قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل السير في السنة التي كان فيها فتح مصر والإسكندرية، ونذكر الآن سبب فتحهما، وعلى يدي من كان، …
على ما في ذلك من اختلاف بينهم أيضا، فأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغَ مِنَ الشَّامِ كُلِّهَا كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنْ يَسِيرَ الى مصر في جنده، فخرج حتى فتح باب اليون فِي سَنَةِ عِشْرِينَ.
قَالَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي فَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهَا فُتِحَتْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى سَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني القاسم بْن قزمان- رجل من أهل مصر- عن زياد بْن جزء الزبيدي، أنه حدثه أنه كان في جند عمرو بْن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية، قال: افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بْن الخطاب في سنة إحدى وعشرين- أو سنة اثنتين وعشرين- قال: لما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية فقرية، حتى انتهينا إلى بلهيب- قرية من قرى الريف، يقال لها قرية الريش- وقد بلغت سبايانا المدينة ومكة واليمن.
قال: فلما انتهينا إلى بلهيب أرسل صاحب الإسكندرية الى عمرو ابن العاص: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم معشر العرب لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت.
قال: فبعث إليه عمرو بْن العاص: إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي، فإن هو قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره قال: فقال: نعم قال: فكتب عمرو بن العاص الى عمر ابن الخطاب- قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به- يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية قال: وفي أيدينا بقايا من سبيهم ثم وقفنا ببلهيب، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا، فقرأه علينا عمرو وفيه: أما بعد، فإنه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وعليه مَا عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به قال: فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين قال: فقال: قد فعلت.
قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية، قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم، وقد أتي فيمن أتينا به بأبي مريم عبد اللَّه بْن عبد الرحمن- قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بني زبيد- قال: فوقفناه، فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية- وأبوه وأمه وإخوته في النصارى- فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا، حتى شققوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، وإن هذه الكناسة التي ترى يا بن أبي القاسم لكناسة بناحية الإسكندرية حولها أحجار كما ترى، ما زادت ولا نقصت، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم يكن لها جزية ولا لأهلها عهد، فقد والله كذب قال القاسم: وإنما هاج هذا الحديث أن ملوك بني أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أن مصر إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْهُ، عَنِ الرَّبِيعِ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: أَقَامَ عُمَرُ بِإِيلِيَاءَ بَعْدَ مَا صَالَحَ أَهْلَهَا، وَدَخَلَهَا أياما، فامضى عمرو ابن الْعَاصِ إِلَى مِصْرَ وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا، إِنْ فَتَحَ الله عليه، وبعث في اثره الزبير ابن الْعَوَّامِ مَدَدًا لَهُ، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الرَّمَادَةِ، وَأَمَرَهُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَمَلِهِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: خَرَجَ عَمْرُو بْنُ العاص الى مصر بعد ما رَجَعَ عُمَرُ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى باب اليون، وَاتَّبَعَهُ الزُّبَيْرُ، فَاجْتَمَعَا، فَلَقِيَهُمْ هُنَالِكَ أَبُو مَرْيَمَ جَاثِلِيقُ مِصْرَ وَمَعَهُ الأُسْقُفُّ فِي أَهْلِ النِّيَّاتِ بَعَثَهُ الْمُقَوْقِسُ لِمَنْعِ بِلادِهِمْ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ عَمْرٌو قَاتَلُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: لا تَعْجَلُونَا لِنَعْذُرَ إِلَيْكُمْ، وَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ بَعْدُ فَكَفُّوا أَصْحَابَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَمْرٌو: إِنِّي بَارِزٌ فَلْيَبْرُزْ إِلَيَّ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مِرْيَامَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ لَهُمَا عَمْرٌو: أَنْتُمَا رَاهِبَا هَذِهِ الْبَلْدَةِ فَاسْمَعَا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وامره به، وامرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وَأَدَّى إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ مَضَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ وَقَدْ قَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَتَرَكَنَا عَلَى الْوَاضِحَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ الإِعْذَارُ إِلَى النَّاسِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَمَنْ أَجَابَنَا إِلَيْهِ فَمِثْلُنَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبْنَا عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَبَذَلْنَا لَهُ الْمَنْعَةَ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّا مُفْتَتِحُوكُمْ، وَأَوْصَانَا بِكُمْ حِفْظًا لِرَحِمِنَا فِيكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ إِنْ أَجَبْتُمُونَا بِذَلِكَ ذِمَّةً إِلَى ذِمَّةٍ وَمِمَّا عَهِدَ إِلَيْنَا أَمِيرُنَا: اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا، [فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطين خَيْرًا، لأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَذِمَّةً،] فَقَالُوا: قَرَابَةٌ بَعِيدَةٌ لا يَصِلُ مِثْلَهَا إِلا الأَنْبِيَاءُ، مَعْرُوفَةٌ شَرِيفَةٌ، كَانَتِ ابْنَةُ مَلِكِنَا، وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ مَنْفَ وَالْمَلِكُ فِيهِمْ، فَأُدِيلَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ، فَقَتَلُوهُمْ وَسَلَبُوا مُلْكَهُمْ وَاغْتَرَبُوا، فَلِذَلِكَ صَارَتْ الى ابراهيم ع مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلا، آمِنَّا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ مِثْلِي لا يُخْدَعُ، وَلَكِنِّي أُؤَجِّلُكُمَا ثَلاثًا لِتَنْظُرَا وَلِتُنَاظِرَا قَوْمَكُمَا، وَإِلا نَاجَزْتُكُمْ، قَالا: زِدْنَا، فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَقَالا: زِدْنَا، فَزَادَهُمْ يوما، فرجعا الى المقوقس فهم، فَأَبَى أَرْطَبُونُ أَنْ يُجِيبَهُمَا، وَأَمَرَ بِمُنَاهَدَتِهِمْ، فَقَالا لأَهْلِ مِصْرَ: أَمَّا نَحْنُ فَسَنَجْهَدُ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ، وَلا نَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَلا تُصَابُونَ فِيهَا بِشَيْءٍ إِلا رَجَوْنَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمَانٌ فَلَمْ يَفْجَأْ عمر وَالزُّبَيْرَ إِلا الْبياتُ من فرقب، وَعَمْرٌو عَلَى عُدَّةٍ، فَلَقَوْهُ فَقَتَلَ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ رَكِبُوا أَكْسَاءَهُمْ، وَقَصَدَ عَمْرٌو وَالزُّبَيْرُ لِعَيْنِ شَمْسٍ، وَبِهَا جَمْعُهُمْ، وبَعَثَ إِلَى الْفَرَمَا أَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَّاحِ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَبَعَثَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَنَزَل عَلَيْهَا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَهْلِ مَدِينَتِهِ: إِنْ تَنْزِلُوا فَلَكُمُ الأَمَانُ، فَقَالُوا: نعم، فراسلوهم، وتربص بِهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ، وَسَبَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَيْنَ ذَلِكَ وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: مَا أَحْسَنَ مَدِينَتَكُمْ يَا أَهْلَ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ! فَقَالُوا: إِنَّ الإِسْكَنْدَرَ قَالَ: إِنِّي أَبْنِي مَدِينَةً إِلَى اللَّهِ فَقِيرَةً، وَعَنِ النَّاسِ غَنِيَّةً- أَوْ لأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً إِلَى اللَّهِ فَقِيرَةً، وَعَنِ النَّاسِ غَنِيَّةً- فَبَقِيَتْ بَهْجَتُهَا.
وَقَالَ أَبْرَهَةُ لأَهْلِ الْفَرَمَا: مَا أَخْلَقَ مَدِينَتَكُمْ يَا أَهْلَ الْفَرَمَا؟ قَالُوا:
إِنَّ الْفَرَمَا قَالَ: إِنِّي أَبْنِي مَدِينَةً عَنِ اللَّهِ غَنِيَّةً، وَإِلَى النَّاسِ فَقِيرَةٌ، فَذَهَبَتْ بَهْجَتُهَا. وَكَانَ الإِسْكَنْدَرُ وَالْفَرَمَا أَخَوَيْنِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الإِسْكَنْدَرُ وَالْفَرَمَا أَخَوَيْنِ، ثُمَّ حَدَّثَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَنُسِبَتَا إِلَيْهِمَا، فَالْفَرَمَا يَنْهَدِمُ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ شَيْءٌ، وَخَلقتْ مرآتها، وَبَقِيَتْ جِدَّةُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما نزل عمرو على القوم بعين شمس، وكان الملك بين القبط والنوب، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم: ما تريد الى قوم فلوا كسرى وقيصر، وغيرهم على بلادهم! صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم، ولا تعرضنا لهم- وذلك في اليوم الرابع- فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة، حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوه مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بْن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة، الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة شهد الزبير وعبد اللَّه ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر.
