ثمَّ خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حنين فِي الشَّهْر الْمَذْكُور طَالبا غَزْو ثَقِيف فِي جَيْشه الْمُؤَيد وَعَسْكَره الْمَنْصُور وَجعل على مقدمته …
خَالِد بن الْوَلِيد وانبعث إِلَى جِهَة قَصده محروسا بِعَين الْبَاعِث الشَّهِيد وَمضى إِلَى أَن نزل قَرِيبا من حصن الطَّائِف فَإِذا هم قد تستروا بِمَا يمنعهُم من الرَّامِي والقاذف فنصب عَلَيْهِم المنجنيق واحتال الْمُسلمُونَ على أَخذهم بِكُل طَرِيق وحاصروهم تِسْعَة أَيَّام وَمثلهَا وَأَرْسلُوا لَهُم من القسي الْعَرَبيَّة نبلها وَقَطعُوا أثمارهم وحرقوا أَشْجَارهم.
وَاسْتمرّ الْمُشْركُونَ على ضلالهم وَأَرْسلُوا جمَاعَة من المسلحين بنبالهم واجتهدوا فِي التحصين والقتال وَلَكِن خرج من حصنهمْ بضعَة عشر من الرِّجَال.
وَلم يُؤذن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فَتحه فَأمر كل من النَّاس بِوَضْع سَيْفه وَرمحه ثمَّ رَحل إِلَى الْجِعِرَّانَة للنَّظَر فِي مَغَانِم حنين وَقسم مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من السَّبي وَالنعَم واللجين.
فَلَمَّا اسْتَقر بهَا قدمت عَلَيْهِ من هوَازن فرقة وَذكروا لَهُ مَا أَصَابَهُم من جهد الْبلَاء وألم الْفرْقَة وسألوه أَن يمن عَلَيْهِم وَأَن يتَجَاوَز عَنْهُم وَيحسن إِلَيْهِم فَأجَاب سُؤَالهمْ وحقق رجاءهم وَأطلق لَهُم بعد أَن خَيرهمْ أَبْنَاءَهُم ونساءهم وَلحق بِهِ قائدهم مَالك بن عَوْف متمسكا بِحَبل بره المبرم فَأكْرمه وَاسْتَعْملهُ على قومه بعد أَن أسلم ثمَّ قسم الْأَمْوَال بَين الْمُجَاهدين وغمر بإنعامه الصادرين والواردين وَأعْطى كل وَاحِد من أَشْرَاف الْقَوْم مائَة بعير وَخص جِهَة الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم بِالْفَضْلِ الْكَبِير لكنه لم يُعْط الْأَنْصَار شَيْئا من الْغَنِيمَة فوجدوا فِي نُفُوسهم وجد ذَوي الْعُقُول السليمة فَدَعَاهُمْ سالكا فِي التلطف بهم مَسْلَك الإعتذار وضاعف رفعتهم بقوله «لَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت امْرَءًا من الْأَنْصَار».
وَكَانَ السَّبي ثَلَاثَة آلَاف نسمَة وضعفها وَكَانَت الْإِبِل وَالْغنم أَرْبَعِينَ ألفا وَنِصْفهَا إِلَى غير ذَلِك من الْفضة وَالْمَتَاع والأسلحة الَّتِي لَا يُبَاع مثلهَا وَلَا يصاع وَلما فرغ من ذَلِك خرج فِي ذِي الْقعدَة إِلَى الْعمرَة واستخلف عتاب بن أسيد على مَكَّة متكلما فِي الإمرة وَترك مَعَه معَاذ بن جبل يفقه النَّاس فِي الدّين ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة بِأَصْحَابِهِ سَالِمين غَانِمِينَ.
وَفِي هَذِه الْغَزْوَة يَقُول بجير بن زُهَيْر بن أبي سلمى من أَبْيَات:
وَلَقَد تعرضنا لكيما يخرجُوا *** فَتَحَصَّنُوا منا بِبَاب مغلق
ترتد حسرانا إِلَى رجراجة *** شهباء تلمع كالمنايا فيلق
ملمومة خضراء لَو قذفوا بهَا *** حضنا لظل كَأَنَّهُ لم يخلق
وفيهَا يَقُول مَالك بن عَوْف حِين أسلم:
مَا إِن رَأَيْت وَلَا سَمِعت بِمثلِهِ *** فِي النَّاس كلهم بِمثل مُحَمَّد
أوفى وَأعْطى للجزيل إِذا اجتدي *** وَمَتى تشأ يُخْبِرك عَمَّا فِي غَد
وَإِذا الكتيبة غردت أنيابها *** بالسمهري وَضرب كل مهند
فَكَأَنَّهُ لَيْث على أشباله *** وسط المباءة خادر فِي مرصد
وَفِي أَثَرهَا يَقُول كَعْب بن زُهَيْر بن أبي سلمى فِي كَلمته بَانَتْ سعاد حِين أسلم:
نبئت أَن رَسُول الله أوعدني *** وَالْعَفو عِنْد رَسُول الله مَقْبُول
مهلا هداك الَّذِي أَعْطَاك نَافِلَة *** الْقُرْآن فِيهِ مواعيظ وتفصيل
لَا تأخذني بأقوال الوشاة وَلم *** أذْنب وَلَو كثرت فِي الْأَقَاوِيل
إِن الرَّسُول لنُور يستضاء بِهِ *** مهند من سيوف الله مسلول