضي الله عنه يصلي، وكان زوج بعض النسوة التي أصابهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غائبا، فلما جاء أخبر الخبر فتتبع الجيش، وحلف لا ينثني حتى يصيب محمدا أو يهريق في أصحاب محمد دما، فلما رأى سواد عباد قال: هذا ربيئة القوم، ففوّق سهما فوضعه فيه، فانتزعه عباد فرماه بآخر فوضعه فيه فانتزعه، فرماه بآخر فانتزعه، فلما غلبه الدم قال لعمار اجلس فقد أتيت، فلما رأى ذلك الرجل عمار أجلس علم أنه قد نذر به، فهرب، فقال عمار: أي أخي ما منعك أن توقظني له في أول سهم رمي به، فقال: كنت أقرأ في سورة: أي في سورة الكهف فكرهت أن أقطعها.
وفي لفظ: جعل صلى الله عليه وسلم شخصين من أصحابه يقال هما عباد بن بشر من الأنصار وعمار بن ياسر من المهاجرين في مقابلة العدو، فرمى أحدهما بسهم فأصابه ونزفه الدم وهو يصلي، ولم يقطع صلاته بل ركع وسجد ومضى في صلاته، ثم رماه بثان وثالث وهو يصيبه ولم يقطع صلاته أي وهو عباد بن بشر كما تقدم. وقد قال عباد اعتذارا عن إيقاظ صاحبه: لولا أني خشيت أن أضيع ثغرا أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انصرفت ولو أتى على نفسي.
أقول: وبهذه الواقعة استدل أئمتنا على أن النجاسة الحادثة من غير السبيلين لا تنقض الوضوء، لأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره.
وأما كونه صلى مع الدم فلعلّ ما أصاب ثوبه وبدنه منه قليل؛ ولا ينافي ذلك ما تقدم في الرواية قبل هذه «فلما غلبه الدم» إذ يجوز مع كونه كثيرا أنه لم يصب ثوبه ولا بدنه إلا القليل منه والله أعلم.
ويقال إن رجلا من القوم: أي وهو غورث بالغين المعجمة مكبرا على الأشهر وقيل غويرث بالتصغير والمهملة ابن الحارث، قال لهم: ألا أقتل لكم محمدا، قالوا بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به أي أجيء إليه على غفلة، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وسيفه في حجره، فقال: يا محمد أرني أنظر إلى سيفك هذا؟ فأخذه من حجره فاستله، ثم جعل يهزه ويهمّ فيكبته الله: أي يخزيه، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: «لا بل يمنعني الله تعالى منك»، ثم دفع السيف إليه صلى الله عليه وسلم فأخذه صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك مني؟» فقال: كن خير آخذ، قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»، قال: أعاهدك على أني لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبيله فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس، وأسلم هذا بعد، وكانت له صحبة.
وفي رواية: جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ قال «نعم»، فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: «لا»، وما أخاف منك، قال: وفي يدي السيف؟ قال: «لا، يمنعني الله تعالى منك»، ثم غمد سيف رسول الله فرده عليه.
وهذه واقعة غير واقعة دعثور المتقدمة في غزوة ذي إمرّ، فهما واقعتان:
أحدهما مع دعثور، والثانية مع غورث، فقول أصله والظاهر أن الخبرين واحد فيه نظر ظاهر فليتأمل.
قال: وفي رواية: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة أدركته القائلة يوما بواد كثير العضاة: أي الأشجار العظيمة التي لها شوك، وتفرق الناس في العضاة: أي الأشجار يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة أي ظليلة. قال جابر رضي الله عنه: تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فعلق صلى الله عليه وسلم سيفه فيها، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا إليه فوجدنا عنده أعرابيا جالسا، فقال: إن هذا قد اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده مصلتا: أي مسلولا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت الله، قال ذلك ثلاث مرات ولم يعاقبه صلى الله عليه وسلم اهـ.
وهذه الرواية مع ما قبلها يقتضي سياقهما أنهما واقعتان لا واقعة واحدة. ويبعد أن يكون ذلك الأعرابي هو غورث صاحب الواقعة الأولى، فيكون تعدد منه هذا الفعل مرتين، أي وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}[المائدة: 11] وتقدم أن سبب نزولها إرادة إلقاء الحجر عليه من بعض أهل بني النضير لعنهم الله، وتقدم أنه لا مانع من تعدد النزول لتعدد الأسباب.