فدخل في ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول فمصر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فقال: أولهم عهد وعقد؟ ألم نحالفكما ويغار علينا من يومكما! وطردهما، فرجعا وهما يقولان: كل شيء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمة منكم، فقال لهما: أتغيرون علينا وهم في ذمة؟ قالا: نعم، وقسم عمرو ذلك السبي على الناس، وتوزعوه، ووقع في بلدان العرب وقدم البشير على عمر بعد بالأخماس، وبعث الوفود فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال:
ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون! من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم فأصابه منكم شيء من أهل القرى فله الأمان في الأيام الخمسة حتى تنصرم، وبعث في الآفاق حتى رد ذلك السبي الذي سبوا ممن لم يقاتل في الأيام الخمسة إلا من قاتل بعد، فترادوهم إلا ما كان من ذلك الضرب، وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمرا أنهم يقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم! فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا، وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر، فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا وبعث إليهم أن تسلحوا للعرض غدا، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره، إن عمرا لعض ثم أمره عليها وقام بها.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الرَّبِيعِ ابن النُّعْمَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَى عَمْرٌو وَالْمُقَوْقِسُ بِعَيْنِ شَمْسٍ، وَاقْتَتَلَتْ خَيْلاهُمَا، جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَجُولُونَ بَعْدَ الْبُعْدِ فَدَمَّرَهُمْ عَمْرٌو، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ حِجَارَةٍ وَلا حَدِيدٍ! فَقَالَ: اسْكُتْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَمِيرُ الْكِلابِ، قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ ذَلِكَ يَتَوَاصَلُ نادى عمرو: اين اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَحَضَرَ مَنْ شَهِدَهَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: تَقَدَّمُوا، فَبِكُمْ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَتَقَدَّمُوا وَفِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أَبُو بُرْدَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ، وَنَاهَدَهُمُ النَّاسُ يَتْبَعُونَ الصَّحَابَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَظَفَرُوا أَحْسَنَ الظَّفْرِ.
وَافْتُتِحَتْ مِصْرُ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَامَ فِيهَا مُلْكُ الإِسْلامِ عَلَى رَجُلٍ، وَجَعَلَ يَفِيضُ عَلَى الأُمَمِ وَالْمُلُوكِ، فَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ يَتَدَفَّقُونَ عَلَى الأجلِ، وَأَهْلُ مكران عَلَى رَاسِلَ وَدَاهِرَ، وَأَهْلُ سِجِسْتَانَ عَلَى الشَّاهْ وَذَويه، وَأَهْلُ خُرَاسَانَ وَالْبَابِ عَلَى خَاقَانَ، وَخَاقَانُ وَمَنْ دُونَهُمَا مِنَ الأُمَمِ، فَكَفْكَفَهُمْ عُمَرُ إِبْقَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ، وَلَوْ خَلَّى سربهم لَبَلَغُوا كُلَّ مَنْهَلٍ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بْن أبي حبيب، أن المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمي، فسموا رماة الحدق، فلما ولي عبد اللَّه بْن سعد بْن أبي سرح مصر، ولاه إياها عثمان بْن عفان رضي اللَّه عنه، صالحهم على هدية عدة رؤوس منهم، يؤدونهم إلى المسلمين في كل سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كل سنة طعاما مسمى وكسوه من نحو ذلك.
قال علي: قال الوليد: قال ابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقره عمر بْن عبد العزيز نظرا منه للمسلمين، وإبقاء عليهم.
قال سيف: ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة، وضع عمر رضي اللَّه عنه مسالح مصر على السواحل كلها، وكان داعية ذلك أن هرقل أغزى مصر والشام في البحر، ونهد لأهل حمص بنفسه، وذلك لثلاث سنين وستة أشهر من اماره عمر رضى الله عنه.
[أخبار متفرقة]
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة عشرين- غزا أرض الروم أبو بحرية الكندي عبد اللَّه بْن قيس، وهو أول من دخلها- فيما قيل وقيل:: أول من دخلها ميسره بن مسروق العبسى، فسلم وغنم.
قال: وقال الواقدي: وفي هذه السنة عزل قدامة بْن مظعون عن البحرين، وحده في شرب الخمر.
وفيها استعمل عمر أبا هريرة على البحرين واليمامة.
قال: وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام.
قال: وفيها توفي بلال بْن رباح رضي اللَّه عنه، ودفن في مقبرة دمشق.
وفيها عزل عمر سعدا عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلي.
وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود منها، وبعث أبا حبيبة إلى فدك فأقام لهم نصف، فأعطاهم، ومضى إلى وادي القرى فقسمها.
وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة- فيما زعم الواقدي.
قال الواقدي: وفي هذه السنة- أعني سنة عشرين- دون عمر رضي اللَّه عنه الدواوين قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من خالفه.
وفيها بعث عمر رضي اللَّه عنه علقمة بْن مجزز المدلجي إلى الحبشة في البحر، وذلك أن الحبشة كانت تطرفت- فيما ذكر- طرفا من أطراف الإسلام، فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه الا بحمل في البحر أحدا أبدا وأما أَبُو معشر فإنه قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عنه: كانت غزوة الأساودة في البحر سنة إحدى وثلاثين.
قال الواقدي: وفيها مات أسيد بْن الحضير في شعبان.
وفيها ماتت زينب بنت جحش.
وحج في هذه السنة عمر رضي اللَّه عنه.
وكانت عماله في هذه السنة على الأمصار عماله عليها في السنة التي قبلها، إلا من ذكرت أنه عزله واستبدل به غيره، وكذلك قضاته فيها كانوا القضاة الذين كانوا في السنه التي قبلها.