وفي الشفاء: قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف قريشا، فلما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ}[المائدة: 11] الآية، استلقى ثم قال: من شاء فليخذلني.
أي وفيه أن هذا لا يحسن إلا عند نزول آية {وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ} [المائدة: 67] إلا أن يقال: هو صلى الله عليه وسلم علم من ذلك أن الله مانع له ممن يريده بسوء وإن كان يجوز أن يمنعه من شخص دون آخر فليتأمل.
وإنما لم يعاقب صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي حرصا على استئلاف قلوب الكفار ليدخلوا في الإسلام.
وكانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة. وبعث صلى الله عليه وسلم جعال بن سراقة إلى المدينة مبشرا بسلامته وسلامة المسلمين، أي وكان رضي الله عنه من أهل الصفة، وهو الذي تمثل به إبليس لعنه الله يوم أحد حين نادى إن محمدا قد قتل كما تقدم.
وأبطأ جمل جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فنخسه صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ أنه حجنه بمحجنه فانطلق متقدما بين يدين الركب. وفي رواية: فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه لا يسبقه: أي وهو ينازعني خطامه مع أني كنت أرجو أن يستاق معنا. ثم قال له صلى الله عليه وسلم: «أتبيعنيه؟» فابتاعه منه: أي بأوقية، وقيل بأربع أواق وقيل بخمس أواق، وقيل بخمسة دنانير، وقيل بأربعة دنانير بعد أن أعطاه فيه أولا درهما ممازحا له، فقال له جابر رضي الله عنه: تبيعني يا رسول الله؟ وفي رواية: لا زال صلى الله عليه وسلم يزيده درهما درهما، فيقول جابر: آخذته بكذا والله يغفر لك يا رسول الله، قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم أراد بإعطائه درهما درهما أن يكثر استغفاره له، وقال له: لك ظهره إلى المدينة. وفي رواية وشرط لي ظهره إلى المدينة أي واستغفر لجابر رضي الله عنه في تلك الليلة خمسا وعشرين مرة، وقيل سبعين مرة، فلما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل أي وقيل إن هذه القصة: أي إبطاء جمل جابر رضي الله عنه إنما كانت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. وقيل كانت في رجوعه من غزوة تبوك.
أي والذي في البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على جمل ثقال، إنما هو في آخر القوم، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «من هذا؟» فقلت: جابر بن عبد الله، قال: «فما لك؟» قلت: إني على جمل ثقال، قال: «أمعك قضيب؟» قلت نعم، قال: «أعطنيه»، فضربه فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم، قال: «بعنيه»، قلت: بل هو لك يا رسول الله، قال: «بل بعنيه، فقد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة»، فلما قدمت المدينة قال: «يا بلال اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا»، قال جابر رضي الله عنه: وأعطاني الجمل وسهمي مع القوم .
وفي لفظ عن جابر قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فدخلت إليه، فعلفت الجمل في ناحية البلاط، فقلت: يا رسول الله هذا جملك، فخرج صلى الله عليه وسلم فجعل يطوف بالجمل. قال: «الثمن والجمل لك»، وفي لفظ: إنما باعه له بوقية: أي ذهب، وأنه استثنى حملانه إلى أهله، فلما قدم المدينة وأنقده الثمن وانصرف أرسل على أثره وقال له: «ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك».
وعن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه بطريق تبوك بأربع أواق وفي لفظ:بعشرين دينارا، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، فإن التعدد بعددها بعيد.
قيل وسميت ذات الرقاع باسم شجرة كانت في ذلك المحل يقال لها ذات الرقاع، أو لأنهم رقعوا راياتهم، أو لأنهم لفوا على أقدامهم الخرق لما حصل لهم الحفاء كما تقدم، أو لأن الصلاة رقعت فيها، أو لأن الجبل الذي نزلوا به كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع فيه بقع حمر وسود وبيض، واستغربه الحافظ ابن حجر.
قال الإمام النووي رحمه الله: ويحتمل أنها سميت بالمجموع، قال: وفي هذه الغزوة جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة بدوية بابن لها. فقالت: يا رسول الله هذا ابني، قد غلبني عليه الشيطان، ففتح فاه فبزق فيه وقال: «أخسأ عدوّ الله أنا رسول الله»، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه»، أي فكان كذلك. وفيها أيضا: جاء رجل بفرخ طائر فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ فرخه، فعجب الناس من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه، والله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه».
وفيها أيضا: جيء له صلى الله عليه وسلم بثلاث بيضات من بيض النعام، فقال لجابر «دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات»، قال جابر رضي الله عنه: فعملتهنّ، ثم جئت بهنّ في قصعة، فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد، فجعل صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته: أي إلى الشبع؛ والبيض في القصعة كما هو.
وفيها أيضا: جاء جمل يرفل: أي حتى وقف عنده صلى الله عليه وسلم وأرغى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما قال هذا الجمل؟ هذا جمل يستعيذ بي على سيده يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين وأنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به»، قال جابر رضي الله عنه: فقلت لا أعرفه، قال: «إنه سيدلك عليه». قال جابر:
فخرج بين يدي حتى وقف على صاحبه، فجئته به، فكلمه صلى الله عليه وسلم في شأن الجمل اهـ.
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائط رجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح عليه فسكن. ثم قال: «من رب هذا الجمل»، فجاء فتى من الأنصار، فقال: هذا لي يا رسول الله، فقال: «ألا تتقي الله عز وجل في هذه البهيمة التي ملكك الله، فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه».
وفي رواية: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعير أقبل حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، إن الله تعالى قد أمن عائذنا ولن يخيب لائذنا»، فقلنا: يا رسول الله، ما يقول هذا البعير؟ قال: «يريد أهله نحره وأكل لحمه، فهرب منهم واستغاث بنبيكم»، فبينما نحن كذلك إذا أقبل أصحابه يتعاودون، فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نجده إلا بين يديك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما إنه يشكو»، فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟ قال: «يقول إنه ربي فيكم سنين وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء حملتم عليه إلى موضع الدفء، فلما كبر استفحلتموه فرزقكم الله إبلا سليمة فلما أدركته هذه السنة الجدبة هممتم بنحره وأكل لحمه»، فقالوا: والله يا رسول الله قد كان ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه»، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نتعبه ولا ننحره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتم، قد استغاث بكم فلم تغيثوه، وأنا أولى بالرحمة منكم لأن الله قد نزع الرحمة من قلوب المنافقين، وأسكنها في قلوب المؤمنين» فاشتراه صلى الله عليه وسلم منهم بمائة درهم، وقال «أيها البعير انطلق حيث شئت» فرغا البعير على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: آمين، ثم رغا الثانية، فقال له آمين. ثم رغا الثالثة، فقال له آمين، ثم رغا الرابعة، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟ فقال: «قال جزاك الله خيرا أيها النبي عن الإسلام والقرآن قلت: آمين، قال: سكن الله رعب أمتك كما سكنت قلبي، قلت: آمين، قال: حقن الله دماء أمتك كما حقنت دمي، قلت آمين، قال: لا جعل الله بأسهم بينهم شديدا، فبكيت لأني سألت ربي فيها: أي في هذه الرابعة فمنعني إعطاءها». وقوله صلى الله عليه وسلم للجمل «اذهب كيف شئت»، لا يناسب ما عليه أئمتنا من عدم جواز إرسال الدواب تقرّبا إلى الله تعالى لأنه في معنى سوائب الجاهلية، إلا أن يقال: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم له اذهب كيف شئت، أي أنت آمن في سائر أحوالك مما شكوت منه.
ورأيت في كلام ابن الجوزي رحمه الله ما يؤيد ذلك، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمه سمة نعم الصدقة ثم بعث به. وعليه لا إشكال، وإلى قصة الجمل أشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:
ورب بعير قد شكا لك حاله *** فأذهبت عنه كل كل وثقلة
وفي هذه: أعني السنة الرابعة تزوّج صلى الله عليه وسلم أم سلمة هند رضي الله تعالى عنها بعد موت أبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه. وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: تزوّجها سنة اثنتين ليس بشيء، قيل وفيها شرع التيمم.